سوزان خواتمي
(سوريا/الكويت)

سعدية مفرح«بوجود ملتبس، بأسئلة مخبأة تتسلل من ثقوب الذاكرة، تسرج للقارئ خيل الظنون، تسرقه من كتاب آثامه ومرآته المستلقية، لتضعه تماماً أمام أحلامه المتواضعة، فهو آخر الحالمين».
إنها مقدمة مستمدة من عناوين دواوين خمسة للشاعرة سعدية المفرح، التي تسكن الشعر، وبه تميز صوتها، محتلاً مكانة خاصة على خارطة الشعر الكويتي، وهي رئيسة الصفحة الثقافية في الزميلة القبس.
سعدية المفرح سرقناها من الشعر لتحدث النهار عن تجربتها، فتقول أنها لاتستطيع تفسير الغياب، وأن لشعر المرأة قيمة إضافية بالتعابير غير المكشوفة التي تضطر إليها، وأن أقصى مايزعجها الطريقة النقدية الاستخباراتية التي تواجه الكاتبة أو الشاعرة بأسئلة مستفزة،كما قالت ان الأشياء قبل الشعر لايمكن أن تكون نفسها بعده.

*التجربة الأولى في الكتابة تخص الكاتب أكثر مما تخص القارئ، هذا ماأعتقده، وأول دواوين سعدية المفرح «آخرالحالمين كان»، الى أي حد تشبهين نصوص ذلك الكتاب، وهل مازلت راضية عنها؟

ذلك الكتاب الأول لا يشبهني كثيرا، بل لعله لا يشبهني أبدا، هذا تقييمي له الآن، أي بعد مرور ما يقرب من عقدين على كتابة معظم قصائده، أصوات كثيرة أراها الآن تتزاحم في ذلك الكتاب، فلم أكن قد وجدت الخيط الأول الى روحي كي أحاول رسمها شعريا في تلك النصوص المبكرة، ولكنني بصراحة أحب تلك التجربة، ودائما أقول انني ضعيفة عاطفيا امام كتابي الاول كما أنا ضعيفة عاطفيا امام كل تجربة من تجاربي الاولى في الحياة.

*لديك احتجاج ضد الغياب «غيابات مأهولة بالموت»، كيف تفسرين الغياب.. هل الغياب حالة داخلية ام خارجية لدى الشاعر/ الشاعرة؟

لا استطيع تفسير الغياب، ربما لأنه حالة أعيشها بشكل دائم، اعيش الغياب كأنني بوساطته وحده أحقق حضوري، ليس على الصعيد الشعري وحسب، بل على الصعيد الانساني ككل. وبالتالي لا استطيع وصف الغياب وما اذا كان حالة داخلية أم خارجية، هو فقط حالة حقيقية جدا، أجدني مسكونة بكل تجلياته .. شيء ما يغيب عني، شيء ما أغيب عنه.. ولا ادري ان كنت احب تلك الحالة ولذلك اجدني مستسلمة لها أم انه العجر عن تحقيق الحضور وتكريسه هو ما يجعلني اعيشها بشكل يومي تقريبا دون انزعاج أو حتى استغراب.. وكأنها الحالة التي خلقت وفقا لمعطياتها منذ ولادتي.

*هناك وحشة ذاتية طاغية فيما تكتبين، أجدها بالتعبير عن الوحدة من خلال نصوصك، مع إحساس عميق بالحزن «في نسيان ابتسامتك في إحدى زوايا طفولتك، في ثلاجة روحك التي تنتهي صلاحية أشياؤها دون ان يفتحها أحد»، هل هو قدر الشاعر/الشاعرة ؟

هذه الوحشة قدري أنا .. ولا أعممها على كل الشاعرات، ولكنها، لحسن الحظ، وحشة غير مزعجة أبدا، حتى أنني لا اتخيلني أفارقها ذات يوم. انها وحشة تملؤني باحساس طاغ بالحياة وبالتفاؤل وبالجمال الذي أستطيع رصده في ابسط الاشياء وأقلها شأنا في نظر الآخرين. ببساطة شديدة استطيع ان أعيش وحدتي مزدحمة بكل معاني الحياة والاستمتاع بكل هداياها الجميلة .. ادعي انني اعرف أو على الاقل احاول دائما ان أعرف، كيف وبطريقة تناسبني وتتلاءم مع ما املك من خيارات مهما كانت هذه الخيارات محدودة بين اربعة جدران مثلا.

*نادراً ماتغزلت المرأة بالرجل، في الوقت نفسه يكاد يكون غزل الرجل بالمرأة شأناً عاماً عند كل الشعراء، فهل من ملامح تخص الشعر حين تكتبه المرأة في تعبيرها (الملجوم) عن الرجل، والى أي حد يصبح التعبير غير قادر على ان يكون حراً تماماً في بيئتنا؟

لا أنكر ان المرأة العربية الشاعرة تحديدا غير قادرة على التعبير عن عواطفها كما يفعل زميلها الرجل، ولكنني لا ارى ذلك نقيصة مثلا، بل لعله يضيف الكثير الى تجربتها الشعرية عندما يضطرها للتعبير بطريقة غير مكشوفة، أو مبتذلة، كما يفعل كثير من الشعراء الرجال، وهذا يضيف لقصيدتها قيمة اضافية.. ولكن ما يزعجني فعلا ما اجده من فضول مرضي لدى الكثيرين ممن يحاولون قراءة قصيدة المرأة الشاعرة على ضوء من الظنون المسبقة، فتجد القارئ من هذا النوع لا يستمتع بالقصيدة التي بين يديه بقدر ما يحاول ان يفتش بين كلماتها عن معنى يصلح لان يكون مادة لإشاعة أو نميمة مثلاً.. هذا تفكير مزعج ومضحك في الوقت نفسه، ولكن الغريب ان الكثير من المثقفين، الرجال بل والنساء أيضا، يفكرون بتلك الطريقة النقدية الاستخباراتية فما ان ينتهوا من قراءة قصيدة عاطفية مثلا ـ «رغم انني لا احبذ وصف قصيدة معينة بهذه الصفة» ـ لشاعرة ما حتى يكون سؤالهم الأول من هو الرجل الذي تخاطبينه في القصيدة؟ وماذا تقصدين بهذه الكلمة ؟ وماذا فعل بك هذا الرجل  وأين وصلت علاقتكما الآن؟ ....و...و...الخ من هذه الاسئلة الساذجة . لقد حدث هذا معي أكثر من مرة وبطريقة مضحكة دائماً.

*انتقلت من كتابة قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر.. ولم تعودي إليها. هل كان ذلك خيارا نهائيا لنصوصك؟

لا .. لم أنتقل من التفعيلة الى النثر، ولست مصرة على النثر، أعني ان قصيدة النثر ليست خياري الاخير أو النهائي.. أنا لست ممن يؤمنون بان هناك قصيدة قادرة على الغاء قصيدة اخرى مهما كانت عظيمة، انا ضد فكرة الالغاء في كل شيء فما بالك عندما يتعلق الامر بالقصيدة وبالشعر؟ ...لقد جربت الكتابة الشعرية وفقا لكل الخيارات التي وجدتني اجيد التعبير بواسطتها، كتبت أحيانا القصيدة العمودية، وكتبت قصيدة التفعيلة على مدى أكثر من مجموعة شعرية، واستغرقتني قصيدة النثر في السنوات الاخيرة بدرجة كبيرة، ربما لأنني وجدتها الاقرب للتعبير عن خلجات الروح المختفية تحت ركام الاشتراطات الفنية الاخرى والتي تحتاجها قصيدة التفعيلة، وربما لأنها، برهافتها وفرط بساطتها وعفويتها وكثافتها كانت الأكثر إغراء لي كي تناسب المرحلة التي أمر بها.. على إنني لا أحب الاستقرار على شكل فني دون غيره، وأفضل التجريب دائما، أحب ان أظل في تجريب مستمر للبحث عن قصيدة تستطيع ان تلخصني وتوجزني بكلمات وموسيقى واشياء أخرى لم أكتشفها بعد .. وبالمناسبة، فقد انتهيت مؤخرا من كتابة قصيدة جديدة لم أتفاجأ عندما وجدتني اكتبها كقصيدة تفعيلة، وقد كنت أكتبها في الوقت الذي اكتب فيه قصائد نثر .. هذا لا يزعجني أبدا، ما يزعجني هو الاستقرار على شكل معين أو اسلوب ثابت ...

*في ديوانك «مجرد مرآة مستلقية» يلاحظ ميل نحو الاسترسال والسرد على إيقاع متمهل بدا في بعض النصوص يجول في فضاء سردي مسترخ هل تعتبرين هذا أحد اقتراحاتك لكتابة الشعر ؟

نعم ....انا كما قلت لك في حالة تجريب مستمر.. ولكن ما أنشره لا أعود إليه كثيراً كي ألاحظ أي ظاهرة قد تميزه عن غيره.. فقط أحاول ان انتج نصي بمنتهى الإخلاص لذاتي ولأفكاري التي اؤمن بها، ولحجم موهبتي .

*في كتابك الأخير «تواضعت أحلامي كثيراً» أصبح هناك ميل واضح نحو بساطة الأشياء ويبدو هذا جليا حتى في العناوين: (عصفورة قهوة وبريد الحب كده - مرحبا...) وفي الشكل أيضاً اصبحت النصوص مقاطع. هل هذا يخص رؤية جديدة للشعر لديك ؟

لعله.. كان كذلك في لحظة انتاجي لنصوص ذلك الكتاب .. لكنني لا استقر على حال شعري واحد. كثيرون لاحظوا ذلك الميل ونبهوني اليه، لكنني في كتابي الجديد والذي اعده للطبع حاليا وجدت نفسي اكتب قصيدة واحدة بنفس طويل جدا تستغرق الكتاب بأكمله، ولم أتفاجأ بذلك، كما لم اتفاجأ عندما كتبت قصيدة تفعيلة بعد فترة من الانشغال التام والطويل بقصيدة النثر ... لا شيء يفاجئني في قصيدتي .. أنا في حالة ترقب دائم لتلقي القصيدة بكل حالاتها، وعلى استعداد لاستقبالها وكتابتها مهما كانت ومهما كان الشكل الذي تجيء عليه.. سأستقبلها حتى لو جاءت مشوهة أو ناقصة أو معوقة، ولن يزعجني ذلك، الذي يزعجني ان تكون نسخة طبق الاصل لقصيدة اخرى مثلا...فلا احب التكرار ولا احب الاعتياد على شيء ولا احب الافتعال في الكتابة حتى لو قدم لي هذا الافتعال قصيدة رائعة في نظر النقاد مثلا.

*حين تكتبين، هل تكونين واعية لأسلوبك الكتابي، وان لم يكن، فالى ماذا تعزين اختلاف صياغتك الشعرية من ديوان الى آخر، وهل الأشياء قبل الشعر هي نفسها بعد الشعر؟

لا أكتب مع سبق الاصرار والترصد للحظة الشعرية ولكنني في المقابل لا أكتب وأنا مغيبة تماما .. انها لحظة غير محددة تماما تبدأ بدفقة شعورية وتنتهي بوعي ما.. أما اختلاف صياغتي الشعرية من كتاب الى آخر فيعود الى اختلافي أنا من كتاب لآخر، لا يمكن ان اكرر نفسي ولا أريد ذلك، بل لعلي أسعى بقصد في كثير من الأحيان لهذا الاختلاف. لا يمكن ان تكون الاشياء قبل الشعر هي نفسها بعده، فللشعر لمسته السحرية التي يضفيها على الحياة فتجعل الأشجار أكثر اخضرارا والسماء أكثر زرقة والأرض أكثر اتساعا والبحر.. والحب أجمل وأحلى.

*عادة ما يتجه المبدع الى الكتابة ليعبر عن ذاته القلقة، بعد هذا الوقت من تجربتك الشعرية، هل كان الشعر حقاً دواء أم أنه، بطريقة ما، داء؟

إجابة على كل سؤال كهذا السؤال أتذكر بيت قيس بن الملوح الذي يقول فيه : «وما اشرف الايقاع إلا صبابة / وما أنشد الاشعار إلا تداويا».. أوقن ذلك رغم أنني اصبحت في الآونة الاخيرة غير مؤمنة بوظيفة محددة للشعر. أراه ضرورة من ضرورات الحياة كمعنى وكجمال وكحياة اضافية كاملة، دون ان يرتبط ذلك بوظيفة مسبقة له. فلا أتصور البشرية كيف كان يمكن ان تستمر كبشرية دون وجود الشعر في تضاعيف تجربتها.

النهار- الكويت
6-11-2007