الحديث عن الجنس امتداد لحديثه عن الناس

محمد الحمامصي
(مصر)

الحبيب السالميصدرت مؤخراً للروائي التونسي المقيم بباريس الحبيب السالمي رواية سادسة عن دار الآداب في بيروت بعنوان (أسرار عبد الله)، وهي رواية مهمة تعتبر امتداداً لروايته التي امتدحها النقاد وترجمت إلى الفرنسية والألمانية (عشاق بية)، ذلك أننا نجد المناخات نفسها كما في كل الأعمال الكبرى، وسمات الكتابة نفسها التي ميزت أسلوب الحبيب السالمي، إلا أنها تعد إضافة حقيقية إذ أنها تتناول بنفس الأسلوب الممتع علاقة الإنسان بماضيه على خلفية تاريخية تستعيد حركة استقلال تونس... في هذا الحوار معه الذي أجريناه في اليوم الثالث لملتقى القاهرة الثالث للرواية العربية وبعد قراءة (أسرار عبد الله)، نتناول تجربة الرواية الجديدة وأعماله السابقة بشكل عام والتي منها (جبل العنز) و(صورة بدوي ميت) و(متاهة الرمل) و(حفر دافئة).

* نجد في روايتك الجديدة (أسرار عبد الله) نفس المناخات التي وجدناها في روايتيك الأولى (جبل العنز) والأخيرة (عشاق بية) لكن الثيمة التي تقاربها في (أسرار عبد الله) تحفر في الماضي وتحديداً علاقة الفرد بماضيه .. الشخصية الرئيسية التي تقوم عليها الرواية محاصرة بماض يلاحقها كظلها .. هل لك أن توضح ذلك؟

ما تقوله صحيح فأنت تقبض هنا على ما هو جوهري وأساسي في هذه الرواية، فالماضي كان دائماً الزمن في روايتي، ذلك أنني أعتقد مثل بورخيس أن الزمن الوحيد الذي نملكه حقاً هو الماضي، المستقبل هو زمن قادم باستمرار، زمن مؤجل باستمرار، والحاضر الذي نوهم أنفسنا بتملكه يتحول في اللحظة التي يحضر فيها إلى ماض.

عبد الله شخصية هزمها بل أستطيع أن أقول قتلها ماضيها الغامض مثل ماضي الكثير ممن يمارسون في فترة ما من حياتهم سلطة ما، وكلما اشتدت وطأة الماضي عليه عاد عبثاً إلى حبه الأول وهي (صلوحة) زوجته السابقة التي طلقها لما صار غنياً في القرية.

* في رواياتك التي قاربت فيها عالم الريف (جبل العنز) و(عشاق بية) والرواية الأخيرة (أسرار عبد الله) كيف استطعت أن تتجنب التشابه الذي يسقط فيه كثيرون من كتاب الرواية وتحديداً أولئك الذين في عالم واحد مثل الصحراء والبحر والقرية؟

عندما نكتب عن عالم واحد مثل عالم الريف فلا بد أن تكون هناك مناخات معينة مثل مناخات الطيب صالح .. إذاً ما يميز ليس هذه المناخات العامة وإنما ما يحدث داخل هذه المناخات، جيمس جويس كتب عن نفس المناخات وهي مناخات ايرلندا، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكتب روايات مختلفة.
ما يحدث في رواية (جبل العنز) يختلف تماماً عما يحدث في رواية (عشاق بية)، وما يحدث في (عشاق بية) يختلف تماماً أيضاً عما يحدث في (أسرار عبد الله)، العجائز في (عشاق بية) مثلاً يعيشون خارج الحياة وإن ما زالوا أحياء وهم يقيمون طوال الرواية تحت زيتونة تقع خارج القرية، وبين القرية والمقبرة، إذاً كل عام القرية لا يعنيهم، الشيء الوحيد الذي كان يعنيهم من هذا العالم هو (بية) التي تحضر هنا (كاستيهام) أو (فانتازم) يساعدهم على تحمل فاجعة النهايات، نهايات الجسد، نهايات الشهوة .. إلخ، أما عبد الله في (أسرار عبد الله) فهو لا يزال في خضم الحياة، لا يزال مغروساً في وحلها يكابد ويتعذب، ليعطي معنى ما لكنه يفشل، إنها قصة فشل وقصة انهيار داخلي بطيء.

الجنس

* هناك جرأة واضحة في أعمالك الأخيرة خاصة ولكي أكون أكثر تحديداً ثمة حضور للجنس واضح؟

صحيح أنني لا أقيم وزناً كبيراً للتقاليد حين أكتب، أحاول أن أكون حقيقياً وصادقاً مع نفسي وحراً إلى أقصى حد، في الكتابة ليس هناك ما هو أسوأ على الكاتب من أن ينصب نفسه رقيباً على ما أكتب، وهذا يؤدي إلى هذه الجرأة التي تتحدث عنها، ولكن يهمني أن أوضح أنني لا أتكلف ذلك أي أنني لا أبحث أو أسعى إلى صدم ذوق القارئ، المسألة تتعلق بمدى إخلاصي ووفائي لمفهوم الإبداع الذي هو فعل حرية بالأساس.
ثمة شيء آخر أود أن أشير إليه وهو أن حضور الجنس في كتاباتي الذي أشار إليه أكثر من ناقد يأتي ضمن تلافيف الواقع، ضمن تلافيف الحياة، الإسلام كثقافة وكدين يعتبر نعمة من عند ربي كما نقول في تونس، الجنس مثل الطعام هو هبة من الله، وهذا يتضح كثيراً لدى الناس البسطاء في الريف الذين يتحدثون عن الجنس بكثير من الحكمة.
إذاً الحديث عن الجنس ليس موضة، ليس افتعالاً وإنما هو امتداد لحديثي عن الناس الذين أكتب عنهم، وهذا واضح جداً في روايتي قبل الأخيرة (عشاق بية).

* لكن هناك من كتاب المهجر وغيرهم في الوطن العربي من يلجأ إلى الجنس للفت الانتباه إليهم وتأكيد حريته ومناهضة الفكر الأصولي؟

نعم نجد من شيئاً من هذا وشخصياً لا أسمح لنفسي بأن أحكم على هذا التوجه، لكن أنا لا أهدف إطلاقاً حين أكتب عن الجنس إلى مقاومة الأصولية، لأنني أعتقد أن الأدب ليس وسيلة أو أداة للصراع بهذا الشكل الميكانيكي على الأقل، أنا أكتب عن الحياة والحياة واسعة وتشمل كل شيء بما فيها الجنس.

* تقيم في باريس منذ أكثر من عشرين عاماً وتتقن اللغة الفرنسية على ما يبدو .. هل شعرت برغبة في أن تكتب بالفرنسية؟

أبداً .. أحب كثيراً اللغة الفرنسية لكنني أعشق اللغة العربية، ثم إن اللغة العربية هي اللغة التي تشربت بها العالم، هي اللغة التي أحلم بها، هي اللغة التي أشتم بها، إن اللغة في الكتابة ليست كاللغة في تعاملنا اليومي، أنا أكتب دراسات وبحوثاً باللغة الفرنسية، وقد شاركت في العديد من الندوات واللقاءات في باريس وغيرها من الفرنسية، لكنني لم أكتب إبداعاً بالفرنسية، لأن اللغة في الإبداع ليست مجرد أداة تعامل وتواصل كما يقولون، اللغة هي عالم كامل من الإبداع، هي أصوات، هي نبرة، هي إيقاع، وكل هذا يختزنه جسدي، في فرنسا يومياً أسمع اللغة العربية وأحرص على ذلك سواء في التلفزيون أو الإذاعات العربية، لماذا؟ لكي أظل على علاقة جسدية باللغة، أريد أن تظل هذه اللغة التي أكتب بها في دمي، في كل خلية من جسدي.

* هذه العلاقة التي وصفتها بالجسدية مع اللغة العربية هل تركت آثارها على أسلوبك السردي؟

بالتأكيد، فأنا أعتني كثيراً باللغة في الكتابة ولا أعامل اللغة كمجرد أداة تواصل، أعتقد أن في جملتي شيئاً من التوتر، شيئاً من الانسيابية، أو هذا على الأقل ما أحاول الوصول إليه.

* استحوذت قضية الشرق اهتمام الكثير من الكتاب لكن تظل تجربة توفيق الحكيم والطيب صالح هي الأبرز. إلى أي مدى شغلت هذه القضية؟

أقيم في فرنسا منذ أكثر من عشرين عاماً وبقدر ما أنا متغلغل في الثقافة العربية بقدر ما أنا أعشق الثقافة الغربية. والثقافة الغربية على فكرة ليست كلاً متجانساً كما يتوهم البعض وإنما هي عدة ثقافات. من الطبيعي إذاً أن تتسلل هذه الثيمة (الشرق / الغرب) (الأنا / الآخر) إلى كتاباتي، وكل ما أقوله لك الآن هو أن مقاربتي لهذه العلاقة تختلف بحكم تجربتي المختلفة عن مقاربة كل من جيل توفيق الحكيم وجيل الطيب صالح، هذا الجيلان اهتما بما أسميه الأفكار الكبيرة، أي بالأيديولوجيا في معناها العميق، أنا أهتم بالمعيشي وأحاول أن أفهم هذه العلاقة المتوترة باستمرار من خلال نمط الحياة.

عالم الهجرة

* في رواياتك الثلاث (صورة بدوي ميت) و(متاهة الرمل) و(حفر دافئة) تناولت قضية المهاجرين العرب إن صحت التسمية. ما الذي أثارك في هذه القضية؟

عندما كنت في تونس كنت أرى المهاجرين التونسيين يعودون كل صيف في سيارات جميلة وجيوبهم مملوءة بالفلوس، كنت مثل غيري أعتبرهم محظوظين، لكن عندما انتقلت للإقامة في باريس شاهدت عن قرب البؤس الذي يعيشون فيه، طبعاً هنا يجب أن أوضح أن حياة البؤس التي يحياها التونسي أو الجزائري أو المغربي أو المصري هي أفضل بكثير من الحياة التي كانوا يعيشونها في بلدانهم طبعا، أفضل لهم ولأبنائهم من الناحية المادية وعدة نواح اجتماعية أخرى لكنهم في فرنسا يعانون من عدة أشياء آخرها العنصرية.

حاولت في هذه الروايات أن أقدم عالم الهجرة على حقيقته، أي بما فيه من إيجابيات وسلبيات، وعلى فكرة أنا لا أقيّم في هذا العالم ولا أعطي رأياً، كل ما أردت هو أن أجعله قريباً من القارئ العربي.

* هل تلتقي بكتاب عرب في باريس وهل ثمة أصدقاء بينهم تلتقيهم بشكل دوري وما مدى علاقتك بهم؟

طبعاً لدي كثير من العلاقات مع المبدعين العرب سواء الذين يقيمون مثلي بباريس أو الذين يمرون عليها باستمرار، ولدي أيضاً علاقات بالكتاب الفرنسيين الذين صرت ألتقيهم كثيراً بعد ترجمة كتبي للفرنسية. لكن لا أخفي عليك أنني كاتب انطوائي إلى حد ما في حياتي، وأنني أميل للعزلة، وعلى أي حال نمط الحياة في أوروبا السريع والمعقد لا يتيح لي اللقاء الدائم بمن أحب من الكتاب.

السفير- ابريل 2005


أقرأ أيضاً: