حاوره : نعيم عبد مهلهل

علي الحازمييصنع الشعر بهجته من توافقات الروح ورغبتها بإكمال مشاويرها الإبداعية وهو أي الشعر رداء الشاعر ولكي تكمل رغبتك في صنع الابتهاج أصنع قصيدة. والشعر ألق يذهب بك إلى مستويات راقية من وعي تستطيع به أن تفسر ما ترميه عليك الحياة من علامات وتساؤلات ودهشة أنه يفسر ما نعتقد أنه صعب التفسير حتى لو كان الأمر يتعلق بفقه عبارة أو تفسير مفردة طافت بها خيالات متعددة. ومن أولئك الذين يحسنون هذا العزف والتدوين الشاعر السعودي علي الحازمي الذي يملك من تراث هواه ثلاثة كتب ترسم التخيل والمنادمة وإظهار سحر القصد وهي على التوالي < بوابة الجسد 98 / خسران 2000 / الغزالة تشرب صورتها / 2004. ففي بوابة الجسد تستعيد الكتابة بهجة إنشاء البدايات لكنها بدايات واعية ومبشرة حيث تطل من جوف الكتاب شغاف وهج أسطوري لمفردة الحب وتتبعثر التساؤلات عبر أنوثة الكائن الآخر لتصير فلسفة تضعنا في ما نعتقده انه ؛ وسن العاطفة واللحظة الراجفة فيما يتغير الإحساس ورؤى التجربة مع الكتاب الثاني خسران وتتعدد أغراض الشجن بصوفية ترتقي بهمه الشخصي والوطني والكوني. أما آخر إصداره < غزالة تشرب صورتها > فهي صورة لوعي جديد تطورت فيه كثيرا لغة الشاعر وتماسكت أدواته وشعت بين قصد الكلمات وفكريتها موسيقى يرتقي فيها عزف ماهر وأداء صعب.
على ما تمكنا من لملمته أعلاه من تراث الشاعر على الحازمي نلتقيه هنا وندير مع بهجته هذا الحوار :

* الشاعر الحازمي / أنت من الذين ينظرون إلى القصيدة بحسية طروبة أي أنك تعتني بالجملة وموسيقاها معا. تعتقد أن القارئ سيصل إلى قصد ما تريد ؟

هذا ما أرجوه، وأسعى إلى ملامسته طوال الوقت، عندما أكتب قصيدتي فأنا لا أبتعد كثيرا عن فهمي الخاص للشعر، ما زلت على إيمان عميق بأهمية الدور الذي يلعبه القارئ في المعادلة الكتابية نفسها، ومع ذلك يصعب علي شخصيا التنبؤ بمثل هذه الأمور، لا أستطيع حقيقة التكهن بمدى القرب أو البعد الذي سيجد القارئ نفسه فيه بعد قراءته لقصائدي، إن مسائل التلقي وتواصل الآخرين مع ما نكتب تظل برأيي نسبية لدرجة بعيدة، غير خاضعة في أغلب الأحيان لأية اشتراطات معينة.

* عندما أقرأ علي الحازمي. أجده لا يتشتت في سياحة الذاكرة حتى وأنت تتخيل نشيدا لأنثى تلمم روحك بسرعة. لماذا ؟

بقلق كبير أكتب قصائدي، الأمر الذي يجعلني أقسو عليها لدرجة بعيدة، في أغلب الأحيان تجدني أحاذر من الوقوع في مغبة مزالق الانسياق وراء إملاءآت اللحظة الشعرية وإغراء تداعيها، أهتم كثيرا لأن أبدو يقظا طوال الوقت، الكتابة عن الأنثى تمثل إغراءا فادحا بالنسبة لي، ومع ذلك أحاول أن الملم روحي سريعا عندما أكون بحضرتها في القصيدة، أفضل دائما أن أحتفظ بذلك الجزء الأكبر من سرها لدي، لا أريد لها أن تغادرني هكذا، ما زلت أجد فيها سبيلا مهما لخلاص الروح.

* في كتابك الأخير < الغزالة تشرب صورتها > يحتاج القارئ إلى وقت وزاوية هادئة لأنك ربما تنشئ للآخر وقتا للتمتع. كم مضت معك قصائد هذا الكتاب وهل امتلك محطات لمراجعة متأنية ؟

كتابة القصيدة لدي تحتاج دائما إلى المزيد من الوقت الأمر الذي يؤخر ظهورها بصيغتها النهائية، قد تستغرق هذه المسألة أسابيع أو شهورا لا أعلم بالضبط، ما أهتم له كثيرا هو أن تحقق لدي حالة عميقة من الرضا تجاه النص الذي أعمل عليه، إلى أن يتمكن في الأخير من إقناعي بوجوده وذاته المستقلة، أنا بطبيعة الحال لا أحرص على إنجاز نصوص كثيرة، أحتاج إلى أن أعيش يومياتي على طريقتي الخاصة، تلك التي تمكنني من التأمل بعمق في تفاصيل الأشياء، في أحيان كثيرة يكون من مصلحة الشاعر أن يبتعد قليلا عن الشعر وكتابته، لا بد له أن يظل على علاقة حية ومتجددة مع كل ما يحيط به.

* هل تسمي ما تنتجه روحك حداثة. هل تشعر بأنك ذهبت بعيدا عن كتابك الأول ؟

لعلي لا أجد جوابا واضحا لسؤال كهذا، عادة لا أهتم بكل ما تفرزه المسميات من نقاط التقاء وتقاطع، ما أسعى لأن أعتني به دائما هو أن تظل قصائدي وفية قدر الإمكان للحظتها الشعرية وإملاءاتها المستمرة، ومع ذلك لا يمكن لي بأي حال أن أتجاهل أهمية تجربة كتابي الأول وما حمل من بدايات تشكلت معها بعض من ملامح صورتي الكتابية، من المؤكد أنني سأظل أشعر تجاهها بتعاطف وحب كبيرين، وحده الشاعر من يظل يكتب قصيدته إثر رغبة وتوق لاجتراح النائي من الأحلام والأمنيات، إنه معني طوال الوقت بالذهاب للبعيد وملامسة الأقاصي.

الشعرية العربية تحاصر بعولمة الفكر وتداخلات احتلالات واقعة وبعضها مؤجل. هل الشاعر العربي مستعد لتقبل هذا ؟

ليس ثمة ما يشير إلى أن الشاعر العربي يمتلك خيارا آخرا في هذه المسألة، على اعتبار أنه جزء لا يتجزأ من منظومة العالم، وإن كنت أرى أن مكمن الصعوبة الذي سيظل يواجهه دائما هو في الكيفية التي يتوجب عليه أن يتعامل بها مع كل هذه المعطيات، كيف له في الأخير أن يرجح من كفة هذه الأمور وتداخلاتها لصالح قصيدته، قصيدته التي يفترض أن تحمل رؤاها وخصوصيتها العربية المستقلة.

* أي طقوس اليوم وأوقاته أصلح لشاعر يكتب بمستوى غزالة تشرب صورتها مثلاً؟

ليس لدي طقوس معينة أثناء الكتابة، ربما هناك بعض تفاصيل صغيرة مصاحبة، أحرص عليها دائما، كالكتابة على ورق أبيض غير مسطر مثلا، وارتياحي للكتابة بالقلم الأسود، كما أنني لا أستطيع أن اكتب قصيدتي أثناء وجود الآخرين، عليّ أن أكون خلف مكتبي منقطعا بصورة شبه تامة عن كل ما قد ينتزعني من أجوائي الكتابية وإملاءاتها، في الليل أكتب قصائدي غالبا، في هذا الوقت تحديدا يتعاظم لدي شعور نادر بألفة استثنائية مع الحياة والوجود، في الليل يوصد الناس أبوابهم في وجه العالم، وحدها القصيدة تظل مشرعة أمام الآخرين، بحب كبير تفتح ذراعيها لمعانقة التعب والضنى.

* هل من حق الشاعر أن يسيس الحب ؟

الحب أثمن وأجمل اللحظات الإنسانية التي تستحق العيش على الإطلاق، إنه الشاهق من المشاعر، شرارة الشاعر الأولى لبسط نفوذ المخيلة على خيبات الواقع، نافذتنا الوحيدة لنطل من خلالها على فضة أرواحنا، توقنا المستمر لملامسة الأصقاع والأقاصي، تماهينا المتواصل مع كل ما هو نائي من الأحلام، أنه الكائن الوحيد الذي يحرضنا بامتياز على مواصلة الحياة والذوبان فيها، ليس من مصلحة الشعر في شيء أن يسيس الحب يوما، لأن الشعر الحقيقي دائما مأخوذ باعتناق المطلق، معني طوال الوقت باجتراح كل ما هو كامن وعصي خلف مفازات الروح والمخيلة.

* ما بعد غزالة تشرب صورتها التي ملئت بتصاوير القلب وخلجات الروح في حداثة أستطيع أن أقول عنها أنها رومانسية طافحة بشيء من فكر وذهول لتأثير الآخر. حيث تتجاوز عالم هذا الكتاب إلى أين تذهب بك الرؤى ؟

في عملي الأخير سعيت برغبة حقيقية لمغادرة أجواء مجموعتي الشعرية السابقة ( خُسران ) حاولت قدر الإمكان أن ابتعد عن لغتها، عن كل ما قد يفضي بي إلى أجوائها مجددا، وأظنني تمكنت من الوصول إلى ذلك الشعور الشخصي بالرضا تجاه ما كتبته في هذا العمل الأخير، الآن أجدني مطالبا أكثر من أي وقت مضى بخوض تجربة شعرية مغايرة، لعلي لم أفكر جديا في رسم ملامح صورتها إلى هذه اللحظة، ولا أملك أي تصور واضح لها، لكنها حتما ستكون شاغلي الوحيد في الفترة القريبة القادمة.

* أنظر للحركة الشعرية في المملكة وتحدث عنها ؟

الحركة الشعرية في المملكة لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها في مختلف الأقطار العربية، من المؤكد أنها مرت بمراحل عدة ساعدت بدورها على تسيد القصيدة الحديثة لمشهد الشعر المحلي، السنوات القليلة الماضية أفصحت بقوة عن مرحلة جديدة يمر بها الشعر في السعودية، لا شك أن أبناء هذه المرحلة استفادوا كثيرا من جملة معطيات جديدة لم تكن - على الأرجح - في متناول شعراء المرحلة السابقة إضافة إلى أنهم حرصوا في الوقت ذاته على تلافي كل ما من شأنه أن يقف عائقا أمام تواصلهم مع الآخرين، ويؤجل من رغبتهم في الانفتاح على العالم، مشكلة الشاعر السعودي تكمن في أنه مازال إلى يومنا هذا مغيبا عربيا بشكل كبير ومبالغ، كما أن تجربته لم تحض هي الأخرى بما يليق بها من عناية وتقدير ضروريين، لا أعلم حقيقة من المسؤول عن كل ذلك، كما أنني لست مهتما للخوض في إشكالات قد تبتعد بنا مسارات عن الفعل الثقافي نفسه، كل ما أستطيع قوله أنني على إيمان عميق بأن ثمة مستقبل لا فت ينتظر الشعر في المملكة، مستقبل سوف يسهم مع مرور الوقت في إبراز بعض ملامح الصورة الحقيقية للشعر السعودي، ويعمل على تقديمها بصورة تتواكب مع حجم التطلعات المرجوة.

* هل هناك إرهاب في الشعر وكيف ينظر الشاعر إلى يومه الوطني.أنا أقصدك أنت كشاعر سعودي؟

مادامت هناك برك عظيمة من الدموع، ومادامت هناك قلوب مأهولة بالضنى فلابد أن يكون هناك مسؤول عن كل ما يحدث، الإرهاب حقيقة نستطيع أن نلمحها في كل شيء تقع عليه أعيننا، إيقاع الحياة اليومي يفصح عن كل ما ينتظرنا، هناك يد ما تدفعنا بطريقة أو بأخرى لمواجهة حافة غير مرئية طوال الوقت، حافة تطل بامتياز على هاوية حتمية وشيكة، كل ما يحيط بنا أصبح عرضة للتداعي والانكسار، لم تعد هذه الحياة تشكل مصدر طمأنينة لأحد، من المؤكد أن كل ذلك سيطال الشعر أيضا، وسيطال الذائقة العربية، أما فيما يتعلق بنظرتي لليوم الوطني في بلادي السعودية أجدها حقيقة لا تختلف عن نظرة أي إنسان نشأ وكبر على تراب وطنه المجيد، في اليوم الوطني نكون عادة على موعد بهيج تتجلى فيه مظاهر الحب والانتماء لهذه البقعة الثمينة من العالم، هذه البقعة الضاربة في جذور الروح والمخيلة العربية، بكل ما تحمل على الدوام من إرث إنساني عظيم، ظل يؤرخ بامتياز لكل معاني النبل والعزة والتسامح والحب.

* هل تفكر بالبحث عن ميثولوجيا قبائل نجد في أعمالك القادمة.؟

الجزيرة العربية بصحاريها الشاسعة وقبائلها العريقة تمتلك من الخصوصية والثراء ما يؤهلها لأن تكون مادة خصبة لأي عمل إبداعي سواء أكان شعرا أو نثرا، إن تاريخ الجزيرة العربية المضيء سيظل على الدوام إرثا استثنائيا مديدا، ربما لم أفكر جديا في استثمار هذه المعطيات لصالح قصيدتي لأنني أدرك جيدا أن مثل هذه المشاريع الكتابية الكبرى تحتاج إلى دراسة متأنية وجهد مضاعف وعميق قبل محاولة الإقدام على الاستفادة منها شعريا، من المؤكد أنني لست مهيأ الآن - على أقل تقدير - لخوض هذه التجربة.

* كيف في تصورك يتلقى الآخرون قراءاتك وما مستوى النقاش معهم ؟

يكتب الشاعر قصيدته في هذه الأيام وهو يعلم مسبقا بأنها سوف تحضى بأصدقاء قليلين وبخصوم كُثر غير معلنين من الوسط المثقف نفسه، الأمر الذي يجعله مهيأ منذ البداية لفهم واستيعاب كل ما يحدث حوله، مازلت أذكر قبل سنوات عدة، عندما قمت بطرح موقعي الشعري الخاص على شبكة الانترنيت، لم أكن أدرك وقتها أهمية هذه التجربة بالنسبة لي، لكنني ومع مرور الوقت بدأت أزداد إيمانا بوجود قراء حقيقيين للشعر، قراء يمتلكون قدرا عاليا من الذائقة والوعي، إن هذه النوعية من المتلقين تمثل بلا شك قيمة حقيقية لدى الكاتب وتضاعف في الوقت نفسه من حجم مسئوليته تجاه الكتابة باعتبار أثرها الإنساني الخلاق.

* حين يكشف الشعر عن نوازعه القومية. هل تفكر مثلا أن تكتب شعرا على الطريقة المراكشية ؟

الشعر بالأساس مرتبط بالحياة والناس، بتلك الأحلام التي نسعى ونتوق دائما لملامستها، على مر العصور ظل الشعر رافدا مهما لكل دعوات التحرر والانعتاق من سلطات القمع والتبعية، برأيي ليس علينا بالضرورة أن نهتم للطريقة التي سنكتب بها الشعر بقدر ما علينا أن نفكر طويلا بذلك الأثر الذي نود تركه لدى الآخرين.

* أنت مختار من قبلنا في كتاب يتحدث عن سيرة الرؤية الجمالية في شعر الجزيرة العربية وقد أضفت السياب إلى حشدكم. كيف تنظر لشاعر كبير مثل السياب وهل كنا موفقين حين نلحقه بحدي قافلة الجمال الجزراوية ؟

السياب شاعر كبير يمتلك تجربة شعرية باذخة الجمال استطاع أن يحفر اسمه بامتياز في ذاكرة الشعر كأحد الرموز المهمة للقصيدة الحديثة في الوطن العربي، إنه من الشعراء القلائل الذين يحرص الجميع على قراءة أعمالهم بحب كبير، ووجوده ضمن هذه الأسماء المختارة يعد إضافة حقيقية لهذا العمل ويخلق في الوقت ذاته نوعا من التواصل الخلاق بين الأجيال الشعرية العربية.

* هل تفكر مثلا لدعوة المؤسسة الثقافية في المملكة بجعل مكة المقدسة عاصمة للشعر الديني المتنور ولأسبوعين مثلاً..

لم لا، مكة المكرمة تمتلك إرثا ثقافيا دينيا يؤهلها باقتدار للقيام بهذا الدور، التاريخ العربي والإسلامي تحديدا يشهد على ذلك بجلاء وحياد كبيرين، لعلنا في السعودية مازلنا نحلم كمثقفين بأن يكون هناك دعم حقيقي للحركة الثقافية بوجه عام، ما زالت المؤسسات الثقافية غير قادرة على مواكبة حركة الطباعة والنشر للأعمال الإبداعية، هناك أمور كثيرة ظلت عالقة، إن كل النجاحات التي تنسب للكاتب السعودي تحققت بجهد شخصي مستقل من المبدع نفسه، مازال الكاتب لدينا يقوم بالمهام التي يفترض أن تقوم بها المؤسسة الثقافية الرسمية، وهذا برأيي مؤشر واضح وصريح لوجود خلل ما في مستوى الوعي وحقيقة تفهم الأدوار.

* وأخيرا. ماذا منحك الحوار، هل وجدت نفسك فيه، أم نفس محاورك ؟

من المؤكد أنني سعدت كثيرا بهذا الحوار الذي وجدته يمثل إغراء كافيا لي لأن أغادر - ولو لبعض الوقت - محيط عزلتي الاختيارية، تلك التي أجد نفسي فيها طوال الوقت، كما أن الحديث عن الشعر والكتابة فرصة جيدة لقراءة الذات وإعادة تقييمها من جديد.