(يعتبر ان النقد الأكاديمي لمّا يبلغ القدرة على توصيف النتاج الشعري)

اسكندر حبش
(لبنان)

أنطوان أبو زيد:يشتغل بعزلة وبعيدا عن الضجة الإعلامية. وفي مجموعته الشعرية الجديدة (سكنى بين غفلتين)، تتحول اللغة عن الجفاف إلى ذلك الصوت الذي يلين الصمت، ويخرج من ذات مسكونة، باحتفالية هادئة بالحب والحياة.
في مجموعته الجديدة يبدو الشاعر انطوان أبو زيد محتفيا باللغة، وبانسياباتها الخفيفة، مختصرا لحظات قصوى من الصمت. عن تجربته ورؤيته الشعرية وجديده هذا الحوار:

* أصبحت اليوم في مجموعتك السادسة، مرّ ما يقارب العشرين سنة وأنت غارق في الشعر إذا جاز التعبير. بعد كل هذه السنين وهذه المجموعات، يمكن القول إن الشعر لم يعد (هواية) أو مجرد (محاولات)، بل أصبح شأنا حياتيا. أين أخذك الشعر أو إلى أين ذهبت به؟

لا أعرف من يأخذ من، فالشعر بهذا العمر لم يعد هواية ولا صنعة يمكن للإنسان أن يأتيها، وإنما صار مختلطا في هويتي ولهذا لا أستطيع أن أجيبك في المدى الذي يمكن أن يوصلني إليه الشعر. ربما إلى رحلة أشبه برحلة (عوليس) وربما تسوقني الحياة فيكون الشعر بمثابة خط الهواء الذي صار ينسل مني شبيه العنكبوت الذي ينسل خيوطا من دون إرادة منه، لكي يعبر أو لكي يحيا.
لو نظرت نظرة استعادية إلى ماضي الشعري لقلت إني كتبت بعضا من الإشارات أو زعمت أنني كتبت بعضا من عوالمي التي تاهت مني. ولا أنفي أن ثمة إرادة تضاف إلى تجربة، تضاف إلى معرفة ولا أعرف إن كان من موهبة في المسألة، فالتقسيم والتحديد في هذا المجال يعنيان غيري، ذلك أن المسار الشعري سلكته، وبات أكثر جوانية وتخففا اليوم مما كان في الماضي، فهو أشبه بعمل الفنان الذي يبدأ لوحة أو يباشر لوحة يظن أنها هي الممثلة لفكرة ما، ثم لا يلبث أن يجد أن اللوحة الأخرى بخلفيتها المقتصرة وبتشكيلاتها وفضائها القليل سوف تكون لها القيمة الأكبر. إذاً، كما قلت لك لا أستطيع أنا أن أحكم على مسيرتي الشعرية وهذا متروك للآخرين.

* قبل أن أتحدث عن هذه الجوانية التي أشرت إليها في جوابك، دعني أسألك قبلا: أنت واحد من الذين يكتبون بعيدا عن الضجة الإعلامية، وكأنك تغادر طوعا قلب هذه المعمعة والنقاش لتتفرغ إلى الكتابة وحيدا، بمعنى آخر، ثمة عزلة تفرضها على نفسك، هل عزلتك هذه من مقومات الشعر عندك؟

أولا، كنت وما زلت خارج الضوضاء الإعلامية التي سحرتني فترة من الزمن وساهمت فيها عقدا أو أقل من عقدين، ولكن الأمر لم يكن بهذه الدقة؛ أنا أعتبر الشعر بداية، عملا احترافيا بامتياز وعملا جوانيا بامتياز، بمعنى آخر لا يمكن لي أن أكتب قصيدة إذا ما اعتبرت نفسي مندمجا اندماجا كليا ببيئة صاخبة، لا أجد فيها زاوية للتفكير في ذاتي وفي ما أفعله وفي ما أنظر إليه من منظار الخبرة الإنسانية التي بلغتها، فالشعر أو الفن برأيي له حركة دوارة وتراجعية أحيانا بحيث يجد المرء نفسه حيال حركة الحياة، يندمج فيها ثم يعود في حركة تراجعية لينظر إلى الظلال التي خلفها في دخوله ذلك. وفي الشعر قدر من التأمل الذاتي المتأمل عن بعد، والمتأمل من الداخل والمتأمل استرجاعياً. وهذه كلها تخدم أفق الشعر بنظري، من حيث أن شعراء آخرين لا يعوزهم لا التراجع ولا الانطواء بجسومهم وكياناتهم المادية. ربما لأن شعرهم يخوض تجربة مغايرة، أنا أعني مثلا تجربة عباس بيضون التي تذهلني حين أربط الشاعر بمحيطه وأنظر إلى القصيدة فأراها ذروة في تفكيك الذات وفي تسييلها وربط أشيائها والنظر إلى كائناتها نظرة أكاد أقول وثنية، لا بالمعنى التقييمي وإنما بمعنى تجريد هذه الأشياء من أرواحها إذا شئت.

هذه التجربة كما قلت منغرسة في بيئة مكانية ضاجة وصاخبة. الشعر هو نتيجة ربما تكون غير متعددة لكائن أو لشاعر أراد أن يحيا طبيعة حياة معينة، ثم إني كنت ولا أزال أضع أو أعتبر أن الإعلام للشاعر مفيد بقدر ما هو معيق لألقه. ذلك أن البحث عن الألق، لا بمعنى البروز، وإنما بمعنى ابتكار وجهة نظر تحتاج إلى بحث من الشاعر، وإلى إمعان نظر وإلى صمت كبير وانصراف عن سجالات تصورها الصحافة بطبيعتها على أنها محورية. البعد في هذا المعنى مفيد للشعر وليس مفيدا للشاعر، من حيث المسافة العملانية بين كاتب الشعر والوسيلة المروجة له في عالم يحتاج إلى الترويج كما نعرف.

* تشير إلى مسألة جوهرية تتحكم بقراءتنا للشعر اليوم: الترويج. ألا تعتقد أن النص الجيد سيفرض نفسه حتى وإن ابتعد عن كل هذه الضوضاء؟ بمعنى آخر، فيمَ يرغب الشعراء اليوم، من الكتابة: الشعر أم الإعلام؟

صحيح أن الشعر الجيد سوف يفرض ذاته، ولكن هذا الفرض قد يكون على حساب الزمن وعلى حساب الشاعر في آن. وأقول هنا إن النقد هو الأداة التي ينبغي أن تكون (موضوعية) قدر الإمكان، وهذه الأخيرة تستلزم أن يكون للناقد ثقافة وإطلاع واسعان وأن يسعه بقدرته النفاذة على التحليل، أن يميز ما بين مستويات الشعر والأعمال الشعرية. ومن البديهي القول إن الإعلام المكتوب مغر للكثير من الكتاب المبدعين وغير المبدعين. وأعترف بأن كتّاب الصحافة وشعراءها هم أكثر الشعراء العرب ثقافة واطلاعاً وشمولية معرفة، غير أن النقد الأدبي الذي أشار إليه أحد هؤلاء الشباب في كلمة له منذ زمن ليس بالبعيد لم يبلغ إلى اليوم حد التبسيط والعمق والتجرد التي ينبغي أن يتحلى بها في الصحافة عينها. وكل ما ينبغي للأكاديميين من النقد الأدبي أن يبلغوا مرحلة تواكب الإبداع الشعري بلغة موضوعية أو شبه علمية بعيدة عن الهوى، كذلك ينبغي للنقد الأدبي الصحافي أن يواكب أو أن يوازي الموضوعية في النقد الأكاديمي المفترض، لا أن يقصر عمله على الانتقائية غير العادلة...

* ولكن هل تجد فعلا أن النقد الأكاديمي يوازي الحراك الشعري الجديد؟

لا بالطبع، أقر بأن النقد الأدبي الأكاديمي، ولا سيّما في ما خص الشعر المعاصر، لم يبلغ إلى يومنا هذا القدرة على توصيف النتاج الشعري الغزير والمتنوع والشديد الخصوصية في قصيدة النثر وفي الشعر الحديث على حد سواء. لا أكشف سراً إن قلت إن عدداً كبيراً من النقاد الأكاديميين اليوم لا يقرون بقصيدة النثر، فكيف يتعاملون مع واقع أدبي وهم لا يعترفون به ولا يهيئون له عدة الوصف والتصنيف والنظر العميق، وقد تكون هناك تجارب نقدية أكاديمية قليلة حاولت أن تلم بظاهرة قصيدة النثر وأعتبر نفسي معنياً بهذا الأمر، وربما كان لدي مشروع في هذا الشأن يطاول قصيدة النثر اللبنانية والعربية. والمفارقة هي ان النقاد العرب يقبلون بل يتشربون المعايير النقدية الغربية بيسر ما بعده يسر ولكنهم يقفون مترددين بل آنفين من النظر إلى قصيدة النثر. إنها مفارقة كبيرة.

* أول ما نلاحظه في مجموعتك الجديدة (سكنى بين غفلتين) ان اللغة الشعرية عندك، تخلصت من الكثير من هذا (الجفاف) الذي طبع شعرك السابق كأنك تنحو هنا إلى الداخل أكثر؟ كيف تفسر ميلك هذا؟

كما أشرت في البداية، ان الخفة التي لاحظتها في هذه المجموعة الجديدة هي نتيجة يقين في أن الشعر ينبغي أن يتجه إلى الأساسي من الإشارات والتلميحات والصور. ولربما رأيت اللغة الشعرية هنا معادلا للكائن الذي بدا خفيفا مع الزمن، والذي لا يستطيع أن يقيم طويلا في أركان المكان، ولا يسعه أن يحمل الأشياء معه في ترحاله، وإنما يختبر بل ينتخب، لا كانتخاب البرناسيين ولا كانتخاب الرمزيين الذين يسعون إلى ما وراء الأشياء، وإنما انتخاب يوحي بالكائن نفسه وبصورته الخفيفة الواهية الحقيقية والقابلة للانكسار والهشاشة. وبهذا المعنى تصبح اللغة المخففة أقدر على تليين ذلك الصوت وتحميله طاقة إنسانية خالصة. إنها لغة اللحظة الخالصة، إذا كانت اللحظة شعرية، بمعنى أنها دالة على مأساة الكائن ونهايته وحدود مشاعره الواضحة جدا.

* تقول إنها لغة اللحظة الشعرية وأرغب في أن أضيف إن هذه اللحظة التي تكتبها هي أيضا لحظة الصمت، وكأن الشعر هنا، يرغب في أن يخفي القول أكثر مما يرغب في إظهاره وتبيانه؟ ما رأيك؟

من قال إن الكلام هو للإيضاح فقط وللإيصال فحسب، هو لمد جسور نحو ما لا يقال، هو لمحاولة فتح الكوة على تلك الكلمات التي ينبغي أن تبقى حبيسة أو رهناً لمن يلتقطها أو يبلغها. نعم الصمت بالتأكيد، فذلك الصمت هو الغالب في آخر الأمر، هو بديل الموت إلا انه يأتي بعد كلامنا نحن والحالة هذه فإن الشعر هو تلك اللحظة التي يسجل فيها الكائن وجوده ووحدته قبيل صمته. ولا بأس أن يستشف من الشعر صمت وما بعده كلام وما قبلهما فعل صار في عداد ذلك الصمت الكبير. ولا أدخل ها هنا في لعب البياض والسواد وهو يختص بجماعة معينة.

ولو اعتبرنا أن اللغة الشعرية بالأساس هي نظام رموز عارضة ولا أعني أن الشعر هو من المذهب الرمزي حكماً، لقلنا إن دلالات وإيحاءات هي أقرب ما تكون إلى الفعل الأنطولوجي الإنساني، الذي يحاول فيه ذلك الذي أعطي لساناً أن يسائل اللغة عن مصيره وعن أفعاله وانقطاعاته التي لا تكف ما دام يسعى إلى ذلك الصمت الكبير أي الموت.

* هل الكتابة بهذا المعنى هي إحالة إلى هذا الغياب الكبير؟

كنت أتوقع هذا السؤال، ليس الشعر جنائزياً بهذا القدر، ولا بد للشاعر أن يكون هادئاً في نظرته التي تستشف مصيره، غير أن للشعر كما أراه وظائف احتفالية بالحياة وباللحظة التي يخشى أن تضيع أو أن تسيل وتمضي بلا عودة. وثمة في المجموعة قصائد بهذا المعنى احتفالية بقدر ما تعنيني اللغة الشعرية على هذا الاحتفال الصامت، كشبيه السينما الصامتة التي نستعيدها كلما احتجنا إلى التخفف من الكلام الذي بات يعني غير ما نريده، أو غير ما نريد تعيينه ونرغب في هذا التعيين.
إذاً الشعر هو حمال لحظات أدعوها قصوى، ولهذا لا يسعني أن أكثر من الشعر لأن هذا الأخير يتطلب لحظات قصوى ليست بهذا العدد ولا بهذا التجسد. يمكن لي أن أعطيك مثالا، القصيدة الأولى في المجموعة احتفالية، وهناك قصائد أخرى تبدو للوهلة الأولى من صنيع لحظات الحب التي أعتبرها مادة كبرى أو أساسية للشعر، غير أن فيها أجواء وقصائد أبحث فيها عن هويتي التي كادت تضيع، بل أحاول أن أصنع هذه الهوية الإنسانية ثانية، من خلال مسار شعري ونظرة شعرية مبتكرة إذا صح التعبير. وهذا شأنك أن توافقني أو أن تدحض هذا الكلام.

* ملاحظة أخرى تستوقفني في المجموعة، وأجدها أساسية في عملك الجديد، ابتعادك كثيرا عن (الصورة) بكونها جزءا من اللعبة الشعرية، ما أجده هو أن اللغة، في كتابتها لنفسها، تولد الصورة أي وكأن الخطاب الشعري هنا، يتنازل عما عهدناه في الكثير من الشعر العربي الراهن؟

نعم، صرت أعتبر الاشتغال اللغوي أهم بكثير من التركيز على الصور الشعرية التي قد تتفاوت قيمة واتساعاً ومشهدية في القصيدة الواحدة، ورأيت أن العمل الدؤوب على ابتكار وجهة النظر إلى موضوع ما، إلى شخص أو صورة للذات هي أقدر على صنع شعرية النص، لأن اللغة عندئذ تقود الكلام أو الخطاب إذا شئت كله نحو مسار غريب، يحدث قدراً من إكزوتيكية التفاعل أو من التجسيد الفني على صعيد القصيدة ككل لا في جزء منها. وعلى كل حال أشير ها هنا إلى ما كان عليه شعراء الرمزية، ولا سيما مالارميه، من التركيز على التركيب اللغوي على حساب الصورة والإيقاع، لأن هؤلاء أدركوا أن التجديد سوف يأتي من ابتكار وجهة النظر هذه وتغريبها إذا صح التعبير. وفيها يكمن هذا القدر الكبير من الانزياح، بين ما كان القارئ يتصوره مسبقاً وبين ما آل إليه الكلام والخطاب في واقع الشعر والقصيدة.

السفير- 2005/02/01