لأنه مطبخ بكائي المتحرك

حاوره: ابراهيم اليوسف

أسعد الجبورييعد الشاعر العراقي اسعد الجبوري والذي عرفناه طويلا باسم نيوسفسكي من بين الشعراء العراقيين والعرب ممن استهوتهم الحداثة، الشعرية وأخلصوا لها، أيما إخلاص، برغم ان الرعيل الأول من المبدعين الذين استهوتم الحداثة، لاقوا الكثير من العنت، بل وتعرضوا للمزيد من التخوين، بيد ان إحساسهم بضرورة وصوابية رؤاهم كان يدفعهم ــ علي الدوام ــ للاستمرار في السباحة بعكس التيار.. وأسعد الجبوري فوق هذا وذاك شخص مختلف جداً، تجرع الغربة، ولم يرعو قلمه في ترجمة شغبه وفوضاه أينما كان..خلال زيارته الأخيرة إلي دمشق ــ التقينا وتناولنا مفاصل مهمة من تجربته الإبداعية والحياتية.

* نبدأ منذ الكتابات الأولي لنيوسفسكي. من أين جاء هذا الاسم، ولم عاد أسعد الجبوري ثانية؟

ــ كانت الأسماء، مثلما هي الآن، غير مهمة أبداً. تلك أزياء ويمكن تهميشها أو القضاء عليها بالعري. نحن نتحدث عن الجوهر. عن مجموعة المخلوقات التي يتكون منها جسد الشاعر. لقد نشرت كتابي الشعري الأول باسم نيوسفسكي تحت تأثير من ذلك الشعور. بعبارة أخري، جعلت اسم أسعد الجبوري قرباناً لصالح الشعر.

* ألم تكن تلك التضحية خوفاً ربما؟

ــ لا أعتقد.

* هل لأنك لا تمارس الخوف كرقيب علي نصوصك الشعرية؟

ــ عندما تخاف من الشعر، تكون قد استسلمت لمجموعة المخلوقات التي تسكنك، وتكون قد انتهيت تماماً.

* لماذا الإصرار علي تكوينك بالجمع. ألست فرداً؟

ــ أنا لا. لست فرداً. لا أشعر بذلك أثناء كتابة الشعر.

* كيف؟

ــ الشاعر يتناسخ في داخله. ولو بالوهمّ. أقصد أنه يتكاثر إلي درجة يستطيع بها تكوين قوة ما، سمها سحرية للسيطرة علي كل الشعراء الذين عرفهم في تاريخ القراءة.

* وتسيطر عليهم فعلاً؟!

ــ لا أعلم تماماً. ولكن بإمكانك قراءة نصوصي. فأنا كما أجزم، قطعت شوطاً لا بأس به في ذلك المضمار.

* أنت تعتبر أحد شعراء الحداثة العرب المشاكسين. هل تري أن المشاكسة هي أحد وجوه الحداثة؟

ــ الشعر في طبيعته التكوينية صراع ضد الآخر. لا أقصد الآخر المتخلف وحسب، بل الآخر المبدع كذلك. والشاعر الجيد، هو من يقوض المقابل ويطيح بعرشه. لا مكان لشاعرين علي عرش واحد. تلك كذبة سخيفة ومضحكة. تجليات الشعر، هي في أن تكون واحداً ووحيداً.

* ولكن قانون الشطب قد لا يصلح في حياتنا الثقافية؟

ــ ذلك ليس شطباً. بل وقاية من التجرثم بمخلفات الآخرين الشعرية. لا أعتقد بأن أحداً من الشعراء، يملك الاستعداد لأن يترك لك تربة نظيفة تتجذر بها وتنمو وتستطيل علي هواك. هناك استعمارية بليغة يستخدمها بعض الشعراء ضد بعضهم الآخر. كل واحد يحاول جعل الأخر عبداً في خدمته. والرموز التي شاخت علي مر التاريخ الأدبي في العالم العربي، هم أول أولئك المتورطين بتمجيد فكرة الاستعمار الشعري التي أصبحت قانوناُ.

* هذه مشاكسة جميلة. أنت كشاعر.. هل تنظر إليها بوصفها حداثة؟

ــ المشاكسة الأرض الساخنة للحداثة. طبعاً، إنها بمثابة الأوكسجين الذي لا يمكن الابتعاد عنه بالمطلق. تصور شاعراً علي شكل الأرنب أو دجاجة منتفخة بلحم رخو وبريش ناصع يوازي مسحوق التايد بأهميته الكيمياوية؟!
تلك الصور لا تجلب للشعر غير الاسترخاء و العار. لأنها تضعه في صورة التمثال.

* أليست تلك الصورة أحد وجوه السوريالية؟

ــ السوريالية أن تجعل من أذن الأرنب ستلايت. عمل الشاعر داخل المختبر السوريالي شاق ويتطلب منصات عالية للالتقاط. الوصول إلي جوهر اللغة، يتطلب غواصاً سوريالياً يعرف طرائق التعامل مع الكلمات وآبارها العميقة. فكل كلمة عبارة عن بئر يشبه بئر البترول.

* ماذا عن قصيدتك الأولي، هل كانت هي الأخرى مسكونة بمثل هذه الغرائبية والإدهاش؟

ــ لا. ليس كذلك. ولكنها قد تكون أفضل من بدايات شعرية عديدة. ومع ذلك، سرعان ما وجدت نفسي متبخراً من الفرن العربي، ومبتعداً عن تلك الأنماط الشعرية السائدة.

* إلي من كنت تعتبر نفسك قريباً أثناء بداياتك الأولي؟

ــفي البدايات.. جبران خليل جبران. بعدها وجدت الشعر في العالم العربي، وهو يتحول إلي مجموعة أحداث تعرقل مجريات الحياة.

* تقول تعرقل؟!!

ــ نعم. الشعر النمطي عرقلة. فكلما كان الشاعر منسجماً مع نفسه والآخرين، كلما كان سطحاً للمبيت تحته. أنا أردت التصادم منذ البدايات. التصادم مع صور وأفكار وشهوات، تناقض ما يسكن في مختبراتك وبساتينك وجبالك وتضاريسك. كل ذلك من اجل أن تكون مختلاً. لا قيمة لشعر يجعلك متوازناً، أو علي هيئة صورة ميزان وزارات العدل في العالم العربي.

* ولكن هل ثمة شعراء عالميين وعرب كنت تحس بقرب ما نحوهم ؟

ــ ما زال المنفلوطي أهم من تأثرت بهم في حياتي. فقد كان، مثلما هو الآن شاعر مصر الأول. أنه مطبخ بكائي متحرك بأكمله، وأنا مدين له في بكل ما لحق بقصائدي الأولي من أضرار ونواح. إما بقية الشعراء، فلا بد من ترحيلهم وجعلهم ضمن دائرة عابري سبيل.

* ألا تحن إلي بعضهم مثلاً؟

ــ هم في الخارج علي الدوام. أنظر إليهم بمحبة. وأرفع لهم قبعتي، خاصة في الشتاء الاسكندنافي. نحن الشعراء قتلة لتجارب بعضنا. ولولا تلك المهمة، لكنا جميعاً خارج الشعر.

* كيف تقوم واقع الشعر العربي العراقي، لا سيما بعد سلسلة التطورات الهائلة في حياة وجغرافية هذا الإنسان؟

ــ واقع الشعر العربي الآن، هو واقع سوريالي بالضبط، خاصة بعد تحول رموز حداثته إلي شيوخ من الكلاسيكيين. إما الإنسان بوصفه مخلوقاً داخل جغرافية الشعر، فهو ما زال يتصارع كهرقل علي شق الطريق نحو خبزه وحريته ونساءه.

* كيف تنظر إلي موقع الشعر العربي ضمن خريطة الحداثة العالمية (بوصفك عضواً في اتحاد الكتاب الدنماركيين)؟

ــ ليس الشعر هيكلاً. تمثالاً، لننظر إليه من هذه النافذة أو تلك، ثم نطلق نحوه بوالين الكلمات. الشعر أخطبوط قادر علي إضافة أطراف جديدة لجسده في كل لحظة. لذلك لا تستطيع الكاميرا تحديد شكل هوية لصوته لصورته لنبضه بالضبط. الشعرية العربية سيئة في كل الأحوال. ولكن شعرية الغرب، ليست أفضل منها في كل الأحوال.

* ألا تكون هذه مبالغة مثلاً؟

ــ لا. ليس الأمر بهذا الاتجاه. فعندما أقصد بأن الشعرية العربية سيئة، فليس معني ذلك بأن الشعر العربي دخل القبر ولم يبق إلا الإعلان عن موت معوقي التخيل. لا. هناك عمليات مستمرة للترميم، وأنا ضدها.

* ضدها لماذا؟

ــ عموماً أنا ضد المرض. لا أريد رؤية شعر يعاني من الكساح أو الدفتيريا أو السعال الديكي أو السل. فأن يذهب الشاعر إلي المقصلة طوعاً، خير من أن يحتفظ ببطاقة الضمان الصحي لاتحاد الكتّاب العرب، ليظل عرض حالجياً أو شئ من ذلك القبيل.

* أسعد الجبوري رهين الغربة والاغتراب. ما الذي يمكن أن يقوله لنا ضمن هذين المحورين إن جاز التشريح؟

ــ لا وجود لغربة ولا لاغتراب. الغربة في أن لا تكون الكتابة موطنك. والاغتراب في أن لا تكون ممحاة لنفسك وإقامتك علي الدوام. هذا ما أشعر به راهناً. ربما في الغد نستبدل الفكرة بأخرى. العالم قابل للتبديل في كل لحظة.

*ثمة دعوات ما بعد حداثوية ــ سمعناها في السنوات الماضية ــ ما مصير أصحاب مثل الدعوات؟

ــ الحداثة في العالم العربي، مثلها مثل المستحاثات في بعض الأحيان. كل حداثة لدينا قائمة علي ذكورة، لا علي مبدأ أو بعد نظري شفاف. فنحن، حتى حينما نفكر بالتغيير، نستجلب لصفوفنا فكرة أن نكون في السياق الحرملكي شرعيين، وبالقدر الكافي. لذلك فالكثير من حداثتنا، ما تزال أنثوية ــ غلامية، متعلقة بالشهوة كمذبح مُنتج للارتقاء. أو بعبارة أخري الشهوة كرأسمال للكتابة.

* أليست اللغة في نصك هكذا. مختلفة مغايرة؟ كيف ترى هذا المعمار؟

ــ أنا أشدد علي أن في كل كلمة شهوة. هناك بعد ايروتيكي داخل الكلمات، وهو ما يمكن اعتباره بالمجال الحيوي. قد يخضع ذلك لنظام الكتابة عند كل شاعر.
فمنا من يجد في البؤس بلاغته، فيصنع شعراً علي قدر تلك البلاغة المحطمة. ومنهم من لا يري في الشهوة إلا عاراً، فيبتعد ويخطئ. آخرون يمجدون العنف والتصحر والتعفف التلفيقي، فتهجرهم كتاباتهم، ويقبرون في الشتات اللغوي.

* لقد توجهت إلي الرواية. نشرت (التأليف بين طبقات الليل) و(الحمي المسلحة). هل يعد نتاجاً لأزمة الشعر؟

ــ ما من نص يأتي تعويضاً عن آخر. الرواية غير الشعر علي مر التاريخ. والشعر، قد لا يجد تشرذمه إلا داخل الأعمال التي تبني أساساً علي الثرثرة، كما هو الوضع بالنسبة للأعمال الروائية. لكنني.. وعندما كتبت بعض الأعمال الروائية، وهي أكثر من أربعة أعمال، فقد كنت تحت تأثير الضغط الشديد. كنت محتاجاً لمخاطبة العقل الأوروبي بلغة ثرثارة شاسعة لا يمتلك مساحاتها الشعر. وهذا ما فعلته بالضبط.

* إذاً، هل يمكن أن إصدار مجموعة شعرية جديدة لك (العطر يقطع المخطوط) يعني إنك تراهن علي دور الشعر؟

ــ وهو كذلك. فالإنسان من بقايا الشعر علي الدوام.

جريدة (الزمان)
2003 - 11 -17


إقرأ أيضاً: