حاوره : صالح سويسي
(تونس)

أيمن اللبديللحديث مع هذا الرجل متعة خاصة، ولذّة لا توصف فهو صاحب نكتة، لا تكاد البسمة تغادر وجهه، شاعر، ناقد، صحفي، صاحب مواقف ثابتة وآراء واضحة، عاشق للحرف، معانق للإبداع بكلّ أشكاله، مهووس بالكتابة مولع بالقصيد العمودي، تجلس إليه فتجده يجوب بك كل العالم من خلال معارفه واطلاعاته وسفراته التي لا تنتهي، مبدع يعيش سفرا دائما مشغول بكل قضايا شعبه وأمّته.. الحقيقة أنني لا أجد ما يمكنني ان أقدّم به هذا المبدع العربي المفتوح على كلّ الرؤى والتوجهات الأدبية، كنت وعدته بمقدمة طويلة غير أنني سأخذله وليغفر لي ذنبي هذا وسأدع إجاباته تتحدّث عنه وتقدّمه.

*س1: من خلال إشرافكم على الملحق الثقافي للحقائق و ملامستكم للواقع الثقافي العربي عن قرب، كيف يبدو لكم هذا المشهد في شتى تمظهراته ؟

أيمن اللبدي: الواقع الثقافي العربي لم يعد مسألة تحتمل مقالاً أو تصنّفها دراسة حتى لو كانت جادة ناهيكَ عن تناوله في ندوة أو حتى في معرض التفاؤل ورشة متتابعة، الأمر حقيقة خرج عن السيطرة إكلينيكيا وبات في حكم ما هو خارج الضبابية التي وصّفها لهذا الواقع عدد من الأصدقاء مؤخرا، هذا ليس تشاؤماً فحينما الفجيعة حاضرة تصبح عملية الندب ليست أكثر من تفريغ يقود إلى لحظة من تجنّب ما هو أفجع على طريقة الشعوب البدائية، يمكنك النظر إلى عزم القوة من حول هذا الواقع لتجده في صورة غاية في التعقيد والتركيب، مفردات القضايا التي بات قاموس هذا الواقع مجبراً على التعامل معها أصبحت تثير فيه رغبة بالجنون أكثر من رغبة الفهم، ودينامكية واقع الآخر في كل قضاياه أصبحت تصيب واقعنا بالدوران والهستيريا.
المسائل الشائكة والأسئلة الأكثر خطورة ما زالت تتوالد وتتضاعف، عن ماذا تريدنا أن نباشر التوصيف وعن ماذا يمكن لنا أن نسكت مؤقتاً وربما نهائياً لأن لا جواب حاضر؟! خذ جملة الالتزام والأصالة والحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والعالمية والهزيمة والاستلاب وما بعد الفكر ونهاية التاريخ وعصر ثنائية (الكلمة ،السوق) ! عن ماذا يسهل الولوج في هذه المتمرحلات داخل هذه الغيمة القاتمة التي خرجت لتوها بعد تفاعل نووي قاهر غير مسبوق؟!
وإذا كان هذا هو الحال يا صديقي كما نلمسه عن قرب على النحو الذي وصفت آنفاً…، فإن هذا الواقع قد استطال في رحم الزمن ليشكِّل تاريخاً حيَّاً متواصلاً دون كثير إثارة من حوله لفزع أو لريبة عند كثير من عمد الثقافة العربية وكأن تماهي قدر السياسي مع الثقافي أصبح من نمط المسلّمات، ولذلك غاب عن هذا الواقع وعن تمظهراته المختلفة زخم الرغبة بالخلاص لتستبدل ذلك بنمط من القدرية في الاستسلام لمصير هذا الواقع، هذا الواقع الذي شغله الآخر بطلباته وأوامره عن نوازعه الخاصة فأصبح شكلاً من أشكال الدونية الممسوخة في قاع سيادة المختلط من هذا الآخر السيِّد.
هذه المعادلة القائمة حالياً غدت قاعدة عامة إلا من بعض الاستثناءات وهذه الاستثناءات جمعت نفسها في نقيضين، الأول يبشَّرنا بثقافة الهزيمة والاستسلام ويستنفر خيله ورجله لهذا المسترقبِ عندهم وفي عرفهم وما عُلفوا عليه، ويجدون لهم أسماء ومسمياتٍ مختلفة جوهرها واحد وإن استمرأوا مثلاً منحوتات الليبرالية والديموقراطية والحرية وإلى آخر المصفوفات، وهؤلاء هم قوة السحب الإضافية نحو الهاوية في هذا الواقع المستلب تماماً.
أما الثاني فهو لا زال قادراً على التنفُّس رغم تشبّع الهواء بسقط التراب ولا زال قادراً على الحلم مهما كانت تكاليفه ومهما صعبت أجندة مواعيده، لا زال منتظراً خلاصه وخلاص واقعه وخلاص أمته العظيمة التي مهما بلغ الجحود والإسفاف في العقل المعاصر أياً كان دافعه لن يجرؤ على إنكار هذا الدور الحضاري الذي لعبته هذه الأمة وواقعها الثقافي يوماً ما والذي تحاول قوى النورانية أن لا تكفر به وأن تجد له باباً خلفيا لعودة ما، ولذا نشأت كلُّ التيارات الحولية المؤثرة في هذا الواقع مؤخراً من حول هذين النقيضين وما يحاولانه.
الباقي هو مجرّد تفاصيل بسيطة أو مركبة لا يهم طالما أن القوى المتنازعة على هذا الإطار وهذه الصورة قد تم تحديدها، سواد مائل إلى القتامة في طرف، وبياض مائل إلى النورانية في طرف مقابل، والأعظم الأغلب ترهقه الصفرة وسكرة الموت الحيّ، وطالما أنك سألتنيه من حول ملحق الحقائق الثقافي فإني أطمئنك يا صديقي بأنا نفتتح في هذا الملحق يومنا من أجل النورانيين ونجتهد أن لا نخيّب ظنهم في مواعيدنا وآمل أننا لا زلنا قادرين على نقش حرف نوراني واحد فهذه قيمة عظيمة وغاية سامية….الحقائق هذه رسالتها وهذه مهمتها كما أرادها مؤسسها د.زياد الصالح منفتحة وخلّاقة للجميع على حد سواء مفكرين وكتاب ناشئين ولكل العرب ولكل النورانيين منهم بيتهم الذي نحرسه لهم….!

*س2: وفي نفس السياق، ما السبيل للحفاظ، في رأيكم، على ذاتية وخصوصية عربية تجاه هذا الراهن الذي ينبىء بالانصهار الكامل في الآخر ؟

اللبدي: أنت يا صديقي تطلب عصا موسى أو ربما (من كان عنده العلم) حتى يأتينا بالحلول وعرشها قبل أن تطرف لنا جفن في هذه المسألة، ولست بأيٍّ من هذين ولكني أرى رغم ذلك سبيلا واحداً في هذه المرحلة تحديداً يقوم على قاعدة أشبه بالتي أعياها اليابانيون طلباً حتى انقادت لهم، ألا وهي احترام الذات مهما كانت الهزيمة كبيرة ومهما كانت الصورة قاتلة، لا تستغرب ولا يستغربنَّ أحد من هذا الجواب، نعم احترام الذات هو المدخل الوحيد نحو توظيف الزمن في عملية الأسئلة والشروع في البحث عن الأجوبة المناسبة، دون احترام لهذه الذات لن تكون هذه العملية جدية وستبقى دوما عملية معلَّقة على دينامية الانهيار، وفي لحظة ما ستصل إلى مرحلة الذوبان في هذا الآخر وليس الانصهار، لأن الانصهار يستدعي تداخلاً في الجزيئات وتركيب جزيء جديد ربما يكون ذا جدة في كلِّ ما هو عليه ومزية فيه، أما الذوبان فهو بقاء ما أنت عليه محتوىً في محيط الآخر دون رأي نعم ودون فرصة نعم ودون جسور لمستقبل ولا لماضٍ.

بعد أن ننجح في مران احترام الذات يمكننا أن نسأل هذه الذات باحترام أيضاً وأن نقدِّم لها هذه الأسئلة ونحن نعزم أن نحترم إجاباتها مهما كانت، والاحترام يا صديقي هواء لا يمر دون حريّة …نعم حريّة حقيقية غير مزيفة ولا مواربة، هذه الحرية هي مرادف الكرامة التي خلق الله الناس عليها وحملهم بعد ذلك في البرِّ والبحر، وإلا فلا قيمة للحملان ولا معنىً دونها لهذا الخلق، في هذه فقط يمكن لنا أن نأمل فعلاً باستحضار عصا موسى لعرس الأجوبة الذي إن تمكنا منه ومهما كانت تكاليفه، يمكن لنا فعلاً أن نقول بأننا في مشروع تصالحي مع الذات ومع الآخر تنتج عنه آمال عريضة باستخدام الباب الخلفي الذي سيبقى دوماً حاضراً ما بقي في النورانيين نفس واحد، لأنه الأمل الذي تنعدم بغيابه فحوى الحياة.

*س3: لكم تجربة ثرية في الكتابة الشعرية، و لكن المتأمل في مدونتكم يلحظ أنها في أغلبها ملتزمة بالإيقاع " الكلاسيكي " هل في ذلك اختيار ؟

اللبدي: القصيدة تأتي كما تشاء لا اشتراط في ذلك ولا خيار طبعا هذا يصدق على سالف مراحل التجربة حتى عهد قريب أو مراحل (الشاعرية) التي نفهمها والتي دوّنا فيها مطالعتنا الأخيرة حول الشعرية والشاعرية وطبّقنا ذلك على تجربتنا الخاصة إلى حد كبير، ولكن في الآونة الأخيرة نعم ، أصبح لنا الخيار الحقيقي في القصيدة ونختارها دوما على النحو الذي وصفت….حقيقة ليس إقلالاً من شأن الإيقاعات الأخرى التي أراك تقصدها هنا وتحديداً (النسيقة)، هذا شأن آخر …أنا شخصيا اعتبرت قصيدة النثر الحقيقية أو (النسيقة) بمثابة إنتاج غير سهل في الشعرية العربية، حقيقة هو إنتاج من الصعوبة بمكان إذا أريد له أن يكون حقيقيا بحيث هو مقصلة للنص والشاعر إن لم يخرج ناضجاً، ومن هنا فإني أراه تحدياً كبيراً ربما لم يحن أوان خوض غماره بالنسبة لي ولذلك لم أختره حتى الساعة….هذا من جهة.
من جهة أخرى أحاول جهداً في مسألة التنويع والتجارب في كل من قصيدتي (العمود) وقصيدة (السطر الشعري) وأراهما قابلتين لإنتاج سلالات حديثة ومتعددة، لم تفرغا بعد من إنجازهما ومن سابق القول الحكم عليهما بأنهما قد استوفتا نهاية الصناعة الشعرية والإبداع الفني فيهما، لقد صدّرت مجموعتي الأخيرة (انتفاضيات) بتجارب على بعض التفاعيل في قصيدة السطر الشعري وأضاء من حول هذه التجربة أخي وصديقي الشاعر والعروضي أيضاً محمود مرعي، كما أن نقاشات كثيرة قد تبادلناها مع عدد من الأخوة حتى في وزن العمود وكان أهمها استخدام التفعيلة (فاعلاتك) وإحياء المتوافر وكذلك استخدام (متفاعلن) في البسيط عوضاً عن (مستفعلن)، هذا في شأن البناء المعلوم.

أما في شأن البناء الخاص فقد استرعت انتباهنا وجزءا من تجربتنا قضية القصيدة الكاريكاتور والإمكانيات الهائلة التي تتيحها والتي طرحنا فيها شخصية (أبو الحسرة الأيوبي) اعتماداً على مزج صور الخبب مع المتدارك بأشكالٍ مختلفة للحصول على نصٍ جديد مهمته افتتاح تجربة جديدة تماثلها في الفكرة العامة تجربة الراحل حسين البرغوثي في قصيدة (الكولاج) كما رأى مرة أخي د.تيسير مشارقة، أو هي مقاربة حنظلة الشهيد ناجي العلي في فن الكاريكاتور، هنا تتولد هذه جميعا إن لاحظت عن الإيقاعات الكلاسيكية التي قصدت وهناك ما لا يتسع المجال لتعداده في هذا الوقت القصير، المؤكد أن في هذا الكلاسيك ثمة ثروات هائلة لا زالت تنتظر الكشف عنها قبل الخروج إلى أي أرض جديدة، وهل يضير يا صديقي …بعض الكلاسيكيات أصبحت نوعاً ما ضمن المقدس وفوق التاريخيات.

*س 4: تحدثتم عن أبي حسرة الأيوبي عرضا، ماذا لو تتوقف بنا عند هذه التجربة بأكثر تفصيلا ؟

أما صديقنا أبو الحسرة الأيوبي فقد قدمنا لقضيته حينما أطلقنا هذه الشخصية الكاريكاتورية في النص، أردناها قصيدة كاريكاتور تحتفي بقانون خاص لها، قلت في تقديمي ما أختصر بعضه هنا < < اليوميات هي استجابة لعاملين معا أولهما أن القصيدة العربية باتت بعيدا وللأسف الشديد عن المتلقي العربي بحيث على الأغلب انفصلت عن مسارها الموروث وخاضت معترك تجريبية غرائبية معجونة بكثير من الافتراضات المقتبسة عن غير واقعها تارة وبنوع من النزوع إلى اللهاث خلف الفضاء المفتوح دون تسلسل بنائي مترابط ذي مرجعية فنية أصيلة في حياة هذا المتلقي العربي ، ومن ناحية أخرى فإن نزعة الكولاج تلك أو فن اللصق بصريا عبر الفن التشكيلي أحدثت حقا إضافة جمالية كونها استخدمت أدوات من ذات التسلسل وبذات الشروط الفنية التي يسمح بها الفن، هذا بالضبط هو ما يحدث عند تطبيق الموضوع على القصيدة العربية مفتوحة على أسس العمود أو أسس التفعيلة أو حتى في شكل النثر المتدفق والمحمّل بعضا من قماشة الشعر، وحينما توغل القصيدة العربية في الافتراضية عبر تقديم نصف قصيدة عبر اللغة وأدوات فن الشعر الأخرى وإن انتهى النص على البياض وُطلب من القارئ العربي تلمّس وتخيّل بقية العلائق واستجلاب الجماليات والرسالة بعد ذلك دونما معيار أو معين أو سابق دربة أو تجربة أو حتى مرجعيات من ذات النص تصبح القطيعة بين المتلقي وهذا النص قائمة لا محالة مهما تجاهلنا أثر ذلك واستعلينا بطلب فهم ما يقال طالما لا نحسن نحن القول أولا !

لذلك جاءت هذه اليوميات في شكلها الفني الذي أتت عليه حاملة معها كل َّ أدواتها الفنية البنائية من لغة وموسيقى وملحقات بحيث تغدو سهلة الهضم مضمونة الاستقبال من القارئ وفي ذات الوقت مؤكّدة التفاعل لأن النصوص التي لا تحدث أثرا ولا تفاعلا بينها وبين قارئها مهما كان مستواه الفني والمعرفي ومهما كان شكلها ونوعها الفني والتصنيفي هي نصوص إما ميتة أو نصوص داخل الإنعاش ، وبما أن هذه اليوميات تجد علة وجودها أصلا في الرسالة المحمولة وهي العامل الثاني الذي برَّر هذه اليوميات فقد لجأت إلى هذه البنية وهذا الشكل التقني بالتحديد حتى تصبح أقرب إلى حديث النفس الخاص وهمس الوجدان الذاتي لقارئها دون حواجز ودون معوِّقات .

إذن فاليوميات هي جسر جديد يعيد جمهور القصيدة إلى حلقتها بعض انفضاض أغلب هذا الجمهور وهي في هذا تجعل هم هذا الجمهور الإنساني أولا لسان حالها بحيث ينتهي النص مع رسالة القصيدة التي تتحد مع رسالة هذا المتلقي الوجدانية في ذات الوقت فيحدث نوع من الحميمية بينهما تحمله الشخصية الحكائية الواردة في مجموع اليوميات ، لقد أشار الكاتب نضال حمد في معرض تعقيبه على أبي الحسرة إشارة لطيفة وحقيقية عندما جعلنا كلنا أبي الحسرة الممتد من تطوان لبغدان وهذا هو في الواقع ما أرادته اليوميات من رسالة وقد وصلت بذلك ، أما كماليات العملية الفنية بما تستخدمه من تقنيات سواء أكانت مسرحية أم ظرائفية أم غير ذلك فهي أدوات معينة في الواقع وليست الغاية .

صديقنا أبو الحسرة أعد له فنان الكاريكاتور المصري الموهوب بديوي لوجو خاص به كما رآه وتصوّره هو من النص الأول، أبو الحسرة يشبه حنظلة ناجي العلي حتى أن أحد يوميات أبي الحسرة التقت حنظلة وحاورته !! اليوميات قلت عنها باختصار وأعيد (نص قصيدة الكاريكاتير نص كاريكاتوري وحكائي ظرفي .....بصري ولغوي وما بينهما من فراغ.....لا حدود نضعها له تجربة جديدة لا نعرف ماذا ستقول ومتى ستختمر وإلام ستؤول وكيف ستلاقى وإن كنا نأمل لها أن تجد فضاءها ومريديها).

هناك تجربة اليوميات في رباعيات مفردة الآن وكانت بدأت في رباعيات مزدوجة ربما هناك قادم جديد....عدة أسطر وتنتهي الحكاية ...لكنها ستكون على حساب المسرحية في البناء.....نثراً وبالتالي تأكل خيمتها الشعرية مثلاً ... ...كيف ؟ لا أدري هي تجربة على كل حال ولنر ما تقوله في مراحل اختمارها لكن اليوم هناك أكثر من ستين يومية مختلفة وآخرها يومية (كانوا عربا...!)...

*س5: أنتم كائن كوني بامتياز، فبالإضافة إلى سفركم اليومي عبر الشبكة، لكم تنقلات مكوكية عبر العالم… ماذا أضاف لكم السفر إبداعيا ؟

اللبدي: هذه ضريبة ومنفعة في آن نتيجة لطبيعة العمل والمهنة الصحفية والتسويقية في آن، متعبة لأنها تغدو بعد بضع سنوات بمثابة عادة جديدة قديمة في آن حيث تألف ما تعود إليه وتضيق فسحة اكتشاف الجديد في كل دورة جديدة، ربما هي عندئذ أقرب إلى (إيلاف قريش) شتاء وصيفاً، لكن مع ذلك هي كما وصفت متعة ومنفعة أيضاً حتى لو مررت على ذات الدخول وحومل، يمكنك أن تضيف أصدقاء جدد وأن تضيف ربما عنواناً جديداً لذاكرتك كلّ مرة.

قالوا في السفر سبع فوائد كما تعلم وأظنه قد رجح على لسان الإمام الأكرم باب العلم وحجة العلماء علي بن أبي طالب، حسنا هذا جواب راحل عائد ٍ إلى وطنه يوماً حينما يريد، يمكنك أن تصفه كونياً ….أما من هو مثلنا يا صديقي فقد غدا السفر جزءاً من ترحالنا الكبير الذي ينفتح لك على مدار الكوكب ويمتنع عنك إذا أردت الوطن وفلسطين،… كيف يمكننا أن نكون كونيين من غير حيفا ويافا والقدس والمجدل والكرمل..!!؟ ، كوني ناقص الوطن هو لا شيء … أليس هذا مرعباً وظالماً وجنونياً يا صديقي ؟!

قل لي ماذا يضيفه هذا السفر الزمكاني للعالم والأثيري في الشبكة في حالة كهذه؟! أو ليس هو بهذا المعنى سيكون جزءً من عذاب كبير يعيد تذكيرنا في كلِّ خطوة بالحرمان والقسوة والظلم ! أو ليس هذا هو قمة المعاناة وجبروت الألم الحقيقي. هنا محطة الإبداع فيه ….هي محطة دائمة ……أنا شخصيا أستبدل كل شيء بساعة واحدة على شاطئ يافا أو حيفا حراً في وطنٍ حر يستحق الحياة حراً…

*س6: كأني أحس ألما وحرقة بل كأني أرى دمعا…هل هي غربة الوطن فحسب؟


اللبدي : غربة الوطن نعم، لكن هل هي فحسب ! لا …بعض الغربة الكلية هي في غربة الوطن نعم، لكن بعض الغربة الكلية يمكن أن تكون حتى في الأوطان أيضا، الأوطان التي قال عنها أستاذنا الراحل إبراهيم طوقان:وطن يباع ويشترى وتصيح فليحيا الوطن …!!.المؤلم أن الغربة هي متحققة حينما يراك الأقربون ولو كنت بينهم غريبا ..يصّرون على أن يروك على هذا النحو..وحينما تصرّ أنت على أنك قريب …هم لا يودون ذلك..أن تكون قريبا بعيدا هي حتما ستكون أفظع..ما رأيك !….كيف ترى الناتج ؟!

لكن على الأقل إن اسثنيت غربة الوطن بالمفهوم المباشر على نحو الوطن المسلوب من حريته أو المسلوب من بنيه الراغبين في حريته ورفعته، يمكن على الأقل أن تجد لك طريقا إلى تحقيق اختراق ما في البحث عن آلية لتحفظ حقك في القرب حتى وإن صحت على نحو صياح دريد لحام : كاسك يا وطن !!

نحن لدينا غربة مزدوجة فيما أظن، ربما غربة من كل الأنواع والمؤسف أنك تجد حتى في العودة عند من عادوا أصبح بعضهم غرباء على نحو ما كررها كثير من مبدعينا الفلسطينيين ، هل قرأت رأيت (رام الله) لمريد البرغوثي ؟!
هذه العودة إلى اللا محفوظ ….وعلى الأقل مريد تكلّم، لكن هناك آخرون نائمون في فم الجائزة ينتظرون موعدها مع أنا ومعنا الكثير كان يتوقع منهم أشياء وأشياء …ولكن لبعض البريق قوانينه.!!

*س5: اشتغلتم كثيرا على"قصيدة النثر العربية" و خاصة فيما يخص الإيقاع هذا الذي خصصتم له أكثر من دراسة… ثم إن لكم موقفا واضحا من هذا الشكل الأدبي من خلال تسميته بـ " النسيقة " ؟

اللبدي: نعم صحيح (النسيقة) هو الاسم الذي خرجنا به لتجربة قصيدة النثر العربية ..وفعلاً هناك أكثر من عمل تناول النسيقة منفرداً أو ضمن كتابنا الأخير (الشعرية والشاعرية )….. وعلى فكرة ، بعض الأصدقاء عقّب مازحا بقوله : (هو حل جميل حتى تثبت قصيدة ويمكنها عندئذ الولوج إلى شجرة النسب العربية شعرياً دون مشكلة تكون هذه التوصيفة أفضل الممكن….) .
لكن الحقيقة ان اقتراحنا لاسم (النسيقة) لم يكن على سبيل المرحلية أو على سبيل مماحكة أو مكايدة أدبية ربما على النحو الذي ورد في اقتراح الصديق الصواف بتسمية قصيدة النثر العربية باسم (النثعيرة)..لا مطلقا لقد أوضحت كما أبنت آنفاً في سؤالك مرجعية هذا الاقتراح وهذه التسمية في الجزء الثاني من درس (الشعرية والشاعرية) والمسائل المتعلقة بهذه النظرية النقدية الجديدة فيما أزعم والتي فرضت نفسها على هذا المبحث وهي كثيرة كان ضمنها قصيدة النثر العربية.

لقد أوردت بالحرف ما يلي (وهذه المرة سنعتمد في اشتقاق المسمى على أسس وميكانيزم بناء القصيدة وهي التي مرّ معنا أنها تقوم على نسق خاص تماما هو تقطيع الدفقات الشعرية والتحكم بها ونسج القصيدة بناء على ذلك وهذا النسق وهذا التنسيق هو ما نراه أولى أن يعتد به في إطلاق التسمية عليها تبعا لمشاكلة حقيقة وصف إنتاجها ومنتجها فالشاعر ينسق هذه القطعة المخصوصة وينسّق دخول هذه الدفقات في مسار إنتاجها ولذا فإن الفعل (نسَقَ) أكثر ملائمة لوصف واقع الحال ومنه يمكن للصرف العربي أن يشتق التسمية (النسيقة) وهذه تغني عن إلصاق لفظة القصيدة بها وكأنها محتاجة لأن يتم إعلام السامع بأنها من الشعر وليس من غيره وإن أصرَّ البعض على استخدام كلمة القصيدة لا نرى بأساً في ذلك على الإطلاق) …
ليست المشكلة في قصيدة النثر العربية أو النسيقة كمصطلح وكقاعدة ..لا بل المشكلة كل المشكلة الآن في هذه المنطقة في اثنتين، الأولى: ركام النثر المفكك والهاطل علينا بسلطان (النسيقة) مجرداً من كلِّ ذي قيمة وفي متعاطي هذا اللون كتابة ونقداً في غابة من الضباب المقصود! البعض يقول أنها تعتمد تقنيات الإيقاعات البديلة ثم يمر مرور الكرام وإن أسهب قال شيئا مموهاً حول إدخال السرد وإخراج الفرد..هذا شيء لا يمت للأدب بصلة ..ربما يصلح في الفلسفة والماورائيات…لكن في التقعيد لنمط أدبي لا بد من تحديد الحدود…كل فزع من هذا يترجم مباشرةً على أنه فرار ومراوغة ….أنا أزعم أن النسيقة العربية الحقيقية لم توجد بعد كتيار رغم مرور ثلاثة أجيال عليها …بل هنالك مجموعة نصوص نسقية متفرقة عند عدد من الشعراء وعلى اختلاف الأجيال وتعدد التجارب ناجحة بهذه المقاييس.. ..ومئات الآلاف منها فاشلة بامتياز…! نحن لسنا ضد هذا اللون من الفن القولي كلون ..ولكنا ضد التدليس من حوله وادعاء ما ليس حق باسمه استفادة من ضبابية مصطنعة أحسب أن تناول الشاعرية لها قد أزاح ستاراً كثيفاً عنها وبانتظار أن يكمل المشوار آخرون…!

*س6:بم تفسرون كثرة التجمعات و التكتلات الأدبية الفلسطينية ؟ و لم برأيكم لا ينضوي كل الكتاب الفلسطينيون تحت هيكل واحد… العوائق و الموانع …. ؟

اللبدي: سؤال موجع ولكنه حقيقي…أحيانا قد يسهل القول مباشرة بأن فلسطين لم تعد واحدةً وهكذا أصبحت تكتلاتها وتجمعاتها الأدبية انعكاسا لهذا ..هذا قول مخيف ولكن فيه جزء من الدقة كبير…وأخطر ما فيه أن هذه القولبة قد حدثت في هذا القطاع الحساس والمؤتمن على آخر الجدر وأهم الأحصنة ….حصان الثقافة الفلسطيني ….هنا لا بد من الوقوف طويلاً أمام هذه الدراما والتجرايديا الحقيقية …الشعب الفلسطيني كان دوماً ولّاداً ومنتجاً على النسق المقاوم وعلى أرض المواجهة والصمود، فكيف يمكن أن تتراجع بعض نخبه المثقفة مثل هذا التراجع المريع ؟! في واقع الحال إنما هو الباب الواسع للتشكيك بنوعية الانتماء الذي يمكن أن يكون قد مرّت علينا في غفلة ما شعارات هذا النمط من الانتهازية والأسلوة …وإلا كيف يمكن أن تفهم وثيقة جنيف والهرولة للتطبيع والارتماء أمام الرواية الصهيونية بكلِّ تفصيلياتها الكاذبة حتى الصميم من قبل البعض ..؟!

لكن في جهة أخرى إن أردنا أن نحسن الظنَّ أكثر نقول أن واقع جميع المؤسسات والهيئات والمنظمات الشعبية الفلسطينية بعد تجميد منظمة التحرير الفلسطينية وتفريغها لصالح السلطة الوطنية وإشكالات الأسئلة الصعبة هو واحد وإن اختلفت في ظلالها، والاتحاد العام لأدباء وكتاب فلسطين وحتى صحفييها هو واحد من هذه المؤسسات، وقد فرضت الجغرافيا السياسية سوطها على ظهر هذه التجمعات وفق هذا الفهم فأصبح هناك عدة اتحادات وصلت في مرحلة ما إلى عدد أصابع اليد الواحدة، وهذا كان فيه أمعان في الشرذمة ولكنه مرة أخرى استجابة لواقع الجغرافيا كما سبق وصفه، فلفلسطينيي الجذور أو ما يسمونهم بعرب ال48 اتحاد وللضفة الفلسطينية آخر ولقطاع غزة ثالث ورابع وخامس للشتات وهكذا، هذا جانب من التفسير وأضف إليه سطوة السياسي وتجبره على الثقافي وهو طبعا متداخل مع عوامل الجغرافيا السياسية بامتياز.

مؤخراً طرح تجمع الاتحاد والكتاب الفلسطينيين نفسه مظلة وراتقاً صمغياً لهذه الشرذمة وهذه الفرقة على أساس أنه ليس بديلا لأي اتحاد ولا هو في وضع التنافس مع أي تجمع له صبغة الانقياد لأيٍ من هذه العوامل المفرِّقة وأعني عوامل الجغرافيا السياسية والبعثرة المؤسساتية والمزاحمة الفصائلية، هذا التجمع قال بأنه لكل مبدع فلسطيني طالما لا زال مؤمناً بفلسطينيته مبدعاً لها وناطقاً باسمها، لا باسم هذا ولا باسم ذاك، وبالفعل التجربة تسير إلى منتهى غاية الهيكلة الواحدة تحت هذه المظلة، لأول مرة أصبح لديك مبدعون فلسطينيون من كل التيارات والانتماءات من جهة ومن كل الجغرافيا من جهة أخرى ..لأول مرة أصبحت اللغة الإبداعية واحدة باسم فلسطين الواحدة التاريخية الحضارية دون ولكن….هذه صيغة اقترحها البيان التأسيسي الأول ووجدت لها استجابة مشجعة تدلل بالمطلق على أن هذه البعثرة كانت مفتعلة إلى حد كبير…!

*س7:قرأنا لكم في غير مرة مواقف و تحليلات حول الواقع الفلسطيني بشكل عام وعملية السلام تحديدا ؟

اللبدي: عملية سلام !؟!
أين هي يا صديقي عملية سلام؟ أحسبك تقصد الكوميديا السوداء الجاري اللهو بها هذه الأيام! لا ضير دعنا نقول بشكل واضح وكما حللناها في مقال قبل نحو عدة أسابيع، هي عملية سلام الجغرافيا وهذه التوصيفة السلامية هي من النوع المجازي الخالص، سلام الجغرافيا المطلوب فرضه على شعب فلسطين والقبول بالرواية الصهيونية والمتحالفة معها وبالقراءة الشاذة هذه على أنها سيطرة الواقع الأسود أو خيار شمشون.

أخونا محمود درويش وصفها مرة بأنها الفجر الكاذب، وهو قد جمّلها فعلاً بنسبتها للفجر حتى لو كان كاذباً..الحقيقة هي أقسى من ذلك بكثير هي إضاءات متقطعة في ليل بهيم أسود تتيح مضاعفة العذاب، عذاب الرؤيا وعذاب العمى في آن…لا يوجد ما هو مجال للمحاولات أكثر من ذلك، لقد ذهبت القيادة الشرعية والتاريخية للشعب الفلسطيني طويلا وبعيداً في الرهان على هكذا احتمال، واكتشفنا بصعود الشهيد (أبو عمار) شهيداً وبالسم الصهيوني وربما حتى بيد تريد مساعدة شارون على مساعدة الرب أن الرهان هو الرهان صفر في حلقة مفرغة..

نحن نريد سلاماً حقيقياً ونحن شعب يناضل فعلاً من أجل هذا السلام، مستعدون لأن نكتشف عذابات الآخرين في أي مرحلة زمنية يريدونها حتى لو كانت خلف ذاكرتنا ولكن قبل ذلك نريد أن يعترف العالم بعذاباتنا وبحقنا، نريد سلام التاريخ لا سلام الجغرافيا، وعندها نحن مستعدون لكل تسامح تاريخي ممكن طالما أن هكذا سلام سيتكفل بحل الجزء الأكبر من فضيحة البشرية في فلسطين، نريد فلسطيناً واحدةً لشعبها ولمن يريد أن ينزل عند هذا الحق الحضاري التاريخي والإنساني أهلاً وسهلاً به مهما كان عدده …لا مشكلة لدينا، المهم أن تكون فلسطين واحدة، غير مستعدين لاقتسامها بالتجزئة ومستعدون لتقاسم عيشها مفتوحة لكل دين ولكل ملّة…هذا هو خيار الشعب الفلسطيني الوحيد الذي بقي لدينا وعلينا فرضه…

*س8: لكم جهود واضحة في مجابهة "ثقافة الهزيمة" و الداعين لها… ماذا عن هذه البؤرة المرعبة في حاضرنا العربي و التي باتت تؤرق الوجدان و الفكر العربي ؟

اللبدي: هو جهد متواضع يا صديقي ولما تضافر مع جهود النورانيين الكثر في عالمنا العربي أصبح واضحاً…ثقافة الهزيمة أفردنا لها الفصل الثقافي الثاني لهذا العام في ملحقنا الحقائقيِّ واكتشفنا كم مرعبة هذه البؤرة فعلاً …لكن على أي حال هي بؤرة مقعرة وليست محدبة…وهنا مكمن انتحارها تاليا مهما طال الزمن..أولم تنتحر إبان انتهاء وجودها كولونيالياً فقط قبل جيلين منا؟!
هذه الثقافة لا تنتمي للمحيط ولا يمكن لها إلا أن تكون فيروساً فقط بعلاقتها مع هذا المحيط..والفيروس مهما كانت درجة خطورته لا بد وأن ينتحر أو يسقط صريعاً في معركته المفروضة عليه منذ لحظة قراره بالدخول وقبوله فيروسيته …الفرق بين ثقافة الهزيمة الكولونيالية السابقة وثقافة الهزيمة الإمبراطورية الحالية هو الفرق ذاته بين فيروس ساقط وفيروس في طريقه للسقوط…
من الجيد أن نتذكّر أن هذه المقاومة القائمة هي عالمية بحجم الهجوم الإمبراطوري المعولم ذاته …هي هنا في مشرقنا كلّه مثلما هي هناك في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا المفئودة بكلِّ أمراضها واستغلالاتها مثلما حتى هي في قلب الإمبراطورية الهاجمة وفي أطراف مركزها الكولونيالي القديم…المقاومة في نهاية الأمر هي أيضاً معولمة بذات المقدار فهي أصبحت مهمة كونية وإنسانية بامتياز.

souissisalah@yahoo.fr