عناية جابر
(لبنان)

بسمة الخطيب(دانتيل لسهرة واحدة) مجموعة قصص بسمة الخطيب الأولى، ترصد لحظات حميمية وتفاصيل أساسية، بشاعرية ولغة جوانية توازن بين الصمت والبوح، معها كان الحديث التالي:

* تمثّل إصدارك الأول في مجموعة قصصية. متى بدأت الكتابة؟ ولماذا قصة وليس رواية أو شعراً؟

البداية تعيدني إلى حكاية طريفة ترويها أمي عني: في الثالثة من العمر ألّفت أغنية من كلمات قليلة (يا بابا جبلي طابه جبلي طابا يا بابا)! هذا الميل نما في كنف أم قديرة وأب حكّاء وشاعر، لديه مكتبة أدبية صغيرة، يسلّي صغاره بالأحاجي الأدبية والذهنية. لا أذكر الفتاة أو الشابة التي كنتها من دون (دفتر اليوميات)، أودعه قصصاً وأشعاراً وعبارات تستوقفني أثناء المطالعة... أما لماذا القصة؟ فلأني أراها، بعكس الآخرين، أقرب إلى روح العصر الحالي، باختصارها وتوتّرها وتكثيفها. كما أرى أنها أمينة في التعبير عني، حالياً ومؤقتاً، ريثما أرسو في مرفأ أبحر بين أكثر من ضفّة بحثاً عنه. حين كتبت لم أكترث بمجاراة (السوق)، فكّرت أن أكون صديقة الزهرة والثمرة والكلوروفيل والكوكب... فكّرت بالكون الذي أنا جزيئة فيه، ووجدت أني بالكتابة أستطيع مدّ خطوط صداقة وعشق ومنافسة وندّية مع جزيئاته الأخرى. كلماتي، بعيوبها وحسناتها، هي رحيقي الذي (أطمح) أن أضاهي به رحيق أجمل زهرة، والحكم أتركه للفراشات ولكل قارئ يحمل في صدره فراشة أو يطمح مثلي للخروج من شرنقته. ربما لم أكتب الرواية لأن أوانها لم يأت بعد، ولم أكتب القصيدة لكني بثثت أنفاسي الشعرية بين السطور، أو كتبت القصة لأنني لا أجيد الانتظار، أكره الثرثرة، ملولة جداً...

* نتفق اذاً أنك تخوضين في الصنف النادر من الإبداع، هل الرواية هي مجموعة قصص الحياة؟ أم تكفي قصّة قصيرة لكتابة حياة مكثّفة؟

لا تفعل الرواية والقصة سوى التماهي مع الحياة، مع هذه الحكّاءة البارعة التي لم يتفوّق عليها كاتب حتى اليوم، برغم السعي الدؤوب والمهجوس. يأخذ الكاتب منها، يسرق يختلس يبتكر... يحاول أن يقول ما لم تقله لكنه يفشل... هذا طموحٌ مشروعٌ للروائي لكن الآلية في مأزق لن نخوض فيه. بدأ رواد القصة في القرن ال19بتكثيف حياة كاملة في صفحات قليلة أو كثيرة! لحقهم كتّاب القرن ال20 مثل بورخيس ومورافيا وكواباتا...! لكن ليست هذه القصة القصيرة التي نعنيها اليوم. اكتشفنا لاحقاً أن قصص الحياة ليست أجمل ما في الحياة والأدب، فلمشهد من الحياة أن يساويها، لفرار دمعة أن تكون أكثر غنىً من سيرة ذاتية، وهذا ما (تفوكس) عدسة القصّة عليه، إنها بالضبط كلقطة فوتوغرافية، بينما الرواية شريط فيديو، وفي الحالتين على المصوّر أن يجيد عمله وكفى. قصصي هي مقاطع ولقطات من حيوات، كتبت عنها دون سواها لأنها آلمتني، وقد تعوّدت منذ الصغر أن ألجأ للكتابة عندما أشعر بوجع إثر قسوة أو خيبة... لا أتحدث فقط عن الأوجاع الانسانية الفظيعة، بل آلام سخيفة في نظر الكثيرين، لكنها تهزّني، كألمي لقطع شجرة، لضياع دميتي، لانقطاع بثّ قناتي الكارتون و(الأنيمل بلانت)...

* في قصصك تبدو الأنوثة باهظة، حسيّة، ودائماً في غربة عن عالمها، لتأتي الأحلام ذات الحضور القوي في المجموعة، مخلّصة ونافذة على الحرية. هل توافقين؟

صحيح، أنوثتي (أثمن ممتلكاتي) تشعر بالغربة بين البشر الذين لم يعودوا قادرين على احتمالها واستيعاب عفويتها وبراءتها، وهي كنبتة، تتعرّض كباقي نبتات الكون، للتعسّف والتوريق والعواصف والإهمال أحياناً وسوء الفهم غالباً. ظننت مثلك أن في الأحلام خلاصاً ما، لكني وجدت فيها الوهم (والسخرية عندما نفيق) وبعض القيود. نحن نتوهمها نافذة على الحرية، بينما ليس للحرية نوافذ أو أبواب تدقّ. الحرية والسعادة شيئان لا وجود لهما هنا، وإلا فلمَ السعي وراء المجرّات الأخرى واللاوعي و(ما بعد الموت)...؟؟

* هل من تأثيرات لأسماء روائية وقصصية في مناخات مجموعتك وكتابتك؟ لمن تقرئين وهل تتابعين نتاجات الغرب في القصّ؟

أحببت وتأثّرت بكثيرين، غرت من آخرين، وأنتظر، من باب الفضول فقط، أن يجلسني القراء في مدرسة ما. كنت سابقاً أقع في فخّ القراءة الشاملة وأقرأ أي شيء يقع بين يدي، لكني اكتشفت أن العمر لن يتّسع لتجريب كلّ شيء، وأن القراءة يجب أن تكون ذكية ومدروسة، لا أتحمّل اليوم خطر إهدار الوقت لاكتشاف أن هذه الرواية تافهة وهذا الكاتب مجرد ثرثار. بتّ أراهن على نصيحة قرّاء أثق بهم. العمر قصير والعوالم الجميلة شاسعة!
قرأت في القصة لادغار بو وتشيخوف وبورخيس وبوزاتي وهنريش بول ويوسف ادريس وزكريا تامر وابراهيم صموئيل... أحبّ القاصّة الفرنسية آني سومون وآخر ما قرأت لها مجموعتيها <"un soir a la maison"> و<c'est rien ca va passer>، ومبدعة هاري بوتر الانكليزية رولينغ. متيّمة بقراءات من نوع آخر مثل الأساطير والقصص الشعبية، وعلم النبات، وأدب الأطفال العالمي. بين قراءة وأخرى أعود إلى خرافات بيرو وأندرسن، وألف ليلة وليلة، وأسرار الكون... فأرمّم علاقتي مع الحياة، المليئة بالشروخ اليومية.

* هل يعيقك العمل الصحافي عن مشروعك الخاص؟

أنا مدينة للعمل الصحافي وقبله الإذاعي. ساعدتني الصحافة، وجريدة (السفير) تحديداً، على الاقتراب من نفسي وملامسة قدراتها. (الصحافة) ليست مهنتي بل هي حبيب أواعده وأتبادل معه الهدايا. كان يمكن أن تعيق مشروعي الأدبي لو أنها تحوّلت إلى وظيفة. لست أملك حتى الآن تصوراً كاملاً لمشروعي. لسنا مقاولين أو تجاراً كما تعرفين، مشاريعنا هي البحث عن ذواتنا، ويوم قال تولستوي (لقد وجدت في القلم ذاتي...) أضاف (... التي أمضيت سنين عمري في البحث عنها). توقاً الى كلّ من وجد نفسه سأبقى أبحث في القلم والنوتة والشعر والرسوم المتحركة وتويجات الزهور وأتعقّب عالم الجنيّات...

* هل تمارسين رقابة ما على ما تكتبين؟ هل تعتقدين بأقصى البوح أم تلتزمين بما هو مسموح ومقبول في كتابة الأنثى؟

ذهبت الكاتبة العربية إلى أقصى الحدود، كتبت بشجاعة وجرأة ووقاحة وابتذال... فما جدوى المزايدة! أعرف أنه لن تصمد براءة الكلمة ونظافتها في وجه فظاظة ووحشية عالم البشر، لكنني أكتب بحثاً عن تعويضٍ أوهم نفسي أنني أستحقه وأعمل على أن أستحقّه. رقيبي قاسٍ وجبّار لكني ماضية في التحايل عليه والتحرّر منه. ثانياً، لا أعتقد بأقصى البوح، ولا بالحدود له. البوح كما أحسّه همسة وظلّ وثقب، ومن هنا أتت كلمة (دانتيل) إلى العنوان، ففي القصص ثقوب وفراغات تبوح إيحاءً لا جهراً. لم أعرض أسراري وأشهّر بها، بل دسستها دسّاً ورسمت ظلالها، فما يهمني في النهاية أن يعثر من يسعى إليّ بعد استغراق على هذه الظلال، ويشعر بأنه لم يقرأ سابقاً عن قبلة كهذه (لأنني رأيتها فريدة) وعن شذوذ و(اغتصاب شرعي) وكفر بالتقاليد الرثّة...

* أنت عاشقة للقاهرة، لم نلمح مناخاتها في قصصك، ماذا عنك والمدن؟

أنا ابنة قرية في جبل لبنان، أقصد بيروت بشكل شبه يومي كمن يقصد سفارة لتقديم طلب جنسية. كلّ صباح وأنا في الطريق من قريتي تلوح بيروت لي فأجسّ نبضها وأنا خائفة مما ستلاقيني به ومتلهّفة إلى ما ستمنحني إياه. كلّ يوم أسألها (متى سأصبح ابنتك؟) وأشكرها لأنها تفسح لي موطئ قدم. ما من مسرح في القصص هو القاهرة نعم، لكن هناك توليب وموسيقى وحبّ ناقص وأحلام بالحرية والعدوْ... إذاً هناك الكثير من القاهرة. إن كان لنوافذ الحرية أن تغلق دوني تبقى القاهرة بوابة مشرعة تنسّم بهواء الصداقة وكرم الضيافة والودّ والغزل الدمث... القاهرة!
تلك حكاية أخرى أو ربما تلك رواية مقبلة! هي طالما خبّأت لي المفاجآت الكبيرة في جيوب دافئة صغيرة.