حاورته : عناية جابر
(لبنان)

بسام حجار بسام حجار الشاعر الذي يتابع قصيدة لا تشبه سوى صاحبها، في أمكنته وأشيائه والقريبين منه، فضلا عن وساوسه وهواجسه الخاصة، لا تشبه سواه. إنها كلمته هو قبل أن تكون كلمة الشعر، بل هي الشعر الذي لا يهتم بمديح نفسه ولا الاحتفال بلغته وأغراضه، الشعر الذي من فرط ما يتجنب ويتواضع يحضر قاموسا وموضوعا. ولا يتجاوز الحي والحقيقي والملموس إلى سواه، لكنه أيضا الشعر الذي يلامس ما لا يلامسه سواه: الحياة المباشرة، العلاقات البسيطة، العواطف الشخصية والعائلية، الخسارة والفقدان المباشرين، الغائبين الدائمين. تلك موضوعات لم يعد الشعر قادرا على التقاطها، وقليلون هم الذين يجعلون من الشعر بارومتر أحاسيس وسجلا دقيقا للقلب ودفترا للخفي السري الضئيل من الذات. لعل سمة شعر حجار الحفر، الحفر في الموضع نفسه ولكن إلى غايات بعيدة، القراءة المتعددة ولكن كل مرة بصوت وبُعد جديدين.

تجربة حجار لذلك خاصة من دون أن نسعى إلى معنى الكلمة. إنها خاصة ليس فقط في آلياتها ولكن في أغراضها، فإذا كان في شعر حجار ما يذكّر بفن فان غوغ، أي حب الأشياء الأليفة وقراءة العالم القريب بحب، فإن في شعره أيضا ما يشبه جياكوميتي؛ هذا الإصرار على طَرق المعنى نفسه بغاية تحويله والتوليد منه. لذا ينبغي أن نقرأه بحذر، وان نعرف أن ثمة قراءات أخرى تنتظرنا له.
صدور عدد من مؤلفات حجار الشعرية في مجلد واحد، كان مناسبة لهذا الحديث.

* ما هي علاقتك بالتراث العربي، القراءات الأجنبية، الرواية، السينما؟

لأعوام طويلة مضت عشت في فتنة ما هو فاتن في التراث العربي. ولأن سنوات دراستي اختلطت، على نحو ما، بعملي كمشتغل في الصحافة الثقافية، وبخياراتي ككاتب، كان لا بد لكل ما أفعل أن يكون جزءا من سيرتي الذاتية، ومن بين ما أفعل عادة في حياتي أني أقرأ، أو كنت أقرأ، بنهم. ربما لأني كنت أبحث لم أوفر متعة أو جهدا في تحصيل كسور المعرفة التي أمتلكها اليوم. ولسوء حظي لم أحظ، على ما أحسب، إلا بالكسور، وبالعلم الذي لا كل له، كما يقال. ففي أية حال ما حاجتنا في حياة واحدة إلى أكثر من ذلك؟ في التراث العربي (وإن كانت التسمية مخيفة لاتساعها) قرأت ما استطعت من الشعر من دون أن أحفظ بيتا واحدا؛ وقرأت في ما بعد المتصوفة (ابن عربي، النفري، ابن الفارض، جلال الدين الرومي، السهروردي...) وعاودت قراءتهم تكرارا، وكذلك ألف ليلة وليلة (ولا أدري إذا كان تراثا عربيا حتى بلغته التي قرأت) والجاحظ ولا أدري من بعد، لكني لطالما استمتعت بانتخاب مداخل معجمية من لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للفيروزأبادي بالإضافة إلى قصص الجن... هذه رافقتني سنوات وكانت مصدر متعة لا تضاهى. أما القراءة باللغة الأجنبية التي أمكنني فك حروفها، أي الفرنسية، فموروثة عن أيام المدرسة الابتدائية والمتوسطة ثم الثانوية. كان قصاصا مرعبا وجميلا أن تضطر إلى حفظ مئة بيت من مسرحية لراسين بالفرنسية طبعا لأنك شاغبت في الصف أو لم تحضر دفترك أو كتابك... وحفظها غيبا هو الشرط في كل مرة لكي تعود إلى الصف من دون أن تخطر والديك أو ولي أمرك. بعد ذلك تكتشف أنك تحفظ راسين كله أو كورناي وتحبهما. في بداية الصفوف المتوسطة كنا نتسابق في قراءة سلسلة <<بوب موران>> ثم جاء اكتشافنا لجان جيونو ثم أندريه جيد ثم غريب ألبير كامو الذي كان صدمة الصدمات وبعده الطاعون الذي جعل الرواية في نظرنا المكان المثالي لإقامتنا. في تلك الفترة أيضا اكتشفنا السينما عبر <<نادي السينما>> الأسبوعي الذي كانت تنظمه المدرسة، ثم عبر هروبنا من الصف بعد الظهر لمشاهدة فيلم يعرض في احدى صالات المدينة لأن فرص تمكننا من مشاهدته خلال الحفلة المسائية معدومة... أحسب أني تلقيت من كل هذا تربية لغوية وبصرية هي تربيتي (لعاطفية)كلها. كانت ألفة دائما ممزوجة بالرصانة؛ لذا لم يتكون لدي أي ميل لاعتبار الأدب متناً للعبارة عن الحياة خارج الحياة. حتى العروض وبحور الشعر الكلاسيكية جاء من يلقننا أصولها غناءً مع الأب طانيوس منعم رحمه الله. ولم نقم حينها فرقا كبيرا بين ما نكتشفه من أساليب التعبير؛ كان الشعر في السينما والرواية والحياة وكانت هذه كلها في الشعر. ونشأنا بألسن وعقول ولم نجهد كثيرا في العثور على جامع لها. كانت الحياة أشبه بلغز مبعثر العناصر فنبحث عن مسكة له (لها) عبر إدماننا قراءة الرواية البوليسية.

* ديكورات المكان تتكرر عندك باستمرار كذلك السيرة الذاتية.

من دون أن أقصد أجبت عن سؤالك السابق باستذكار جوانب من تربيتي العاطفية. أحسبني لا أجيد الكلام (هذا إن أجدته اطلاقا) إلا عمّا أعرف، وما أعرفه يصبح جزءا مني، من حواسي وتنفسي، حتى لو كان شاقا. ديكورات المكان تتكرر عندي لأنها هي نفسها ماثلة في عيشي. وفي أية حال لم أود يوما، حتى في أحلامي، أن أكون عوليس ولم أحسده يوما لأنه كذلك. هل يستطيع واحدنا أن يستنفد مكانا واحدا في حياة واحدة؟ ثم إن الأشياء التي تؤثث المكان ليست ديكورات وإلا لتخيلت أني أحيا في فيلم لا ينتهي، أي في كابوس متصل، وأنا لست كافكاويا الى هذه الدرجة. الأمكنة غير موجودة بذاتها ولذاتها بل هي ماثلة في مشاعرنا نحن، في وهمنا، في أطياف الناس التي تجعلها كنفا لها. في لمسة من أحب التي قد تضع السحر حيث يزال السحر بالعقلانية. المشكلة، أو اللامشكلة، أني لا أحيا في ديكورات بل في أمكنة مأهولة بالوساوس والمشاعر والتداعيات التي تشبه الذكريات.

* لغتك محصورة وقاموسك قليل. تستعيد الكلمات واللحظات والمواقف.

لماذا؟ لا أدري. لكني أحسب أن لغتي هذه هي كل ما أملك من أدوات تعبير. لديّ مفردات أحب أن أحصيها أحيانا، بدافع اللعب، ولا أجد في كل مرة أنها تدخل في باب اللغة الشعرية. لأني لا أعرف ما هي، حقا، اللغة الشعرية. هل أحد يعرف؟ فليدلني.  المسألة بالنسبة لي بسيطة ولا تحتاج الى تصنيف: معجمي ضيق لأن اللغة أكثر اتساعا من أي حياة، والحياة أشد كآبة أو فرحا من أي لغة؛ وحين أكتب إنما أريد أن أكتب هذه الحياة التي قد لا تعني أحدا في آخر الأمر. الروائيون يزعمون، وقد يكون في زعمهم وجه حق، أنهم يصنعون حيوات شخوصهم، ويفبركونها، وغالبا ما ينجحون في استدراجنا الى انتحال مقصود للسير التي يكتبونها، وهو انتحال ممتع وساحر ومهذار ويتطلب سليقة لا يمتلكها الناس جميعا. لم أزعم أني مبتكر سير ومصائر لأني لا أبالي كثيرا لما يقتضيه النوع أو الفن؛ ولم أكتب لأصبح شاعرا. كتبت لأني لا أجيد صنعة أخرى، وما زلت لا أدري إذا كنت أجيد صنعة الكتابة. عندما يكون كل ما نقوله مضمرا وتحت الجلد ومعاندا في تردده في الرأس، فما حاجتنا الى لغة كثيرة؟

* أيضا شاعر حب ونداء للآخر وخلاص عبر المحبوب…

رغبة في الخلاص، بلى. لأني أعرف أن حبي للمرأة التي تقاسمني عيشي هو نجاتي حتى لو كنت لا أسعى وراء النجاة. إني الآن أحيا بها. فما الذي ينبغي قوله بعد؟ ألا تستحق الحياة أن يحتفى بها؟ إنها الآخر الذي ينظر إليّ ويجعلني، على الرغم مني ربما، مرئيا أي موجودا. كل ما يصرفه الناس من الجهد والبذل إنما يبذل لكي يكون واحدهم مرئيا، أي موجودا؛ فإذا نظرت هي إليّ كنت موجودا.
أحسب أن ندائي الآخر هو نداء مستديم لأني أشعر بأني بدوري منادى وإلا فما مبرر أن أكون هنا الآن. من منا يستطيع أن يحتمل الحياة بلا ذريعة؟ ويخيل إليّ أن الآخر هو ذريعة كافية. المفارقة تكمن لا في تطلب نظرة الآخر لكي يكون واحدنا موجودا أي مرئيا بالمعنى الخلو من أي تفلسف، بل في أن هذا الآخر لا يرفع عنك احساسك العميق بالعزلة. بلى، اللمسة هي التي تبدد سهو الكائن عن ذاته، وتمنحه أن ينتبه (والانتباه صحوة حياة) أن يشعر بعد خدر وأن يرى. في لا وعي ورثته عن تربيتي العاطفية أيضا حكاية تجعل صلة أكيدة بين اللمسة والإبصار بمعجزة حين كان الناصري يمسح بكفه العين الضريرة فتبصر؛ (إن تسلم عينك يغمر النور كل جسدك. وإن تسقم عينك يغمر الظلام كل جسدك. وإن يظلم نورك فيا للظلام).

* شعرك مديني قلما نرى فيه اشارة ريفية.

بلى، هناك الشجرة المستوحدة، أي السروة. لعله (شعر مديني) لأنه ينفر من الأصنام الريفية. أو أني أحسب ذلك، فليس لي أن أقول. منذ أربعين عاما وأنا أحيا في مدينة ساحلية لا تشبه المدن في شيء. ولكي أحيا في المدينة التي أريد اعتزلت كل نطاق خارج شقتي الصغيرة. فالشيء الوحيد الذي ابتكرته ربما هو وهمي بأني أحيا في الحيز المحذوف، وأني أحيا ما أريد في رأسي، وفي النطاق الذي يتيحه لي جسدي. المهم في المدينة التي لا تشبه المدن في شيء أنها ساحلية، وأنها على البحر المتوسط، وأني أقمت فيها قبل أن تصبح على ضفة بحيرة داخلية، وداخلية جدا، وربما بيروت أصبحت مثلها، أو في سياق أن تصبح مثلها، المهم أني عشت في مدن أعطتني أن أفكر مليا في سحر أن تكون المدينة مدينة، أي أن تكون فيها، مهما كنت، غريبا لا تلحظك إلا عين عابر. قد تبدو مفارقة ألا أقيم فاصلا بين ثقافتي وبين عيشي، لكن هذا هو الحاصل فيّ. لست مدمن تأمل ولست حلوليا ولست رومنسيا وليس لي أية ذاكرة ريفية.

* دخول لغة تراثية في كتابتك حرفها عن مباشرتها ومطابقتها.

انحراف عن أي طريق قويم؟ يكتب واحدنا ويخطئ دائما ولذا يكتب مجددا ويعاود الكتابة. ولو أدركت ما أدركه سؤالك من قبل لما كنت فعلت. لكني غير مدرك ما هو الانحراف اللغوي. هناك أسماء للأشياء وأحسب أن السؤال يريد القول: لم (معجم الأشواق) ومديح الخيانة)و(كتاب الرمل) لا تشبه (قط لو يدك)و(هن قسوة>> و(صحبة الظلال) و(مجرد تعب) و(الرجل الذي أحب الكناري)وربما (ضعة أشياء)؟ أليس كذلك؟ ببساطة لأنها كتب مختلفة ولا تدخل جميعها في (مشروع) (كم أكره العبارة)  غير موجود أصلا. هذه كلها أجزاء من سيرة شخصية، وللقارئ وحده (لمجرد أني نشرتها) أن يقول ما الصلة في ما بينها.
لكي يكتب أحدنا شعرا متصلا عليه أن يكون (وهذه مأثرة تراجيدية، لا أزعمها لنفسي في أية حال) أن يكون شاعرا بدوام كامل، أن يكون شاعرا بتنصيف للشعر لا أدري من أين مصدره. والحال أني لست شاعرا بدوام كامل. أي إني لا أستيقظ صباحا باكرا وأملاح شار أو ديغي على أطراف عيني، كما لا أذهب الى عملي متأبطا (الأوديسة) أو (الإلياذة) أو حتى نسخة من قصيدة جميلة كتبها صديق وأراد أن أقرأها للاستئناس. لست شاعرا بدوام كامل لأني شغوف بقراءة الروايات البوليسية، وسير الراقصات أمثال ماتا هاري والممثلات أمثال مارلين مونرو، وأصرف معظم وقتي، خارج دوام الثقافة التي أعتاش منها، في ترجمة الأعمال التي أود حقا، وبحسد لا أخفيه على أحد، أن أكون أنا كاتبها ولكني لا أملك الموهبة الكافية لذلك. ولن أستطيع أن أصف لك مهما حاولت، كم يضجرني حديث الشعر بين شعراء. كل ما كتبته هو أعمال لا أدري أيها يصنف شعرا وأيها لا يصنف كذلك؛ ثم إن الأمر لا يعنيني كثيرا أو قليلا. ومن قال ان الهاجس اللغوي ليس جزءا من اختبار الكتابة مهما كان تصنيف هذه الكتابة، أليس حقا أن اللغة هي التي تتكلم فينا؟ لا أدري إذا كانت لغتي قد أصبحت غير بسيطة وغير دقيقة وإذا كانت غير ذلك من قبل؛ كل ما أعرفه أنني أجد متعة أحيانا في سؤال اللغة عن أصول بعينها وأنماط اشتقاقها والاستئناس بأوجه الشقاق فيها الناجم عن التوليد؛ واختبار الحيرة المذهلة، حيرتي الشخصية، حيال الترادف والتضاد في المفردة الواحدة، وقد تتحول هذه الحيرة الى فتنة وتشويق لم أعثر عليه في الكثير من الأدب البوليسي الذي أدمن قراءته. أما أن هذا غير راهن فربما ولكن سؤالي: هل ان ما يكمن تحت الأشياء غير راهن؟ هل هو حقا وراءها؟

* هناك شعراء تحبهم، بريفير، الماغوط.

أحب جاك بريفير كثيرا كما قرأته بالفرنسية وأقرأه دائما. وأحسب أني لم أشعر بغواية الشعر الحقة إلا من خلاله ولم تكن قصائد محمد الماغوط أقل تأثيرا. لكني أحب وأقرأ باستمرار شعراء آخرين وأعاود قراءتهم بشغف متجدد.

* أنت المثقف اللامع لا تغريك المغامرات الفكرية الخالصة.
 
* لأن الأفكار لا تغويني كما لا تغويني اللغة المجردة المعجزة. وفي أية حال هذا السؤال صعب جدا، فما رأيك بأن أطرحه عليك؟

* تبدو قليل الاهتمام بالسجال الشعري الحالي.

يبدو أننا أصبحنا في سؤال ما بعد الحداثة من دون أن ننتبه أو أن ننجز حداثتنا. هل انتهى السجال حول قصيدة النثر؟ من المؤكد أن الكلام النقدي الذي رافق ثم تجاوز الحداثة في الشعر، عندنا، كان أكبر وأكثر بما لا يقاس مما أنجز في الشعر. أصبحنا نقرأ دريدا بالعربية وما زال عبد المعطي حجازي، أحد رواد الحداثة، يناقش في (شرعية) قصيدة النثر الشعرية ويفتي بتهافتها. في أية حال لا أطرح على نفسي مثل هذا السؤال ولا أخوض فيه لأني لست مناضلا لا في الشعر ولا في سواه. وحين أكتب لا أطرح على نفسي السؤال: هل هذا حديث أم لا؟ وحين أقرأ الشعر، إذا قرأت، يكون رد فعلي مرهونا بما يمس حساسيتي الشخصية في استحساني ما أقرأ أو عدمه. كل ما قد يقال في هذه المسألة يرتبط بمشروع شعري أو إبداعي أو ثقافي... ويليق بمن يزعم لنفسه مشروعا ما، وهذه ليست حالي.
هناك عدد من التجارب الشعرية التي تمسني في العمق، وبالطبع أجدني قريبا منها، لأنها تعتلم غبطتي بحجر أبيض ناصع.

السفير