فصلوني من الوظيفة لكن أحدا لم يضع المسدس على رأسي لأكتب عن الديكتاتور

حاورتها: إنعام كجه جي
(باريس)

كولالة نوريلفتت كولالة نوري الانتباه إلى ما تكتب منذ عدّة سنوات، رغم الحواجز التي كانت قائمة بين ما يكتب في بلدها العراق وبين الخارج. انها واحدة من الشعراء الشباب الذين لجأوا إلى التورية لكي يعبّروا عما في الصدور من احتقان وما في العيش من ضيق. وكولالة، بضمّ الكاف، شاعرة كردية، ويكتب اسمها أحيانا غلالة، لكنه لا ينطق بالغين بل بالجيم الفارسية التي تشبه نطق المصريين لحرف الجيم.

ولدت كولالة في كركوك واتنقلت إلى الموصل وظلت تعيش فيها إلى ما بعد الحرب. وهي تقيم اليوم في دمشق، ومن هناك ردت على هذه الأسئلة بالبريد الإلكتروني، أو الحمام الزاجل الحديث لتواصل العراقيين الموزعين في أربعة أطراف الدنيا. ومناسبة الحديث مجموعتها الشعرية الثالثة الصادرة في بيروت:

* ما هي روافد النشأة الأولى؟

ـ ولدت في منطقة إمام قاسم في كركوك لعائلة كردية، وكانت جدتي تتكلم التركمانية بعض الأحيان وبها تروي لنا بعض الأمثال والقصص وأيضا الشتائم. سنتي الأولى في الدراسة كانت باللغة الكردية. لم أكن اعرف اللغة العربية إلا بعد عملية التعريب القسرية التي بلغت ذروتها وأنا في المدرسة الابتدائية، اذ بعد شهر من بداية السنة الثانية، فوجئت وبقية رفاقي من الأطفال ان الكتب سوف تتغير إلى اللغة العربية وان اسم المدرسة قد تغيّر من (مهيباد) إلى اسم عربي. ثم بدأت أسماء المحلات والشوارع تتغير بسرعة من اللغة الكردية إلى العربية. اتذكر دائما، بألم واستغراب، عمليات الترحيل القسرية للأكراد في المدينة إلى المدن الكردية الأخرى وكنت أخسر كل سنة عددا من أصدقائي الأطفال بسبب هذه العملية التي تشبه ما حدث لعرب فلسطين.

لم أكن افهم معنى أن تقع تحت تهديد استئصالك من بيتك وعملك ومدرستك لأنك تتكلم اللغة الكردية، ولم افهم لماذا العربي يأخذ بيت الكردي. ولأن والدي كان رجلا مهتما بالتاريخ ويحدثنا عن ترحيل الفلسطينيين على أيدي اليهود الذين يستولون على بيوتهم فقد صوّر لي عقلي الطفل انّ العرب الذين يأتون ليأخذوا بيوت الأكراد هم من أقارب اليهود. لذا كان اهتمامي باللغة العربية وتاريخ العرب من باب أن افهم لماذا يفعلون ذلك.
استمر هذا التساؤل إلى ان غادرت مدينتي للدراسة في الموصل، بعد التوجيهي، وهناك تعرفت على أصدقاء ومثقفين وأدباء عرب وفهمت بأن ما جرى لكركوك عملية منبوذة مكروهة، وان العرب أنفسهم لا يحترمون من يغادر مكانه من اجل إغراء بيت مستلَب جاهز، وكان الذين عرفتهم ضد ما يجري للأكراد من ترحيل وإبادة. وهناك، في الموصل، تعرفت بشكل أعمق على الأدب العربي من خلال أصدقائي الذين يزودونني بالكتب الأدبية وكانوا لي عونا حقيقيا. وهكذا بدأت الكتابة بالعربية، اللغة التي أحببتها لأنها أنيقة ورحبة وذات موسيقى لا يمكن إلا أن تصيبك فتبقى هائما بها طالما بقيت قادرا على الكتابة. قبل دخول الجامعة، نكون جميعا قد تربينا على نتاجات شعراء القصيدة الحديثة، أمثال السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري، وفيما يخصّني فقد تأثرت بعد ذلك بالشاعر سليم بركات وكنت اقرأ كتبه بتمعن كمن عثر على كنز علاء الدين. انبهرت به وما أزال، وكأنه مصباح اللغة العربية بالنسبة لي! ثم قرأت محمود درويش وبول ايلوار وتعرفت على كتابات سارتر ودوبوفوار اللذين اختصرا لي عشر سنوات من البحث عن إجابات لأسئلة كانت تراودني. وبعد ذلك جاء دور ادوارد سعيد وادوار الخراط اللذين ساهما في إنضاج الكثير من تساؤلاتي.

* ماذا يشكّل لك أن تكوني كردية تكتب بالعربية؟

ـ حين بدأت الكتابة والنشر في الجرائد كنت اكتب باللغتين العربية والكردية. ولكن وجودي في الموصل وقراءاتي المستمرة باللغة العربية أكثر من الكردية وصعوبة سفري إلى كردستان العراق، سواء من الموصل أو من مديني كركوك، كلها جعلتني أكتب بالعربية على حساب الكتابة باللغة الكردية، وتم هذا بدون أن اشعر به أو اخطط له. لذا لا أجد معنى محددا لكوني شاعرة كردية تكتب بالعربية. أعرف إنني شاعرة وحسب ولا أفكر بغير ذلك. ولكن من ناحية أخرى فأن اجتماع ثقافتين يخدم الكتابة الإبداعية. وقد يكون هذا سببا لنوع من التفرد أو الخصوصية.

أظن ان قراءتي الكثيرة لسليم بركات لعبت دورا كبيرا في توجهي للكتابة باللغة العربية. واعتقد إنني استطيع الكتابة، لحد الآن، باللغة الكردية. ولكن تعرفين ان الكتابة بأي لغة كانت تحتاج إلى الكثير من المتابعة والمطالعة، وهذا ما لا يتوفر لي الآن باللغة الكردية، ولكنني ارغب بالرجوع إليها حين تنتهي المشاغل التي تحرمني حاليا من الوقت الكافي للقراءة باللغتين.

* أنت من جيل نشأ في حضن الحروب والأزمات، كيف كان تأثير هذا على قصيدتك؟

ـ الحرب مسلسل فقدان. الحرب جامع لكل المتناقضات في الحياة البشرية. الحرب بشعة مثل غول... لا... الحرب لا وصف لها. لذا تريننا، نحن العراقيين، أو جيلي بالتحديد، نكتب وقصائدنا تتلفّع بنكهة الخسارات وكتاباتنا فيها مواراة للحزن حتى ولو كنا نكتب عن مسرّات صغيرة. لقد اخترق الأنين عظامنا وسيبقى صداه ماثلا، كما يبدو لي، الآن وفي المستقبل. منذ سنوات طويلة لم انم. وأحلم كثيرا وكأنني لم انم الليل كله. أحلم بأشخاص وأحداث وأماكن تتوالى عليّ في كوابيس لا نهاية لها رغم محاولاتي الحثيثة، في النهار، للامساك بزمام تلك الكوابيس والوصول إلى نهاياتها!

* كيف تأقلمت مع أجواء الكتابة والنشر في العهد السابق، وماذا عن مشكلات النشر، وكيف تدبّرت الأمر لكي تعبّري عن المحنة بدون أن يكمموا فمك؟

ـ من قال أننا تأقلمنا مع أجواء الكتابة؟ كنا نعاني عندما نكتب ونحس بالاضطهاد، نعيشه، نتلمسه، نراه، يلقموننا إياه في كل وقت وفي كل مكان. وتخيلي ان تكوني كاتبة في هكذا أجواء! لقد جرى فصلي من المجلة التي كنت اعمل فيها منذ عام 1995 بسبب رفضي لكتابة تهنئة للرئيس في عيد ميلاده. وكنت قد قدمت استقالتي وتم رفضها وفصلت من عملي الصحافي وبقيت بلا عمل إلى ما بعد السقوط. كنت اكتب هنا وهناك، وفي صحف توجد خارج العراق، ولكن أن أقول بأنهم كانوا يصوبون على رأسك المسدس كي تكتبي عن الرئيس الذي كان طاغية فهذا غير صحيح. كانت هناك إغراءات مالية، ومعنوية مثل سرعة الظهور كاسم أدبي إذا كنت من كتّاب السلطة. ولكن هذا لا ينفي أن هناك من استطاع الثبات كأديب ملتزم وكاسم ذي تأثير. وربما كان للحظ بعض الدور في هكذا حالات، وكان هناك بعض مسؤولي الصفحات الثقافية (رغم انهم انزلقوا في متاهات السلطة) ممن كانوا يركزون على الكتابات الجيدة.

أما ان أفواهنا كمّمت فنعم. كان أقصى ما يستطيع الأديب الملتزم بمبادئه أن يفعله هو عدم الكتابة عن السلطة، وفي الوقت نفسه عدم الكتابة الصريحة ضدها. نعم كنت ممن لجأ إلى اللغز والتورية والى تحميل الجملة الواحدة لأكثر من معنى في النص الأدبي. كل هذه الاعتبارت كنا نضعها ضمن أدواتنا إذا أردنا ان نعبّر عن الوضع العام في البلد أثناء الحكم الدكتاتوري. وأحيانا كنت أكره ما كتبت إذا كانت التورية فيه طاغية على المعنى، ولم أكن أشعر إنني عبرت عما أردت، وكأنني كنت أخدع نفسي قبل الرقيب! ولكن كان لديّ أيضا همّي الخاص كامرأة تعيش في مجتمع يعاملها كمواطنة من الدرجة الثالثة ولديّ معاناتي الذاتية البحت من نكران الآخر وهمجيته وغفلته عن رأسي الذي يحمل من المتاهات بقدر ما يحمل من شعر جميل. لذا أخذ انشغالي بالتنفيس عن هذه الهموم الكثير من كتاباتي كي احصل على الاتزان بين كل هذه التداعيات.

* أين أنت الآن؟ وهل تغيرت آفاق قصيدتك؟

ـ أحاول الآن التخلص من الكثير مما كان يسبب لي الالتفاف على اللغة أو يدفعني إلى التورية. واعتقد ان تغيير الاسلوب يحتاج إلى بعض المران. ولكننا جميعا نتوجس من التفاف قوى أخرى في الوطن على كتاباتنا كي لا نتجاوز خطوطا تحددها بعض الإيديولوجيات الدينية أو القومية والسياسية. وتبقى حرية التعبير الآن أكبر بكثير من السابق ولا مجال للمقارنة بين الفترتين. وبالطبع هناك آفاق أخرى للكتابة حاليا لأن هناك عراقا آخر قيد التشكيل، بمحاسنه ومساوئه.

* هل من قصائد جديدة؟

ـ مجموعتي الثالثة "تقاويم الوحشة" صدرت في بيروت حديثا عن المؤسسة العربية، وهي تضمّ النصوص التي كتبتها قبل سنتين من الحرب وفيها قصائد كتبت بعد سقوط النظام، وكذلك بعض المختارات من مجموعتيّ السابقتين. وقدّم الشاعر سليم بركات للمجموعة بكلمة على الغلاف الأخير.

من شعرها

حين نظرت في المرآة
لأعدّل مكان البطينين والأذينين
تأكدت من إنني ما زلت صعلوكة
وما زلت أحمل فتنة أميرات موناكو
رغم تجاعيد الزواج.

الشرق الأوسط- 17 ابريل 2005