ترجمة: صباح زوين
من الحوارات غير المترجمة الى العربية من قبل مع الكاتب الأرجنتيني الكبير الراحل خورخي لويس بورخيس وسجل غييرمو فوينتس راي وقائعه وروى مناسبته على النحو الآتي:
في 16 أيلول 1975 رتبت الصحافية اوديل بارون سوبرفيال لقاء بين خورخي لويس بورخيس وفينيسيوس دي مورايس، وتم الاجتماع في شقة بورخيس. وكان لي الشرف والحظ ان أكون مدعوا. بعد التقديم وبعدما وضعت آلة التسجيل مع مكبرات الصوت في المكان المناسب، بدأ الحديث. حوار من دون أي برمجة محددة، صريح، مباشر، عفوي.
بعد ذلك بسنين، كانت عملية تفريغ الشريط مثيرة إنما غير سهلة على الإطلاق. حذفت قدر الإمكان بعض التكرارات، رتبت بعض المقاطع بحسب الثيمة، وحافظت على ما ورد في الحوار من تعابير محلية او لغة يومية محكية كي اجعل القارئ يشعر كأنه حاضر في هذا الاجتماع الفريد الذي لن يتكرر.
بينيسيوس: هل يزعجك ان أدخن، بورخيس؟
بورخيس: كلا. بل كنت أدخن في الثالثة عشرة من عمري لأشعر بأني رجل، لكني توقفت عن التدخين في ما بعد.
اوديل: بورخيس، أنت كنت في البرازيل؟
بورخيس: بلى، في ساو باولو لمناسبة منحي "جائزة البلدية". في ريو دي جانيرو مكثت قليلا، بالكاد ساعتين. بل ما تعرفت اليه في طريقة أفضل كان الحدود الشرقية البرازيلية، ارض "الغاوتشو". خلال أيام سوف يعرضون فيلما مقتبسا من إحدى قصصي، "الميت"، التي تدور حوادثها في هذا المكان. فيلم جميل لم يلق نجاحا، ولم يعرض الا لثلاثة أسابيع. لكن صحيح انه يحوي بعض الأخطاء. تدور حوادثه في التسعينات وتحكي عن مزرعة فقيرة جدا عند الحدود حيث نرى مهربين يلعبون البليار. لا ادري لماذا لم يجعلوهم يلعبون الغولف! في أي حال، أنا وضعت هناك أجواء القصة لأني رأيتهم يقتلون هناك رجلا واثّر فيّ ذلك كثيرا.
بينيسيوس: هل رأيت بعد هذا الحادث رجالا آخرين يقتلون في حياتك؟
بورخيس: كلا. لكني رأيت ناسا كثرا يموتون. والدتي مثلا، ماتت قبل شهرين.
بينيسيوس: لكن تلك الجريمة أثرت فيك كثيرا. أنت تتكلم على الموت في كتبك.
بورخيس: صحيح. والغريب انها لم تؤثر فيّ لدى حدوثها. كان ذلك في مقهى حيث كنت مع انريكي اموريم. كنا اتفقنا على زيارة الحدود. حسنا، هو كان يريدني ان أرى ذلك، وان أرى مزرعة عائلته. إذن كنا هناك نتحدث في الأدب، فحصلت تلك الجريمة. برصاصتين قتلوا احدهم، راعي بقر. قتله زنجي، احد أزلام الحاكم. قتله بدم بارد ولم يلق عقابا. إذن ما أريد قوله أني عندما حصل ذلك انزعجت، لكنه اخذ في ما بعد يكبر في ذاكرتي.
اوديل: انه التصحيح الذي تقوم به الذاكرة، يا للغرابة!
بورخيس: صحيح، انه لأمر غريب. الآن اذكره وأتكلم عنه. تصوري ان ذلك اليوم نسيته للتو تقريبا إذ تابعت وانريكي في شكل طبيعي حوارنا حول الأدب.
بينيسيوس: ثمة في البرازيل مدن غير معقولة في هذا المضمار. هناك مدينة بين ولاية ريو واسبيريتو سانتو حيث ذهبوا مرة لمحاورة مبعوث الشرطة إذ انطلقت شائعة ان احد الموظفين الكبار كان سيقتل، وذاك ما حصل فعلا وفي وقته. سألوا المبعوث من عساه يقوم بهذه الجريمة (جريمة الاغتيال) فأخرج لائحة من القتلة (بالمسدسات) وأشار الى اثنين. احدهما كان يدعى "مئة ميتة" وعندما ذهبوا اليه لاستجوابه، قال: "كلا، كلا، أنا صرت متقاعداً"! والأكيد انه لم يكن هو! قد يكون الآخر من نفذ الاغتيال. وعندما سألوا من ناحية اخرى المبعوث كم نسمة تعد المدينة، أجاب: "لا تعد سكانا بل ناجين من الموت".
بورخيس: ماذا؟! "مئة ميتة"؟! اشعر بالذل. السيئون الذين تعرفت إليهم لم يقوموا بأكثر من جريمة او جريمتين، ودائما بواسطة السكاكين، لا بواسطة المسدسات. فالمسدس من شأن المائعين والجبناء.
عزاء الاختفاء
فوينتس راي: بورخيس، هل الفن طريقة لبلوغ الأبدية؟
بورخيس: بما أني لا أتوقع بلوغ الأبدية، فالأمر لا يهمني. أنا لا أؤمن بالحياة الأخرى. عندما اشعر بالحزن اعزي نفسي بالتفكير بأني سوف اختفي قريباً، بأني لن أدوم. إذن لا يهمني ما قد يحدث لي في أيامي القليلة المتبقية! أما أولئك الذين أرادوا تهديدي بكلام عن الحياة الأخرى فاني قلت لهم: لكن لا تحاولوا هذا معي لأني سعيد هكذا. انتم تهددونني بفكرة أني سأظل، وأظل أتذكر سيدا كان اسمه بورخيس وكان يقيم في بوينس آيرس. في أي حال، لنترك كل هذه المتاعب والبؤس جانبا! اللاهوتية هي إحدى أفضل أشكال الأدب الفانتازي. أنا لا أؤمن بشيء من ذلك. إنما حصل في البيت أمر غريب كانت والدتي كاثوليكية، ككل السيدات الأرجنتينيات. والدي كان غنوصيا او مفكرا حرا (في تعبيره آنذاك) كما كل الأسياد الأرجنتينيين. جدتي متدينة جدا، كانت بروتستانتية. جدتي الأخرى أيضا، على الطريقة التقليدية، كاثوليكية. كنا نسكن معا وكنا نحب بعضنا البعض الآخر.
اوديل: ما الذي يشدكما الى الحياة؟ ما الذي ستشعران به او الذي ستفتقدانه لو قيل لكما إنكما ستموتان غدا؟
بورخيس: لا احد يستطيع ان يتصور كيف سيكون رد فعله. لكن كنت مرات عديدة في الطائرة خلال اضطرابات جوية عنيفة، وأمام اقتراب الموت لم اشعر بشيء، لم اشعر حتى بشيء يذكر. الموت أخاف منه كثيرا، كما يخاف كل البشر من الألم الجسدي. لكن اعتقد أني لو علمت بأني سأموت هذه الليلة في ورع وتدين فسأكون مرتاحاـ، علما ان لا احد يعرف نفسه كفاية. حياتي الآن أضحت محدودة. كنت اذهب كثيرا الى السينما، لكن الآن لم اعد استطيع إذ يحزنني ان أرى شاشة هائلة ولا اعرف ان كانت تحوي مساحة مسطحة او وجها بشريا. كنت أحب القراءة كثيرا، الآن لا استطيع ان اقرأ، ولا استطيع ان اكتب. إذن عندما أكون وحيدا أحاول ان اخترع أشياء: موضوعات حكايات، تهيئة محاضرات، الخ. خلاصة القول أني استطيع ان أتحمل العزلة. بينما كنت سابقا، قبل ان افقد بصري ولدى إقامتي في أدروغيه لم أتحمل مسافة الأربعين دقيقة التي كانت تبدو لي طويلة في القطار لولا مرافقة كتاب. أما الآن فاستطيع ان أبقى ساعتين جالسا هنا في هذه الغرفة ولا يأتيني احد، وأكون قطعت خط الهاتف، ويسعني في بساطة تامة ترك نفسي في هدوء الحياة.
اوديل: وأنت فينيسيوس، ما الذي يشدك الى الحياة؟
فينيسيوس: أكثر ما يشدني الى الحياة النساء!
ثمالة خفيفة
فينيسيوس: بورخيس، الا تغويك فكرة ان تأخذ بعض المخدرات، ان تدخن الماريوانا؟
بورخيس: جربتها، لكنها لم تعطني أي نتيجة: اعتقد ان الماريوانا اقل فاعلية من حبة النعناع.
فينيسيوس: أنا لا، تترك فيّ أثرا رائعا!
بورخيس: إذن أنت محظوظ أكثر مني. حاولت أشكالا عديدة، الكوكايين وسواه، ولم أر لها أي فعل فيّّ. أما عندما كنت شابا فكان ثمة مشروب في دكاكين بوينس ايرس، مشروب يترك فينا شعورا لطيفا وخفيفا بالثمالة. بعض الأحيان كنت أتناول مشروبات أقوى، كالكحول والويسكي.
فينيسيوس: لم تعجبك حقا الكحول، أليس كذلك؟
بورخيس: كلا. على الإطلاق. في الحقيقة الشراب الوحيد الذي يعجبني هو الماء. كذلك الحليب البارد، خمر التفاح، وعذرا إذا قلت لك أني أحب القهوة الكولومبية. انظر، أني أؤمن كثيرا بما قاله المتصوف الانكليزي بليك: "السعادة أهم بكثير من النشوة". السعادة أهم بكثير لأنها هادئة وعذبة، بينما النشوة موقتة ومزعجة للغير وكثيرة الضجة. الانسان الثمل يدعو دائما للسخرية. شعرت بالسعادة مرارا عندما كنت شابا. أثناء ركوبي الخيل، مثلا، او القراءة. هذا النوع من السعادة سهل المنال أكثر من سواه لأنه يتعلق بإرادتنا. بينما لو كانت السعادة تأتي او ننتظرها من الغير، فثمة عندئذ عنصر ريبة، قلق.
فينيسيوس: في هذا الشأن نختلف تماما فالسعادة بالنسبة الي تأتي دائما من الشخص الآخر. لا استطيع ان أكون سعيدا وحدي. هذا مستحيل لي.
بورخيس: آه! هذا ضعف من جانبك! المهم ان نكون روبنسون كروزويه وان نكون سعداء.
المرأة
فينيسيوس: قل لي بورخيس ما رأيك في النساء؟
بورخيس: أنا لا أفكر البتة في "النساء" بل في "المرأة". لو فكرنا انه يمكن ان تكون هناك امرأتان في الوقت نفسه فذاك يعني ان النساء لا يثرن اهتمامنا لطالما اهتممت بامرأة واحدة في الآن عينه. وهذه المرأة لم تكن نفسها بالطبع، لكن هذا غير مهم، غير مهم على الإطلاق.
فينيسيوس: ماذا يثيرك في النساء وأنت الآن لا تبصرهن؟
بورخيس: في الحقيقة أنت تذكّرني الآن باني لا أبصرهن. اشعر بأن المرأة جميلة. لكن لا اعتقد ان الرجل يقع في غرام امرأة لهذا السبب فقط اعرف نساء جميلات جدا لكن لا يستطيع المرء ان يحبهن ونساء قبيحات جدا يوقظن فيك الحب.
فينيسيوس: لكن قبيحات جدا جدا، كلا بورخيس.
بورخيس: بلى! الجمال عنصر من العناصر. إذا كانت المرأة ذكية، حساسة، فهذا أمر قيّم، الجمال مهم، لكنه ليس العنصر الوحيد.
فينيسيوس: هذا صحيح، لكن ثمة قبيحات لا نحتملهن.
فينيسيوس: ما رأيك في المثلية الجنسية؟
بورخيس: هذا موضوع لا افهمه.
فينيسيوس: لا تفهم ان شخصين من الجنس نفسه يمكن ان يتحابا وان يعيشا معا؟
بورخيس: اعلم ان هذا الأمر يحصل، لكن لا استطيع ان أفكر عقليا في الموضوع. لا استطيع مناقشته.
فينيسيوس: لو كان ابنك مثليا، هل كنت نفرت منه؟
بورخيس: لكنت فعلت ما في وسعي كي أقنعه بالتخلي عن هذه الميول الغريبة. ثمة كتاب لمؤلف انكليزي يقول ان المثلية برهان عن خلود الروح، إذا كان في جسم رجل روح امرأة فذاك يعني ان الروح مستقلة عن الجسم. في أي حال، كان ذلك نصا أراني اياه والدي كإحدى نوادر الفكر. لكن يسعني ان أقول شيئا. لي صديق مثلي يبوح بذلك ويتقبله. أتذكر أني كنت ذات يوم في اسبانيا حيث تعرفت الى سيد وحادثته عن الأدب اللاتيني، من سينيك الى رجيل وتاسيت، فقال لي هذا السيد: "سيقولون لك أني مثليّّ. أود ان أوضح لك ان هذا الخبر ليس قدحاً او ذماً. أنا مثلي". واعتبرت إذ قال لي ذلك، انه رجل حقا. كان رجلا في كل شيء ما عدا في سلوكه الجسدي، السلوك الذي لا احكم في شأنه لأني لا احكم على أي سلوك غريب الا إذا تعلق الأمر بسارق او بخائن او بمجرم.
النهار" السبت 4 كانون الاول 2004
إقرأ أيضاً: