محمود قرني
(مصر)

محمد إبراهيم أبو سنة: الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة واحد من رواد قصيدة التفعيلة في مصر، صاحب صوت خاص، هو الأنعم والأرق والأقل تركيبا عن أقرانه الذي قلبوا ظهر المجن للشعر العربي، وربما لأسباب عديدة منها هذه اللغة العذبة والفياضة ظل محمد إبراهيم أبو سنة موضع اتهام دائم بالرومانسية، وهو اتهام وجهناه له هنا، وهو يجيب باستفاضة واسعة عن علاقته بالتاريخ الرومانسي العالمي ولا ينكر التهمة في جملتها.
كان ديوان البحر موعدنا أحدي العلامات في مسيرة شعرنا الحديث، كنا نحفظه ونردده في الجامعة إلى جانب نزار قباني ثم درويش وتأتي بقية السلسة الذهبية.
غير ان أبو سنة لم يظل علي عهده في ديوان البحر موعدنا استعاد الكثير من عوالمه وأعاد إنتاج بعضها وتوقف الأفق المفتوح نسبا إلى الشعر لكنه فاجأنا بديوانه الأخير موسيقي الأحلام الصادر عن الدار المصرية اللبنانية.
وهنا نحاول أن نترك الفرصة لشاعرنا ليتحدث عن بداياته وعما أضافه في هذا الديوان، وعن أصل تهمته بالرومانسية، وكيف تعامل مع المسرح الشعري وكيف يتم إقصاؤه عن المشهد:

* حدثني عن ديوانك الجديد (موسيقي الأحلام) وما الذي تري أنك أضفته عبره إلى تجربتك الشعرية؟

ديوان (موسيقي الأحلام) هو الديوان الثالث عشر الذي يشكل ملمحا جماليا خلال تجربتي الشعرية الممتدة منذ ان نشرت قصيدتي الأولي عام 1959. وهذا الديوان يمثل حالة خاصة بالنسبة لي حيث يعكس التأثر بالمنابع التعليمية الأولي في الأزهر، وكما تعلم فان الأزهر يحيط نفسه بنوع من الرهبة والقداسة علي المستوي الفكري، هذه الرهبة وهذه القداسة يمكنهما ان يذهبا بالشاعر إلى جدران التاريخ، وكنت في فترة أرصد حالة من حالات التمرد الداخلي علي المستوي الاجتماعي والفكري والشعري.

* ولكن هذا التمرد محسوب طبقا لملابسات الواقع الذي نعيشه والمعارف التي حصلنا عليها.

كانت الخمسينيات حقبة متفجرة بأشياء كثيرة مثل مدرسة الشعر الحديث والمشروع القومي وما يسمي بالوحدة العربية وكان هناك جموح للانفتاح علي الثقافة العالمية، لا سيما في جذورها اليونانية بسموها وتطلعاتها.
هذه التجربة جعلتني أواجهه العديد من المواقف منها أنني لم أكن شديد الالتحام بالواقع السياسي الذي كان سائدا وإنما كنت شاهدا علي هذا السياق السياسي وبالتالي لم ينعكس في قصيدتي هذا الوعي الواقعي المباشر الذي حول القصيدة إلى بيان سياسي، ولعل هذا واضح في مراجعة الرواد جميعا الذين افتتحوا هذه السيمفونية الرائعة، فقد أدرك هؤلاء ان القصيدة الخمسينية يمكنها ان تقول الشعر دون الوقوع في هاوية.
الشعار السياسي، ومن هنا وكنتيجة لهذا و لانغراس أجواء الشعر الغربي القديم كانت هناك أصداء وتجليات لذلك، ويبدو أن هذا الوقع والتراكم استفز بشكل ما في المرحلة الأخيرة، بمعني ان العصب الموسيقي ظل مرتبطا لدي بقضية الشعر وحين جاءت هذه الموجة الجديدة من الشعراء عاودني هذا الإحساس. لذلك ستجد ان هذا الاستفزاز مؤثر بشكل واضح في ميلاد ديوان موسيقي الأحلام وهو ديوان يشكل علامة بالنسبة لقصيدة النثر.

* ما هي علاقة (موسيقي الأحلام) بقصيدة النثر؟

ليست علاقة مباشرة وإنما يُعد ردا علي قصيدة النثر لأن القصيدة تقول أن الموسيقي ليست فقط روح الشعر وإنما هي روح الحياة وامتزجت في هذه القصيدة قضية الشعر بقضية الوجود بقضية الوطن بحيث جاء هذا الشيخ المهزوم الذي يرمز إلى الواقع وكأنه يبحث في النهاية عن روحه وهذه الروح التي يبحث عنها جسدها شوقي، وإحساسي وتطلعي إلى ما يسمي بالموسيقي وهذه الموسيقي كانت رديفا للأحلام لذلك أنهيت القصيدة بأن الموسيقي التي تصدح بها الأحلام هي الحل علي مستوي الوطن وعلي مستوي الشعر وعلي مستوي الوجود.

* وهذا هو ما يشي بتمسك أبو سنة بأستار الرومانسية حتى الآن؟

هذا بالضبط استنتاج صحيح لأن التشبث بالإيقاع في هذه المرحلة أي في مرحلة هدم البنيان الموسيقي أو في تصور أنني متعلق بأستار الرومانسية وفي الحقيقة إنني لم أكن بريئا تماما من الأحلام الرومانسية ربما لأن تكويني النفسي والوجداني قريب من هذا التصور الذي أنا اعتقد انه جزء أساسي من كل أدب إنساني سواء علي مستوي الرواية أو المسرح أو الشعر.
التعلق بالإيقاع لا يكفي تماما لكنه يصف التجربة بأنها رومانسية، وأنا اعتصم بفكرة الموسيقي لكي انفي الوقوع في الأسر الذي وقع فيه الشعر الخمسيني لأن الشعر الخمسيني استعان بالمخزون السياسي لإزالة الحدود بين الشعر والنثر ولكي يعبر عن الأفكار لا عن الأحاسيس ولا عن التجارب، وعندما قرأت وتشبعت وأنا شاب في تلك الفترة بكثير من النصوص الشعرية في العصر الأموي وخصوصا مدرسة الغزل العذري وقرأت لإبراهيم ناجي وعلي محمود طه، فمن المؤكد ان الموضوعات العاطفية في المدرسة الرومانسية هي شديدة القرب من أحاسيس شاب في مطلع حياته ولكن في نفس الوقت كان هناك الواقع المتفجر بالثورية وبالواقعية وبالطموح للاتصال بالأفق الإنساني أو العالمي كل هذا عصم تجربتي من ان تكون جزءا من هذا السائد، ان لا أكون رومانسيا خالصا ولا واقعيا خالصا خاصة وأنني كنت اقرأ مع رفاقي الذين كتبوا الشعر في تلك الفترة، اقرأ معهم قراءاتهم سواء في الدراسات السياسية أو الاجتماعية أو الفلسفية أو الجمالية وبالتأكيد ان هذه القراءات أدت أيضا إلى أعمال كبري مثل قراءاتي للملاحم اليونانية أو الروايات الروسية وتأثرت كثيرا في مطلع العشرينيات برواية الحرب والسلام لتولستوي وأعمال قصصية لتشيكوف ولكن الذي ترك انطباعات دائما في تكويني الوجداني عندما قرأت شيلي بترجمة لويس عوض خصوصا المقدمة وأيضا القصيدة الملحمية الأسطورية الضخمة التي ناقش فيها شيلي قصيدة حرية الإنسان وإرادته في مواجهة الآلهة وفي مواجهة الوجود.
إذن ربما كانت الرومانسية وراء اتجاهاتي المختلفة سواء ابتداء من الغزل العذري في مطلع العصر الأموي أو الرومانسية الثورية عند شيلي.
وكثير من القراءات في الأدب الروسي، هذا المزيج من الأدب الكلاسيكي أو الرومانتيكي القديم والمعاصر، الأدب الواقعي علي المستوي العالمي سواء في الشعر أو في الرواية أو في الأدب عموماً كان قد انتصر ولكنه لم يكسر في أعماقي هذه الرغبة الطاغية في التفرد بمعني ان هناك شعراء كثيرين.
ولكن التفرد إرادة ومنذ زمن طويل لدي بحكم نشأتي الريفية وارتباطي بالقرية المصرية والتحمي بالمدينة أيضا لأنني تركت القرية وأنا في العاشرة من عمري وكنت صبيا صغيرا ولكن كنت أتردد علي القرية أيضا وكانت صورة القرية البائسة المسحوقة التي توغل في بؤسها تترك في نفسي ولعا في تحقيق العدل والرغبة في الجمال لأنني ولدت في قرية علي شاطئ النيل الشرقي جنوب القاهرة.

* ولكنك كتبت قصيدة نثر في ديوانك تأملات في المدن الحجرية ..فلماذا هذا الموقف الرافض لها الآن؟

في السبعينيات كتبت فعلا قصيدة من قصائد النثر منشورة في ديوان تأملات في المدن الحجرية وهي قصيدة رسالة إلى الحزن وهذه القصيدة عندما كتبتها كان لدي تصور أنني سوف اكتب ديوانا كاملا من هذا الشكل وهذا دليل علي أنني اترك سليقتي الشعرية تختار لي الشكل الفني ولا أصنع لجوادي الشعري قضبانا يسير عليها ونشرت هذه القصيدة في مجلة كانت محسوبة تماما في ذلك الوقت علي اليمين الأدبي واليمين الشعري وهي مجلة الثقافة التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت الصديق العزيز الدكتور عبد العزيز دسوقي ولم يعترض هو عليها ولكن بعض الشعراء - كما قلت بالضبط - تناولوا هذه القصيدة علي أنها دلالة مباشرة في تراجع أبو سنة عن قصيدة الإيقاع وقصيدة التفعيلة والقصيدة الموزونة وربما حاول المتطرفون من خصومي القول ان هذه القصيدة إعلان عن إفلاس الشاعر ووصوله إلى نهاية الطريق وهي في رأيي أثارت بعض الجدل والإعجاب أيضا لم تكن قصيدة هينة بل قصيدة مثقلة بالصور الشعرية والخيال والبناء الفني ولم تكن قصيدة مرسلة أتخفف فيها من قصيدة التفعيلة أو القصيدة الموزونة.

* ديوانك البحر موعدنا يمثل نقلة حقيقية في تجربتك فقد كنا نحفظه في سنوات الدراسة المتقدمة .. لدرجة جعلت بقية أعمالك السابقة واللاحقة تتراجع أمامه.. بما تفسر ذلك؟

لا أشاركك إلا في جزء يسير من هذا التصور.
ربما عرف ديوان (البحر موعدنا) لأنني حصلت به علي جائزة الدولة التشجيعية ولأن هذا الديوان كان ينطوي علي رؤية ربما متجاوزة للرؤية السابقة.
التي وصمها أو رسمها البعض بأنها رومانسية ففيها قدر من الاقتحام مثل قصيدة البحر موعدنا وغيرها وفيها كثير من الرؤى المختلفة وقد تصور البعض ان هذا الديوان يشكل طفرة بمفرده بينما الديوان الذي يسبقه علي الفور وهو (تأملات في المدن الحجرية) هذا الديوان الذي دفع الدكتور لويس عوض إلى كتابة مقال هام في جريدة الأهرام واكتشف ان هذا الديوان ممتلئ بالعناصر الفنية الجديدة التي تتجاوز تماما المراحل السابقة في الدواوين التي سبقته في ذلك الوقت بينما هذا الديوان له ملامحه المتجاوزة ولكن هذا التجاوز لم يتوقف إطلاقا علي سبيل المثال ديوان رماد الأسئلة الخضراء الذي صدر في عام 1990 عن دار الشروق، ربما هذا الديوان يمثل هذا الانصهار الكلي للعناصر الفنية في جميع المراحل وربما الوصول علي صيغة رهيفة متجاوزة لكل الأشكال الموسيقية التي عرفها قبل ذلك ديوان (رماد الأسئلة الخضراء) والدواوين التي جاءت بعد ذلك مثل ديوان رقصات نيلية و ورد الفصول الأخيرة وهذه الدواوين الثلاثة رماد الأسرة الخضراء ورقصات نيلية وورد الفصول الأخيرة حازت علي جوائز وهي في نفس الوقت لها تشكيلها الفني المستقل المختلف ولا تستطيع علي الإطلاق أن تجد تكرارا علي المستوي الفني أو الموضوعي في هذه الدواوين وأنا التمس الأعذار لحركتنا الشعرية لأن الحركة الأدبية لا تستطيع أن تتفرغ لشاعر لكي تتابعه وتكمل رؤيتها النقدية لمسيرته الشعرية إلا في حالات نادرة جدا وبالرغم من أنني حظيت بقدر كبير جدا من الدراسات النقدية وست رسائل جامعية وكتاب ضخم عن هذه التجربة كتبه الدكتور شكري الطاونسي هو مستويات البناء الشعري عند محمد إبراهيم أبو سنة دراسة في بلاغة النص هذا الكتاب يتألف من ثماني مئة صفحة دراسة كاملة في كل عناصر العمل الشعري ابتداء من اللغة إلى الإيقاع إلى الخيال إلى المعجم اللغوي إلى البنية الفنية والجمالية والبلاغية أظن ان هذا الكتاب بالنسبة لي، ورغم انه اعتمد علي تسعة دواوين فقط حتى ديوان ورد الفصول الأخيرة. ويعد درسا في النقد الأدبي كما قال الدكتور صلاح فضل ونُشر هذا الكتاب في سلسلة دراسات أدبية ولقد تعلمت من هذا الكتاب بالرغم ان كاتبه كان شابا في العشرينيات.
ورغم ذلك سأظل أحاول ان أقاوم قضية استبعادي على أي مستوي سواء المذهبي أو الفني أو الأدبي.
ولم اطرح هذه التجربة يوما من الأيام علي أجهزة الإعلام رغم إنني اعمل في الإعلام منذ بداية عملي الوظيفي حيث كنت مدير عام البرنامج الثقافي ونائب رئيس الإذاعة ونجوت، وربما عن قصد، من الانزلاق إلى هذه المتاهة إنما كنت أقدم نفسي خلال قصيدتي.

* كتبت المسرح الشعري لكنك انصرفت عنه. هل ما زلت تري انه يمكن أن يكون هناك مسرح شعري؟

أنا قلت مرة ان قصائدي قد ابتلعت مسرحي لأنني كنت في الستينيات شديد الاهتمام بقضية الحرية والديمقراطية وشديد الاهتمام بالتاريخ، وبتاريخ الحركة الوطنية وكانت قراءاتي العميقة لهذه الحركة قد دفعتني إلى التقاط لحظة تاريخية مضيئة هي لحظة النهضة أو البعث أو بداية العصر الحديث حين كتبت مسرحية حصار القلعة وهي ترتكز علي شخصيتين متضادتين رغم التزامهما في البداية بمنهج يرتبط بالسلطة هما الشيخ عمر مكرم ومحمد علي، هذه المسرحية كتبتها وأنا شاب في منتصف العشرينيات وكتبتها وأنا شديد التعلق بهموم هذا الوطن وقضاياه وشديد الإعجاب بحركة الأبطال التاريخيين في الحركات الوطنية وهذه المسرحية مسرحية حصار القلعة كانت اقرب إلى القراءة التاريخية لأنها كانت عملي الأول الذي كتبته ثم كانت مسرحية (حمزة العرب).
حصار القلعة كانت قريبة جدا من التاريخ ووقعت في أسره لأن الأحداث كانت من الضخامة والتفجر وكانت الشخصيات ضخمة إلى درجة لا يمكن ان يستطيع الخيال ان يقص منها أو يزيد وكانت اكبر من فكرة الخيال، محمد علي وعمر مكرم كانا اكبر من فكرة الخيال من حيث ان محمد علي قائد تاريخي رغم انه أمي، فقد غير تاريخ المنطقة بأكملها وهذا شيء غريب لابد ان يمتلك عبقرية نادرة، عبقرية فطرية جعلته يقود الجيوش ويقود الحركات الشعبية والمليشيات والرأي العام المصري وفي مرحلة كان الوعيد ضامرا وكان جريحا لان القواعد الشعبية كانت قد خرجت من الثورة ضد الانكليز بعد حملة فريزر وكانت مصر خارجة من المواجهة التي كانت تتمثل في الصدمة بين الشرق والغرب بعد الحملة الفرنسية جاء محمد علي ليقيم هذا البنيان الشاهر وليوقع المؤلف في الالتباس وليوقع الخيال في الحرج، وهذا الصراع الدرامي أربكني علي المستوي الفني بالنسبة للمسرح وكما قلت أحرج خيالي تجاه هاتين الشخصيتين وهذه تجارب أولي ولكن في نفس الوقت ماذا لو وضعت هذه التجارب علي المسرح لوجدتها مليئة بالحب ومليئة بالفروسية والشجاعة والبطولة استخلصت من كل ذلك أفقا صغيرا أتعامل معه بخيالي وفعلا كان حجم الخيال في (حمزة العرب) اكبر من حجم الخيال في (حصار القلعة) ولك ان تتصور ان حصار القلعة كان ممكناً ان تكون مناسبة للفترة التي جاءت بعد ذلك لولا ان وعدني كرم مطاوع ان يقدم احدي مسرحياتي ولكن لم أوفق إلا في ان يقوم زملائي بإخراجهم في إذاعة البرنامج الثاني في ذلك الوقت ومسرحية حمزة العرب أخرجها المخرج عبد المجيد شكري لهيئة الإذاعة البريطانية وأذيعت في حلقات لمدة أسابيع وكان من المكن فعلا وضع هاتين المسرحيتين علي المسرح لتقديم إجابة علي الأقل فيما يتعلق بفكرة الديمقراطية وعلاقة الحاكم بالديمقراطية ولو ان هاتين المسرحيتين وضعتا علي خشبة المسرح فربما كان هذا مشجعا لي للاستمرار في الكتابة للمسرح ولكنني واجهت قهرا شديدا في مواجهة حركة مسرحية تتمزق بل تتجه إلى الإسفاف في المسرح التجاري والابتعاد عن القيم التي أطالب بها والسخرية حتى من هذه القيم التي أدافع عنها من اجل هذا لا أقول أنني فقدت حاستي لكتابة المسرح لأنني كما قلت معبأ وممتلئ بالشخصية الدرامية وبالشخصية المسرحية وبالبنية المسرحية ونادم اشد الندم ولكن كيف لك ان تقاوم أمواج البحر الذي قد يسحبنا من الشواطئ إلى أعمق أعماق الدوامات.

* بماذا تفسر محاولات إقصائك عن المشهد الشعري كما أشرت في هذا الحوار؟ وهل تعتقد ان هناك إقصاء فعلا؟

الواقع الثقافي متأثر منذ أول التاريخ بأهواء السلطة وبالأحزاب التي تتكون من رمم السلطة وبمراكز القوي التي تتكون أيضا من الواقع الثقافي علي الساحة الثقافية وهذه التيارات بعضها مرتبط بأحزاب سرية أو أحزاب علنية أو جمعيات معلنة أو جمعيات خفية، جمعيات مصالح أو جمعيات أهواء أو جمعيات زمالة قديمة وبالنسبة لي كنت ولا أريد ان أبرئ نفسي دائما وأتحدث عن نفسي لأدافع عنها بل أنا أدافع عن شعري فقط فكانت هناك أشياء تعمل ضدي وأشياء تعمل معي إما الأشياء التي كانت تعمل معي فهي موهبتي وثقافتي لأنني كنت منفتحا علي الماضي والحاضر والمستقبل وعلي الأفق الثقافي العربي والأفق العالمي وحاولت تعلم اللغة الأجنبية رغم أنني في الأزهر لم يكن متاحا لنا هذا التعلم إما الأزهر نفسه فقد رفض هذا التوجه الفني والشعري لتجربتي الشعرية منذ البداية ومنذ وقفت في السنة الأولي في كلية اللغة العربية لألقي قصيدة اشهد الآن أنها شديدة التطرف علي المستوي السياسي لأنها كانت قصيدة ذات نبرة خطابية سياسية بعنوان بعض الوقت يا مستر دالاس لأنها كانت ردا علي السياسة الأمريكية في جنوب شرق آسيا، واجهت عاصفة من الاستنكار والاستخفاف والسخرية من الطلاب والأساتذة لان شاعرا وسط هذه البيئة الكلاسيكية التقليدية يوجه مهامه الحادة إلى جسد القصيدة العربية المترابط القوي والأسمنتي الذي ينحدر منذ امرئ القيس إلى الآن، وأتذكر البيت الشعري الذي يقول:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهي قَرنه ُ الوعل
هذا هو موقفي بالضبط كنت أناطح صخرة، كان وجداني الشعري مرتبطاً بالحركة الثقافية من خلال هذه التجمعات التي كان مركزها رابطة الأدب الحديث وكنت هناك التقي بشعراء الحداثة والشباب والنقاد الكبار وكان هواي كشاب متمرد وثوري مع هذه التجمعات الثقافية وأتعلم منها واذهب إلى البيت لألتهم الكتب التهاما واحلم بأن اخرج من رحم الماضي كلية وكان العالم الذي نقرأه في الكتب الأزهرية اقرب إلى السكون والجمود والتقليد المغلق والمسدود وغير المنفتح علي المستقبل.
حين قرأت هذه القصيدة قُذف بي خارج حرم الرضا وحسنا أنني نجوت من اللعنة ولكنهم في الواقع اظهروا سخطهم تجاه ما أقوم به وأنا انتصرت في الخارج من خلال قيامي بشق طريقي من خلال نشر قصائدي في الصحف والمجلات وبدا اسمي يُعرف وأنا طالب لأنني نشرت قصائدي في جريدة الأهرام وأنا مازلت طالباً في كلية اللغة العربية.
الحقيقة أنني تعاملت بسياسة للخفاء في ذلك الوقت انسحبت من المشاركة الحميمة للنشاط داخل الجامعة والظهور حتى أمام الأساتذة وقد كنت أقرأ دروسي بجدية لكي انجح في نهاية العام وأمارس نشاطي الثقافي والشعري في الحياة الثقافية ومن هنا لم أجد من يساندني حين تخرجت من الكلية واندمجت في الحياة الثقافية كانت هناك مجموعات ترتبط بعضها ببعض بجذور تعليمية مثل الشعراء والأدباء الذين تخرجوا من كلية الآداب أو الشعراء الأدباء الذين تخرجوا من كليات أخري أو الشعراء أو الأدباء الذين ينتسبون إلى أحزاب يسارية أو أحزاب يمينية أو ارتبطوا بالسلطة، ظللت حائرا بين هذه التيارات جميعا، فالأزهر لم يساندني علي الإطلاق ان لم يكن قد صب علي اللعنة أما الآخرون فكانوا يقبلونني كشاعر ولكن هذا الشاعر لم يكن منخرطا في سهراتهم كنت أقوم بمشاركة كان الشعراء يذهبون إلى المقاهي والمنازل الخاصة ليكملوا سهراتهم وليرتبوا مواقفهم وخرائطهم ولم أكن موجودا، وهذه هي الأماكن أو الجلسات أو ا لملتقيات الحميمة والقريبة من القلب ولهذا كانوا يتذكرون بعضهم بينما كنت أجلس طويلا في مقهى ريش وفي كل الملتقيات ولكنهم حين يكتبون عن ذكرياتهم في ريش لا يذكرون اسمي علي الإطلاق لأنهم يذكرون جلساتهم الخاصة وأصدقاءهم ولا شك أنني لست بريئا تماما أنني جعلت نفسي في قبر من العزلة لا أقول إنني اعتزلت ولكن لم التحم بهذا الواقع علي المستوي الإنساني الذي يجعلهم يذكرونني والوسيط الوحيد بينك وبين الحياة الثقافية هي القصيدة وهو شيء طيب ومثالي ولكنه غير كاف علي الإطلاق.
هذه هي الأشياء التي كانت ضدي وكانت هناك أشياء معي أيضا وهي موهبتي والتقائي بعدد من الشخصيات الرائعة مثل صلاح عبد الصبور ولويس عوض الذي عُرف بالحسم والصرامة ورغم ذلك فان هذا الرجل كان يقدر موهبتي ولدي أشرطة تحدث فيها عني في الإذاعة وكتب عني مقالات وفي كتابه دراسات أدبية وكان نفوذه الأدبي له أثر كبير في أن عصمني من السقوط في اليأس المطلق.
ومن هنا فأنا شديد الامتنان لكل هؤلاء الذين وقفوا معي منذ البداية أما الذين لم يقفوا معي فلم يكونوا يكنون لي العداء.
وطبعا بعد ان تغيرت الأحوال وأصبحت للسلطة اختياراتها وللأجهزة اختياراتها كان للجذور الأولي في السهرات واللقاءات والمصالح اثر كبير في الانتقاء والانتخاب وهذا الانتخاب لم يُسقط اسمي كشاعر وقد ظل هذا الكيان الشعري موجوداً في الأفق بصورة أو بأخرى ولكن هذا الوجود لم يجذبهم طبعا لتسليط الأضواء وأنا راضٍ تماما.

القدس العربي



2005/06/10

إقرأ أيضاً:-