لا أظن أن هناك منطقة في العالم العربي تشهد قحطاً ثقافياً، مثلما هي الحال في تلك المنطقة الصحراوية، التي تبسط رمالها على شواطئ الأطلسي، أعني الصحراء الغربية، التي لا تزال موضع نزاع بين الجزائر التي تريدها متنفساً لها إلى البحر، والمغرب الذي يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من أراضيه.
ما يقارب ستمئة مواطن مغربي حسب المغرب أو مواطن صحراوي حسب جبهة البوليساريو، يخوضون منذ العام 1976 صراعاً، أو يُخاض بهم صراع لا ندري من أجل الانفصال أو الاستقلال. وقد أعلنوا دولة من طرف واحد لم تعترف بها كل الدول العربية، اللهم إلا الجزائر صاحبة المصلحة في أن تغسل قدميها بمياه الأطلسي.
لا نتعامل مع ضيفتنا مريم السالك أحمادة ك"وزيرة للثقافة" كما ينعتونها في الصحراء، خصوصاً إذا علمنا أن ميزانية هذه الوزارة لا تتعدى ألفي دولار سنوياً، وأن "الدولة" المعلنة لا تصرف مرتباً شهرياً للوزيرة نفسها، فكفاف العيش من المواد الغذائية هو المطلوب، وإنما بصفتها مثقفة صحراوية، إذ قلما نلتقي مثقفاً من تلك المنطقة في عاصمتنا، يمكن أن يكشف لنا وقائع الثقافة الصحراوية وواقعها.
حاولنا أن نتقصى، بفضول صحافي لا بنوايا سياسية، ما يجري على أرض آهلة ممتدة على مساحة 284 ألف كلم مربع، فسألنا: هل هناك همّ ثقافي في بقعة من الأرض تعاني أزمة اقتصادية ومعيشية حادة؟ هل تقام أنشطة ثقافية؟ هل توجد مسارح ودور سينما وفنون في منطقة لا إمكانية لبناء جامعات فيها؟
الثقافة الشفوية
كان لنا أن نسأل ولأحمادة أن تعتبر "الهم الثقافي الأساسي في الصحراء هو الحفاظ على الهوية الصحراوية وغرسها في نفوس الأجيال الآتية. أما الأهداف التكتيكية فهي محاولة جمع التراث الشعبي والثقافي لحفظه من الضياع، خصوصاً أن الثقافة الصحراوية شفوية، فلا شيء مكتوب بعدما قام الاستعمار الفرنسي الذي كان موجوداً في مدينة سمارة العام 1912 بحرق التراث المكتوب. وكل شيخ كبير في السن يتوفى هو بالنسبة إلينا كتاب يحترق".
بطبيعة الحال أي متاحف تحفظ التراث غير تلك التي تذكر بالصراع والطريف في الأمر أن المتحف، الذي يهتم بتاريخ وعادات وتقاليد المجتمع العربي الصحراوي، ويضم جناحاً خاصاً بالمقاومة الصحراوية على مر العصور، ومنها مقاومة الاستعمار الأسباني، أقيم بمساعدة جامعة جيرونا الأسبانية. والأهم في مجتمع عسكري تقوده جبهة البوليساريو أن يكون له متحف آخر للغنائم المنتزعة من الجيشين المغربي والموريتاني وبقايا آليات وطائرات محطمة.
تقول مريم السالك "إن مهمتنا تشجيع الشباب على الخلق والإبداع"، لتفتح أمامنا أسئلة حول الإبداع في مجتمع معسكر إلى هذا الحد، ونبدأ بالأدب كون السالك تحمل اختصاصاً بالأدب العربي، ونسأل عن الشعر والشعراء في بلاد على حدود "دولة المليون شاعر"، أعني موريتانيا. فنفهم أن الشعر الصحراوي مكتوب بالعربية الفصيحة، بالحسانية (العامية) والأسبانية (اللغة الثانية في البلاد).
شاعر واحد استطاع أن يطبع ديوان شعر بالحسانية هو بادي محمد سالم، وهو "شاعر عريق يشكل مدرسة بحد ذاته، إلى جانب البشير علي ومولود الحاج". وشاعرة واحدة استطاعت أن تطبع ديواناً آخر بالعربية الفصيحة (شعر حر) هي نانة لبات الرشيد، ومن أبرز شعراء الفصيح أحمد الشيعة وأحمد الأكحل وخليل أحمد وخديجة حمدي. هؤلاء يكتبون الشعر من دون أن تسمح لهم ظروفهم الاقتصادية في نشر أي ديوان. أما الذين يكتبون بالأسبانية فيجدون جمعيات أسبانية "صديقة" تحتضن كتاباتهم وتدعم طباعتها.
وترفض أحمادة أن يكون الموريتانيون أشعر من الصحراويين، "فأبناء الصحراء كلهم شعراء، لكن غالبيتهم تقول أو تكتب الشعر بالحسانية. تقام أمسيات شعرية في الأندية، مثل نادي الأربعاء ونادي الأحد اللذين يهتمان بالأنشطة الثقافية". ومثلما هي الحال في دول عربية مختلفة لا يزال الصراع قائماً بين أنصار الشعر الكلاسيكي وأنصار الشعر الحديث الذي منه قصيدة النثر أيضاً، كما تؤكد لنا أحمادة.
ولن تكون الرواية أكثر حظاً من "ديوان العرب"، وإذا طبع ديوانا شعر فقط، فإن الرواية لم تحظ بأكثر من طباعة كتاب واحد كان من حظ مصطفى الكتّاب عنوانها "أوتاد الأرض". وتؤكد أحمادة وجود عدد كبير من الروايات والقصص المخطوطة التي لم تجد لها طريقاً للنشر، ويتم تداولها أحياناً من خلال استنساخ محدود للمخطوطات. أما النشر أو القراءة عن طريق الانترنت فلا يزال غائباً، إذ إن هذه التقنية لم تصل، بعد، إلى متناول يد المواطن، وهي لا تزال مقتصرة على المؤسسات الرسمية ليس إلا.
مسرح الهواء الطلق
ما هي حال المسرح والفرق المسرحية؟ تجيب ضيفتنا: "عندنا أربع ولايات، لكل منها فرقة مسرحية، لكن غالبية الأعمال التي تقدم لم ترقَ، بعد، إلى مستوى الاحتراف والإبداع". وبالطبع لا توجد مسارح خاصة، ولا يقتنع المتمولون القلائل بدعم المسرح أو أي من المشاريع الثقافية، وبالتالي فالمسارح الموجودة كلها رسمية، تلتزم سياسة الأمر الواقع، أي سياسة البوليساريو.
لا توجد معاهد فنون، وبالتالي لا اختصاص مسرح في الصحراء، ومن أراد ذلك عليه أن ينتقل إلى معاهد جامعية جزائرية أو كوبية عموماً، "أما التعاون في إطار المسرح فيتم، بالإضافة إلى الدولتين الآنفتي الذكر، مع أسبانيا وفنزويلا وجنوب أفريقيا وأوروبا عموما".
الأمر أكثر إغراء في السينما، فالواقع الصحراوي يغري بعض المخرجين لتوليف بعض الأفلام ، وقد أنجز مخرج أسباني فيلماً عنوانه "الصحراء حكايات حرب"، كما أنجزت مخرجة أسبانية أخرى فيلم "صناديق العودة". أما الأفلام الوثائقية فكثيرة، منها فيلم لسيلبيا مونت حاز "جائزة غويا" في أسبانيا، وأشرطة أخرى منها "الصحراويون أبناء السحب" عن عادات الصحراويين، بالأسبانية (دبلج إلى العربية).
"أقمنا (المهرجان العالمي للسينما في الصحراء الغربية)، وفي آذار الماضي كان المهرجان الثاني، شاركت فيه دول أوروبية وأميركية لاتينية وأفريقية، وفاز فيه فيلم من السنغال، أما الجائزة فكانت عبارة عن جمل مع كل عدة الراكب البدوي التقليدية". وما كان للفائز أن يحمل معه الجائزة إلى بلاده، ما اضطره إلى إهدائه للعائلة التي استضافته في الخيمة طيلة أيام المهرجان كما هي العادة مع ضيوف المهرجانات.
وإذا كان الإنتاج المحلي للسينما معدوماً، بسبب التقنيات والتكلفة، فإن "الفن التشكيلي، الذي لا يحتاج إلى ما لا طاقة للفرد عليه، شائع ومتقدم جداً في الصحراء، وهو الأكثر رواجاً، وغالبية العاملين في هذا المجال من خريجي معهد الفنون الجميلة في الجزائر. تقام معارض في المخيمات التي تضم العديد من الأجانب الذين من شأنهم أن يشتروا بعض الأعمال، لأن المستهلك المحلي لهذا الصنف من الفنون نادر". وذكرت أحمادة ، من بين أبرز الفنانين التشكيليين سالك مفتاح الملقب ب"بيكاسو الصحراء" (تباع لوحته بسعر يصل إلى 350 دولاراً) ومحمد سليمة والبشير علال، وهم من جيل الشباب الأول، أما العربي والفاضل فهما من أبرز فناني الجيل الثاني"، وأشارت إلى شيوع تقنية الرسم بالرمل الملون.
هل أنتج هذا المجتمع شبه المغلق مثقفين؟ سألنا ضيفتنا، وفهمنا أن المثقفين المعروفين هناك هم إما مسؤولون في البوليساريو أو شهداء في ساحات الحرب. وقد ذكرت لنا من الأسماء ممثل جبهة البوليساريو في لندن الراحل محمد فاضل إسماعيل، و"مؤسس الدولة" الولي مصطفى السيد، والشاعر والطبيب بلا أحمد زين، والشاعر محمد الأمين، ولد السالك، وولد أبا علي وعلي مويسة... وكلهم كانوا ضحايا حرب لم تتوقف بعد، في حين توقف عمرهم في عشرينياته.
تتحدث مريم السالك بغبطة عن وصول نسبة الأمية إلى 20 في المئة، بعدما كانت العام 1976 حوالي 90 في المئة.
وماذا لو سألنا عن مصادر ثقافة المواطن الصحراوي؟ "هي بالدرجة الأولى المحاضرات الثقافية وبعض المنشورات المكتوبة باليد، ثم الكتب الموجودة في المكتبة الوطنية التي تضم حوالي عشرة آلاف كتاب، والمكتبات الجهوية التي تضم الواحدة منها ما بين ألفين وخمسة آلاف كتاب. وفي كل ولاية مكتبة فيديو وشاشة عرض. أما أفلام السينما التي تعرض في المهرجان والمسرحيات التي تنجز فلا تقام في مبان ودور خاصة، بل هي تعرض في الهواء الطلق، على أن الصحراوي البدوي لا يطيق الأماكن المغلقة والحدود، ومع ذلك يطالب بحدود دولة تقام في "الهواء الطلق" أيضاً.
السفير- 2005/05/21