ريما النخل
(لبنان)

ريما النخل
تأليف، اكريليك على قماش، 47*،55 .1987

يناديه معارفه بالـ"عميد" ويجيب كما لو ذكر اسمه، أي نقولا النمار، أي الفنان الذي في واجهة الحركة التشكيلية اللبنانية منذ أكثر من نصف قرن كرئيس لجمعية الفنانين للرسم والنحت، ومشرف أكاديمي على محترف الرسم والنحت في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)، وعميد معهد الفنون للرسم والزخرفة والعمارة والمسرح في الجامعة اللبنانية، وعضو مؤسس في عدة لجان في معرضي الخريف والربيع الموسميين الرسميين في قصر الأونيسكو... الى حضور فاعل دائم كركيزة يصعب تجاوزها، في النشاطات الدائرة دوماً على خطوط التماس مع التحولات الكبرى التي تصنع المجريات الثقافية في المدينة.
ذلك أن نقولا النمار مع زملائه فريد عواد وشفيق عبود ومنير عيدو وإيفيت أشقر وميشال بصبوص وهلن الخال، الى ايلي كنعان الآتي من محترف الفرنسي جورج سير (في عين المريسة) هم مطلقو الحداثة، ورديفها المنحى التجريبي، زائد قرار معظمهم بلزوم الربط بين ثقافات النصف الثاني من القرن العشرين، والجذور الحضارية لعالم يعي جيداً أنه لا ينطلق من فراغ لبناء إنسانه الجديد.
وتقولا النمار فنان ربما أكثر من سواه بين رعيلين إذ ورث من الرعيل السابق ذاك الحذر المزمن من المعارض الفردية ومن صالات العرض وشق الطريق مع رفاق دربه الى إطلاق معظم المؤسسات التي تساعد الفنان اللبناني على تأكيد حضوره في مجتمع ينحو أكثر فأكثر الى التعامل مع الفن بوصفه سلعة استهلاكية!
"أنا رجل مؤسساتي" قال لي.
ولمعرفة كيف بدأ كل ذلك، قصدت العميد نقولا النمار.

* ينتمي نقولا النمار الى الرعيل الأول الذي صنع في نهاية الأربعينات تيار الحداثة في الفنون التشكيلية. من زملائك: فريد عواد، شفيق عبود، هلن الخال، منير عيدو، ميشال بصبوص وآخرين. أود أن اعرف منك كيف كانت الأجواء الفنية في بيروت تلك الأيام؟

- إنك تعودين بي نصف قرن الى الوراء. فيوم أُسِّسَت الأكاديمية اللبنانية لم يكن هناك في لبنان أي مركز لتعليم الفنون، وكان على الراغب في الدراسة السفر الى الخارج، وكان السفر الحل الوحيد. ومع إعلان الحرب العالمية الثانية التي أقفلت الدروب الى روما وباريس، رأى ألكسي بطرس وبعض أصدقائه، أمثال قيصر الجميل، أن الفرصة مؤاتية لإنشاء أكاديمية تضم ليس الرسم والنحت فحسب بل كل الفنون، كالهندسة المعمارية والموسيقى والرقص الكلاسيكي... لكونها فنوناً غير مندرجة آنذاك في النظام التعليمي في لبنان، أي فنوناً تشكو نقصاً في ميدان التأهيل الأكاديمي للراغب في مزاولتها.

* إنما كان هناك فنانون. حدثني عن أجواء بيروت عهدئذ، أي منتصف الأربعينات.

- لم يكن فيها غاليريات او قاعات كبرى لإقامة المعارض، ورغم ذلك كان بعض الرسامين، وعددهم لا يتجاوز الستة، منهم من درس في ايطاليا ومنهم في فرنسا، يحيون بحسب الظروف النشاطات المتقطعة. وأتذكر جيداً، وكنا يومئذ شباباً نتعاطى الرسم كهواة، كيف كنّا نتابع تلك المعارض في ردهات غير مخصصة لها، كردهات مجلس نواب معطّل من سلطة فرنسية حاكمة، او ردهات متحف وطني إنما خاص بالآثار...


"في المحترف"، زيت على قماش، 100*،75 .1960

* كانت هناك إذن حياة فنية في بيروت؟

- كان هناك حضور قوي للفنون الأربعة باللغتين العربية والفرنسية، وللموسيقى المحلية والمصرية والأوروبية، ولفنون العرض في التياترو الكبير وصالات اخرى كمسرح فاروق.

* وماذا عن حركة الرسم والنحت؟

- كانت محصورة فقط بعدد قليل من الفنانين اللبنانيين الذين نادراً ما كانوا يقيمون المعارض الفردية. من هؤلاء قيصر الجميل، مصطفى فروخ، عمر أنسي، إنما كذلك رشيد وهبي الذي كان أصغر منهم عمراً، وصليبا الدويهي الذي اختار العيش في بلدته إهدن إثر عودته الى لبنان. كان هؤلاء الأبرز يومئذ.

* أبرزهم إنما كذلك أحدثهم، فمعظمهم عائد مجدداً من الخارج، من روما، من باريس، من القاهرة...

- كان لدينا نوع من الاطلاع على الحركات الفنية الموجودة هنا وعلى الناشطين في المدينة. فإلى أولئك اللبنانيين الذين ذكرتهم تضاف مجموعة من الرسامين الأجانب، وفي مقدمهم الفرنسيون المقيمون من الجيش الفرنسي ومن آخرين ينتمون الى جنسيات عدة. وكنا كهواة نتعامل مع تلك المعارض التي كانت تشبه الحدث لإطلالاتها النادرة جداً، كمن ينتظر مستقبلاً أفضل...

* هل كان تأسيس الأكاديمية اللبنانية تجسيداً لانتظار كهذا؟

- كنت أكثر من فرح لدى سماعي بالأمر فأسرعت الى مدرسة الـ"الثلاثة الأقمار" لأسجل اسمي، وكنت الثاني بعد فريد عواد الذي كان اول المنضوين.

* قلت في مدرسة "الثلاثة الأقمار"؟

- لم يكن للأكاديمية عام 1943 بناء خاص بها فتوزعت بدءاً فروعاً على الحكمة التي استقبلت مدرسة الهندسة المعمارية، وعلى مدرسة الأهلية حيث دروس الموسيقى، أما الفنون التشكيلية فنزلت ضيفة لعام واحد على مدرسة "الثلاثة الأقمار". بيد ان هذا الوضع تبدّل سريعاً مع استئجار ألكسي بطرس جناحاً قديماً ناحية البرج في بناء خاص بالآباء اللعازاريين، ومع اتخاذه قرار جمع الفروع في موقع أكاديمي واحد، مما أعطى نفساً جديداً لفرع الفنون التشكيلية الذي رأى عدد المسجلين فيه يرتفع في العام الثاني على تأسيس الأكاديمية من طالبين، عواد وأنا، الى العشرين.

* هل نعتبر إذن ان عام 1944 - 1945 الدراسي يؤرخ للانطلاقة العملية للرسم والنحت في الأكاديمية؟

- ربما، إنما مع الإشارة الى أن الرسم في معناه الأكاديمي كان يؤلف المادة الدراسية الوحيدة. فدور النحت سيأتي في ما بعد مع ميشال بصبوص وآخرين.

* ذكرت اسم قيصر الجميل كأحد مؤسسي الأكاديمية...

- كان قيصر الجميل مسؤولاً عن تنظيم المحترف والتعليم فيه. وكان يملك خبرة في الأمر من خلال استقباله في محترفه الخاص بعض التلاميذ، وبينهم شفيق عبود مثلاً الذي سيلحق به الى محترف الأكاديمية بعد تخليه عن متابعة دراسته للهندسة في جامعة القديس يوسف لليسوعيين...

* كرّرت مراراً كلمة "محترف" في تحديد الدروس في الأكاديمية.

- يختصر المحترف نظاماً تعليمياً متميزاً يقوم على جمع طلاب معاً من دون الأخذ بعدد سنوات دراستهم، او بحقيقة مستوى كل منهم، او بطبيعة توجهاتهم، ثم تركهم يتفاعلون بعضهم مع البعض الآخر في إشراف أستاذ يختارهم بعد أن يختاره كل منهم، وظروف خاصة بواقع تأسيس الأكاديمية فرضت تقريباً إتباع نظام "المحترف" على المشرفين عليها، إذ لم يكن متوافراً للتدريس إلا قيصر الجميل وهو من المؤسسين، وللدراسة سوى العدد القليل، أي نحو عشرين طالباً.

* لم تعد الأمور تجري اليوم على هذه الصورة، لا في الأكاديمية اللبنانية ولا في معاهد الفنون الأربعة في الجامعة اللبنانية، ولا في الجامعات الأخرى التي تدرّس الفنون...

- ضمّ المحترف عدة أنواع من المنتسبين: الفتيات البورجوازيات وحضورهن للتسلية والزخرفة. والشبان عابروا السبيل لغياب الموهبة لدى معظمهم.

وقلّة من الإفراد الذين رأوا في تأسيس الأكاديمية استجابة لشغف لديهم.

* من هؤلاء؟

- فريد عواد وأنا ثم شفيق عبود ومنير عيدو، وبعد 1945 هلن يوسف العائدة الى لبنان من الولايات المتحدة والتي تزوجت لاحقاً الشاعر يوسف الخال.

* تعني هلن الخال الرسامة والناقدة؟

- بلى. ثم ميشال بصبوص وإيفيت أشقر...

* لكن من ناحية الإشراف على المحترف كان هناك قيصر الجميل فقط؟

- كنا ندبّر أمورنا في ما بيننا. نتبادل الخبرات والنصائح والتقنيات. والقوي بيننا يوجّه من يلقى صعوبة. ومن أمضى أكثر من سنة من التحق مجدداً... لكن الحظ حالفنا مع وصول طلبة بولونيين ذوي خبرات أكاديمية متطورة حصّلوها في بلدهم قبل هجره بسبب الحرب. معهم تبدل الجو الدراسي لمحترف أخذ يفيد كثيراً من معارفهم وثقافتهم وبراعتهم المهنية. واليهم يعود إدخال مفاهيم الحداثة، وإن على نار خفيفة الى الأكاديمية. ومعهم جاءت فنون ما بعد قيصر الجميل، إما باقي التطور فنحن حققناه.

* قيصر الجميل والطلبة البولونيون... هل اختصر هؤلاء المحترف يومئذ؟

- فضلاً عن قيصر الجميل كان هناك أستاذ بولوني يدعى مركوفسكي وكان قديراً جداً في الرسم والحفر، معه تعلّمنا الحفر مستعينين بآلة للطباعة موجودة في المحترف. كنا رعيلاً محظوظاً بكل تلك العناصر تُحيط بنا: الجميل ومركوفسكي وطلبة بولونيين أكثر خبرة منا وأنا أتذكّر جيداً إننا تعلمنا منهم أكثر من أساتذتنا وكانت الظروف يومئذ تفرض التعاون بيننا جميعاً، حتى في أصغر الأمور كتبادل الألوان عند الضرورة.

* هل تصف لي كيف كنتم مثلاً في تلك الأيام تشترون المواد والأدوات، أي "عدة الشغل".

- كانت هناك صعوبات بالطبع، لكننا كنا نتدبّر أمورنا. أذكر جيدا كيف ان أحد رفاقنا، جورج باخوس، استعمل مرة معجون الأسنان الأبيض لوناً بديلاً بعد فقدان اللون الأبيض من السوق.
إنما على نحو عام، وبفضل وجود معمل للألوان في فلسطين، لم نعرف ضيقاً في المواد.

* أي عن قريب، "بالتي هي أحسن" كما يقال؟

- لم تكن متوافرة في السوق مواد أوروبية كالتي توافرت في كثرة مطلع الخمسينات من القرن الماضي. لكن دعيني أروي لك باقي قصة جورج باخوس، فلدى مجيئه في اليوم التالي الى المحترف فوجئ بتبخر الأبيض بعدما فقد عناصره وامتصه اللون الآخر.

* هل كنتم تأملون في الأربعينات بتحويل الرسم والنحت الى مهنتين تعيشون منهما؟

- كنا نحب الرسم للرسم. ولم يكن وارد أبدا عندنا ان اللوحة او المنحوتة سلعة تجارية. ولم تكن هناك غاليريات لترويج فكرة استهلاكية كهذه. كنا في مكان والمجتمع في مكان آخر.

* وهذا المجتمع كيف كان يتعامل معكم؟

- العلاقة بيننا لم تكن قائمة فعلاً: كنا منطوين على أنفسنا، عائشين في جو المحترف بلا أي صلات بالخارج، بينما كانت تحيي إدارة الأكاديمية لترويج أهمية المؤسسة المعارض السنوية وتدعو الرسميين ووجهاء البلد الى حضورها. حتى تلك الحفلات لم نكن نحضرها.

* هل تشير الى الفجوة التي تباعد الى اليوم بين المجتمع والمعارض؟

- ثمة أجواء صالونية في بيروت تطبع المعارض بأجوائها الكاذبة، لكن ذلك لا يمنع الاهتمام الفعلي لدى البعض، وان يكن عدده قليلاً، فالفنون دوماً في مجتمعاتنا معرّضة لأن تكون من صنع قلّة وتتذوقها قلّة. كان لبنان عهدئذ يفتقر الى كل أنواع النشاطات الفنية كالرسم والنحت والموسيقى والرقص والمسرح والتصوير الفوتوغرافي، الخ، وأعني بكلامي نشاطات من صنع لبنانيين، فبيروت لم تخل يوماً من زوار أجانب يعبرون فيها لمعرض او لعزف منفرد او لعرض مسرحي. من هنا ربما كان حلمي بمؤسسات ثقافية تحتضن الفنان اللبناني.

* كجمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت؟

- قبل الجمعية، وأيام إقامتي في باريس مباشرة بعد الدراسة في الأكاديمية، أي بين 1949 و،1952 ونظراً الى العدد العريض من الفنانين اللبنانيين في العاصمة الفرنسية، رأيت مع فريد عواد وشفيق عبود وسلوى روضة شقير وميشال بصبوص وسعيد أ. عقل وجان خليفة وزافين هاديشيان ضروة وجود محترف لبناني في باريس يقرّب بيننا فكرياً وفنياً ليعزّز لدينا الروح الجماعية التي برزت نتائجها إثر عودتنا الى البلد.

* من دون نتيجة بالطبع!

- درسنا يومذاك المشروع وقدّمناه أنا وشفيق عبود وسلوى روضة شقير الى السفارة في باريس. لقينا مساعدة من جورج شويري وكان ملحقاً ثقافياً منفتحاً ونشطاً، لكن الزمن مرّ من دون أن نحصل على جواب.

* والى اليوم لا وجود لمحترف كهذا في باريس؟

- لا في باريس ولا في أي مدينة عربية او أجنبية. إما في لبنان، أي بعد عودتي الى بيروت في نهاية ،1952 وبعد اتخاذي قرار ممارسة الفن كمهني...

* ما معنى "أن أمارس الفن كمهني"؟

- أي أن استقبل الناس في محترفي لأن صالات العرض المتخصصة لم تكن متوافرة بعد.

* كان على الفنان يومئذ أن يدير أعماله بنفسه، كان في وقت واحد المبدع والتاجر؟

- صفة المبدع قد تكون "مبهبطة" على معظمنا. كنا مبتدئين في معظمنا، وطموحين وأصحاب أحلام وكانت بيروت على صورتنا. كنا نحن وهي من دون أطر مساعدة، فشعرنا بضرورة إطلاق مؤسسات محتضنة ومنشطة.

* لمحترف الفنان إذن دور صالة العرض؟

- ومكتب الأعمال كذلك للاتفاق على مشاريع فنية في الأماكن العامة: الكنائس، صالات السينما، ردهات المصارف، مطار بيروت، مداخل البنايات... لدي أكثر من ثلاثين عملاً في المدينة غير الذي أنجزه حالياً وزميلي ايلي كنعان في كاتدرائية مار جرجس المارونية.

* أفهم منك ان مرحلة الخمسينات شهدت قيام المؤسسات الحاضنة للفنون والفنانين.

- مع قيصر الجميل، وبعدما جمعته بعمر أنسي ومصطفى فروخ، أسسنا جمعية الفنانين، ومن ثم مع وزارة التربية وفي قصر الاونيسكو، معرضي الخريف والربيع اللذين قاما على تعاون متين ودائم بين قسم الفنون في الوزارة في إدارة فؤاد حداد وجوزف أبو رزق الذكية والخصبة، وجمعية الفنانين التي عملت دوماً على إحاطة مصلحة أعضائها باهتمام دقيق في مجتمع ليس مهيّأً دوماً للتمييز بين فنان مبدع وفنان عادي.

* حدثني قليلاً هنا عن صلاتكم بالناس؟

- أنا مثلاً أخذت طرف العمل من الرعيل السابق، الجميل وفروخ وأنسي الذين ورثوها بدورهم عمن قبلهم، أي خليل الصليبي وحبيب سرور وسواهما.
* هذا ما أنتظر أن تحدثني عنه.

- كنت استقبل في محترفي زواراً لكل منهم طلبه فإن توافقنا لبّيت مرادهم ضمن الأسلوب الذي أعمل فيه والذي له دوره في جذب الزبائن الى المحترف. هكذا عملت أنا، وهكذا عمل رعيلي ومن سبقنا من القدماء.

* هل بدّلت معارض الأونيسكو في ربيع وخريف كل عام أمرا من هذا التقليد؟

- بدأ زوّار هذه المعارض يقصدون قصر الاونيسكو لشراء اللوحات والمنحوتات التي تروق لهم.

* هناك انطلاقة إذن لنوع من السوق الفنية، فهل في الإمكان القول، مثلاً، أنه بعد تأسيس الأكاديمية اللبنانية وجمعية الفنانين ومعرضي الربيع والخريف أضحى طبيعياً قيام مثل هذه السوق؟

- تبلورت حول هذه المعارض نشاطات لا تحصى: توزيع الجوائز على المتفوقين، تقديم المكافآت الى المبدعين، شراء أعمال من الدولة للرئاسات والوزارات إنما أولا لتأسيس مجموعة وطنية خاصة بمتحف وطني للفنون المعاصرة كان يعد الجميع بتأسيسه في ما بعد...

* والى اليوم لم يحقق أحد هذا الوعد؟

- مبادرات عديدة للتأسيس أطلقت في عهود متتالية من غير أن تتبلور: هناك دوماً من يقول ان لدى الدولة أولويات أكثر إلحاحا من متحف او مسرح وطني او... هل تصدقين ذلك؟

* إنما ثمة فائدة عملية من معارض الاونيسكو الرسمية: تكوين طبقة اجتماعية من الذوّاقة وأصحاب المجموعات...

- وقيام صالات العرض، واحدة ثم اثنتان، ثم خمس، الى عشر.

* في كلامك نبرة اتهامية للغاليريات...

- إني أتساءل فقط عن الأثر السلبي لبعض صالات العرض في تحويل العمل الفني الى سلعة، الى مجرد سلعة استهلاكية..

* هذا التحويل يتم في كل أنحاء العالم.

- بلى، لكنه محاط بمجموعة أطر تهبه مناعة ضد الانزلاق الى ماركنتيلية فاجرة كما عندنا. فبعض الغاليريات أطلقت أقوى التيارات الفنية في العالم المعاصر حتى باتت حاضرة بمستوى المتاحف، ولا أرغب في التمادي في هذا الموضوع...

* علام تلوم، في اختصار، دور الغاليريات في لبنان؟

- لبعض الغاليريات دور أساسي في إبراز بعض رواد الحداثة عندنا وأصحاب التجارب الرائدة، ولمعظمها تصرفات بائعي المفرق...
* لنتحدث الآن عن نقولا النمار الفنان. هل لديك شعور بأنك تملك لوحة تميزك عن فناني رعيلك؟

- لو نظرت الآن الى رعيلنا تجدين ان كلاً منّا مميّز في عمله. تكفي زيارة أي معرض جماعي لتتأكدي من الفوارق بين لوحة لفريد عواد وأخرى لشفيق عبود أو لي. أما في البدايات، أي في مراحلنا الأولى، فكنّا متشابهين.

* ما هي ملامح هذه اللوحة، لوحة نقولا النمار؟

- أسقطت أولاً الموضوعات الرائجة في المدينة والتي كانت تدور حول المناظر الطبيعية والوجوه الريفية، أي كل الأشكال التي يصح أدراجها في خانة "اللون البلدي".

* إن كنت فهمت جيداً، بدأت في رفض المحتوى الروائي...

- الرعيل الذي أنتمي اليه رفض كلياً عالم الرعيل السابق، أي الرسم على طريقة الجميل وفروخ وانسي. أشير في كلامي هذا في آن واحد الى اقتران رفضنا الموضوع برفضنا المعالجة التقنية. كنا نرى في تطرف الى ان للزمن الجديد إنسانا جديداً فلوحة جديدة أي محتوى تقنيات من وسط القرن العشرين وجيلنا عائد لتوه من العاصمة العالمية للفنون، أي باريس الخمسينات.

* ألم يكن في وسع رعيل الجميل وفروخ وانسي ان يقول شيئاً مما قلته لدى عودته في ثلاثينات القرن الماضي من باريس؟

- بلى، مع فارق غير بسيط ان رعيلنا كان وسط ظروف سياسية اجتماعية ثقافية أكثر تحرراً من السابقين، فنحن الرعيل الذي عاش الاستقلال، وكنا نملك يوم سفرنا للدراسة في فرنسا ثقة بالنفس، وأولاد حضارة استنار الغرب بمعالمها، من أوغاريت الى بابل ومن سومر الى نينوى ومن القسطنطينية الى بغداد. لذا كان تعاملنا مع الثقافة الغربية مركزاً على تحرر معظمها من كل أنواع العقد النفسية. كان طموحنا غير محدود لصنع حركة تشكيلية لا سقف لها سوى مواهب كل منا.

* لنعد الى نقولا النمار الفنان، كيف تمثلت هذه الأفكار في لوحتك؟

- قطفت موضوعي أولا من المدينة التي كنت أعيش فيها، ومن الناس حولي.
أثر وتأثير

* أي أنك نقلت اهتمامات الرسام اللبناني، وأنت أحد نماذجه، من ريف ذي ملامح بلدية الى مدينة تنحو الى بدايات حداثة أخذت تلوّن الحجر والبشر بأجوائها.

- ساعدني الحظ فما ان عدت من باريس حتى دعاني قيصر الجميل الى العمل كأستاذ في محترف أكاديمية الفنون الجميلة، وكانت المؤسسة الوحيدة التي تعنى بالتعليم الفني، فكان لي اثر وتأثير في رواده الشباب الذين تعرّفوا فيّ الى واحد منهم إذ كنت اصغر من الجميل بما يقارب الثلاثين عاماً.

* المسألة إذن مسألة عمر؟

- كلا بالطبع، فما كان يفرّق بين جيلنا والجيل قبلنا هو أسلوب تفاعلنا مع الفنون الجميلة في باريس نهاية الأربعينات بداية الخمسينات. مرّ الجميل وزملاؤه حين كانت باريس تحياً معظم الثورات الفكرية والفنية التي ستنتصر طوال القرن العشرين، الا أنهم لم يختاروا منها سوى الوجه التاسع عشري أي الانطباعية وما حضّر لها وما نتج منها. أما رعيلنا فانخرط كلياً في الحداثة الباريسية في المرحلة التي تلت مباشرة الحرب العالمية الثانية. مضينا إليها. كانت له هواجسه الثقافية المتأججة في مدينة تحلم لنفسها بهوية ثقافية في ذاكرتها وجذورها.

* كالعودة الى الجذور؟

- بعضنا اختار لألف سبب وسبب السير في هذه الدرب، إما أنا فاخترت كمعظم زملائي الغرف من الذات كصدى تعبيري للأنا ناقص الرومانسية، ولم يكن مرّ بعد مئة عام على وفاة اجوين دولا كروا، أب هذا التيار. اخترنا ابتكار أسلوب خاص بكل منّا، من العصر ومنا في آن واحد.

* كأنك تحدثني هنا عن بدايات الحداثة في بيروت.

- انك تختصرين محتوى كلامي. فمن هنا انطلقت المدينة الجديدة و"ثقافات الحداثات" و"صراع الإيديولوجيات" وصعود بيروت الى واجهة المدن العربية.

* لنعد الى لوحة نقولا النمار، حدثني تفصيلاً عنها؟

- في مرحلة البدايات، ورغم أني زرعت بذرة الحداثة في عقول الفنانين الجدد ونفوسهم الذين تتلمذوا علىّ في الأكاديمية، كنت رساماً "فيغوراتيف"...


تأليف، اكريليك على قماش، 100*،70 .1989

* الكلمة فرنسية.

- كنا نقول "فيغوراتيف" في المحترف، وفي ما بيننا ومع أصدقاء الفنون في المدينة، أي أني كنت بدءاً رساماً "تشخيصياً" ذا نزعة جديدة غير فوتوغرافية، فما كنت أسجل فقط ما تراه عيني بل كنت أعبّر عمّا في داخلي محوّلاً الموضوع الى جزء مني ، حتى أضحى المنظر صدى تعبيرياً عما أنا فيه لحظة تصويره. كذلك الطبيعة الصامتة، أو الأجساد العارية...

* غير فوتوغرافية؟

- لم أكن أنقل الواقع كما هو إنما كما كنت أشعر به. وكان أن بلغت تدريجياً التجريد الكلّي. ولم أصل الى التجريد بفعل قطيعة فجائية مع "التشخيص" بل بنوع من الاستمرارية في وسائل التعبير، في أدوات الإحساس. ارسم مثلما احلم، لست مقيداً بأطر.

* قلت الحلم!

- الحلم أعظم دواء للإنسان والعمل الفني هو الذي ينقل الانسان من الواقع الى الحلم.

* لنختصر. عاش نقولا النمار والرعيل الذي ينتمي اليه معركة الحداثة في الخمسينات والستينات...

- ... والى اليوم، لا نزال نتخبط وسط هذه المعركة مع تلوينها في كل مرة بملامح زمنية خاصة.
* تشير هنا الى التيارات التي ظهرت بعد انتصار حركة "ما بعد الحداثة"؟

- لست ضد الكومبيوتر كوسيلة مثلاً، فأنا لا أنفي البتة انتشار وسائل جديدة عديدة في الزمن العلمي الذي نحيا فيه. لكني لا أنسى كذلك ان الوسيلة هي وسيلة لا أكثر، وسيلة في يد فنانها الذي يوظفها في خدمة أحلامه.

* ألم يلاحظ نقولا النمار ظاهرة الفنون الجديدة المتصاعدة راهناً في بيروت والعالم؟

- قلت لك أني لست ضد الكومبيوتر، وأنا أتابع ظاهرة "التجهيز/ الانستاليشن" التي تؤلف مع الصورة الفوتوغرافية و"فن الفيديو/ الفيديو آر" تيار الفنون الجديدة المتداولة في كثرة في السنوات الأخيرة في بيروت.

* إنما هناك إضافات كبيرة في المواد والأدوات الخاصة باللوحة...

- هذه الإضافات دائمة منذ النهضة، وتصب كلها في إعطاء الفنان أفضل الأدوات لانجاز عمله. فمادة الاكريليك مثلاً، اختزلت الوقت فأمسى الفنان غير محكوم بعناصر الزمن لمقاربة عمله. لكن لنعد الى ظاهرة التجهيز فهي تطرح بالنسبة إلينا مشكلة مادية متصلة او نابعة من المكان المخصص لها في حياتنا: البيت غير صالح لاستقبالها، والمتحف الخاص بها غير موجود، تبقى الحديثة وتعرفين ماذا في الحدائق عندنا!

* يقال ان هناك كذلك صعوبات أمام اللوحة التي لم يبق لها في العمارة الجديدة جدار تعلّق عليه.

- هذا كلام سريع عن ملامح العمارة الجديدة من زجاج وحديد، وقوامه انه لم يبق للجدار من وجود في هذه العمارة، مما يتضمن سقوط المكان الخاص باللوحة بعدما أضحت عمارة الزجاج والحديد مفتوحة على الفضاء الخارجي. وننسى ان هناك تقاطعاً بين المساحات الداخلية لا يمكن الاستغناء عنه ويؤلف الجدران التي ستظل تستقبل الأعمال الفنية.

* بالعودة الى ظاهرة الفنون الجديدة التي تبدو منفصلة عملياً عما عرفته بيروت منذ داود القرم. هل ثمة اليوم تياران فنيان في مدينة تبدو منقسمة مدينتين، واحدة تقليدية وأخرى جديدة؟

- ثمة دوماً صراعات جديدة في مدينة مثل بيروت على صلة متحركة بالمراكز الثقافية العالمية. والأمر جيد ومفيد شرط ان نستخلص منه ثراء ثقافياً لإنساننا ومجتمعنا. والحديث دائر وفيراً في هذه الأيام عن حوار الثقافات...

* ... وحروب الحضارات؟

- لسنا من اخترع الضياع. العالم كله أضاع رأسه.

* هل لا تزال دراسة الفنون تتسم بالرصانة والوعي اللذين كانا يرافقان دراسة الفنون قبل ربع قرن؟

- هناك نوع من الغموض لدى الذين يتعاطون التعليم الفني حالياً.

* تقول "غموض"؟

- معظم هؤلاء يتعامل مع نظريات يعجز عن "هضمها". يتبنونها من دون ان يتعمقوا فيها. وظاهرة تقليد الآخر وعدم ذكر المصدر منتشرة على نحو فاجر.

* ما هي الأسباب في نظرك التي تسبّبت بهذا التراجع؟ هل للحروب دور في ذلك؟

- للحروب أثر عميق في الفنان، انها تترك فيه أحاسيس غير أليفة ورؤى مأسوية كالتي تصنع الروائع الكبرى. تذكري لوحة "غيرينيكا" لبابلو بيكاسو.
إهمال الإنساني

* هل تعتبر ان التحولات في طبيعة الحياة الاجتماعية ووقوع الناس في السهولة والتسرّع هما وراء أزمة الفنون عندنا؟

- ثمة في اختصار تخلّف اجتماعي في مسألة الفنون نتيجة وقوعها في استهلاكية مفرطة وإهمالها كلياً القضايا الانسانية والحضارية. ألا تلاحظين ظهور هذا الكم الهائل من السوبر ماركت حتى بتنا نفقد المحلات الصغيرة حيث للإنسان دوره وحضوره وحرارته.

* عندما يزورك اليوم احدهم في محترفك، في منطقة بدارو، هل تلمس لديه الشغف الثقافي عينه الذي كان في عيون زائريك قبل ثلاثين عاماً؟

- عرفت زواراً من كل العيّنات الصالونية والثقافية في النصف القرن الأخير الذي شهد التحولات الجذرية في البنية الاجتماعية اللبنانية. ولا شك في ان لزوّار اليوم نظرة أليفة واعتادوا رؤية أعمالي وأعمال الآخرين في مدينة تشكو من تخمة حتى سوء الهضم في المعارض الفردية والجماعية. في زمن البدايات، أيام محترفي في حي مار نقولا، أي إثر عودتي من باريس، تعاطيت تصوير البورتريه وكنت الوحيد من الرعيل الجديد الذي يرسم البورتريه مما دفع بسيدات المجتمع الى زيارة محترفي ومن ثم الاهتمام كذلك برسومي من مناظر وسواها، فاقتناء بعضها بعد الإعجاب بها. يومذاك كنت أجد لذة في البراءة المضيئة في نظرات كل من زائرات محترفي. وقد أصادف اليوم مثل هذه النظرات لدى الزوار الحاليين، وان يكن الأمر نادراً.

* لِمَ معارضك المنفردة قليلة جداً؟

- للسبب الذي ذكرته لك. زواري يأتون الى محترفي فلم التعامل بعدئذ مع صالات العرض؟ كنت اؤثر عملياً ان يكون هناك اتصال مباشر مع من يرغب في اقتناء إحدى لوحاتي. لوحتي جزء مني ولا أحب ان يمتلكها من لا يحبها، وما كنت ارفضه خاصة ان تصبح لوحتي بعد إتمامي لها شيئاً كالسلعة في سوق، غرضاً تجارياً انزعجت كثيراً من كثرة دكاكين الفن.

* اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على دخول نقولا النمار ورفاقه المعترك الفني، حصلت تحولات كبرى في الواقع التشكيلي في لبنان، كان هناك مكتب للفنون في وزارة تربية وثمة اليوم وزارة ثقافة، إنما كذلك عدة معاهد للفنون الجميلة في جامعات عديدة، وعدة غاليريات خاصة، وعدة معارض جماعية، وعدة متاحف، من متحف سرسق، الى متحف جبران الى متحف راشانا في الهواء الطلق فمتحف ميشال بصبوص...

- جيّد، جيد، لكن الفنانين قلّة دوماً وبعض المتاحف التي تذكرين لا قيمة لها.