تيسير نظمي مبدع وكاتب إشكالي، تتبنى كتاباته رؤية "المهمّشين والمسحوقين"، كما أنه يحوز ثقافة أدبية وفكرية فريدة في اطلاعها وتمحيصها لمستجدات الحياة والفكر، وهو بين هذا وذاك يثير في طراز تفاعله مع الأوساط المحيطة صورة أقرب إلى بطل سيرفانتس
"الدون كيخوته" الذي أنفق عمره يقاتل طواحين الهواء، فاختلفت في تفسيره الرؤى والأقاويل كل حسب شروطه وموقعه وثقافته يرى كثيرون في تيسير نظمي "كائنا مهرجانيا"؛ فهم لا يكادون يرتادون مهرجانا، إلا ويفاجأون به حاضرا قبلهم، فيما يرى فيه آخرون "حالة كرنفالية" تشيع الفرح؛ بسبب من نقديته وسخريته العالية التي يوزعها أينما حل واتجه غير ان الجميع يتفقون أنه حالة إبداعية لافتة، سواء في كتاباته الإبداعية والصحفية أو آرائه النقدية والتي قد لا تروق الكثيرين بهذا القدر أو ذاك. أصدر نظمي مؤخرا مجموعته القصصية الخامسة " وليمة وحرير وعش عصافير"، بعد انقطاع عن الإصدار دام سنوات طويلة، كما انه يتهيأ لإصدار روايته الأولى "وقائع ليلة السحر" التي كتبها بوحي من زيارته إلى وادي رم برفقة مبدعين عرب وأجانب وأردنيين في رحلة نظمتها إدارة مهرجان جرش الصيف الماضي. الحقائق التقته وكان الحوار التالي حول مجموعته القصصية الجديدة
*هناك تفاوت في الأساليب السردية للمجموعة وبنائية قصصها، ففي الوقت الذي نجد أن معظمها قائم على التكثيف واستعارة لغة مقتصدة ضمن حدود التجريد كما في "فكرة وسكيران" أو "بيت الفراشة"، فان جزءا آخر يقوم على أسلوب شعري فتمتد الحالة في أكثر من نص كما في "شعرها الطويل"، وثمة صنف ثالث اتكأ في بنائيته على الواقعية الصرفة كما في قصة " أصابع منتصف الليل"... كيف تفسر ذلك؟
لو لم أكن أعرف أن لك تجربة سابقة في كتابة القصة، لقلت لك أن ملاحظاتك النقدية الدقيقة جداً، المطروحة بإخلاص شاعر، لا تأتي من كاتب قصة، لكنها أتت حقاً من ناقد موهوب.
أجتهد الآن معك كناقد لأقول أن السؤال لو طرح على كاتبه قصة لأحسنت القول بأن تجيب: " كلهم أولادي وبناتي و لا أعرف تماماً لماذا جاء هذا قصيراً وذلك طويلاً و تلك عصبية المزاج و آخر كسولاً " أما وأنا لست بتلك فأقول أن استجابتي الحسية والفكرية للموضوع اقتضت في كل مرة أسلوباً يتناسب ومقاسات الموضوع الذي أعالجه. الاستجابات الحرفية منها والشعرية- أنت الذي شجعتني كشاعر دون أي ادعاء مني- والطبقية حتى. ربما تسعفنا هنا أطروحة ت.س. إليوت عن المعادل الموضوعي فأقول لكل قصة و موضوع معادله الموضوعي بمعنى معادله الأسلوبي أيضاً. في "فكرة وسكيران وباب" المستوحاة من غرفة الرفيق حسين في إربد أيام كان جان دمو يتلطى في وسط البلد و لا يملك أجرة مبيت في فندق الليلة بدينار، جاءت القصة بنية وأسلوباً لتحمل إحساسي بالعام والخاص، بالأيدولوجي وبالوجودي أيضاً. هذه القصة التي وقع اختيار أستاذة الأدب الانجليزي ورئيسة القسم في جامعة فيلادلفيا الدكتورة والقاصة أمنية أمين فترجمتها و نشرتها في الجوردان تايمز، حملت قدرتي على تفكيك وإعادة ربط و دمج ما تم تفكيكه في سيطرة شبه تامة على المادة التي يصعب السيطرة عليها. لكن فنياً يمكن السيطرة والتحويل. السكيران، الليل، الموت، الحياة، الباب، تبدو كلها منفصلة عن بعضها البعض ظاهرياً. لكن الوحشة هي ما يجمع هذه الأشياء. الكل يحس بالعزلة والوحدة والمصائر الفردية التي انتهت بصديقنا جان دمو أن يموت في أستراليا كما تعلم وبآخر مثل عبد الأمير جرص في كندا، و كان الوطن وما يزال موجوداً. لكن الباب الخشبي يريد العودة للغابة، لكينونته الأولى كشجرة وأخشاب مرتبطة بالأرض و هكذا فقد الباب صفاته الأولى وما تحول إليه. أن تكتب عنه بمفرده كباب فلن يصدقك أحد أو يقرأ لك، تتحول إلى نسخة أخرى من كتابات ناتالي ساروت، ولكن السكيران والزوار الفقراء المحبين لأغاني فيروز كانوا غافلين عن الباب مما جعلني أشفق عليه و أشركه في القصة. وبالمناسبة، رغم أن القصة مركبة من خمسة أجزاء، لكن فقرة الباب وحدها أذهلت الدكتور صلاح القصب الذي راح يتحدث عنها فقط للوفد العراقي في عمان و من ثم في بغداد وقطر. وهو المختص بمسرح الصورة وأثق بذائقته وهو الأكاديمي من جامعة كاليفورنيا المشهورة بأقدم أشجار في التاريخ. بمعنى أن مشاهدات وثقافة القارئ و الكاتب تلعب دوراً في الأثر الفني لما سيقوله و يوحي به أي معادل موضوعي. وأية قصة تكتبها لابد أن تختزل ثقافتك و تجربتك، سواء في العمق والفلسفة أو في الأسلوب. هذه القصة تحديداً لا أدري لماذا لم يتطرق لها مثلاً الصديق عبد الستار ناصر وهو كاتب قصة وناقد أيضاً وأحد المبادرين لتكريمي أولاً في حفل توقيع الكتاب الخامس، مما يؤكد على أن الذائقة متباينة بين كاتب وآخر وكذلك الأسلوب.قصة" شعرها طويل حتى الفجر" وليدة ليلة حب حقيقية ولكن على الهاتف.تصادف يومذاك أنني كنت أعيد قراءة الكتاب المقدس وخاصة سفر التكوين. ومع أنني أحمّل شوارد الذهن ما تبقى من قراءتي لرواية حليم بركات" عودة الطائر إلى البحر" إلا أنني تجاوزت تلك الرواية بنحو ربع قرن على الأقل لأحمل في أسلوبها لغة تضاهي الشعرية في سفر التكوين إن لم أر أنها تفوقها واقعية. أسلوب الحب هو أسلوب في التكوين أيضاً لكن البعض ممن لا علاقة لهم بالكتاب المقدس لم يروا فيها غير الجنس و أنا مسرور لذلك، لأن الجنس أيضاً يحمل قداسة من نوع خاص ومع ذلك نخجل من الحديث عنه بتلك الشعرية التي هو ملهمها، أو هي ملهمة التكوين القصصي والأسلوب الشعري. وليتني أهديت تلك القصة لمن كانت الطرف الآخر. الواقعية الصرفة جاءت مع نجار، أي مع الطبقة العاملة و هي أيضا تم إساءة فهمها. الطبقة العاملة حياتها متقشفة ولا وقت لزوجة النجار لتسريح شعرها خاصة بعد فقدان زوجها أصابعه في المنجرة. المفارقات مأساوية لأن الشغيل لديه في ورشة الكهرباء هو صاحب العلاقة و الحالة نجمت عن مكالمة خطأ وصلته فكشفت عن توق لنساء بورجوازيات مترفات، لكنها انتهت نهاية إنسانية بوفاء النجار لزوجته وطبقته. و قديماً كان يعاب هذا الجفاف على أدب الدول الاشتراكية و الاتحاد السوفياتي، لكنني لم أكن جافاً إلى هذا الحد رغم كوني واقعياً نقدياً- كما يذهب إسماعيل فهد إسماعيل في كتابه عن القصة في الكويت. السخرية والمفارق تخفف بعض الشيء من جفاف و بؤس الواقع مهما كانت نشارة الخشب جافة.
* سخريتك التي تصبغ أجواء المجموعة، تستدعي في الذهن أسلوب كبار كتاب الأدب الساخر وفي ذهني التركي عزيز نيسين، هل كتابتك على هدي من هذه الخصيصة شكل آخر من الصدام أو الاحتجاج؟
أستدرك فأذكرك بموليير الذي تأثر به الأديب الراحل إميل حبيبي و سيرفانتز صاحب" دون كيخوتة" وكذلك عزيز نيسين، لكنني سأضيف إلى هؤلاء من بعد إذنك مارك توين أيضاً. هؤلاء جميعاً قرأت لهم.
أثروا بي لأنهم الوحيدون الذين كان بإمكانهم إضحاكي وأنا في أشد لحظات الحزن، أما على الصعيد الشخصي فقد كنت لا أضحك سوى من المفارقات المعيشية للصديق محمود الريماوي، رغم أن أدبه يستفزني ولا يضحكني ولعل في ذلك أيضاً مفارقة عجيبة. الصدام أو الاحتجاج لا أفكر بهما، السخرية لدي رد فعل.لا يمكن أن أسخر من إنسان متعوس مثلي. لكن عندما يظهر هذا المتعوس بثوب ليس ثوبه فإن الجميع سيضحك فما بالك بالكاتب شديد الوعي؟ بعض الكتاب لدينا يفتعلون السخرية، أسميت كتابات بعضهم سقاعة، أحياناً ترقى لسماجة مثل نكتة مسموعة منذ عشرين عاماً، لأن مصدرها غير عميق. السخرية إبداع وتتطلب كشف الزيف و المفارقة معاً. كما لا يمكن لكاتب مرفه أن يسخر إلا من نفسه. السخرية ثمنها غال جداً. بالنسبة لي أسخر من نفسي أحياناً ومن طيبتي فأنا فلاح لا يجيد الفلاحة ومدني لا يجيد التمدن ولا بحوزتي تكلفته. ماذا أفعل إذن. لا بد أن أسخر وأشرك الناس في هذه المكاشفات. فالناس لولا الضحك لانفجرت من هول ما يجري حولها.
* على النقيض من السخرية، ثمة فنتازية سوداء في كتابتك.. هل تخلق عالما آخر في مقابل العالم المعاش الرديء... هل ما يزال الأدب جزءا من منظومة تغيير العالم بعد أن تحول الكون إلى بارجة بفعل العسكرة ؟
دعنا نعود للفولكلور الشعبي مع كلمة " فنتازية" نحن الفلاحين اعتدنا أن نقول: فلان يتفنطز، بمعنى فيه من ادعاء البرجزة، أي الظهور بمظهر طبقة غير طبقته، وبالمثل لو كنت ابن مدينة أصيل وأدعي أنني فلاح، أيضاً هنا أنا أتفنطز. وإذا سمينا المصطلح الغربي"فنطزة" فليس لدي ما يبعث والحمد لله على هذه الفنطزة. الحمار لا يدعي أنه حصان وإلا تفنطز. ولو قلت أنها فنطزة بيضاء لأنكرت عليك وجود هذا في قصصي. وما دامت سوداء فهذا مقبول- لكنني لم أقصد أن أكون ممارساً لتلك الفنتازيا، ربما قصدت هنا بعض تأثري بما كانت تنشره مجلة الأدب في الاتحاد السوفايتي. فقد ترجمت ذات مرة قصة لأناتولي تاشنكو عن تلك المجلة التي كانت تعنى في السبعينيات بأدب الخيال العلمي. وهذا النوع من الأدب لفت انتباهي على ممكنات المستقبل. وأظن أن صنع الله إبراهيم مهتم بهذا النوع من الأدب. الخيال العلمي قد يغدو حقيقة، ونحن فوق هذا الكوكب نرتكب، خاصة الرأسمالية، جرائم بحق الإنسان والحيوان والطبيعة و قد ندمر هذا الكوكب بأيدينا، فما بالك بفقدان الغلاف الجوي أو الجاذبية لأي سبب ما ولو بعد ملايين السنين. هذه الاحتمالات قائمة وموجودة في قصة" سيدة الكون" كما هي موجودة وإن بشكل ساخر في روايتي الأولى،" وقائع ليلة السحر" أما مسألة الأدب و التغيير فهي من طموحات المد القومي والمد اليساري في أواسط القرن الماضي. بالنسبة لي كقاص أعيد هندسة الواقع بشكل جمالي وإنساني. أما أن ننتظر من كتاب أدب تغيير العالم فهذا صعب وإن كان جائزاً. الكتب التي غيرت العالم كانت إما علمية أو فلسفية وللأسف لم تكن أدبية. صحيح أن الفنون تهذب العالم وتؤنسنه ولكنها من النادر أن تغيره. سنسهم في تغيير الذائقة وتوسيع المدارك وتنشيط الضمير ودق ناقوس الخطر، لكننا لن نكون كارل ماركس ولا داروين أو آينشتاين وبالطبع لن نكون نوبل مخترع الديناميت. نحن نخترع الحب والثورات ونمهد لها وللتغيير و للمستقبل الذي نراه. ولكن ليس التغيير الذي تقصده. نغير اللغة ممكن، و تراكيب العبارات، ممكن، المعنى ممكن، لكن الواقع نفسه هو الذي يمكنه أن يغيرنا ولذلك الجأ للاحتماء بالعزلة، خشية أن يغيرني للأسوأ. وعملاً بنصيحة العجوز الفرنسي في مظاهرات الطلبة في باريس أواخر الستينيات الذي قال للبوليس: شباب العضلات المفتولة الذين فرقتموهم إلى بيوتهم كانوا يطمحون لتغيير العالم أما أنا فأطمح من بقاء لافتتي مرفوعة أن لا يغيرني العالم.
* إلى أي حد يمكن أن يشفى المبدع من رتابة الواقع، وجروح الحياة حين تستعاد على نحو إبداعي في الكتابة؟
سؤال في الصميم، دعك من الكتابة فهي علاج للمبدع كتحصيل حاصل. لكن في الحياة أدعو كل موهوب أن يكون جريئاً. أن يحاصر حصاره بالجنون وبالجنون، كما يذهب محمود درويش. الواقع موبوء وظالم و فاسد وتعسفي والآخرون في الشرق بكل تخلفهم و تهافتهم قد يصبحون جحيماً للمبدع بكل سطحيتهم وشح مواهبهم. نختلف جداً مع جان بول سارتر في الكثير مما جاء به ولكننا لا نقول عنه أنه كان عبثياً. ولا كان سطحياً. سارتر والوجوديون جاءوا رد فعل على مرحلة و واقع، ويجب أن ننظر إليهم بتاريخهم لكنهم دافعوا عن إنسانية الإنسان. في واقعنا العربي نطمح أن نعامل كما تعامل الحيوانات في أوروبا و كما تعامل الكلاب و القطط لدى الأرستقراطي أو لدى بريجيت باردو مثلاً. بالنسبة لي يكفيني لعلاج جنوني إما الكتابة التي تؤبد الحزن والسخرية و الألم معاً وإما الرقص مع من يفهمون معناه كشكل من أشكال التعبير الجسدي و الروحي، و ربما الصوفي كما رقصت آخر مرة في آخر مهرجان. الكتابة وحدها لا تكفي كي تتقي الجلطة أو السرطان.
* تناولت في مجموعتك حالات بشرية يكاد المرء لصدقها الفني أن يتعرف على شخوصها الحقيقيين، فيما أيضا كتبت عن البحر والفراشة والعصافير والذبابة والباب الوحيد وغير ذلك من الحالات "غير البشرية" ولكنها الأكثر إنسانية من بعض الأناس الذين عالجتهم.. هل صحيح انك تقدم "جردة حساب" بوجه العالم الواقعي الأصم، وأن أنسنة"الأشياء" في التقييم الأخير ملجأ من لا ملجئ له بين البشر؟
أنت أجبت ياصديقي، وما دام الأمر كذلك فلسوف أضيف لك هذه الحكاية الواقعية التي لم أكتبها بعد مثلما كتبت أيضاً عن "الغراب في محنته" فذات ليلة من الصمت المطبق على عزلتي سمعت قارض من القوارض في غرفة نومي. حددت مكان تواجده و تبين أنه لا طعام أو بقاياه في المكان. فأشفقت عليه، لذلك بدأت بالتحري عنه إن كان ثعباناً أو فأراً أو صرصاراً. فقط لأجل العناية به أو الإفراج عنه إن كان مزنوقاً. وعندما فشلت و هو أخلد للصمت بدأت محنتي لأنه إذا تصرف دون درايتي في وقت هو الذي يحدده قد يرتكب حماقة بحقي. قارنت بينه وبين رئيسي في العمل فوجدت الكائن أكثر رحمة من الإنسان، فصاحب العمل يقوم باستغلالي و هو يعلم، ويقوم دائما بإرتكاب حماقات في الوقت الذي يشاء، ولا يؤنس عزلتي بل يدمرها. وصاحب العمل مؤذ ليس لي فقط بل لزوجته التي تعشق الفن وهو يعشق المال و رأس المال. أين الفأر الحقيقي في الموضوع؟