حوار: خليل صويلح
(سوريا)

عاد جواد الأسدي من «مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي» بجائزة التمثيل للثنائي فايز قزق ونضال سيجري عن دوريهما في «حمام بغدادي». حاورناه بحثاً عن المسرح العراقي... بين ديكتاتورية الأمس وأصوليات اليوم
تختلف مسرحية جواد الأسدي الأخيرة «حمّام بغدادي» عن تجاربه المشهدية السابقة. كتب نصها إثر عودته من بغداد عام 2003. كان المسرحي العراقي يزور مدينته بعد غياب قسري استمر ربع قرن. وإذا به يجد نفسه نهباً لمشاعر متناقضة أمام هول المشهد في ظل الاحتلال الأميركي. ولعلّ الشرارة الإبداعية تكمن في حالة التمزق التي عاشها، الناتجة من تفاوت بين الصورة النوستالجية لمدينة بعيدة غادرها أول الشباب، وبين الواقع الفج الذي واجهه نصب عينيه. هكذا انكبّ على كتابة النص مستدعياً شخصيتين من الهامش العراقي إلى حمّام شعبي. فهو كما يقول «أصلح مكان لاغتسال الروح العراقية مما لحق بها من ندوب وأدران». ويضيف: “أحسست بأن هناك ضرورة للتعبير عن حالات الوجع والتمزّق والانهيارات. فالصورة التي كانت تجول في ذهني تبخّرت فجأة أمام معطيات واقع قاس لا يحتمل المجاز».

هكذا ذهب الأسدي إلى منطقة تراجيدية جديدة، ارتمى في جحيم الواقع العراقي، دخل في جلد الشخصية العراقية واشتبك مع ما يعتمل في داخلها من أحزان. كان قصده أن يرسم مشهداً بانورامياً، تاريخياً، من خلال قراءة شاملة لتحولات تلك الشخصية عبر الحقبات والعهود، واندحارها التدريجي في مواجهة ثقافة الخوف وعسف الأنظمة المتعاقبة على حضارة بلاد الرافدين. لكن يخطئ من يتوقع من العمل نبرة واقعية، الأسدي ليس مخرجاً «تسجيلياً». بنى عالمه الدرامي هنا من موقع عبثي وسريالي. يوضح جواد: «كان هاجسي تعرية بنية الشخصية العراقية بأقصى طاقات العنف، وباختبار أدوات وأسئلة تكشف حيرتها إزاء وضع يصعب توصيفه». هكذا هو جواد الأسدي، بنى صرحه المشهدي منذ أعماله الأولى خارج العراق على فلسفة «مسرح القسوة»، بالمعنى الذي أعطاه للمصطلح الفرنسي أنطونان آرتو.

في «حمّام بغدادي» (إنتاج المسرح القومي في دمشق)، يتكئ الأسدي على اختبار أدوات الممثل، في مقاربة إشكالية لأسئلة النص. هذه الأسئلة التي لا تكتمل إلا أثناء البروفة. يقول «إن عملي الأساسي يقوم على اشتغالات الممثل واجتهاداته الشخصية في تفكيك خيوط النص ومنحنياته التعبيرية». ألهذا السبب حصد «حمّام بغدادي» جائزة أحسن ممثل أخيراً في «مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي»، لا جائزة الإخراج؟ «أنا سعيد بذهاب الجائزة إلى الممثلين فايز قزق ونضال سيجري، لقد بذلا جهداً كبيراً في مناوشة خصوصية اللهجة العراقية وبنية الشخصية». ويستدرك: «لكن هذا لا يعني أن جهدي كان منصبّاً على عمل الممثل فقط. سعيت في العرض إلى صنع فضاء جمالي يمزج بإحكام بين أداء الممثل ومناطق الارتقاء الممكنة إلى لغة المجاز، عن طريق إعادة بناء المساحة جمالياً وبصرياً».

لكن مسرحك متقشف عموماً! ينتفض الأسدي: «التقشف لا يعني أن يفقد العرض امتيازه الجمالي وقدراته البصرية المؤثرة». ويفسر هذا الوضع بعمله مع مؤسسات فقيرة إنتاجياً ولها همومها المختلفة. «في المسرح الفلسطيني الذي عملت فيه فترة طويلة، كان الرهان السينوغرافي مرفوضاً بسبب طبيعة المؤسسة ومشاغلها الثقافية. ما قادني إلى تحويل الطاقة الجمالية إلى أداء الممثل. للأسف، لم أجد الجهة الإنتاجية التي تتواطأ معي لتأسيس جماليات سينوغرافية مغايرة. وهذه محنة عربية، بالمقارنة مع الحياة المسرحية في البلدان الأخرى».

ويستدرك فجأة: «أرفض تمجيد السينوغرافيا وحدها كمركز ثقل للعرض، وأرى أن معظم العروض العربية التي وجدت ملاذها الجمالي في البذخ السينوغرافي... هي عروض جوفاء وتفتقر إلى البحث الجدي في معنى الفرجة المسرحية. ومن المؤسف أن يتواطأ بعض النقاد في تمجيد هذه العروض، فأنا أراها بدائية، ولا تقف على أرض صلبة».

هل في إمكاننا القول بوجود مسرح عراقي اليوم؟ «لم تتغير الصورة، إنما ازدادت سواداً. كان المسرح العراقي يعيش في ظل كابوس نظام استبدادي، قاد كتاباً ومخرجين وممثلين إلى المحاكم. وفي مرحلة الاحتلال، وجد المسرحي نفسه أمام معضلات أخرى، تتمثل في تعدد الجهات التي تسعى إلى مصادرة فكرة الفرجة، بضغط أصوليات وأحزاب ومذاهب لديها قوائمها في ما يجوز وما لا يجوز في الفن. إنه زمن المنع والمحرّمات».

ويرى الأسدي أنه لم يجر أي تحوّل في بنية المشهد المسرحي العراقي، سواء لجهة الكتابة التي تحاول استيعاب الظروف الجديدة، أم لجهة الطاقة الجمالية. فالظروف موجّهة ضد أية إمكان للنهوض بعمل مسرحي مهم. ويتساءل بمرارة «كيف تنمو بذرة المسرح في هذه الصحراء الجرداء؟ لا مسارح في بغداد. أُغلق بعضها وهدم بعضها الآخر. كما كثرت الفتاوى التي تحرّم المسرح نفسه. وتحوّلت بعض المسارح إلى مقار للأحزاب والطوائف».
كيف ينهض المسرح العراقي إذاً؟ يجيب: «إن عودة المسرح العراقي إلى سابق عهده، تبدو مستحيلة في هذه الظروف. كان الجمهور البغدادي في سبعينيات القرن المنصرم، يزحف إلى المسرح لحضور عرض «النخلة والجيران» لقاسم محمد وغائب طعمة فرمان. هذا المشهد لن يتكرر في المنظور القريب، في غياب مجتمع مدني يدافع عن الثقافة. السلطة اليوم للتعصب والعنف المنهجي الذي طاول كل مظاهر الحياة. هذه هدية العالم الحرّ للعراق!».

يبدو جواد الأسدي في ترحاله الدائم، أشبه بغجري المسرح العربي. وحين نقول له ذلك، لا يقاوم الفكرة: «نعم أنا غجري. غجري بمعنى الاقتلاع من الأمكنة والتيه من صحراء عربية إلى أخرى، ومن حلم إلى كارثة. فكل الأمكنة التي عبرتها لم تمنحني شهوة العرض الذي أرغب بتحقيقه».

الأخبار
عدد السبت ١٤ تشرين الأول