حوار: عناية جابر

* في معظم قصائدك نجد أن ثمة "أمومة" ما، هل لذلك علاقة بكونك أنثى تكتب؟

مصطلح الأمومة فضفاض وخاضع للتحوّل بشكل دائم. لكن، لعلك تقصدين بالأمومة النظرة الحانية والمتسامحة نحو الكائنات والعالم، هذه النظرة "الأنثوية" موجودة إلى حدّ ما في نصوصي، وهي تسير جنباً إلى جنب وبطريقة لا أستوعبها مع الرفض والسخط. هل لذلك علاقة بكوني أنثى؟ علينا أولاً أن نتفق على مفهوم الأنوثة أو الذكورة اليوم. تلاحظ عزّة شرارة بيضون في كتابها المهم "الرجولة وتغيّر أحوال النساء" أن الرجل أسبغ على المرأة كل ما هو بدائي في داخله، أي كل ما هو طفلي، نزوي، لاعقلاني، ناقص. وفي هذا المعنى "الذكوري" فإن الشعر نفسه، من حيث كونه الأكثر التصاقاً بالبدائي فينا، هو أنثى أيضاً. هكذا يكون استخدامك للفظة "أمومة" في مكانه، لأن حب المرأة الأصلي والوحيد كما تلاحظ ألفريده يلينيك هو حبّها لولدها، أي أن الأمومة هي التجسيد الأقصى للحب عند المرأة. وبما أن "اللغة هي الذاكرة المجبرة على الحب" بحسب الشاعر الفرنسي جان ميشال مولبوا، واعذريني على كثرة الاستشهادات، فإن هذه اللغة تصبح لدى المرأة "الذاكرة المجبرة على الأمومة".

* بالحديث عن الذاكرة، ثمة تكرار لهذه اللفظة وكذا لصورة الأبواب في شعرك، لمَ تربطين بين هاتين التيمتين؟ هل تحاولين الإقفال على ماضٍ ما أو تواجهين مشكلة في استعادته؟

صحيح. ثمة تكرار وربط بين الكلمتين اللتين تبدوان كنقاط اتكاء للقصيدة في كل مرة، ربما لكونهما تختصران فكرة الزمن بالنسبة إليّ. فما الحاضر سوى باب أُقفل، أو هو في طور الإقفال على الذاكرة، أي الماضي. وهذا الإقفال يتمّ في المعنيين: الانقضاء وعدم إمكان الاستعادة (من هنا جاء عنوان الديوان "بوّاب الذاكرة الفظّ"، لأن حارس الذاكرة القاسي هو من يمنع استعادة الماضي، أو يعيق أي محاولة لعرقلة مرور الوقت). كما أن الباب هو الحيّز الفاصل بين داخل وخارج، واقرني ما شئتِ من الكلمات بهذا الفصل: داخل الأنا وخارجها، داخل الانتماء وخارجه... إلخ، أي أن الباب هو الحدّ بين المفاهيم المختلفة، إنه محيط الأشياء الذي يخرجها من الاندماج والذوبان. تعجبني فكرة الباب لأنه خط تماس يسمح بالاستقلالية والتواصل في آن واحد.

* بين "صلاة الغائب" و"بوّاب الذاكرة الفظّ" غابت زينب وحضرت أخرى، ما الفرق بين الاثنتين؟

أظنني أكثر هدوءاً وأقلّ مباشرة في الكتاب الثاني، من دون أن يعني ذلك التخلّي عن "المشاكسة". لم يكن ممكناً لصوتي أن يكون خفيضاً في الكتاب الأول لأنه جاء بمثابة صرخة ولادة. أما الآن، بعدما ظهّرتُ ملامحي الخاصة، فقد "استكنت" قليلاً وصار الفصل بين حنجرتي وصراخ الأخريات  اللواتي تلبسنني طويلاً ضرورياً. "صلاة الغائب" جعلني أُفهَم أحياناً بطريقة خاطئة، فأنا لم أكن "نسوية" بالمعنى الصدامي للكلمة فيه (رغم أنه يحق لأي امرأة أن تكون كذلك)، بل أردت فحسب التخلّص من الأخريات والخروج على العباءة السوداء الهائلة التي تجمعهن. المشكلة أن تكرار كلمة "حقوق المرأة"، وهذا "الطحن" اللغوي الفارغ والرهيب للمصطلحات، جعلا الحديث عن الموضوع يقع دائماً في إطار "الكليشيه". في الأحوال كلها، لا يمكن للشعر أن يكون أيديولوجياً وحمّال قضايا. لا يمكن للشعر أن يكون "عتّالاً".

*"القمر أول النفق" قصيدة طويلة كُتبت أثناء الحرب الأخيرة، لكنها من دون أسماء، ولولا عبارة "يا ضاحيتنا" لما أمكننا أن نعرف ذلك؟

الحرب الأخيرة غيّرت معالم الأمكنة وأسقطت أسماء الشوارع والأحياء. لقد مزجت هذه الأسماء جميعها تحت اسم عام واحد هو ساحة القتال. وقصيدة "القمر أول النفق" الطويلة هي استجابة شعرية بالضرورة لهذا الواقع، لذا غابت عنها شواهد الأمكنة، وحضر نداء "يا ضاحيتنا" المرّ والعقيم، المتكرر عند كل مفصل. بدأتُ هذه القصيدة تحت القصف الإسرائيلي، في ليلة لم يكن النوم فيها وارداً، ثم رحت أضيف إليها تدريجاً في محاولة مني لإعادة تشكيل الخريطة من جديد واستيعاب الكمّ الهائل من الدمار. الدمار النفسي بالدرجة الأولى الذي عبّرت عنه بالقول: "سنحتاج مصحّات كثيرة/ لرفع هذا الركام كله". وتلاحظين ألا حدود بين الأنا والآخر، بين الداخل والخارج، في هذه القصيدة، لأن الحرب تقيم بين الأفراد روابط غريبة وغير مفهومة عرّابها الخوف، كما تفتح الفيزياء على البيولوجيا، الرصاص على اللحم الحيّ. هكذا تتداعى القصيدة وتتداعى حتى تصل إلى لحظة خواء مطلقة: "لقد رحل السكّان/ وتركوا عينيّ مضاءتين". اللحظة التي يعبّر فيها الشعر عن عجزه الكامل.

*فصلت القصائد القصيرة ذات النبرة الساخرة في ملحق، لماذا؟

وجدت أن هذه القصائد تنتمي إلى سلالة واحدة، وأن نشرها متفرّقة داخل الديوان سيشتتها. لكن هذا الفصل ليس تصنيفياً بالكامل، فالقصائد الأخرى لا تخلو من السخرية أيضاً، لكنها سخرية بنيوية، من كبد النص.

ثمة تخلٍّ ما نلمسه تحت كلماتك. تكتبين كأنك على عجلة للذهاب، إلى أين؟ هل ثمة مكان ما بالمعنى الشعري تطمحين إلى أن تصلي إليه؟
لنقل ثمة هرب دائم نحو الأمام، أو تجاوز للذات وقفز على حدودها السابقة، لأنه لا يمكن لشاعر أن يحسّ بالراحة ويركن إلى يقين ما، ثم يحتفظ بعد ذلك بصفة "شاعر". هذا الحراك المستمرّ هو السطح الذي يغلي للقلق الوجودي، لزئبقية الشعر الذي يشبه جحيماً بلا قعر أو جنة من دون سلالم. لا أعلم، قد أكون طامحة فعلاً للوصول إلى المكان الذي تحدّثتِ عنه، لكن ما هو هذا المكان وأين يوجد؟ على الأرجح أن هذا المكان هو حالة قصوى لا يمكن المرء أن يصل إليها من دون أن يُهلك نفسه. وبما أن الوصول متعذّر، فنحن نواصل خداع أنفسنا ونطلي عجزنا بالكلمات، أو نوزّع بيوتنا في زوايا العالم الأربع، كما يقول أونغاريتي.
لا أبحث في الدواوين عن استعراض العضلات الشعرية، بل عن القصيدة التي تدفعني إلى الإيمان ببرّيّتها، إلى التقاط تيّار من العاطفة الصادقة والعنيفة يجري تحت كلماتها، رغم كونها منخفضة اللهجة وبسيطة. غالباً ما أبحث عن بوح لا يبتعد كثيراً عن الشفتين.

*بعد تجربة مجلة "نقد" أعلنتم عن تأسيس جريدة أسبوعية للشعر تحمل اسم "الغاوون"... سؤالي هنا: لمَ الجريدة؟

"نقد" مستمرّة طبعاً، لكن مشروع "نقد" مشروع منهجي يقوم على إعادة قراءة التجربة الشعرية العربية من خلال تخصيص عدد لتجربة كلّ شاعر، إضافة إلى قيام هذا المشروع على مراكمة نقدية ربما تساهم، مستقبلاً، في تشكيل تصوّر عن المكان الذي وصلت إليه التجربة الشعرية العربية، خصوصاً أن "نقد" تولي الشعراء الشباب المساحة الأكبر للاضطلاع بهذه المهمة الوعرة. مشروع الجريدة هو مشروع مكمّل للمجلة، لكن أكثر دينامية. المجلة تحمل مشروعاً كما قلت، أما الجريدة فليس لديها مشروع سوى الشعر بحدّ ذاته. لـ"الغاوون" فكرة بالتأكيد، قوامها المجاورة بين حياة الشاعر ونصّه، في وصف هذه الحياة نصاً آخر. إنها جريدة للشعراء في وصفهم بشراً لديهم أفراحهم وأحزانهم ومشاكلهم وعالمهم الاستثنائي.

*ومتى ستنطلق "الغاوون"؟

مطلع كانون الأول المقبل كما نتمنى. إنها مسألة غاية في التعقيد، خصوصاً أنها جريدة للشعر، أي لن يكون من حقها أن تشبه أحداً سواء في الماكيت أو في الإخراج أو في الرؤية... لكن الحماسة لا تنقصنا، والجميع يعمل ويضيف أفكاراً، وأرجو أن تسمحي لي هنا بتوجيه التحية إلى فريق الجريدة المكوّن من الشعراء الأصدقاء: غسان جواد، فيديل سبيتي، رامي الأمين، محمد بركات، علي زراقط.

"السفير"
30/ 10/ 2007