حاورته: صباح زوين

بعد صدور مجموعته "لمريض هو الأمل " كان هذا اللقاء الشامل مع الشاعر اللبناني عباس بيضون . يتحدث بيضون عن تجربته على مدار إصداراته السابقة والأخيرة، كما يسجل. ببلاغة خاصة. شتى الموضوعات ولا يرى غضاضة في أن يعترف بأن قصائد الشعراء. وهو منهم. لا تختلف كثيرا عن الكولاج !

* ثمة فوارق بين قصائد المجموعة لغة ومناخا.

* طبعا هناك فوارق في اللغة وفي المناخ بين القصائد الأولى التي حملت عنوان "ضد نصيحة رامبو " وبين القصائد التي تلتها والسبب بسيط وواضح فهذه القصائد كتبت على مدى ثلاثة عشر عاما وهي عبارة عن تجارب شعرية على هامش تجارب ظهرت في حينها في مجموعات مطبوعة. هذا الكتاب يحوي ما أكاد أعتبره قصائد الاقتصاد، خمسون قصيدة قصيرة، والجامع بينها ليس سوى قصر القصائد. لكنه ليس جامعا كافيا أنا آمل ان تجد القصائد سبيلها الى الحوار والاتحاد من تلقاء ذاتها.

*ماذا تعني بالاتحاد؟

* ليس الاتحاد بالمعنى المباشر والبسيط للطمة، فالكتاب، أي كتاب يحمل شيئا من الوحدة، هذه الوحدة التي تنفك في حال تعددت التجارب، على الأقل ظاهريا. لذا اعتبر أن هذا الكتاب أمام امتحان فعلي، وهو أن تجد القصائد سبيلها. أظن أن أي شاعر بعد عدد من التجارب لابد أن يجد ما هو وراء الكتاب، ما هو وراء النص.

* ألا فستطيع القول إنها قصائد هامشية، كانت منسية ومكدسة أكثر منها عملا بحد ذاته ؟

* هناك أمران، الأمر الأول هو أن هذه القصائد كتبت، لا أقول في هامش تجارب رئيسية في شعري ولكني أقول أنها كانت نوعا من شعر غير علني. إذن ليست هامشية، ليست مسودات أو محاولات غير ناضجة، إنها عبارة عن قصائد سائبة، مغلقة وكتبت دون أن تتحول الى قصيا طويل، دون أن تؤسس كتابا. من جهة أخرى قصائد " نقوش " هي عبارة عن نص كامل . أيضا ما أود أن ألح عليه هو أن نعطي أحيانا للنص شيئا من الحرية، حرية أن يؤلف في النصوص المتفرقة كتابا. هذا امتحان قد يصح وقد لا يصح.

* لو أن السؤال قد يبدو مستنفدا، لكن من أي خلفية شعرية أتيت الى الشعر؟

* هذا السؤال طالما طرح علي وطالما استفضت في الإجابة عليه حتى وجدتني أحيانا أشعر بأني بت استمريء السؤال وأتوسع في الجواب الى حد يقرب من خط الاختراع إذا جاز التعبير. كل ما في الأمر هو أنني،"حصيلة " ولا أقول وليد، روافد متضاربة ومتباينة لا أستطيع أن أعينها تماما. ان لغتي هي لغة جلدي وهذا المنحى الوجداني والجواني للغة هدرت علي من أسماء وعبارات لا يمكنني أن أنسبها الى أحد. يعني نشأت في بيت مثقف، يتعاطى الأدب على نحو تقليدي. كان أبي ملما بالتاريخ العربي وكان يرويه بلغته التي سمعتها منذ أبصرت النور. سمعت التاريخ الإسلامي وكأنه حدث البارحة.. إذن هذه اللغة لم تكن من التراث بل من جلدي الشخصي. وقرأت شعراء وناثرين وأشدد على الناثرين وأظن أن دين الجاحظ علي مثلا هو أكثر من دين المتنبي، كذلك دين الأغاني والمؤرخين العرب. قرأت هذه الكتب في الماضي لأتسلى ولم أقرأها على أنها تراث بل كأنها كتابات واهنة. قرأت بطبيعة الحال شعراء محدثين منهم أحمد شوقي وسعيد عقل وبدوي الجبل وتغنيت بهم ولا أزال أتغني. كذلك قرأت شعراء الستينات، لكنه لم يكن تراثا.

* بعيدا عن التراث، ما هو تأثير شعر الستينات عليك ؟

* أظن أنني أستطيع أن أتميز في هذا التأثير كلما ابتعدت عن هذه الفترة، إذ لا أحس أن نصوص هذه الفترة تشكل جلدي، إنها تشكل نوعا من مثالات شعرية بعيدا عن أن تكون مصدرا لكتاباتي، خصوصا القصيدة النثرية، بينما قصيدة الخمسينات مثلا خليل حاوي وأحمد عبدا لمعطي حجازي والسياب افتتنت بهم، افتتنت "بنهر الرماد" الذي حاولت أن أحاكيه.. مثلا كتاب عبدالمعطي حجازي الأول "مدينة بلا قلب " لامس وترا في ولا يزال، أولئك تركوا في تأثيرا بالغا ما لم تفعله قصيدة النثر. أظن أن للماغوط مكانة خاصة بين هؤلاء (شعراء النثر)، ولا أستطيع أن أتكلم على تأثير مماثل لأدونيس مثلا. قصائد السياب مازالت بالنسبة لي تتحول الى رسالة . أقرأ "غريب على الخليج " في الأعماق مثلا.

* قيل في فترة من الفترات انك تأثرت بوتسوس .

* وتسوس هو أحد معلمي الأساسيين وهذا ما قلته أكثر من مرة. سنة 1975 م كنت في فرنسا وكنت منقطعا عن الشعر، وبعد "صور" (التي كتبتها سنة 1974 والتي شعرت إنها لم تعد لغتي، إذ مع الحرب أضحت هذه اللغة زائفة، تكاد تكون أكذوبة شخصية حيث لم أعد أملك مخيلة بهذا المدى) كان وتسوس بالنسبة لي ملهما وحافزا. إذن مع الحرب تفتتت المدينة والتاريخ وكان علي أن أبحث عن لغة صغيرة وقريبة وتفصيلية ومادية. كأن كان وتسومن اقتراحا شعريا لي بعد أن انقطعت عن الكتابة لمدة أربع سنوات.

*هذا يعفي أن الشعر لغة عالمية متواصلة.

* ليس عندي حساسية تجاه شعراء أجانب، شعراء لا يكتبون بلغتي وأجد سهولة فائقة للتواصل معهم لا أجدها مع شعراء عرب، فالشعر العربي فيه شيء من الاختراع، من الاجتراح، وليس دائما عضويا وفيه الكثير من الادعاء، ليس الشعر العربي دائما حقيقيا وحميميا وداخليا.

* كيف قوى الى زمن الحنين، وقت الكآبة ؟

* سؤال أكبر من أن أجيب عليه. الزمن هو أحد أقانيم مخيلتنا، لغتنا، وجودنا، انه عنصر أساسي في كتابتنا، هو عنصر دائم ومقيم في القصيدة على خلاف الرواية حيث يدخل أيضا عنصر المكان. أشعر دائماً أن الزمن فائض عنا، إننا لا نعيش العمر، بل نحيا في هامش زمني قليل، كأننا نحيا في أعمار غيرنا، نعطي عمرا نحن أعجز من أن نكون قادرين على استهلاكه واستعماله. العمر خرافتنا.

* هل يستطيع الشعر أن يضيفه شيئا الى هذا الفائض ؟

* الشعر كالحب، هما موجودان كمطلب لا غير، كطاقة لا أحتملها ولا أستطيع أن أحققها، الشعر هو جزء من هذه الحياة الضيقة.

*ما هي كمية النرجسية عندك ؟

* أشمئز من النرجسية لأنها بلاهة خالصة، يجب أن يكون الإنسان أحمق ليفكر أنه يحتل حيزا رئيسيا في هذه الحياة. لكن هناك نرجسية مضادة تتمثل في النسك، في الحياد.

* لكن الشاعر يحس دائما أنه محور العالم.

* أشعر دائما بأنني لست سوى متلق، عمود لاسلكي، وسيط وأقل من وسيط. لست سوى متلق لإشارات، لبرقيات، ولا أحسب الشاعر، أيا كان الشاعر، فوق هذا. وهناك شيء أسوأ في داخلي، اذ لا أفكر أن ادنا موجودة وأفضل للشعر أن يحلك هذا الإحساس السفلي للعالم.

*لكنك تكتب لتكون مختلفا، أليس كذلك ؟

* مسألة الاختلاف لا أفهمها. والاختلاف ليس مثالا. انه مرعب ويجعلك وحيدا وحاولت كل حياتي أن أنتصر عليه.

*صورك الشعرية مازالت على حيويتها وتألقها.

* لا أعرف من أين تأتي صورنا. إننا نملك افتتانا بنوع من الصور، من التكوينات، من التشكيلات. الصورة ليست كناية ولا رمزا، إنها نوع من الحضور.

*عنوان المجموعة يضايق القارىء، ولا يعرف لماذا: وبعد القراءة يفهم انه جزء من قصيدة، انه مبتور وكأنك قصدت اللعب باللغة. من ناحية أخرى يكثر كلامك على الأمل المفقود.

* والكتابة ليست لعبا. في اللعب قدر كبير من الحركة، من الفضفضة، من الخفة، وأكثر الشعراء لعبا هم السورياليون لذلك لا أستطيع أن أنسب العنوان الى لعب.
أما الأمل فهو موجود مستقل عن نتائجه ومن ناحية أخرى الأمل هو داء الوجود، ليس الأمل حقيقة تاريخية، ليس له أي مشروعية وجود في هذا المعنى لأنه موجود فقط إذا قسناه بنتائجه. هو أحد مفاصل حياتنا الأساسية. هذا ما كنت أعنيه إذن، ويمكنني قلب العنوان الأسميه " المريض بالأمل " أي أن المريض الذي نحمله في داخلنا هو الأمل.

*كأن "ضد نصيحة رامبو" قصيدة يتيمة وأنت غير مقتنع بها.

* إنها تمت بطريقة أو بأخرى الى قصيدة طويلة قد تؤسس فيها بعد مجموعة مستقلة.. أما من حيث الاقتناع قد أكون مقتنعا وقد لا أكون. في أحيان كثيرة لا أقتنع بكل شعري. أصدرت هذا الكتاب أن ثمة أصدقاء أسسوا دار نشر صغيرة وأحبوا أن ينشروا لي. لم أكن مهتما بالنشر في الفترة الأخيرة لا أحتك كثيرا بالنشر، ببساطة ´أنني لا أجد أر نشر كتاب يقوم بما يجب أن يقوم به، وهو الحوار مع القارىء. أشعر أن القارىء ميت وغير موجود وأن نشر كتاب لا يعني شيئا سوى إثبات نص مخطوط على ورقة مطبوعة.

* لماذا تعتبر القارىء ميتا غير موجود:

* القارىء العربي محير. أشك في وجوده أصلا. لم نكون ثقافة حديثة على الإطلاق. لم نكون مكتبة. لم نكون سياقات ثقافية فعلية، لم نكون تاريخا جديا حتى الآن في الشعر أو القصة. الكتاب موجودون بالصدفة، كد القراء. ليس هناك من كتاب في المعنى التاريخي، هناك فلتات بحسب. لم نؤسس كلاسيكية.

*إذن نكتب خارج التاريخ وخارج الحداثة ؟

* كلنا نكتب في الخارج. وما تسمينا الداخل ليس سوق هراء، سوق خطابات فقيرة ومدقعة وتكرارية. صلتنا بالغرب ليست جدية بل وهمية. ماذا نعرف مثلا عن القصيدة الحديثة في الغرب ؟ ماذا نعرف عن الفن التشكيلي، عن الموسيقى الراهنة ؟ مجرد لافتات فقه. ومازلنا نعيش في عصر رامبو ولوتريامون الخ...

*والآن، هل هناك مسار متكامل ومتصاعد في تجربتك الشعرية ؟

* أتذكر ما قاله لي الشاعر المصري كريم عبدالسلام لدى قراءته مختاراتي الشعرية التي صدرت في مصر، قال انه رأى ان ليس هناك من مسار متصاعد في هذه القصائد بقدر ما هناك من خطوط متوازية.

* معنى خطوط متوازية ؟

* أي أن الكتاب مبني من تجارب مختلفة، فكل كتاب هو تجربة خاصة وأسلوب خاص بحد ذاته. كلما تصفحنا كتابا رأينا أنه يستنفد أسلوبا وأن الكتاب الذي يلين يبدأ من أسلوب آخر. هناك تعدد أساليب، لنقل تعدد نبرات، تعدد لهجات، تعدد جمل. ليس ثمة جملة شعرية واحدة. هناك أكثر من جملة، أعتقد أن هذا صحيح الى حد ما بمعنى أن " صور" تختلف بدون شك عن "جرعات كبيرة " وهذا يختلف عن "خلاء هذا القدح " وهذا يختلف عن "نقد الألم " الذي يختلف على نحو ما عن أشقاء ندمنا" الخ... هذا يعني أننا أمام نص على قدر من الاختلاف والتقطعات. هل هي تقطعات حقا أم أنه بناء للأسلوب عبر مداخل متعددة ؟

* ما قصدك بتقطعات ؟

* التقطع هو شكل بين الانقطاع وبين... أظن أن هذا النص الشعري الطويل ليس نصا متسلسلا، وبين النص والنص قدر من الفجوة من الاختلاف.

* هل، تعتقد أن هذه الفجوة ضرورية ؟

* لا أعتقد شيئا. هذا هو مزاجي. احترم كثيرا شعراء وفنانين بداوا من جملة واحدة واستمروا عليها. يعجبني جياكو ميتي مثلا، حتى في أعماله المتشابهة الى حد غريب. يعجبني شعراء بداوا من جملة واحدة في موضوع محصور ومحدود واستمروا على ذلك. يعجبني هؤلاء لكن هذا ليس مزاجي، مزاج رجل مثلي. يعني أين أكتب في الواقع بعد انتظار طويل للإيقاع، أو لنقل للجملة وهذه الجملة تنتسج على نص طويل عادة.

* إذن الجملة هي القي تأتي بالنص.

* الجملة تأتي بالنص ونعني بالجملة كل ما تحمله من شكل وإيقاع وصدى.

*هل تفكر بالإيقاع قبل الكتابة ؟

* لا أفكر بشيء، الشكل يأتيني على شكل ايقاع. لما أتذكر "خلاء هذا القدح " ثمة ايقاع داخله أشبه بالصرير، بمرور ورق خشن على بلاط.

* إذن تعتقد أن النص، القصيدة ء تأتي من صوت داخلي كما أعتقد أنا.

* ليس أنا وأنت. اظن أن بعض الشعراء والنقاد يعرفون أن الشعر يأتي من صوت في درجة أساسية. هذا هو بديهي، أول. هذا الصوت له ملمس وهو الذي يسوق نصه ويدفعه أكثر فأكثر باتجاه درجة من التكامل. فأحسب أحيانا أن النصوص في بداياتها هي تلمس وتحسس للعملية وهذا التلمس الأعمى تقريبا، سرعان ما يفضي شيئا فشيئا الى إفصاح أكبر، الى وعي أكبر. لذلك أجد أن النصوص في نهاياتها أكثر تمالكا لنفسها.

* تعني نصوصك.

* فيما عدا المجموعة الأخيرة، كل كتبي هي نص واحد ضمنا حتى لو تقطع هذا النص شكلا. كل كتاب أكتبه غالبا في فترة واحدة ويعمل شبه يومي وأعمل على ايقاع واحد وعلى جملة واحدة وعلى نص واحد.

* تقول إن القصيدة تبدأ بالتحسس وتفقهي بالوعي، أي من خلال التلمس تعي الموضوع الذي أنت بصدده

* تماما.

* انك تكتب إذن بطريقة حدسية وليست ذهنية.

* هذا سؤال صعب. أولا لا أقيس على كتاباتي. ما أكتبه هو أنا، هو مزاجي. أنا لا أستطيع أن أتصور الشعر خاليا من المعنى. لا أريد أن أدخل في هذا الجدل بين أنصار المعنى وأنصار الإيقاع. أنا أظن أننا لا نكتب شيئا لا يعني شيئا. انه أمر فني بقدر ما هو أخلاقي. عنده أكتب، ثمة ما أريد أن أقوله، لكن ثمة ما أريده هو التلمس. عندما أكتب قصيدة " حجرات "، هذه القصيدة عبارة عن مقاربة لسيرة ذاتية، أي أنها التزمت بموضوع، لم تكن خلوا من موضوع. واعتقد أن جملة قصائدي هي كذلك حتى التي لا يبدو منها على هذا النحو. إذن هناك قصد ما، ثمة نية واضحة، دون أن تتحول النية الى موضوع. فالأخير يبقى خفيا. عندما أفكر بقصيدة حب أبدأ بنية الحب لكن القصيدة لا تلتزم بهذه النية. القصيدة تقود هذا الحب على أشكال وإيقاعات لا تبدو تماما أشكال وإيقاعات حب. النية تعني الخطوة الأول، الذريعة.

* هل فستطيع أن فقول إن النية قد تكون انطباعا ما؟

* قد تكون ادعاء. مثلا قد يكون في خاطري أن أكتب قصيدة حب. لكنه موضوع المواضيع، وبالنهاية كل موضوع هو موضوع المواضيع. كل موضوع هو مجرد تقاطعات، تداخلات. إذن الموضوع ليس شيئا حقيقيا ومحددا. الموضوع لا يعاد إنتاجه داخل هذه التشابكات. لا يعاد تشكيله إذا شئت. رغم ذلك، شئنا أم أبينا، ثمة ما لا يمكن اعتباره عاما في القصيدة، لأن هذه تشكل كمكان، كحيز، القصائد التي لا أحبها هي التي تتشكل بدون مكان والتي أحسها كسديم. بهذا المعنى تتشكل القصيدة كشكل، ولا أفهم في الشكل سوى هذا.

* لم يعد الحب في عصرنا مديحا للآخر ولا غزلا ساذجا، إنما عبارة عن جسدين تراجيديين حيث الموت واللغة الخ.

* الحب دائما يستدعي سواه. أفكر دائما بريلكه عندما تحدث عن الحب. مراثي دوينو هي قصائد حب بمعنى من المعاني. أي حيث نجد تجربة إنسانية متكاملة، إنها منطقة تراجيدية، منطقة لاستدراج كل الموضوعات الأخرى التي تتداخل وتتعقد على عكس القداس الذين كانوا يكتبون المواضيع الكبرى لكن كل واحد على حدة كل ما نريده هو أن نصل الى الموضوع الواحد إذا شئت مع اني لا أحب كلمة الواحد. ارتاب من كل اللغة الصوفية التي لا تقنعني كثيرا. إن ما أريد أن أقوله أن ثمة آلية أخرى حيث ينتج هذا الموضوع الذي أحب أن أسميه تفاعل المواضيع، يبدأ في الواقع من شتات، من عناصر متفارقة، متضاربة متشابهة، هذه العناصر في اصطدامها بعضها البعض، في سطوتها على بعضها البعض. إنها في انكسارها تشكل شيئا.

* لا تستطيع أن تكتب شعرا بدون تجربة حية.

* كي نحول المعاش الى لغة يجب أن تحصل معجزة. الصلة بين التجربة المعاشة وبين القصيدة هي صلة لا يمكن سبرها. من ناحية أخرى، اللغة بحد ذاتها تجربة وهذا لما تتداخل مع لغة الشاعر الحياتية، لغة الشعر دائما تلميحية، أي إنها تطمع لأن تطابق المعاش، فالشعر يذهب بعيدا في مجاله ويحقق اللغة والمعاش على نحو لم يكن يحلم به الشاعر، لأنه لا يحقق أبدا ما يريد أن يقوله.

* سر من أسرار اللغة أنها دائما تسبقنا الى حيث لا ندري، توصلنا الى أفق أو آفاق لم فكن نعرفها ولم تكن في الحسبان، تبتكر معانيها، إنها غريبة !

* ليست غريبة، نحن غريبون عن أنفسنا. هذا كل شيء، عندما يذهب كلامنا بعيدا عنا، فلأن أنفسنا بعيدة عنا. لذا لا نعود نستطيع، أن نملك كلامنا ولا أنفسنا. وعلم النفس يقول إن الإنسان لا يملك نفسه ويصل الى حد الانقطاع عنها، فكما فكر لاكان، اللغة شيء قريب من اللاوعي.

* إذن، إذا تكلمنا مع عالم نفس يفسر اللغة سيكولوجيا، واذا تكلمنا مع متصوف يفسرها ميتافيزيقيا، أنت كيفه تفسرها؟

* أنا لا أفسر شيئا، الشاعر لا يتكلم بلسانه هو، واذا تكلم كما يقال بلسانه هو، فيفعل ذلك من أزمنة متفارقة وبلغة لا يفهمها. فاللغة تاريخ لا يستطيع الشاعر أن يحيط به. وهي كآلية الحلم. فنحن لا نحلم على خاطرنا وحسب إرادتنا.

* الكلام عن اللغة يعيدني دائما الى أجواء ميتافيزيقية، وهذا يجذبني كثيرا ويجعلني استغرب باستمرار. كيف لا تستغرب أنت ؟

* أنا لا أتكلم كقطب، ولا كوسيط. لا أرى الشاعر قطبا ولا أراه مكان توحيد.

* طبعا، لأن الشاعر صورة للعالم المتعدد والمتضاد، والميتافيزيق لا أريد بها التوحيد إنما ذلك العالم الآخر الذي نبحث عنه.

* الشاعر يتلقى الإشارات وعلينا تقبل قدرنا كنساك. الشاعر مأساوي وليس مركز العالم وليس نبيا كما ظن العرب في مطلع الحداثة وليس بطلا مضادا ورافضا ومتمردا ومخربا وهائجا والخ .. الخ .. الخ ...

* إذن هو وسيط بين الحياة واللغة فحسب.

* قد يتلقى إشارات من أمكنة متباعدة ولا يعرف ما هي هذه الأمكنة وقد تكون ما وراء العالم.

* كنت تتكلم عن الترجمات النوبية، ومنها برس، وتأثيرها على الشعر العربي.

* سان جون بيرس نموذج لترجمات صارت أصولا، صارت مصادر ومراجع للشعر العربي. ترجمة برس هي الأكثر مفارقة بين هذه الترجمات لأن ترجمة شاعر فرنسي كبيرس لا يستطيع أن يقرأه جيدا سوى فرنسيين متبحرين بالفرنسية بسبب بلاغة اللغة . هذا الشاعر الفرنسي جدا لم يتحول الى مصدر عربي فحسب بل الى مثير لقصيدة عربية فصيحة، لغة اذا شئت تعود الى تراثنا . فالترجمة كانت فصيحة وناضجة لدرجة أنها شكلت نموذجا لقصيدة عربية ترجع الى الأصول كما في شاعرية برس ما يدهش ويشجع على اتباع هذا النموذج . تكتب قصيدة برس وكأنها مدينة ثقافية كاملة فنجد لديه شعرا وجغرافيا وكيمياء وفلسفة وسحرا وتاريخا، نجد كل هذا في نص واحد. كل هذا يحوله برس الى صور شعرية مكان مصدرها لغويا واسطوريا وتاريخيا وفلوكلوريا وعلميا فهذا ما جعل نص برس يتقاطع والطموح العربي لايجاد فلسفة قومية ومشروعا مستقبليا.

 

* وكيف قوى الى التجربة العربية من هذه الزاوية ؟ * اراها على نحو متفارق، هذه التجربة لا نستطيع أن ننفيها، أن نضطهدها ولا أن نعترض عليها، انها تجربة مشروعة تماما لأنها حصلت وحدثت بهذا الزخم وهذه القوة وهذا التطلب . بدون شك . ثمة أساس في ثقافتنا يعطي للشعر حق الكلام العام، حق أن يكون ضميرا، حق أن يكون رسالة في أحيان ما كان مجرد هراء، مجرد ترداد وترجيع قاموس أي أن الشاعر لا يفعل شيئا في بعض أشعاره سوى أن يدل بقدرته اللغوية أو بمعرفته القاموسية، أو قدرته على النسج على ايقاعات قرآنية وشعرية قديمة . لكن التطلب العربي هو الذي وضع هذه القصيدة في مثل هذه الصدارة وهذه المكانة . ولا أستطيع أن أعتبر أن هذا مجرد خطأ، أريد أن أقول أن هذا يعبر عن حاجة . هل انتهت هذه الحاجة ؟ لا أعرف . هل ثمة حاجة أخرى الى جانبها؟ كل ما أعرفه أني لم أشعر بهذه الحاجة، هذا التطلب . كنت ابن ثقافة أخرى. كنت ماركسيا وأقرأ ماركس وانغلز ولوفافر ولوكاش وتروتسكي وألتوسير وعاو طبعا.. كنت أحسب نفسي منظرا وقتها.

* هل كنت تكتب شعواوقتها؟

* كنت واحدا من جيلي، كنا يساريين ولا نقبل الماركسية التقليدية، يعني بسبب تأثراتنا الليبرالية، الأوروربية، لم نقبل موقف الماركسية في الأدب . كان برسعي ببساطة أن أكون ماركسيا ونسويا وسورياليا وفوضويا في وقت واحد. بمعنى آخر كنت وريث تلفيق ثقافي كبير، وريث نتف من هنا وهناك، ووريث ثقافات لم أعاصرها وصلت الى كنهايات ونتائج . لست الوحيد هكذا، وأظن أن مثقف العالم الثالث هو هذا.

* ماذا تبقى من كل هذا؟

* لم يختلف الأمر كثيرا، صرت ماركسيا أقل بكثير لكن حصل هذا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي . في أي حال لم أكن يوما ماركسيا سوفييتيا، كنت ماركسيا معارضا.

* هل تعتقد أفه في عصرنا هذا، عصرها يسمى بما بعد الحداثة، مازالت ثمة حقيقة قائمة ؟

* لا . أنا شخصيا يعذبني كثيرا .. أن أرى.. مررت بالحادات كثيرة والالحاد الأخير كان الماركسية وبعده ضاعت أي فكرة عن الحقيقة، تاريخية كانت أم مطلقة . لكن أظن في قرارتي أننا لا نستطيع أن نعيش الا بالأمل، أمل الحقيقة . لا البحث عنها. أي أن نعتقد أن هناك احتمالا للحقيقة .

*هل تعتقد أن القصيدة هي هذا الاحتمال ؟

* لا أعتقد بشيء الآن . كان ها يدغر، اذا عدنا اليه، تحدث عن احتمال الحقيقة الموجود في الشعر. أنا لا أظن ذلك كما أني لا احترم شعرا لا يملك هذا الاحتمال، لا يملك هذا التطلب . الشعر بالنسبة لي ليس لعبا على الاطلاق . الكلام الشعري غير قابل للاختبار. أجده جميلا، أجده شعرا بمعنى أنه قابل لأن يكون حقيقيا. أنه موجود فقط لأننا نحس بحجمه وبكتلته، لا لأننا نفسره أو نتاوله .

* لكنه اختبارك الذاتي، الخاص .

* عندما أقرأ شعرا جميلا، ونادرا ما أقرأ شعرا جميلا حتى في الشعر العالمي ببساطة لأن الشعر أمر مرضي. تطلبنا في الشعر يتزايد لدرجة أننا لا نعود نستمتع الا بالقليل منه .

* هذا هو احساسنا جميعا. انها مغامرقنا.

* انها مغامرة مع العدم حيث لا نفعل شيئا سوى أن نخوض أكثر في هذا العدم بحيث إن ما نتحسسه وما نتلمسه يذوب أكثر فأكثر ويختفي.

* هل شعرت يوما بمأزق بينك وبين الكتابة ؟

* في كل قصيدة جديدة أبدأ من جديد، أكتب من جديد، أحاول أن أتعلم .

*هذا صحيح . اننا نتعلم مع كل قصيدة .

* لا. لا . عندما أبدأ كل قصيدة، تكون المحاولة دائما ركيكة جدا وسخيفة جدا وأبقى فترة طويلة أسمع في رأسي الايقاع . وحين أبدأ كأنني لم أسمع جيدا بعد، لم أع تماما ما سمعته، فأبدأ الكتابة بركاكة مطلقة ويبدو لي كأنني نسيت الشعر، على كل أنا في خوف دائم من أن يأتي وقت لا أعرف كيف أكتب فيه، وأظن أن هذا الوقت سأعرفه في حينا.

* البعض، أو الكثيرون، يصلون الى هذه المرحلة ويكملون !

* أتمنى أن أملك الخجل الكافي لكيلا أكتب بعد ذلك .

* وعودة الى الركاكة، كم من الوقت تستمر قبل أن تجد قصيدتك ؟

* قد تستمر شهورا وقد أتوقف عن الكتابة أصلا. وبعد الانتظار قد تأتي الجملة بدون انتباه فأبدأ بتعب كبير، بصعوبة، ببطء، أي أنني أكتب على فترات وليس فترة واحدة . أنا مثلا أضحك اذا أخبرتك كيف أكتب . أنا بحاجة الى أن أقرأ ساعتين أو ثلاثا قبل أن أكتب . اني بحاجة الى خمس ساعات لأكتب .

* لتكتب قصيدة ؟

* لا، لأكتب أحيانا أربعة أسطر.

* الا تشوش القراءة قبل كتابة القصيدة مباشرة، الصوت الداخلي ؟

* لا . أحيانا هذه القراءة تفعل الاعاجيب . مرة مثلا كنت أقرأ ألف ليلة وليلة قبل كتابة "خلاء هذا القدح " ودخلت قصة من ذلك الكتاب في ديواني. هذا شيء رائع دخلت تلك المخيلة في كتابي. المهم يا صباح لا أعرف ما هو صوتي. هذا مفهوم أدخله النقاد والشعراء الحديثون وأظن أنه هراء. اذ ليس لدينا أصوات خاصة ولا نفوس خاصة ولا لغة خاصة .

* لا أكلمك انطلاقا من مفاهيم أولئك . أكلمك انطلاقا من تجربتي الخاصة التي هي بديهية قبل أن تكون حديثة اذ لا أقبل بالحداثة لما تصير شعارا قائما . في أي حال لا أستطيع أن أوافقك .

* لا توافقي. بالنسبة لي، عندما ينتج الشاعر عملا مهما وكبيرا فهو يملك شيئا كثيفا وعميقا ويجد مكانا خاصة له، أما الأصوات فلا تهمني، القصيدة مكان بمعنى أنك تستدرجين صوتك من الأصوات الأخرى، لغتك من اللغات الأخرى، مخيلتك من المخيلات الأخرق . تسمعين الأصوات في كل مكان، وعندما تستطيعين أن تحسمي هذه الأصوات في مكان واحد، من يسأل اذا كان هذا صوتك أو أصوات غيرك .

* قد نتفاهم هنا، اذا كنت متسامحة معك، أي اذا تعمدت تلخيص كلامك في هذه الجملة "بالنهاية يأتي الصوت الخاص من الصوت الجماعي وذلك بحسب مهارة الشاعر" !

* إذا شئت . بالنسبة لي، دائما فكرت أن ما نسميه الذات ليس الا التيار، لا أستطيع أن أفهم أن هناك معطى أسمه ذاتي أو صوتي أنا، أو لغتي. وأعتقد أن هذا الكلام هو فعلا بعد _ حداثي. على الأقل ما بعد الحديثين يفهمون هذه النقطة . الحديثون هم الذين تفنوا دائما بأشخاصهم ولفتهم وهم الذين انتجوا هذه النماذج المخيفة عن شخصيات وانتجوا بطولات خاصة ..

*انك إذن تشجع الشعراء على كز بعضهم بعضا كما يحدث في بعض الأحيان .

* بالتأكيد لا أقصد هذا النوع من الشعر والشعراء.

*وكانك إذن تشجع على كتابة قصيدة واحدة جماعية، مع اني لما أقرؤك أكون قد قرأت كباس بيضون وليس سواه !

* على الأقل هناك توقيعي ! (ضحك عباس ) أحيانا أكتب قصيدة لا أملك فيها كلمة أي أني أستعير كل شيء. بمعنى أني أقرأ كلمة، أسمعها واستعيرها، أستعير كل شيء. لكنها تشبه مزاجي وذوقي.. أي أن أحدا غيري لم يجمع هذه الكلمة الى جانب الأخرى. أنا الذي فعلت هذا دون سواي، قد أسميه كولاج كما تقولين . على كل لا تختلف قصائدنا كثيرا عن هذا الكولاج .

* لست مقتنعة في منحى من مناحي كلامك !

* هذا الكلام آخذه على عاتقي. وأقول كما قال بورخيس أن ثمة كتابا واحدا، ثمة لغة مختلطة ومشتركة . لا أدعي لنفسي أي خصوصية أكبر من ذلك . أنا فقط من ينسق، من ينضد، من يجمع وأحيانا من يعطي بؤرة ومكانا لذلك كله .

* في النهاية، ودون أن تدري، عدت الى كلامي حيث قلت لك أن اللغة تاتي من المكان الواحد، من اللغة الواحدة والقصيدة ليست الا اعادة البحث عن كل هذا وأنا لا أكتبها انما هي التي تكتبني إذ لست سوى أداة !

* بالنسبة للعالم كثير.

* طبعا ! إذ الكثرة تعني الوحدة المشتتة القي يحاول الشاعر_ الأداة جمح شملها داخل تعددية التداخلات والتقاطعات، انه تنظيري، لا تنظير الحداثة أو ما بعدها!

*الوحدة تخيفني، بما فيها الوحدة العربية . أما فيما تبقى لن نختلف، لسنا مختلفين أنا فقط اختلف مع الذين حولوا القصيدة العربية الى درس صوفي، وطلبوا تكرار التعريف، أي تحويل كل بيت شعر الى بيت صوفي .

عن مجلة (نزوى)