منذر مصري
(سوريا)

علي الجنديما أن سمع صوتي ، حتى صاح : أين أنت ! وعدتني مراراً أن تأتي.. ألم نتفق، آخر مرة، أن نذهب للبحر صباح يوم الجمعة !
أول ما حطَّ علي الجندي في اللاذقية، كنت حريصاً أن ألزمه ما أمكنني، كنت أحد الأصدقاء، الاثنين أو الثلاثة، الذين حضروا عرسه، ولازمته حتى صرت صديقاً لكل أفراد عائلة ابتسام زوجته، وخاصة حماته التي كانت تبزُّ علي في حفظها لأشعار المتنبي وبدوي الجبل و... عمر أبو ريشة ! لكن،نت ذاك الذي نقل زوجته إلى مشفى التوليد العسكري عندما ولدت ابنته ( نفور ). لكن ، علي ، ( أبو لهب ! ) لم يذهب إلى المشفى إلاّ في اليوم التالي للولادة، وعندما جاء لم يمكث طويلاً، مدارياً وهنه العاطفي، ربما، بعدم سماحهم بالتدخين في الغرفة !
ثم راحت تتباعد المناسبات التي أزوره بها، حتى بعد سكنه بيتاً خاصاً بعائلته الجديدة الصغيرة، كل مرةٍ أرجئ زيارتي للغد أو الأسبوع القادم، فتمضي الشهور وربما السنين.
أما هو، فلا يعمد للقائك أبداً، إذا صادفته، في مقهى، مقهى السويس على الأرجح، أو بصحبة غازي أبو عقل صديقه القديم، فإنك تستطيع أن تجابه نظراته المستفسرة ب: ( لماذا لا تتصل أنت ؟ تعرف رقم هاتفي!) لكنك تشعر مباوتكذب، ك تماطل وتكذب، فعلي، أنت تعرف والجميع يعرفون، لا يتصل ولا يقول، تعال..أحتاجك في أمر كذا، أو زرني هذا المساء هناك شيء أريد أن.. . ليس علي الجندي من يتصل ويقول شيئاً كهذا لأحد.
علي الجندي ليحيادي:جب، ليس فقط يستحق، بل يسر ويفرح ويمتع أن تلقاه وتجلس معه في أي مكان وفي أي وقت، لوحده أو بصحبة من كان يكن، أليس هو من وُصِفَ بأمير السهرات وقمر الموائد، صاحب الأقاصيص عن الجميع، نزار قباني، أي فتى رقيق الإهاب كان، أدونيس، الآن تراه الآن لا تراه، يوسف خال الذي جعل من بيته مضافة للشعراء، شوقي بغدادي وملاحقته عصافير المطابخ أيام الشباب، وعمه أحمد الجندي وأقاصيصه العجيبة، أسأله: ( من ترى في هذه الأيام ؟ ) يجيبك بصوت حيادي: ( لا أحد ).
كان اللقاء الذي سأحاول نقل ما أمكنني من مجرياته لكم، في قبوي، أي في ما أسميه مرسمي، الذي أبطلت الرسم منذ أن انتقلت إليه ! أُعجب علي بالمكان، لم يدقق كثيراً بالأشياء، اللوحات أو الكتب.. في السابق كان أحرص على مثل هذا، أحبَّ الجو العام للقبو.( ماذا تحب أن تسمع ؟) سألته، أجابني: ( اسمعني أنت ما تحب ) وجدت أنه لا بأس باسطوانة لعازف البيانو الكوبي روبن كونزاليس بإيقاعاته اللاتينية الراقصة، أنصت إليها قليلاً ثم لم يعرها انتباهه، وكذلك نحن. كنت أعلم أن أي برنامج للقاء مع علي سيكون لا نفع منه، سيطوح بكل ما تخطط له، عليك أنت أن تميل بالدفة إلى حيث يهب، ولا فرق في أن تتبعه بفانوس أو بدون فانوس، لأنك ستضيع حتماً.

أدرت آلة التسجيل، وبدأت معه الحوار هكذا:

* أنا:أتذكر، علي، أني قلت لك مرة، إن قصيدتك ( الجنون ) التي نشرت عام 1991 في مجلة اللوتس، هي واحدة من أحب قصائدك إلي. قدمت له المجلة مفتوحة على صفحة القصيدة، فراح يقرأ.

علي: / لنسترق السمع
إن الفراغ أحاديث الميتين
و أوجههم لا ترى
لكنهم يسمعون
أضاعوا علينا هدوء أماسينا
بانخطافاتهم بيننا واشتراكهم
في الحديث وبعض الشراب
يأكلون لماماً
منتهكين المائدة
ويغنون همساً
مخافة أن يوصفوا بالجنون
يعبون من خمرةٍ نافذة
ليحترسوا من جهات الكلام
فأمس ومستقبل الصمت
من خامةٍ واحدة .../

* أنا : قصيدة جميلة ولكنها غريبة عن شعرك .

علي: غريبة حقاً وأحبها.

* أنا: إنها عن الموتى الذين يضيِّعون علينا هدوء أماسينا بانخطافاتهم بيننا، وينتهكون موائدنا رغم أنهم لا يأكلون إلا لماماً، ويغنون همساً مخافة أن يوصفوا بالجنون. ولكن إذا فهمتُ لماذا جئتَ بالجنون هنا، فأنا أستغرب دفعك بقصيدة عن الموتى بعد عدة سطور من هذا المقطع إلى:

علي: /.. وجن الهواء
وصار الخلاء
بلا هيبة تحت وكف الجنون
فقلنا الجنون
الجنون
الجنون الجنون .../
وكذلك النهاية:
/ جذور الجنون
جنون... الجنون
... الجنون !! /

علي: الجنون إحدى حالاتي الشعرية. أجاب ببساطة

* أنا:علي.. من البداية ما الذي جعلك تكتب الشعر ؟

علي: لا أعرف ولم أكن أريد أن أعرف، كنت أخربش على الورق وأحب ما أخربشه، ثم كنت أقرأه على الأصدقاء، فإذ بي مجنون بالشعر..

* أنا:هل جاء هذا بتأثير محيطك ؟ هل كان للآخرين دور في وضعك على هذا الطريق ودفعك به، للحد الذي وجدت أنه لم يكن باستطاعتك العودة عنه ؟

علي: قطعاً لا، لم يكن للآخرين أي دور، أبداً، كنت أستيقظ وأبدأ الخربشة، وقبل النوم كنت أخربش قليلاً، لم يكن لأحد علاقة بما أفعله، هذه الخربشات صارت قصائد.

* أغلب الشعراء يُعرفون بقصيدة ما، ليست بالضرورة أهم أو أجمل قصائدهم، لوركا يقول أن قصيدته ( كنت أحسبها عذراء فإذ بها ذات بعل ) هكذا ترجمت، كان الناس يوقفونه في الشارع ويسألونه عنها، هل هناك قصيدة كهذه في تجربتك، قصيدة ( الحمى الترابية ) مثلاً، هل يعني لك شيئاً أن أذكرك أنا أو نزيه أبو عفش أو ممدوح عدوان أو سهيل إبراهيم أو عبد القادر حصني أو عبد النبي تلاوي بمطلعها الذي أحفظه غيباً من ثلاثين سنة:
/ساهر وحدي
على مائدة الإيقاع أستجدي
من الصمت قصيدة
طاعن في الوهم.../

علي: لا.. أرفض أن أُعرف من خلال قصيدة واحدة، لا يوجد قصيدة تختصرني، قصائدي تتنوع وتختلف كثيراً، أجرب دائماً، أصرخ منادياً نفسي.. كل مرة كأنه أول مرة، كما لا منفعة لي في أن يذكرني بعض ممن ذكرتهم بهذه القصيدة أو ذلك البيت من الشعر، وربما العكس، أفضل لو ينسوني، كتبت ( الحمى الترابية ) كيفما جاءت، غير متأثرٍ بأحد، وأثارت ضجة كنت آخر من يتوقعها.

* ولكن هل بدأت الشعر بتصور خاص، في طريقة الكتابة أو في الموضوع أو المضمون، هل كنت تشعر بأنك صوت خاص ؟

علي: صحيح .. هذا ما دفعني أصلاً للكتابة وبكثافة، منذ عمر السادسة عشر أو السابعة عشر بدأت الكتابة وبشكل متواصل، غير مبالٍ بشيء أو بإنسان، كان ديدني أن أقول شيئاً لم يقله أحد، كنت مؤرقاً بأن لا آخذ شيئاً من أحد، ربما كان هذا نوع من التوهم أو عفو الخاطر.

* أنا:إذن لم يكن لديك وجهة نظر خاصة محددة، بل فقط شعور بالاختلاف، رغبة بالاختلاف؟

علي: أهم شيء أحسسته، هو أني كنت أحب نفسي عندما أكتب ما أكتب، وأقرأ ما أكتب، أو عندما لا أكتب ولا أفعل شيئاً بالمقابل أيضاً.

* أنا:علي.. ما الذي كنت تعول عليه بكونك تريد أن تكتب وتصير شاعراً، أي غاية أو إيمان كان لديك، وهل مازال ؟

علي: لم أكن أخطط لشيء، كنت لا أريد سوى أن أكون حراً، أكتب بحرية وأغني بحرية، متلهياً عن الدروس والواجبات والآخرين، كان إيماني أني أكتب لأني أحب، ولأني أعيش، أو لأني أي شيء يخطر على بالك، فإذ بي أجد نفسي على الطريق الذي مشيتُ عليه بعد ذاك طوال حياتي. كان يخطر على بالي أحياناً أن أكون صحافياً أو ممثلاً، ولكني كنت أعرف أن كل ما أريده هو كتابة الشعر، كانت حياتي مكرسة له، وقد حصل لي مرةً أن ذهبت لأجرب التمثيل، و نتيجة هذه التجربة كانت أني كتبت قصيدة.

* أنا:عن البداية أيضاً، كيف عُرف شعرك، هل بدأت بنشر قصائدك في المجلات والصحف أو بقراءته في مناسبات عامة، أو ظهرت مباشرة في كتابك الأول ؟

علي: لم أفعل سوى قراءته على أصدقائي، حتى بعد أن عرف الكثيرون أني آخذ الكتابة على محمل الجد لم أرسل للنشر شيئاً، ثم قليلاً قليلاً رحت أتسرب إلى بيروت.

* أنا:تسللت إلى بيروت !

علي: لا.. تسربت إلى بيروت، أجمل.. هناك التقيت ببعض الأصحاب الشعراء، الذين نشروا لي أول قصيدة ( شكراً يا وطني ! ) وهي غير موجودة في كل كتبي كقصائد كثيرة، أما ديواني الأول ( الراية المنكسة ) الذي لا أحبه رغم أني أعرف أن الكثيرين يحبونه حتى الآن، لا أقول نشر غصباً عني، بل بشيءٍ من الغصب.

* أنا:تعلم أني واحدٌ منهم. قلت وأنا أقدمه له، وهو الكتاب الوحيد الذي بقي لدي من كتبه، بعد أن أعطيته، بناءً على طلبه كل مجموعاته الشعرية التي كانت متوفرة عندي، وبعضها ما كان نادراً حقاً. وذلك عندا راح يجمع كل أعماله استعداداً لطبعها. فراح يقرأ.

علي:
/ هزِّي بجذعك هزِّي
يا نخلةً في الفيافي
وعربدي واستفزِّي
نار الهوى والقوافي./

* أنا:ما هي حقيقة علاقتك بالشعراء اللبنانيين والعرب الذين يعتبرون رواداً والذين كانوا مثلك في بيروت، فأسمك يذكر في رسائلهم العديد من المرات، وكأنك دخيلٌ عليهم، أو، حتى، بشيءٍ من الغيرة، هكذا شعرت، ربما لأنك كنت سورياً ؟

علي: لم يكن هناك سبباً للغيرة، بالنسبة لي. ولم يكونوا لبنانيين فقط، بل كان هناك خليط من كل العرب، عدا عن أن يوسف الخال، شيخهم، كان سورياً، وفؤاد رفقة أيضاً وأدونيس سوري سوري، صداقتي الكاملة كانت مع خليل الحاوي، كنت أحبه وأحترمه كشاعر وكإنسان، وكان يبادلني هذا الشعور، كان يقول: علي شاعر. لم يكن ينقص صداقتنا سوى الموت، في السنين الأخيرة تخبطت حياته.

* أنا: علي.. قلت مرةً أن هناك قصيدتان أثرتا بك، هما قصيدة ( اليعازر ) لخليل الحاوي و ( هذا هو اسمي ) لأدونيس، هل تذكر ذلك ؟

علي: لا أذكر أني قلت هذا عن قصيدة أدونيس، ربما. ولكن قصيدة (اليعازر ) مازالت تؤثر بي للآن، كان خليل الحاوي قادراً على خلق كونٍ من الأصدقاء، أما أدونيس فقد كان خبيثاً في تهربه من الجميع، كنت تجده في لقاءات خميس مجلة شعر، يتحدث ويقرأ وكل شيء، وبعد ذلك تبحث عنه ولا تلقاه، لكنه شاعر، ويحق له كلَّ شيء، حتى الكذب.

* أنا: ذكرت أنك كنت تحضر خميس مجلة شعر، هل نشرت فيها، وهل كنت تشعر أنك واحدٌ من شعرائها ؟

علي: قصائد مجموعتي ( في البدء كان الصمت ) نشرت كلها في المجلة، والجميع كانوا أصدقائي ولكني لم أكن أشعر بأني واحدٌ منهم، كانوا رغم ظهورهم بمظهر الديمقراطيين والمتفلشين يمارسون سيطرةً وتشنجاً تجاه شعرهم وأفكارهم، مع ذلك أحببتهم واحترمتهم جميعاً.

* أنا: كان هناك حوارٌ شعري لحدٍ ما بين تجربتك وتجربة الخال وأدونيس والحاوي، ولكن ماذا عن أسماء كأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ؟

علي: لم تختلف علاقتي بهما عن علاقاتي بالآخرين، كنت أقيم مع الجميع علاقات إنسانية وحياتية، لم يكن هناك تحزبات على هذا الشكل بينهم. وكان الحوار قائماً بين الجميع.

* أنا: وماذا عن جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق الصايغ ؟

علي: جبرا كان يكتب في كل شيء، أما توفيق فقد كان صديقاُ حميماً، كان النموذج الذي كنت أمتلئ به شعراً، مثله مثل يوسف الخال، ولكن توفيق بضحكته، لو سمعتها لما نسيتها في حياتك، كان يخلق عالماً كاملاً، كان توفيق كبيراً، كبيراً في كل شيء، وذا ثقافة تزيد عن ثقافة الجميع بدون استثناء، ولم تكن ثقافته غربية فقط، بل عربية أيضاً، في ( معلقة توفيق الصايغ ) قام بلعب عظيم في البناء واللغة، وكتابه عن جبران لا مثيل له في النقد الحديث، لا ليس له أي علاقة بكل ما أتهمت به مجلته (حوار)، كان بريئاً من كل التهم، شعرت بأنه أفلت من أيدينا، لكني لم أشعر بأنه مات، لأنه حقاً شاعر، والشعراء الشعراء لا يموتون.

* أنا: في ( الراية المنكسة ) قصائد ومقاطع نثرية، لكن هذا النوع كاد يختفي تماماً من تجربتك ليحل بدلاً عنه قصائد طويلة غنائية، واسمح لي، فجائعية، ما سبب هذا برأيك ؟

علي: هذا صحيح، نعم أنا شاعر فجائعي، وعليك أنت أن تعرف السبب.

* أنا: يقول ممدوح عدوان في بداية مقدمته لأعمالك الكاملة، قرأتها منشورة في مجلة ولم أر الكتاب بعد، بأنك في عاصفة شبابك كتبت ما يشبه كتابة العجائز وهم يودعون شهواتهم، مستشهداً بمقطعٍ من قصيدة:
/ إني تمثالٌ طيني
مسحوب من روح الإنسان../

علي: ليس الأمر هكذا، واحدٌ مثله يكتب كالعجائز، قل له، في تلك الأيام كان هناك صراع بين أفكار وفلسفات، كالوجودية والماركسية وغيره، وكنت كشاعر لدي تصوراتي وأفكاري، كنت دائماً ذاتياً، بينما كان الآخرون يرفعون كليشهات وشعارات قومية وثورية في قصائدهم.

* أنا: سمعت مرات عديدة وصفهم لك بأنك كنت عدمياً !

علي: سعيد حورانية، الله يرحمه، من كان يقول عني هذا، لم أكن عدمياً كنت فوضوياً، فوضوياً فقط.

* ولكن يعرف عنك أنك شاعر حياة، كيف كانت تتفاعل في تجربتك شعرية الحياة مع شعرية النص، وإلى أي مدى كنت تنحاز إلى الأولى ؟

علي: انهمكت كثيراً بالحياة، كان هذا صدى لحقيقة بداخلي، ذلك النوع من الحياة الذي لم أكن أشبع منه، وما زلت أحنُّ إليه، ولكني كنت أخلط كلَّ شيْ بكل شيء، وأحياهما معاُ، كان الشعر والحياة بالنسبة لي شيئاً واحداً، على الآخرين الانتباه إلى ذلك عندما يتحدثون بمثل هذا الكلام عني، انحيازي كان إلى تلك الحياة التي تجمع الاثنين في كأسٍ واحد، كنت أكره الدرس والعمل والوظائف، وكنت أجد نفسي في أجمل حالاتها مع امرأة تشاركني هذه الحالة، وأيضاً مع صديق.

* أنا: علي.. هل عملت يوماً في حقل الثقافة، هل شاركت بإقامة رابطة أدبية أو اتحاد ما ؟

علي: عملت يوماً مدرساً، وكنت ناجحاً، أظن، و توظفت مرة في ما يسمى دائرة الدعاية والإعلان، وقد عملت بجدية في تلك الفترة، لدرجة أن البعض كان يجلس عندي ويحدثني ولا أشعر به، ثم بعد ذلك جاء أحدهم وشطب اسمي، أحد المناضلين ! ولكني لم أستلم أي منصب رسمي، مرة كنت نائباً لرئيس اتحاد الأدباء، أي معاوناً، ما رأيك بتعبير معاون أديب !

* أنا: أعتقد أنه وظيفة عظيمة، إذا كان الأديب هو أنت ! علي. لا تعطي راتباً كغيرك، ليس معك إلا خمسين ليرة، وتتباهى !! علي ... كيف تنظر إلى الحركة الشعرية السورية في حالتها الراهنة، فكما يقال، لم تظهر أسماء كبيرة في سوريا بعد عقد الستينات وذلك الجيل الذي تنتمي إليه ؟

علي: الناس الآن يسعون لرزقهم، ليس بسبب قلَّته، ما أقصده هو مفهوم التكسب، الآن الشعراء يرسلون ما يعرف بأنه يصلح للنشر في مجلات الخليج أو اللبنان ويقبضون على أربع مقالات /25/ ألف ليرة سورية.

* أنا: ما أريد إضافته هو أن شعراء الستينات ومن قبلهم، كنوع من الشعر، وكشخصيات، تواجدوا في زمن احتاجهم أن يزج بهم على المنابر، شيء يشبه خطباء الجمعة، ولكن في الأمسيات الشعرية بالجامعات والمراكز الثقافية، بمناسبة وبدون مناسبة، تلك الادعاءات والمنبريات، كانت تسمح لهم بذلك السطوع.

علي: أضف ما تريد، شعراء الستينات مازالوا يكتبون كما كانوا يفعلون سابقاً دون منابر ودون سطوع، إلا في رؤوسهم ! يوماً لم أكن شاعراً منبرياً، شعري كله يخلو من عنترياتهم وادعاءاتهم، الجميع بعرف هذا ويقولونه. وأنا حقاً لا أجد ما يجمعني بكل هؤلاء، منذ البداية لم أكن منهم ولم أحاول أن أكون فيما بعد.

* أنا: يقول ممدوح عنك، في مقدمته لأعمالك الكاملة، أنك كنت تحب أن تدعي للأمسيات الشعرية والمهرجانات، ولكن لم تكن حريصاً على أن تذهب! ما رأيك بما يقام من أمسيات في المراكز الثقافية والمهرجانات الأدبية في سوريا أو في غيرها من البلدان العربية، حيث يذكر أن عدد الحضور في بعضها، كان يكفيه غرفة صغيرة وعدد قليل جداً من الكراسي. إلا في حالة كون الشاعر مثل محمود درويش أو أدونيس مثلاً ؟

علي: وجهة نظري، إنها تفسد أكثر مما تصلح. لم أشعر يوماً بشعورٍ طيبٍ في أي مهرجان، فعلت هذا في السابق مضطراً، يجب أن يكون هناك تفكير جديد بعلاقة الجمهور مع الشاعر، يجب العمل على إقامة علاقةٍ صحيحة، يحترم فيها الطرفان. كلاهما الآن، أعتقد في هكذا مهرجانات، غير محترمين على الإطلاق.

* أنا: وماذا عن الجوائز، معروف أنك رشحت مراراً، وأنك رفضت بادئ الأمر، ثم وافقت، ولكنك لم تنل بعد أي جائزة ؟

علي: هم رشحوني، وهم من أعطوها، لحنا مينة في الوقت الذي كان يصرح بأنه يرفضها، لكنه قبلها، جائزة العويس أقصد، ثم أعطوها لعبد الوهاب البياتي قبيل وفاته، والآن أنا مرعوب من حصولي على هذه جائزة أو غيرها، كيف سأوزعها.

* أنا: أعمالك الشعرية الكاملة، طلب الكثير من أصدقائك ومحبيك ومنهم رياض الريس أن تجمعها ليطبعوها لك، رياض عن طريقي طلبها أكثر من مرة، طبعت أخيراً في دار عطية، ماذا شعرت وأنت تحملها وتنظر إليها، وهي بين يديك ؟

علي: الذين يحبونني لم ينفعني حبهم بأكثر مما ضرني كره الآخرين. جاء رياض إلى دمشق مراراً ولم يتصل بي. كاملة،اد يهمني أي دار تطبعها، لم أنقح أو أعدل أي شيء بها، حتى الأخطاء المطبعية تركتها لهم، المقدمة كتبها ممدوح، والسيدة جورجيت عطية صاحبة الدار هي التي سافرت إلى حلب وانتقت لوحة الغلاف من رسوم سعد يكن، وقد كان أول ما شعرت به وأنا أتصفحها هو أنها ليست..كاملة ، وأن هناك ما يمكن إضافته عليها ، كتبت قصائد جديدة ويجب علي تبييضها ، منها واحدة طويلة جداً ، يختلط بها النثر والشعر ، لا أدري إن كنت سأتمكن من إنهائها .

* أنا: هل شعرت بخيبة ما ؟

علي: لا يهمني أن اشعر بشيء كهذا، ولكن يوجد خيبة في نهاية كل شيء.

* أنا: بالنسبة لي يهمني أن لا تشعر بالضجر من أسئلتي، قل لي إذا كنت تريدني أن، نستطيع أن نكمل المقابلة في وقت لاحق، لا أريدك أن تكرهني.

علي: اطمئن، لن أكرهك أكثر من غيرك، ولكن حسناً تفعل إن أسرعت بإنهائها.

* أنا: ها أنا إذن أختم معك مقابلتنا، وسأرسلها غداً أو بعد غد في الملف الذي يعد عنك في جريدة الثورة، هل يهمك أو يسرك أمور كهذا ؟

علي: نعم تهمني وتسرني، تهمني وتسرني لحدٍ ما، ولكن لماذا يهمك أنت أن تسحب اعترافاً مني ! في النهاية أنا شخص أناني وأحتاج من حينٍ لآخر إلى ما يغذي أنانيتي.

* أنا: علي..سؤال أخير أخير:يبدو وكأنك في اختيارك اللاذقية لتحيا فيها منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً، آثرت غروباً بحرياً، ذلك الأفول الأليق بالشعراء، أي ندم لا يعرف عنك, أي عزاء، تجده في هذا ؟

علي: أولاً، لا أجد أن هناك أي نوع من الأفول يليق بي، وثانياً، أحب الغروب على البر أكثر من الغروب على البحر الذي لا أحبه هو نفسه، رغم ما يعنيه لي من اتساع وعمق, وعزلة وصمت. وثالثاً، اللاذقية التي كنت أعرفها، بمرفئها القديم الضيق، وأهلها اللط فاء على نحو دبق، ما عادت هي هي، ما عاد هكذا مرفأها، ولا أهلها، ولا مقاهيها، فوا حسرتاه واحسرتاه (يردد يضحك) أما الندم، هذه العاطفة المتنقلة الجميلة التي لم أعرفها سابقاً، فهل سمعتني الآن، أو يوماً في جلسة معاً أو سهرة مع الأصدقاء، أذكره؟؟ نحن لم نتحدث ندماً على الإطلاق ! أليس كذلك؟ و الآن ، ربما من باب التغيير ، أبحث عن العزاء ، أي عزاء ، ولكن ، مثل أي شيء ..كل شيء.. حاولت العثور عليه في حياتي كلها، فلم.ولا. .. ولن.. أجده

اللاذقية


أقرأ أيضاً: