حوار: عزت القمحاوي

أمجد ناصر قليل من الأصدقاء فقط من يعرفون أن يحيي النعيمي هو الاسم الأصلي للشاعر الأردني أمجد ناصر، هذا الشاعر الذي تتميز سيرته بصدق شديد مع النفس اضطر للارتحال بين اسمين والعديد من المدن، ولكنه ولد في الشعر كما ولد في صفوف المقاومة الفلسطينية في بيروت.

ومنذ ديوانه الأول 'مديح لمقهى آخر' الذي صدر عام 1979 يراكم أمجد المرتحل بدأب خبرات الكتابة الشعرية التي ضمنت له أن يكون واحدا من الشعراء المتميزين عبر دواوين' منذ جلعاد كان يصعد الجبل 1981 'رعاة العزلة 1986'وصول الغرباء 1990' ، 'سر من رآك 1994' و 'مرتقي الأنفاس 1997'. وقد انتهي مؤخرا من ديوان جديد قرأ بعض قصائده في ملتقيات أدبية ونشر بعضها في الصحف. وعلي عكس الكثيرين ممن اشتغلوا بالسياسة استطاع أمجد منذ وقت مبكر حماية قصيدته من صوت الأيديولوجيا، كما أنه لا يأتي في حواراته علي سنوات نضاله في صفوف المقاومة الفلسطينية.. ذلك السر الذي لا يعرفه إلا هو وزملاؤه وقليل من الأصدقاء.. وكما حملت السياسة والنضال أمجد إلى محطات عربية وأوروبية عديدة حملت دواوينه في شهادات ميلادها أماكن مختلفة أيضا، بيروت فعمان فلندن فبيروت مرورا بالقاهرة التي صدرت له فيها مختارات بعنوان 'اثر العابر'.

* مرتقي الأنفاس، أحدث دواوينك المطبوعة جاء مغامرة مزدوجة لشاعر يكتب قصيدة النثر، وتتمثل المغامرة في كلاسيكية الموضوع وشيوعه، حيث تناول كتاب وشعراء من مختلف الثقافات أيام العرب الأخيرة في الأندلس، كيف تنظر إلى الديوان اليوم بعد هذه المسافة بينك وبينه كقارئ؟

المغامرة، إن كانت هناك مغامرة أصلا، جاءت من تناول موضوع تاريخي شائع، وكما تعرف فالشعر والتاريخ ليسا من طينة واحدة، بل لطالما أفسد التاريخ بوقائعه وأحداثه وأسماء أعلامه الكثير من الإبداع وذلك لسبب بسيط، في رأيي، هو أن التاريخ معطي جاهز بينما الإبداع مغامرة ورحلة في المجهول، وارتياد طرق غير مألوفة، فكيف يتجانس أو يستوي ما هو ثابت ومؤكد ومبتوت بأمره بما هو قيد الفعل والتخلق والتشكك؟
من هذه الرؤية يشكل التاريخ ضغطا شديدا، أو كما يقول إخواننا المغاربة، يمارس اكراهاته علي العمل الإبداعي، لأنه يملك سلطة المعرفة الجاهزة التي يشترك فيها كثيرون، بينما الإبداع هو عمل يمتح مما هو معروف و مجهول، بما هو حدسي وباطني وهامشي أو نوافل سقطت من شبكة التاريخ، هذا أمر عام، لكن الخاص بديوان 'مرتقي الأنفاس' فهو انه لم يكن ابن الحدث التاريخي والدلالة التي يعنيها ويعكسها، فالمصادفة وحدها هي التي قادتني إلى غرناطة عام 1992 وكنا ما نزال في دوار حرب الخليج فحصلت لي، كما لغيري، علي الأغلب الصدمة الغرناطية، وهي صدمة بصرية وشعورية بالدرجة الأولى، ليست لها علاقة مباشرة بالمعطي التاريخي ولا بالوقائع، بل بالبصر والشعور.. لقد تشربت هذه الصدمة وشعرت أنني امتلأت بمعرفة من نوع خاص، فحتى تلك اللحظة لم أكن قرأت عن الأندلس أو عن غرناطة تحديدا أكثر من المعرفة التي قدمت لنا علي مقالة الدرس، لم أكن معنيا بالأندلس إلا بالحد الذي يمكن أن يعني العربي العادي.

من هذه الصدمة، صدمة اللقاء مع غرناطة، الربوة الحمراء، البيازين، نهر حدرو، جبال سيسيرا نيفادا، جنة العريف، لعبة الضوء والظل في أروقة القصر، درجة حرارة شمس حزيران 'يونيو'، أصوات المرشدين السياحيين وهم يرطنون بأكثر من لغة لأفواج من السائحين، صوت وخطي أبي عبدالله الصغير وأمه عائشة الحرة ووزرائه التي خيل إلى أنني اسمعها في صالة العرش أو بالقرب من ساحة السباع، من كل هذه الدوامة من الأصوات والروائح ومشاعر الخفة والترنح انطلقت الشرارة الأولى لمرتقي الأنفاس، ولكنني أزعم أنني حاولت قدر ما أستطيع مراوغة المعطي التاريخي، أسماء العلم، الوقائع المعروفة وان اكتب ما اسميه السيرة الوجودية لأبي عبدالله الصغير.

ولابد أنك لاحظت أن صورة آخر ملوك العرب في الأندلس في 'مرتقي الأنفاس' لا تشبه صورته التي يحفظها له التاريخ العربي، ما هو مسطر في المرونة الأدبية التي تناولته، فهو في 'مرتقي الأنفاس' شخصية تراجيدية كتب عليها أن تواجه كل الاستحقاق المؤجل في الأندلس، انه ليس خائنا أو جبانا، صحيح أنه شخص مهزوم، ولكنه مهزوم مثلنا تماما، خاسر مثلنا تماما، انه شخصية نموذجية في رأيي، للخسران، وهو في 'مرتقي الأنفاس' لا يبكي ضياع الملك والأرض والسلطة بل ضياع الحلم، ضياع الطفولة؟
هذا هو تصوري ل 'مرتقي الأنفاس' وهو تصور لا يخلو بالتأكيد من الهوى أو انحياز صاحب العمل إلى عمله، ولكن بهذه المشاعر كتبته، وعندما انظر إليه الآن بعد فترة طويلة نسبيا من كتابته لأنه انتهي فعليا في عام 1994 وتلكأت في نشره حتى عام 1997 أجد أنني غير قادر علي مواصلة قصيدتي من هذه الوجهة، أصارحك الآن بأن الشعور الذي انتابني بعد أن جهزت الكتاب للطبع، أن هذا قد يكون آخر عمل شعري كبير لي ، لقد أصابني شعور مخيف بالاستنفاد، وبأنني وضعت كل ما لدي من خبرات ومهارات وصور ومعجم في كتاب شعري واحد وانتهيت، ما أشعره الآن فعلا هو أنني غير قادر علي الكتابة بعد في هذه الوجهة.


* هل قصدت 'تبريد اللغة' التي تبدو في الديوان مقارنة بلغة الدواوين السابقة أم أن حالة الأسى التي أثارتها لحظة الوقوف بقصر أبي عبدالله هي التي قادت اللغة إلى طريقها؟

لم اقصد شيئا، لم اخطط للغة الديوان، بل الموضوعة هي التي استجلبت لغتها، وهي لغة قد تكون جزلة أو بلاغية أكثر من اللازم، لكن نبرة اللغة وعاطفتها إذا جاز التعبير، جاءتا خفيضتين أو بتعبيرك باردتين؟ وهو برود نسبي لأن الموضوع نفسه حار، الموضوع نفسه فيه عاطفة متفجرة، ويبدو أن الأندلس بالنسبة للعربي تفجر لديه مشاعر أو لنقل طبقات مكبوتة من الشعور حتى من دون أن يدري، أتذكر أني التقيت في زياراتي الأولى لغرناطة الكاتب الباكستاني المقيم في بريطانيا أكبر أحمد وسألني هل مازال العرب يحنون إلى الأندلس؟ كان ذلك في الفندق وقبل أن انطلق إلى قصر الحمراء، قبل أن أري مرابع بني نصر، فنفيت له بشكل قاطع وجود مثل هذا الحنين، وقلت له أن لدينا الآن أندلسيات أخري علي وشك أن تضيع وأن الأندلس الأسبانية هذه لا تعنينا.

بالطبع كنت مخطئا، فقد كان علي أن أصعد إلى الرابية الحمراء حيث القصر وجنة العريف والقلعة حتى أصاب بصدمة لم أكن مهيأ لها، وهي ليست مجرد صدمة جمالية، لابد أنها تنطوي علي شيء خاص بي كعربي. من هنا ربما كانت الحرارة هي للموضوع، للتفجرات الداخلية لأبي عبدالله الصغير وليس للغة ذاتها، فلو كانت اللغة ساخنة لأصبح العمل كله غنائيا أو فجائعيا أكثر من اللازم، وهذا ما أحاول دائما أن أتجنبه. العاطفة القوية، الزاعقة والتفجع الوجداني قاتلة للإبداع، ولعل إقامتي في الغرب وكتابتي لهذا الكتاب في لندن، (وهي مكان مثالي لاستنكار العاطفة القوية) وأثره في ضبط درجة حرارة العاطفة واستطراد اللغة التي تعبر عنها، ناهيك بالطبع عن الإبداع، ورغم أنني لا اكتب، بطبيعة الحال إلا باللغة العربية وأتوجه، كما هو مفترض إلى القارئ العربي إلا أن قيم المكان واعتباراته تنعكس عليٌ بوعي أو من دون وعي.

* منذ البداية كان بمقدورنا أن نميز شيئين: الايروسية العالية وشعرية التفاصيل اليومية، قصائدك الجديدة التي ألقيت بعضها في مهرجان جرش صيف هذا العام ونشر بعضها في 'أخبار الأدب' مؤخرا، تحمل الملامح ذاتها وتشي في الوقت نفسه بشيء مختلف، لا أعرف أن كنت توافقني علي تواضع المذكر الذي كان في 'رعاة العزلة' و'سر من رآك'.. أعني حلول رجل الحب محل رجل الافتراع المقتحم؟ والنزوع أكثر نحو السردية؟

اتفق معك ببعض ما قلت واختلف مع بعض آخر، فمثلا لم تكن الايروسية مما يلحظ في أعمال الشعرية الأولى، بصورة واضحة كما هي عليه الحال في 'سر من رآك' كانت التفاصيل اليومية هي المنطلق، فإذا عدنا إلى 'مديح لمقهى آخر' الصادر عام 1979 في بيروت ومكتوبة قصائده في عمان وبيروت قبل ذلك كانت التفاصيل اليومية وأسماء وصور المكان الأردني هي التي تطبع العمل الشعري بطابعها، ثم علينا أن نلاحظ أن هذه التفاصيل والمشهدية اليومية كانت مستنكرة في العمل الشعري الذي كان مشدودا آنذاك إلى ما هو وطني وسياسي وبعث واستنهاض الأمة من رقادها، كان هذا الشعر هو الغالب، يمكنك أن ترجع إلى شعر السبعينات المصري والعربي لتري سيادة السياسي والأيديولوجي والصوت العالي والقضايا الكبرى كموضوعات في هذا الشعر، ويبدو أنني لم آت إلى الشعر من هذه الناحية، كانت الجهة التي جئت منها إلى القصيدة مختلفة وسيظل هذا الاختلاف قائما إلى أن أغادر قصيدة الوزن 'التفعيلة' التي كانت لها الغلبة في مجموعتي الشعرية الأولى وفي تجربتي الأولى عموما إلى 'قصيدة النثر' في أواخر السبعينات.

هذا شيء أود التنويه إليه، أما الشيء الآخر فهو أن ما قرأته مؤخرا في مهرجان جرش ونشر بعضه في 'أخبار الأدب'، وصحيفة 'الرأي' الأردنية وكذلك أيضا في صحيفة 'المستقبل' اللبنانية فهو يشكل نوعا من التواصل والتغير في الوقت نفسه، تواصل بمعني أنني عدت بعد تجربتي في عملين أساسيين عندي من ناحية الموضوع واللغة والأسلوب هما 'سر من رآك' و'مرتقي الأنفاس' إلى التقاط بعض الخيوط في تجارب سابقة لي، خصوصا في 'رعاة العزلة' و'منذ جلعاد' حيث حضور السرد والتفاصيل والمشهدية، أما التغير فهو أن دفعة السرد وما هو يومي حتى بالمعني المباشر والتقريري وصلت إلى منطقة أبعد: منطقة قد تبدو للوهلة الأولى أرضا خاصة بالسرد، خاصة بالحكائي والقصصي أكثر مما هي أرض للشعري، علي الأقل، كما تمظهر في 'مرتقي الأنفاس' أو 'سر من رآك' أو كما هو في التيار الغالب لقصيدة النثر التي تكتب اليوم .

منذ نحو أربع سنوات بدأت بكتابة هذا الشكل المختلف من القصيدة التي أسميها من دون أن أتمسك كثيرا بهذه التسمية بقصيدة 'الكتلة' أي القصيدة القائمة علي السطر الطويل كما يتبدى في الأعمال النثرية، أي أنه ليس هناك تقطيع في القصيدة، لأن موضوعها ونفسها الكتابي يمليان هذا الشكل، وهذا الشكل، بالمناسبة الأقرب إلى 'قصيدة النثر' كما هي عليه في الشعريات الغربية، وقد تحدثت وكتبت عن هذا الأمر كثيرا في الفترة الأخيرة 'قصيدة الكتلة' هذه التي تشكل العمود الفقري لعملي الشعري الأخير تجدل بين السرد والسرد، وتشتغل علي القصيدة داخل القصيدة تقترب مما هو صوفي وميتافيزيقي وتحاول أن تفككه وتربط بين ما هو يومي ومشهدي بالسؤال الوجودي، لكن شكلها وتقطيعها علي الصفحة لا يختلف عن شكل وتقطيع النثر العادي، لأنها تستخدم لغة هذا النثر العادي وتحتفي بالحكائي، حتى لتبدو وكأنها أقصوصة، ما أريد أن أقوله هنا انه ليس للقصيدة شكل ثابت وخالد لا يتغير.

أما رجل الحب الذي أشرت إليه فهو ليس طارئا، رجل الحب موجود هو يتخلل الكثير من الأعمال، انه عابر لأكثر من عمل وان كان بدا بصورته الأوضح في 'سر من رآك' لا ادري أن كنت اتفق معك أم لا في تفريقك بين رجل الحرب ورجل الحب، فالحب حرب أيضا، الحب بالمعني العميق للكلمة ليس هو السخسخة أو الوقوف في ضوء القمر، انه مثل الحرب التحام وتداخل وهو مثلها يريق مادة أيضا، قد تكون دما، هناك شيء عنيف في الحب، أو لأقل هناك حضور للكثافة بصورة لا تقل عن حضور اللطافة، إذا جاز لنا أن نستعير هذين المصطلحين من السياق الصوفي.

* في قصائدك الجديدة أيضا، يبدو العالم مختلفا رغم اتفاقنا علي عودتك للإمساك بخيوط سابقة في تجربتك، فهنا تحضر لندن بهذه الصورة ربما، للمرة الأولى؟ هل استنفدت عالم البدو الذي كان لك الفضل في تقديمه شعريا؟

لندن حضرت من قبل في أعمالي الشعرية ولكنها لم تكن بالصورة التي هي عليها في هذا العمل الجديد فديواني 'وصول الغرباء' هو تقريبا عن لندن، فالغرباء الذين هم نحن، هنا، يصلون إلى مكان غريب، أو إلي مكان آخر هذا المكان غير المسمي هو لندن ثم أن لندن هي الخلفية البعيدة لديوان 'سر من رآك' الذي لا يخفي الحوار فيه بين شخصين ينتميان إلى عالمين وثقافتين مختلفتين، لكن قصائدي الجديدة التي ستصدر في عمل شعري جديد قريبا أكثر انفتاحا علي لندن، لم تعد لندن مدينة بلا اسم ولا عنوان ولا ملامح، إنها ترد باسمها وببعض أسماء العلم فيها. مناطق وجسور وأحياء وأشخاص كانت قصيدتي تتمنع لسبب ما عن الاقتراب منهم، لا أعيش عالم البدو منذ زمن طويل، كما تعلم، غادرت الأردن، مضي نحو ربع قرن علي خروجي وتداخلي مع أمكنة وثقافات مختلفة، لكنه عالم موجود في الذاكرة وهو يحضر علي شكل شظايا ونتف، في أعمال كثيرة حتى في العمل الجديد الذي تظهر فيه لندن هناك شظايا من عالم وحياة ومفردات الطفولة المدموغة بالنسق الثقافي والبيئي البدوي.

ثم لاشك أن هناك تأثيرا للمكان والثقافة ومفاهيم الكتابة، خصوصا الشعرية، الإنجليزية تسللت إلى قصيدتي فمثلا، الإنجليز، والانجلوساكسونيون عموما، لا يطيقون الفذلكة اللغوية، أو شعر اللغة الذي يكتبه الفرنسيون؟ الثقافة الانجلوساكسونية ثقافة وضوح وصوت خفيض وعاطفة مكبوتة، فهم لا يفهمون أو لنقل لا يستسيغون الشعر الفرنسي، والاتجاه اللغوي في الشعر المكتوب بالإنجليزية، ضعيف وتقريبا لا يكاد يلمس.

* تشترك مع شعراء كثر في العالم يعملون في الصحافة وتشترك مع شعراء عرب يقيمون في الغرب، وفي الصحافة 'صباح الخير' يجب أن تعني بالضبط صباح الخير وفي الإنجليزية 'صباح الخير' تعني Good morning صف لي كيف تحمي قصيدتك من هذا الخطر المزدوج؟ كيف تحافظ في لندن وفي الصحافة علي طزاجة لغتك وقدرتها علي المناورة بحيث تظل 'صباح الخير' في القصيدة عربية وقادرة علي أن تكون وعدا بالحب أو عتابا أو توعدا؟

ليست هناك، بالطبع، وصفة جاهزة، هناك من يستطيع أن يفعل ذلك وهناك من يفشل، الأمر، كما أظن، يتعلق بالأشخاص أنفسهم أكثر مما يتعلق بالمواضعات العامة، لاشك أن المتواضعات والاعتبارات العامة تلعب دورها ولكن هناك أيضا عناصر مقاومة خفية تعمل لصالحك، ربما الإحساس بالخطر الذي أشرت إليه في سؤالك هو الذي يدفعك من دون أن تدري إلى حماية لغتك من التسطيح الذي يمكن أن تمارسه الصحافة اليومية، الأخبار، التعليقات، التحاليل الخ، وكذلك وجودك في المكان الغريب، بهذا السبب أجد تفسيرا للغة القوية في كتابين لي علي الأقل كتبا في لندن هما 'سر من رآك' و'مرتقي الأنفاس' صحيح أن الموضوع يفرض لغته أو مقاربته اللغوية ولكن الصحيح أيضا أن الإحساس بأن لغتك تتسرب منك أو تتعرض لتشويش يجعلك تبحث عن تحصينات لها، ولكن من جهة ثانية أنا أظن أن الصحافة والمعاني الدقيقة المباشرة التي تنطوي عليها، أفادتني أيضا، فضلا عن كونها تجعلني علي تماس مباشر مع العالم وما يجري فيه. إحساسي بالعالم أظن أنه مختلف عن شاعر يعمل في بنك، أو مدرسا في الجامعة.


* بعد تفجيرات أمريكا، صار واضحا أن العالم لن يعود إلى ما كان عليه قبل التفجيرات، كيف تري مستقبل العربي المهاجر إلى الغرب خصوصا المثقفين وهم عدد لا يستهان به في مختلف العواصم الغربية؟

أظن أن الوضع قد يزداد صعوبة، نحن الآن نعيش صعوبة كبيرة، فجأة صار وجودنا مكشوفا للأعين المستريبة أو المستنكرة، كأننا أصبحنا نعيش فجأة في 'دار الحرب' ما حدث في نيويورك وواشنطن وما سيحدث كرد علي ذلك سيغير شكل وطبيعة النظام العالمي، وها نحن نري كيف يساق العالم كله إلى المشيئة الأمريكية، خوفا وتزلفا ورهبة، وعدم قدرة علي المقاومة أظن أن العالم سيصبح أمريكيا أكثر مما كان عليه قبل التفجيرات، أو علي الأقل هذا ما ستحاول أمريكا أن تفعله، الشيء الواضح أن أطروحة صموئيل هنتنجتون عن صراع الحضارات قد تلقت دفعة حياة جديدة، صار لهذه الأطروحة وجاهتها ومحلها من الإعراب، على الأقل عند من يخططون ويرسمون سياسات الهيمنة علي العالم، علي عكس خطابهم المعلن الذي يقول بالفصل بين الإرهاب والحرب عليه وبين الإسلام والمسلمين وفي قلب ذلك العرب.

ليس صدفة أن كثيرا من الأشخاص تم الاعتداء عليهم سواء في أمريكا أم في عدد من الدول الغربية، لهم مواصفات العربي والمسلم كما رسمتها المخيلة الاستشراقية، وكما قدمتها هوليود، فعند هوليود العربي والمسلم هو الشخص الأسمر الداكن البشرة الذي يرتدي عمامة وله لحية، بسبب هذه الصورة النمطية التي لا أساس لها من الواقع الآن تم الاعتداء في أمريكا علي كثير من طائفة 'السيخ' الذين لهم المواصفات المذكورة، وهم ليسوا عربا ولا مسلمين، هناك محاولات من قبل النخب الغربية المثقفة، وحتى من قبل النخب الحاكمة، بأن لا يصل الصراع الذي تقوده أمريكا اليوم إلى الثقافة، أن لا يكون صراعا بين أنماط ثقافية ودينية، لكن هذا لا يكفي، لأن الثقافة الشعبية الغربية مشبعة بالصور النمطية عن العربي والمسلم وهي ثقافة لا تزال متأثرة بالحروب الصليبية والصراع بين 'الشرق' و'الغرب' .

ولكن تأزم الوضع في المنطقة العربية والعالم الإسلامي انعكس علينا في الغرب، لا أخفيك أن وضعنا صعب للغاية هذه الأيام، ولا أدري ما الذي ستسفر عنه الأيام القادمة، ثم إن هناك من العرب من يفكر بالعودة إلى المنطقة العربية ، ولكن هناك كثيرين انغرست جذورهم عميقا في الغرب، أو تقطعت بهم السبل وليس لهم من مكان آخر يذهبون إليه، والأمر يتجاوز العرب إلى المسلمين من غير العرب وهم أكثر بكثير من العرب وهؤلاء عددهم في أوروبا يتراوح بين عشرة وخمسة عشر مليونا وهناك أكثر من جيل منهم ولد وعاش بالغرب، لذلك أظن أن النخب المثقفة والحاكمة ستحاول ألا يصل الصدام إلى عقر دارها وأن تفصل بين ما يجري في العالم الإسلامي وبين الجاليات المسلمة المقيمة علي أرضها ولكن الأمور علي أرض الواقع تختلف.

أخبار الأدب 
عدد 439 
9 ديسمبر 2001


أقرأ أيضاً: