حركة الشعر الحر فقدت مبرراتها الفكرية والجمالية
والمرحلة المقبلة ستشهد تجاوراً لتيارات شعرية متعددة!

التقاه في القاهرة : محمود قرني

الشاعر أمجد ريان بين أكثر شعراء جيله، من السبعينيين، إثارة للالتباس والغموض، فهو بحسه الانقلابي غير المبرر أحيانا يتنقل بين عشية وضحاها، بين قناعات متباينة، ربما لا تقدم الأدلة الساطعة علي صدقيتها، وقد كان ريان في هذا السياق أبرز مناصري الشعرية الجديدة في مصر فقدمها علي أكثر من مستوي وكتب عن شعرائها كتبا كاملة رغم ان بعض هذه التجارب لم يكتب له الاكتمال فوصفت محاولاته بالتسرع وعدم التعمق، فضلا عن ذلك فهو متحدث رئيسي في معظم الندوات الشعرية، بل وغير الشعرية التي تقام في مصر وأقاليمها المختلفة. وقد أصدر الى جانب دواوينه التسعة عددا هائلا من الكتب النظرية في مختلف حقول النقد الأدبي. ورغم ان امجد ريان استهجن سؤالي الوارد في هذا الحوار حول الاستسهال والابتسار في الكتابة النظرية التي يقدمها، إلا أنها تهمة يوجهها إليه عدد ليس بالقليل في الحياة الثقافية، ويسألونه في الوقت نفسه ترشيد حماسه المدمر للتجارب الجديدة، فربما كان لذلك نتيجة تتساوي مع الاستبعاد والتهميش وربما اخطر.

بدأ ريان حياته الشعرية عام 1972 بديوانه أغنيات حب للأرض، ثم تلاه بعدد من الدواوين من بينها الخضراء 1978، لا حدّ للصباح 1991، ايها الطفل الجميل اضرب 1990، أمسّ كائنا 1991، وله ثلاثة دواوين تحت الطبع.
كما أصدر ريان عددا من الكتب النقدية حول أعمال عدد من الروائيين والشعراء مثل ادوار الخراط، بدر الديب، إبراهيم عبد المجيد، عبده جبير، وأصدر ايضا عددا من النشرات والمجلات الخاصة التي لعبت أدوارا مهمة ولافتة إبان صدورها مثل الكراسة الثقافية 1978، كتابات 1985، إبداعات ومواقف 1985، الفعل الشعري 1993، أفق 1994، و الخطاب الهامشي 1996، وأصدر منها الشاعر 16 عددا.

حول هذه الالتباسات والأسئلة التي تطرحها تجربة أمجد ريان تحدثنا، وهنا الحوار:

في إطار الإزاحة التي تطرحها قصيدة النثر، كيف تري شعر التفعيلة؟ هل يبدو مأزوما؟ هل تري حدودا لطموحات هذا الشكل؟

بداية أحب ان أوصل لك فكرة محددة هي أنني من هؤلاء المؤمنين بأن المرحلة المقبلة ستشهد تجاورا لتيارات شعرية عديدة، بل لا نهاية لتعددها، لأننا ندخل الآن في زمن توحيد الأرض، وحيث تعمل دوامات من الاختزال، وحيث تسقط في النسيان كينونات كاملة، وينتهي دور التوجه الفكري أو السياسي أو الثقافي أو الأدبي الواحد، سندخل الى مرحلة التعدد، بل وان شئت الدقة التعدد اللانهائي (لان التعدد هو شعار الحداثة، وهو تعدد بسيط محدود يسمي أحيانا ب عبر النوعية، علي العكس من التعدد الذي نعرفه الآن والذي يتوالد بلا توقف وبلا سقف)، وان الذي يمنحني القدرة علي التنبؤ هو هذه الروح ما بعد الحداثية التي تشيع في حياتنا، والتي لن تسمح بسيادة تيار شعري واحد، بل لن تسمح بسيادة أي تيار في أي ظاهرة اخرى، في السياسة أو في أي مجال في الفكر أو العلم أو الفلسفة، ولن يعود الزمن الذي يسود فيه تيار واحد أو نظام واحد، بسبب هذا التفجر الذي يتوالد كل يوم في كافة هذه الظواهر في كل المجتمعات البشرية باختلاف درجة تطورها الحضاري أو درجة قوتها المادية أو العقلية.
وبناء علي هذا التصور فلن يسود نمط ثقافي واحد في كافة المجتمعات العربية، وفي المجال الإبداعي والأدبي ايضا لن يسود تيار شعري وحيد بل ستكون هناك تيارات شعرية عديدة كل تيار منها سيتحمس له فصيل من الشعراء والمثقفين والمتذوقين، بل ومن الممكن في المجتمعات المتحضرة ان يدور حوار ناضج بين كافة هذه الاتجاهات.
سيعرف واقعنا الثقافي تيارات متعددة، سيكون من بينها تيار الشعر الحر الذي ما زال يدرس في الجامعات حتى يومنا هذا، وما زال بعض الشعراء في بعض الأقاليم المصرية البعيدة عن العاصمة لا يعرفون شعرا يخلو من الأوزان التقليدية، ومن بينها أوزان الخليل في الشعر العمودي وفي الشعر الحر، أما صلاح عبد الصبور سادن حركة الشعر الحر في مصر فما زال رمزا للشعرية في بلادنا، تدور حوله وحول تجربته الدراسات وتقام علي اسمه المهرجانات وتحرر لأجل موهبته مئات البحوث والدراسات.
أما الفصيل الشعري الذي انتمي له الآن، فله رأي فكري وجمالي لا أريد ان أقع في سلبيات الكثيرين من المفكرين والنقاد، فأطلق تخيلاتي التي أتصور فيها انه الرأي الصحيح الوحيد! ولكنني اعلن في البداية بشكل موضوعي وليس متواضعا! اعلن انه رأي أساهم من خلاله في النقاش الشعري العام، لكي يتجاور مع الكثير من الآراء الأخرى من اجل إشعال روح الجدل والمناقشة والبحث الجاد: أعتقد مع فصيلي الشعري ان حركة الشعر الحر قد استنفدت أغراضها الفكرية والجمالية، وأنها فقدت مبرراتها ولم تعد قادرة علي طرح شيء جديد لأن التفعيلة ببساطة تعرقل نمو النص الشعري وتكبله بما هو خارج الشعر، والذي يجلب فقط لتلبية الحاجات العملية لإكمال مقتضيات الوزن، فالحركة والسكون المنتظمين في ورودهما بشكل ثابت يدفعان الشاعر الى جلب كلمات لا يريدها في نصه.

الشعرية السبعينية متهمة في مصر بإفساد الذائقة الشعرية لأسباب كثيرة ليس اقلها النصوص المغلقة التي تعاملت مع اللغة بتعسف شديد ساعد علي تكريس هذا الانغلاق كيف تري هذا النص الآن؟

لي بالطبع في هذه القضية وجهة نظر محددة، وهي ان تجربة شعراء السبعينات قامت في مجتمعاتنا العربية بدور فكري وثقافي شديد الأهمية، وهو المساهمة في الخروج الشامل علي الأحادية التاريخية في الفكر والفن، وطرحت التعدد (الرؤيوي والجمالي والبنائي) شعارا، وقد رفدت الحياة الثقافية بطاقة هائلة لا زالت تغذي الإبداع العربي الى اليوم، وقد قامت هذه التجربة بدورها الذي لبي حاجات ضرورية في الحياة وفي الأدب، وعلّم الأجيال التالية بل والسابقة في بعض الأحيان، إلا ان هذه التجربة قد وقعت في عدة مشكلات كفيلة بتحولها من مكان الريادة الى مكان تال، بل الى مكان الخفوت والانتهاء، والكمون حول ذاتها التي لم تعد قادرة علي التفاعل مع الحياة، أول هذه المشكلات هو السقوط في المثالية الجمالية التي تتخيل الجمال في: التصور، وليس في مد العالم وجزره، وحياته الفعلية علي الرغم من توجه الفكر الجمالي بالتدريج الى مناطق جديدة فيها مكان لرائحة الوجود الحي، وفيها مكان لدور القارئ وأهمية وجوده في عملية خلق النص، بداية من أعمال هانز ياوس و آيزر وغيرهما حيث هذا التوجه الجديد الذي يسعى لتعميق الكيفيات التي يتم فهم الأعمال الشعرية من خلالها لدي الجمهور العريض الذي تتعدد في داخله التقاليد التأويلية وتتعدد حساسيات الفهم وأساليب التعامل مع النصوص. والغريب في الأمر انه ما زال الكثيرون من شعراء السبعينات متوقفين عند حدود بعينها هي الحدود التي ثبتوا عندها منذ الفترات التي نشطت فيها قصائدهم متصورين بأنهم يملكون سر الشعرية المكين الذي يظل قدرا أبديا فوق الزمان والمكان، أو أنهم امتلكوه، وانتهي الأمر، سر الشعرية الذي أصبح لديهم صلبا بارقا مغلقا لا يصح ان يخدش أو يمس بسوء! وهذا هو أهم عامل عجل بانتهاء التجربة، وكان لا بد ان يستفيد هؤلاء الشعراء من الدرس التاريخي الذي تعلموه جيدا في الماضي القريب، فعندما صدرت تجربتهم في بداية السبعينات اصطدموا بالوجه الشعري الأسبق، بل اضطروا للصراع معه حيث انتصروا عليه انتصارا مؤزرا. لماذا تم هذا النصر؟ لأن المستقبل كان يجعل كفتهم ترجح لأنهم يبشرون بقيم وأفكار المستقبل الشعري، وحركة الواقع دائما في كل زمان وفي كل مكان تتجه نحو المستقبل مبتعدة عن ركود وفشل القيم الفائتة التي لم تعد مجدية: وهذا بالضبط هو الدرس الذي لم يعوه جيدا فبمجرد ان أعطيت لهم الفرصة التاريخية تشبثوا بمواقع الديمومة، وتخيلوا ان المجد الشعري هو قدرهم، ونسوا في غمرة الانتشاء حركة الزمن ودورانه القاسي المستمر الآخذ في النمو بلا توقف، ولا زال حتى اليوم أربعة أو خمسة منهم يدلون بالتصاريح الهيكلية التي لا علاقة لها لا بالشعر ولا بالحياة(!!).

كنت معنيا بشكل خاص بكسر التابو عبر رؤى مختلفة لمفهوم الجسدانية والمقدسات ألا تري ان الشعر تجاوز هذه المثالية لان الانشغال بها يعد استمرارا للقناعات الدينية وتجلياتها المختلفة؟ وهل الجنس كان مصدر تحايل علي مفاهيم اخرى كتجاوز فكرة الموت أو القمع أم ان ذلك كله كان دعوة لا نهائية للحرية؟

لم يحدث ان اهتممت بهذه القضية اهتماما خاصا بل اهتممت بها اهتماما عاديا مثل اهتمام الآخرين، مثل اهتمامك أنت شخصيا مثلا، اعني ان تلك المسألة بالتحديد لم تدخل برنامج العمل المكثف الخاص بي في أي وقت من الأوقات، ولقد لاحظت اهتمام الأجيال التالية لجيلي بها أكثر من جيلي، وأنا اعتقد ان الجنس قضية عادية اهتم بها رجال الدين والمفكرون والأدباء طوال تاريخنا العربي باعتبارها تمثل معطيات مرتبطة بالحياة بشكل طبيعي دون حاجة لتركيز الانتباه بهذه الصورة التي عرفناها أخيرا في العصور الحديثة، حيث زادت مركبات النقص، وحالات الخلل البنيوي للمجتمعات الإنسانية للدرجة التي صار فيها الجنس مستقلا عن الحياة، بل صار سلعة مستقلة يتم الدعاية لها، وترويجها بين المحتاجين والمقهورين والمرضي النفسيين، بل وأصبح لها مجالاتها وأشرطة الفيديو الخاصة بها، وأفلامها، وأخيرا محطات التلفزة من خلال الدش، ومواقع الانترنت. الأديب الحقيقي لا يدعو الى الابتذال الجنسي، ولا يروج لمعان رخيصة كما تتصور بعض الجهات المحافظة أو المتطرفة في تقليديتها، ولكن الشاعر إذا طرح قضية الجنس فهو يطرح رؤية فلسفية بالدرجة الاولى، أو يطرح احد معاني التشبث بالوجود والحياة محاولا تجاوز الإحباط والموت كما جاء في صيغة السؤال. لقد كان الجنس في الإبداع الأدبي دائما جزءا لا يتجزأ من ميدان الانطولوجيا، وبالتالي فهو جزء من الابستملوجيا بشكل عام، كما اوصى هايدغر، وبذلك كان الجنس في الأدب دائما جزءا من مشكلة الوجود التي تتوزع بشكل واقعي وعملي علي حياتنا اليومية، بحث عنها الأدباء عقليا وفكريا من خلال تناولهم اللغوي باعتبار اللغة: تشكل الوجود عند السبعينيين، وهي بيت الوجود عند الشعراء الجدد.

علاقتك الشعرية بشعراء الريادة أدونيس ومطر وتجربتك ذات علاقة وثيقة بهما، كيف تري حدود هذه العلاقة؟

لقد انبهرت بهذين الشاعرين بالتحديد في صباي وشبابي الاول، واذكر أنني كنت احلم في منامي بأنني اقرأ شعر أدونيس، وكنت بالفعل اردد قصائده التي احفظها عن ظهر قلب في المنام، وكنت ارى فيها معني الخلاص في قلب ظروف غير آدمية كنت أعيشها، وكنت أحس انه يلوذ بالطبيعة ويستنجد بها، تماما كما أريد ان افعل أنا، وكما أريد ان اشبع رومانسية ما في داخلي، كان أدونيس يعبر عني بقوة ووصل الى قبل محمد عفيفي مطر برغم انه يعيش خارج البلاد، أما مطر فقد عرفته من خلال قصيدة منشورة في احدي مجلات وزارة الثقافة في عام 1969، وما زلت اذكر اسمها: الثابت والمتحرك ، وقد أثرت في تأثيرا شديدا لدرجة ان جسدي كان ينتفض وأنا أقرؤها، بسبب اكتشافي لهذا الأسلوب الشعري التركيبي المجازي شديد الكثافة. أرسلت له في العام نفسه قصيدة الى مجلة سنابل الإقليمية حيث كان من ضمن المشرفين عليها، فنشر القصيدة ونشر الى جوارها ردا نقديا علي رسالتي قال فيه مدحا شديدا وقال أنني احد كنوز مصر في المستقبل.
كان هذان الشاعران يمثلان الوجه الإبداعي للطبقة المتوسطة الصغيرة في مصر والبلدان العربية، وقد عبرا عن هزيمة هذه الطبقة وإحساسها بالاختناق بسبب القهر الاقتصادي الذي تسببت فيه الدول الاستعمارية الغربية الكبرى، والقهر الإنساني الذي سببته حالة التخلف العظيمة التي كنا نعيشها، والقهر العسكري الذي سببه الاعتداء العسكري الإسرائيلي عام 1967. كنت كأحد أفراد هذه الطبقة المستلبة أحس باختزال الإنسان وتحجيمه، وتحجيم دوره في دورة الإنتاج العام، الإنتاج ليس بمعناه الاقتصادي فقط، بل من خلال كافة المعاني التي يمكن ان تطرحها كلمة الإنتاج في كافة المجالات والظواهر الثقافية والفلسفية والحضارية، كانت أسرتي نموذجا تشريحيا دقيقا لهذه الطبقة، فأبي الموظف البسيط ينتمي لأرياف مصر، وأبوه واحد من علماء الأزهر الفقراء، ربانا أنا وأخوتي من خلال قيم دينية وأخلاقية صارمة، ولم تكن في حياتنا أية معطيات تبررها، وكان الفقر الذي نعيشه لا يستطيع حماية هذه القيم، لان القيم دائما أيا كان نوعها تحتاج الى سند مادي قوي، فكانت النتيجة هي تمردي العقلي العنيف والذي تجسد في صورة تمرد شعري جذري ، وتمرد أخوتي والإناث منهم علي سبيل المثال اللائي تعرضن للاعتقال السياسي في فترة دراستهن الجامعية أيام الرئيس أنور السادات ، وتمرد معظم أبناء جيلي وطبقتي علي معظم القيم الشائخة التي كانت تسود في الواقع بلا أي معني، ووجدت في الحداثة، وفي الحداثة العليا ضالتي، وكان هذان الشاعران الكبيران خير من يستطيع ان يمس الأوتار الحساسة في أعماقي، حيث كانا يمتلكان هذه القدرة الخارقة، علي تشغيل المجاز، استخدام في مداراة فجائع زماننا، ووضع عصابات غليظة فوق عيوننا حتى لا نري هذا الرعب الذي يستشري في العالم من حولنا، كنا نغلق علي أنفسنا قواقع جمالية سميكة، نظل في داخلها نجتر ذواتنا الحساسة الرهيفة، دون قدرة علي شرخ جدار التاريخ، أو حتى الطرق علي هذا الجدار.
وبمرور الزمن بدأت الحياة تتغير، وتتبدل معطياتها، وصارت الثقافة تعانق التكنولوجيا الجديدة وتنقلب علي كل واحدية، وكل سكونية، وتشبع لدي البشر ديناميات التفاوت والتباين والتعدد والتجاور، بكل ما يحتويه هذا من تشابه وتناقض، وبدأ المجاز اللغوي يفقد مكانته، وأهميته المركزية السابقة، ويتحول الى مجرد قناع سميك يخفي محاولات الهروب من مواجهة الواقع، بل الهروب من معرفة الواقع أصلا قبل مواجهته، والآن أصبح الكثيرون من الشعراء أشبه بالتحف التاريخية التي ما زالت تحافظ علي مواقعها الحربية القديمة بلا معني، وهذا أمر مضحك بالطبع، بل أمر هزلي شديد الإضحاك، عندما تري اليوم فارسا مدججا بالسلاح: يلوح بالسيف أو الرمح، وفي يساره الدرع الغليظ وعلي رأسه القناع الواقي، تخيل معي هذا الفارس واقفا يزعق في ميدان التحرير بالقاهرة، أو علي رمال سيناء، أو في ميناء بورسعيد، كيف تراه بالله عليك؟ انه مخلص شديد الإخلاص، ولكنه معزول عن العالم.
لقد بدأ المجاز اللغوي يترك مكانه الذي مكث فيه القرون تلو القرون، بدأ يتركه طوعا، لتحل محله معطيات اخرى: أهمها معطي الشهادة، الشهادة الواقعية التي تمثل بداية الطريق للمعرفة الحقيقية البسيطة التي حجبت عن الإنسان لأحقاب طويلة، بدأ الشعراء يفتحون الطريق للحس التلقائي وللتعرف الأولي الصادق البسيط الذي يدفع بنا في طريق الفهم والمساهمة الآدمية الحقة في خلق قدر الإنسانية التي أنهكت طويلا.

موقفك المتجاوز فيما يتعلق بقصيدة النثر المصرية خلافا لموقف أقرانك لا يزال مثيرا للانتباه، هل حقق نصك قفزة تتوازي مع قفزاتك النظرية للأمام؟

لقد كنت أتصور ان أبناء جيلي من الشعراء جميعا سيقفون الى جوار التجديد والي جوار الأجيال الجديدة، تصورت هذا لأن أبناء جيلي هؤلاء هم الذين خاضوا في السبعينات أشرس المعارك العقلية والعملية بل والبدنية في بعض الأحيان عندما تعرضوا للرفض والحصار والاحتجاز والإيذاء والتهميش والإفقار، ولأنهم مثلوا من خلال تجاربهم الشعرية حلقة جديدة من حلقات تطور قصيدة النثر، ولأنهم عندما صدوا التجارب الشعرية التقليدية التي لم تعد قادرة علي الاستمرار، أعلنوا وقتها أفكارا تطالب بالحرية الإبداعية الكاملة.
ولكن وكما تري فقد خذلني أبناء جيلي، وها هو واحد منهم يعلق علي احد الشعراء الجدد في ندوة أقيمت في القاهرة أخيرا فيوجه له الكلمات نفسها التي وجهت له من قبل من قبل احد الذين ينتمون الى الأجيال السابقة، قال له: أنت تكتب أشياء جيدة ولكن الكتابة الأدبية شيء آخر لا علاقة له بما تكتب وعندما ألمحت لزميلي ابن جيلي بأن ما يقوله قد قيل له من قبل، وذكرته بالحادثة بالتفصيل وبتاريخها، ولي وجهه بعيدا وتركني، وبرغم هذا الدرس الذي أعطيته إياه وبرغم الدروس التي تعطيها حياتنا الثقافية اليوم له، ولي، ولأبناء جيلي جميعا، إلا أنهم لا يريدون ان يغادروا الماضي، متصورين ان انتصارات الأمس هي فردوس خالد فوق الزمان والمكان، ولم يعوا القضية البسيطة التي رضوا بها بالأمس عندما كانت تتمشي مع مصالحهم، القضية البسيطة التي تقول ان الزمان يتحرك، ويتغير ويزداد ثراء يوما بعد يوم. لقد بدأت الشعرية العربية تبحث بجدية عن طاقات الشعر في النثر، وعن استثمار هذه الطاقات المخزونة في النثر العربي منذ القديم، منذ تراثنا البعيد، والتي توقف تشغيلها منذ فترة طويلة، والنثر العربي منذ البداية كانت له جولاته وصولاته التي أثرت علي تاريخ الكتابة الأدبية العربية، ولكن توقف هذا التأثير، وتم استثماره في جانب القصيدة التقليدية فحسب دون نشاط النثر، وقد ان الأوان لتفجير هذا المخزون التاريخي المتراكم.
لقد ظلت الكتابة النظرية تضطرد في نموها حتى صارت اليوم تضارع النماذج الشعرية التقليدية، بل أستطيع ان أقول لك أنها قفزت للإمام للدرجة التي بدأت فيها هذه الكتابات الشعرية الاخرى في الخفوت التدريجي والتراجع.
وشعراء قصيدة النثر اليوم أضافوا الكثير لهذه التجربة المهمة، فالنثر له حركته البنائية واللغوية الخاصة، وله إيقاعه الخاص الذي يختلف جذريا عن إيقاع الشعر، هو إيقاع النثر المرتبط بالأفكار التي يقدمها، وهي أفكار مباشرة وحسية ومرتبطة بإيقاع اللحظة الواقعية، أفكار تسعي للكشف والتساؤل والملاحظة، وترفض اليقين أو الركون لأية مطلقات تقليدية، أو تصورات جاهزة أو مسبقة.
أما الشق الثاني من سؤالك فأنت تطلب مني فيه ان أقيم تجربتي الشعرية الجديدة وان احدد هل هي تتوازي مع تصوراتي النظرية؟ وهذا الشق من السؤال ليس من حقي ان أجيب عليه، بل من حقك أنت ان تقول رأيك، ومن حق المثقفين والأدباء الذين يريدون تقييم تجربتي، أليس هذا صحيحا؟

توقفك عن نشر الشعر لمدة طويلة، هل تفسره بأنه تراجع من ملامح تراجع النص السبعيني؟

هذه ملاحظة ذكية منك لم أفكر فيها من قبل، وأحيانا يضيف السائل الى المجيب وهذا معناه بالطبع ان الحوار الذي بيننا له طابع ايجابي، وانه حوار يتميز بالأخذ والعطاء في الوقت نفسه، لقد عدت الى مصر في أوائل التسعينات، فأفاجأ بحالة شعرية شديدة الاختلاف عما سبق تستشري في الحياة الأدبية، وقد صدمتني التغيرات للوهلة الاولى، ولكنها كانت صدمة من النوع الذي يدفعك للتفكير وللتأمل، وليست الصدمة العدمية الخاوية من أي دلالة.
لقد توقفت بالفعل عن الكتابة لمدة تقرب من العامين 1993-1992 في الوقت الذي كان يعرف فيه قراء الصفحات الأدبية حالة الغزارة الكتابية الشديدة التي اشتهرت بها لفترة طويلة، وقد أمضيت هذين العامين ليس في متابعة الشعر الجديد فقط، بل في متابعة مفهوم الكتابة الجديدة برمتها، وان شئت الدقة المفرطة فقد انتبهت عميقا لهذه التغيرات الجذرية التي أصابت الحياة والتي يصر كثير من أبناء جيلي علي عدم وجودها! والكثيرون اعتبروا هذا القضية محور الخصومة بينهم وبيني فهم يرون انه لم تحدث أية تغيرات تذكر منذ السبعينات وحتى اليوم! وآخر من حدثني في هذه القضية شاعر من أبناء جيلي انهي حواره معي بالهاتف منذ أيام بإغلاق السماعة بشكل مفاجئ ينبئ عن انفعال عصبي شديد، ولسبب شبيه انهي الشاعر احمد عبد المعطي حجازي مكالمته معي بشكل مهذب، ولكنه نهائي منذ ستة أو سبعة أعوام، ولم نتواصل أو نلتقي بعدها، وقد كان الحديث يدور عن الشعرية العربية الجديدة بداية من التسعينات في مصر وفي المجتمعات العربية بشكل عام.
لم انشر قصيدة شعرية جديدة لي منذ بداية التسعينات، ولكن هذا لا يعني أنني لا اكتب، ويعرف بعض الأصدقاء المحيطين به أو القريبين مني بأنني اكتب الآن شعرا لا يستطيع ان يكتبه شاعر عربي آخر من حيث الكم علي الرغم من عدم النشر.
ولكنني في العام الأخير هذا اشتركت في عدد من الندوات الشعرية لأول مرة، وأخيرا أقامت لي ورشة الزيتون ندوة شعرية اعتقد انك كنت ممن حضروا هذه الندوة واستعد لأكثر من ندوة، وقد قدمت دواوين للنشر في بعض دور النشر الحكومية، ولكنني لن اكتفي بهذا فسوف أعود لعاداتي الشعرية القديمة، فقد نويت ان اطبع علي نفقتي بعض الدواوين الصغيرة وبخاصة أنني في الأيام الأخيرة تمكنت من شراء طابعة صغيرة للكمبيوتر الذي لدي، وقد كتب عليّ الكفاح الدائم بين التزامات أسرتي من ناحية واحتياجاتي الثقافية الشخصية أو معركتي الشعرية من ناحية اخرى، مثلي في ذلك مثل الكثيرين ممن يرفضون التبعية أو الرضوخ لأي قوة أو أي شخص، أو أي قضية مهما كانت سلطتها.

عن كتبك النظرية كيف تفسر هذه السيولة وكيف تري توزع جهدك بين أنواع أدبية متباينة ألا تري ثمة استسهالا؟

أين التباين الذي تتكلم عنه؟ أنا لا ارى أي تباين، فأنا اكتب الشعر، وادرس الكتابة الأدبية (الشعر والقص) وبخاصة ان الكتابة اليوم تتداخل فيها الحدود بين هذين النوعين بقوة. هل سبق لك وان قرأت لي إبداعا أو مقالة أو بحثا خارج هذا النطاق؟ كل المسألة هي ان إنتاجي سواء في الشعر أو في التنظير غزير بعض الشيء، بسبب جنوني، في حب عملي، أنا أظل في بعض الأيام أكثر من ست عشرة ساعة فوق الكمبيوتر اكتب، وأقوم بعدها متحسرا متألما لأنني لم أتمكن من ان أنجز كل ما كان يجب ان أنجزه في جدول هذا اليوم. الغزارة في حد ذاتها تعبير عن الحماسة والحب الشديدين، وهي ليست عبقرية من ناحية، ولا سيولة أو سطحية كما المح السؤال من ناحية اخرى، وقد كان الاجدى ان تشير الى بحث بعينه أو الى مقالة بعينها أو ان تشير الى كتاب بعينه وتناقشني كيف كانت السيولة فيه؟ لأنك عندما تطرح السؤال عاما هكذا فلن تكون هناك فرصة لا لي ولا لك لمناقشة قضية جادة. وأنا علي العكس مما المح إليه السؤال أدعو جميع الكتاب المبدعين ان ينتبهوا بشكل أو بآخر، للتأمل أو خوض مجال الكتابة النظرية، أو استخدام أي وسيلة اخرى لتعميق رؤاهم ومراقبة أنفسهم بشكل ذاتي باستمرار، أدعو جميع المبدعين ان ينتبهوا للجوانب الفكرية والنظرية التي يتعلق بها مجال كتابتهم، بل ومجال الكتابة الأدبية بشكل عام وكذلك علاقته بالبعد الفلسفي الذي يبرر معني كتاباتهم.

المصدر : جريدة القدس العربي
6/15/2005