المرأة لا ترى زوجها إلا في "البيجاما" أو خارجاً لعالم الرجال

سوسن الأبطح
(بيروت)

بدرية البشر"مساء الأربعاء" لا يشبه كل المساءات الأخرى عند النساء السعوديات، أو هكذا تقول الأديبة السعودية بدرية البشر في مجموعتها القصصية التي تحمل هذا العنوان، وترجمت أخيرا إلى الفرنسية، لتكون بذلك من قليل الأدب السعودي الذي ينقل إلى لغة "موليير". والكاتبة في مجموعتها هذه التي صدرت بالعربية عن "دار الآداب" في بيروت، كما في تلك التي ستبصر النور قريباً تحت عنوان "حبة الحال" عن الدار نفسها، والمقالات التي تنشرها، تعمل موهبتها وحسها النقدي الذي اكتسبته من خبرتها كباحثة في علم الاجتماع معنية خصوصاً بعولمة المجتمع الخليجي والمتغيرات التي تعصف به. كيف تعيش النساء السعوديات هذا المفصل التاريخي الصعب، ما هي مواجعهن؟ وهل الرجل أفضل حالاً وأقل ضياعاً؟هذا ما حاولنا تلمسه من خلال حديث انترنتي حول "مساء الأربعاء" أجريناه مع الأديبة المقيمة في الرياض:

* ليس شائعاً أن يهتم الفرنسيون بالأدب السعودي، ومع ذلك ترجمت دار "لامارتان" في باريس، وهي دار معروفة ومرموقة، مجموعتك القصصية "مساء الأربعاء"، فكيف وقع الاختيار على الكتاب، وما هي ردود فعل القارئ الفرنسي عليه، لا سيما وان القصص نابعة من قلب البيت السعودي؟

ـ صحيح ما تقولين، فالفرنسيون ليسوا شديدي الصلة بالأدب السعودي ليبحثوا عنه، لكن الصدفة وحدها هي التي قادت كتابي للترجمة الفرنسية. فذات يوم قابلت سيدة فرنسية في الرياض يعمل زوجها بالسفارة الفرنسية قالت لي أنها أحبت قصصي في مجموعة "مساء الأربعاء"، وعندما سألتها عن الكيفية التي قرأت بها قصصي أخبرتني ان صديقاً فرنسياً لها اسمه جان إيفل جيلون قد ترجم بعضاً منها، وقرأها لهم في اجتماع أدبي دوري يلتقون فيه كل أسبوعين. تعرفت بعدها على عائلة جان إيف فوجدت زوجته عربية سورية تحب الأدب وتعمل في مجال الصحافة العربية وزوجها الفرنسي مهتم بالتاريخ والتراث والأدب العربي، أخبرني انه تحمس لترجمة قصصي لأنها تعكس واقعا محليا للمجتمع السعودي. وعندما عاد الرجل إلى فرنسا اخبرني بعزمه على ترجمة القصص كلها ونشرها هناك عن طريق دار لامارتان. وهكذا توفر لي، كما سمعت فيما بعد، قراء فرنسيون، اتصل بي بعضهم، وقابلت البعض، وقد دعيت مرة لمدينة "نانت" الفرنسية لحضور مهرجان سينما العالم الثالث، وقد تعرفوا علي عن طريق كتابي، الذي رأيته مصفوفا في مكتبة بنانت مع كتب لأدباء وأديبات عرب!

* ظاهرياً، الكتاب مجموعة قصصية ويروي حكايات مختلفة، لكنه في العمق، وعلى تباين الأسماء والشخصيات، يكاد يكون رواية متعددة الوجوه والملامح لنساء متشابهات.
فهن وحيدات ومخدوعات وخانعات في آن، فهل العلاقات الثنائية في المدينة السعودية مختزلة في هذا النمط في رأيك، أم أنها محاولة منك لتكثيف الإيحاءات، وحصد التعاطف مع نساء في الأسر؟

ـ هذه المجموعة هي كتابي الثاني، كتبته بعد تجربة زواجي ودخولي عالم المتزوجين والمتزوجات مع زوج رائع ساعدني على فهم تعقيدات عالمنا العجيب (عالم النساء والرجال). قبل الزواج كان كل ما يشغلني الحب والشعر والبحث عن رفيق، بعد الزواج أصبحت في مواجهة حقيقية مع المجتمع وعلاقاته الثنائية بين النساء والرجال. وهو ما جعلني أتأمل هذا العالم وعلاقاته بدهشة وفضول شديدين. اكتشفت انه عالم ينمو كل طرف فيه ليس باتجاه الآخر بل بعيدا عنه. فكل مكان أذهب إليه مع زوجي لا بد أن ننقسم، هو يذهب لقسم الرجال، وأنا اذهب لقسم النساء، في بيت أهله، في بيت أهلي، بين الجيران حتى في حديقة الحيوانات. هناك دائما قسم ينضم إليه هو وقسم أنضم أنا إليه. أنا أذهب حيث يتعاطى النساء هموم ارتباك مواعيد حيضهن، والفروق السبعة لأشكال وحامهن بأطفالهن وتقاسيم ولاداتهن المتكررة، وهو يذهب إلى قسم الرجال، حيث لا ينقل الرجال عادة لزوجاتهم ما دار بينهم لأنها أحاديث كما يسمونها عادية. وحين اجتمع بزوجي بعد ذلك، لا نعرف كيف نجد قواسم مشتركه لعوالمنا. الرجال والنساء في بلاد ي على ما أظن لا يمنحون الفرصة للتعرف على شركائهم. فالرجل لا يرى زوجته إلا في دور وحيد وهي في ثياب المطبخ أو السرير وهي لا تراه إلا في "البيجاما" أو خارجا لعالم الرجال، حيث لا مكان لها معه. ولهذا فكل منهما يعيش متعطشا لرفيقه الحلم الذي يعيش بدونه ويتوق للقائه. الرجال في مغامرات شقية يعودون بعدها فارغي الروح، والمرأة ربما تنتحر في محاولاتها الساذجة، إما بصناعة قفص من (العيال) حتى لا يطير الزوج أو في حكايات بعضها يقودها للهاوية. هذا ربما ما حاولت أن أقصه دون عمد مني لاختزال الحياة في صور شديدة الضيق، لكنها نافذة تهيأت لي ربما عن طريق الصدفة أو القدر. إنني أقص حكايات لا جديد فيها غير أنها لا تزال تحدث حتى يومنا هذا!

* الرجال هم أيضاً متشابهون إلى حد مذهل في القصص، وتردد البطلات في أكثر من مكان قائلات: "هل كل الرجال هكذا"، إنهم مخلوقات عاجزة عن الحب "أفواههم لا تفتح إلا للزعيق" و"يتسكعون حتى آخر المساء، وحين يعودون تظل قسمات وجوههم مغلقة حتى يناموا". لماذا يصعب على الرجل كسر القالب الذي يجعله نسخة عن الذكور الآخرين الموجودين حوله؟

ـ عادة لا يحاول تغيير الواقع إلا المتضرر منه كما نسمع في المقولة القانونية (على المتضرر اللجوء للقضاء). ان الرجل في بلادي، ظاهرياً، يعيش في دلال اجتماعي، لكنه دلال يفرغه من معناه الإنساني، ويجعله كائناً أسطورياً، يكفيه انه منح السعادة لذويه بقدومه السعيد لهذه الدنيا. عدا ذلك فهو يخرج للعالم ويجده مفصلا له حسب مقاساته، كل مكان هو قادر على اقتحامه بحرية باستثناء مجالس الحريم. أنا هنا لا اطرح نفسي "فمينست"، بل على العكس إنني أجد الرجل ضحية أخرى، لكن في الجانب المعاكس، لقد تلوثت عنده عبارات حقوق المرأة بالعهر والخروج عن الأخلاق، وهم بهذا يحرمونه من فرصة العثور على رفيقة راشدة وعاقلة يستمتع معها في رحلة هذه الحياة القصيرة. وهكذا نتحول نساء ورجالا إلى مخلوقات تائهة وناقصة تشكو من الوحدة طويلا!

* ثمة مفارقات عديدة لافتة في أجواء القصص، فالنساء عاملات وموظفات في غالبيتهن الساحقة، يغادرن البيت مع أزواجهن في الصباح، لكن عمل المرأة الذي كان وراء الانقلابات الاجتماعية الكبرى في العالم، يبدو وكأنه مجرد "اكسسوار" هامشي لا يقدم ولا يؤخر في حياة نساء القصص؟

ـ ما تقولينه صحيحا، ففي حين يدفع عمل المرأة إلى تحريرها، فإنه هنا لدينا لا يتعدى مجرد اكسسوار مربوط بعناية حول عنق المرأة لا تستطيع التحكم به، بل قد لا يتعدى لديها كونه فسحة للخروج من البيت. حجم مشاركة المرأة لدينا في سوق العمل السعودي لا تتعدى 6% من مجتمع النساء، ومعظم هذه المشاركة منصب في تعليم البنات في المراحل الابتدائية حتى صفوف الثانوية. الأدوار ضيقة ومنفصلة عن الحياة الحقيقية، ومرسومة بعناية، ولا توفر عادة شروط نمو الذات وتطوير المهارات، لمن تتعدى مقاساته هذه الأدوار. كل شيء مرسوم، وعلى الموظفة إتباع حذافيره. إنها (أقصد الوظيفة) غرفة زائدة من غرف البيت، تذهب إليها المرأة بصحبة سائقها ثم تعود إلى المنزل مرة أخرى.

* مفارقة أخرى تدعو للدهشة، وهي علاقة شخصيات القصص بالتكنولوجيا، كأنما الآلة شديدة السلبية، لا بل هي خرّابة البيوت العامرة. فالتلفون نافذة الجنسين لترتيب الخيانات، "البيجر" هو أيضاً أداة جديدة تجر إلى دمار العلاقات الزوجية، والجوال بديع لإجراء المكالمات المشبوهة، والصورة الفوتوغرافية وسيلة إحدى البطلات للتعرف على غريمتها؟ فهل هذا يعني أن الحداثة انحرفت خطأ عن مواضعها في المجتمع السعودي؟

ـ التكنولوجيا لا تقدم غير صوره للواقع الذي هي فيه. إنها نوافذ على المحيط، فان كنت تشرف على حديقة فلن ترى غير الزهور والأشجار وستسمع غناء العصافير، وان كنت تشرف على خرابة فلن ترى غير حطام الأشياء وتشم رائحة تكدسها العفنة. هذه هي التكنولوجيا التي تكدست في بيوت أبطال قصصي، فضحت ريبة العلاقات التي تقوم على بحث زائف لرفيق ضائع، بينما لا يحظى الرفيق القريب إلا بملاحظات شرطة الرقابة، متى تذهب ومتى ستعود.

* وكي نستكمل الفكرة، يمكننا القول ان الملاحظة التي تبديها إحدى الزوجات حول الأمسيات التلفزيونية لافتة فهي تقول: "في المساء لا يهددنا سوى هذا الغنج الذي لا تجيده سوى هؤلاء العاهرات". وفي قصة أخرى زوج يتأمل مساءً نساء الصحف والمجلات وكأنه يبحث بينهن عن فتاته، فإلى أي مدى ترتبك الحياة الاجتماعية بسبب التناقض الحاد بين الخارج والداخل؟

ـ شكرا لأنك اختصرت بمحاولة ذكية صورة الأنثى والذكر في نظرتهما للذات وللرفيق الحلم. الرجل يفتش عن حلمه في الصور الملونة والزائفة، والمرأة لا تقلقها غير تلك الصور التي لا تشبهها والتي كبرت على كرهها والتحذير من التشبه بها حتى صارت الأنثى تكره أنوثتها والغنج المترتب عليها في صورتين، انه التقاط جدا ذكي. الأنثى لدينا لا تتصالح مع هذه الجزئية في شخصها، فالغنج هو فقط للعاهرات، والرجل يبحث في الصور والمجلات عن هذا الغنج. كل منهم مغترب عن رفيقه وعن حاجاته.

* أنت باحثة في العلوم الاجتماعية وتحضرين أطروحة حول العولمة والمجتمعات الخليجية، إلى أي مدى يفيد أدبك من نتائج أبحاثك، أم ان الأدب هو شأن التجليات الشعورية؟

ـ تخصصي هو الجسر الذي قادني للخروج من الذاتي للعام، فهو الذي أكد لي دون شك أن همومي كامرأة ومواطنة، هي واقع مشترك مع آلاف النساء في بلادي والعالم كله، وهو الذي يضيء لي مكامن الخلل التي قد يظنها البعض شخصية بحتة!

* لك "مجموعة قصصية" جديدة تحت الطبع، هل تستكملين من خلالها الخط الذي بدأت رسمه في "مساء الأربعاء" أم أنها تدور في أجواء أخرى وما هي؟

ـ مجموعتي التي تخرج هذه الأيام من "دار الآداب" بعنوان "حبة الهال"، هي مجموعه قصصية تمثلني في مرحلة ثالثة، وبوعي ربما أكثر معرفة مما سبق. كتبت حول همي الرئيسي لا شك، هموم النساء في السعودية المختبئات في كهوفهن، لكني زدت هذه المرة بعض قصص السعودية قبل مظاهر النفط، والتي تحكي قصص نساء أيضا تضيع أرواحهن في البحث عن الحب أو الرفقة السعيدة، والاعتراف بكينونتهن، وخياراتهن الحرة في الحياة.

* يتنامى عدد الكاتبات السعوديات بسرعة لافتة، والواضح أنهن في غالبيتهن صاحبات نفح تغيري حماسي، وكتاباتهن مفتولة العضل على عكس بطلاتك، فكيف تعلقين على ذلك؟

ـ أتمنى أن ما تقولينه أصدق مما أفكر فيه وأحاول ترويجه عبر مقالاتي وقصصي. لدينا اليوم كاتبات أكثر مما كنا بالأمس، وعيهن فائر بالرغبة في التغيير، وحماسهن شديد للتعبير عن هذه الرغبة لكنهن لا يتعدين عشر كاتبات يتوزعن على عشر صحف، ويظل حضورهن حضور عصافير ما أن ينتبه أحد أنها تغرد حتى يبدأ بتحريض الآخرين على اصطيادها أو رجمها والأهم من كل هذا أن المرأة لدينا لا تزال تحارب بشراسة دون درع قانوني أو تنظيمات رسمية تكفل لها حقوقها. وكل حرب بلا قانون هي حرب تخسر فيها المرأة بلا شك.

* "مساء الأربعاء" مقيت لأن النساء يقضينه وحيدات، معذبات بالشك والغيرة، بدل ان تكون ليلة يوم العطلة الأسبوعي مناسبة للم شمل العائلة. وأنت في كل المجموعة تضربين على هذا الوتر بتشاؤم مظلم، ثم تتركين النهايات معلقة ومفتوحة على المجهول، فماذا تضمر هذه النهايات عند الكاتبة؟

ـ مساء الأربعاء لم يكن فقط يوما في أسبوع امرأة بل هو فصل كامل في حياة امرأة. فنحن نعرف أن مساء الأربعاء عادة، أو مساء الجمعة عند الغرب، أو بعض البلدان العربية هو نهاية الأسبوع، أي موعد مع الفرح مع الصحبة الممتعة مع الغناء، مع المسرح، مع أي شكل من أشكال الحياة البعيدة عن التجهم والعمل المضني. لكن بطلتي لا تجد في ذلك المساء نفسها مشغولة إلا بطهي الخبز وملاحقة واجبات الأولاد وزوج يتهيأ لسهرة نهاية الأسبوع، في جو تخاف منه كالعادة لأنه يذهب وحيدا إليه، فتلبسه كل خوفها وشكوكها، بينما تجلس وحيده في البيت تشاهد الفرح الذي لا تجيده غير ممثلات التلفزيون، وهي ممنوعة حتى من ركوب حافلة في الشارع المجاور لو رغبت بالتسوق أو زيارة أحد!

* ثمة سؤال لا بد يخطر للقارئ : الرجال الذين صورتهم يعيشون في عالم ذكوري يظنونه متسعاً لكنه يطبق عليهم، لهذا ربما يسافرون باستمرار حيث "كل المدن تتسع للرجال دون نسائهم"، ومع ذلك لا يشفون من قلقهم وتجهمهم ولامبالاتهم تجاه نسائهم، أما من علاج لهذه الفحولة المتطرفة، ولماذا لم نر للترياق أي ظلٍ أو سراب في القصص؟

ـ حين كتبت قصصي الهائمة على وجهها في البحث والأسئلة لم أكن قد عرفت الإجابة بعد. كنت أظن أن الرجال أحرار أكثر منا نحن النساء، لكنني اكتشف اليوم أن الرجال مساكين مثلنا هائمون على وجههم في فراغ آخر. فهم يجربون أكثر من النساء في البحث، لكن تجاربهم لا تملأ أرواحهم ولا أحلامهم بالرضا، إنها فقط رغبات جسدية يعودون بعدها مثلنا، ظامئون يحنون لعلاقة إنسانية حقيقية في مجتمع طبيعي. وطالما أن الحوار بين المرأة والرجل لا يتطور باتجاه بعضهم البعض، فلن ينجح أي منهم في الخلاص من رحلة التيه هذه، والأوهام التي يصنعها كل منهم بعيدا عن الآخر بفعل بعض الترسبات الثقافية التي تجاوزها الزمن، هي ما يزيد غربتهم عن بعض. الرجل السعودي لن يحب نانسي عجرم إلا في الخمس دقائق الأولى لأن صورة نانسي عجرم لا تستطيع أن تعينه على فهم نفسه، وكذلك وائل كفوري الذي ستحب البنات رقصه وغناءه لكنهن دائما يعشقن الحوار الطبيعي مع أبي الغترة النجدية.

الشرق الأوسط- 20 أكتوبر 2003