محمود قرني
(القاهرة)

أسامة الدناصوري
أسامة الدناصوري
الشاعر أسامة الدناصوري احد شعراء قصيدة النثر في مشهدها الأخير، اقصد مشهدها التسعيني، وهو احد هؤلاء الشعراء الذين بدأت علاقتهم الشعرية بقصيدة النثر مباشرة بعيدا عن مؤثرات الكلاسيكية الشعرية في شكلها العربي.

يبدو ذلك شديد الوضوح في تجربة أسامة المقطرة التي لا يمكنها أن تقبل أي ترهلات، شديدة التكثيف والتحديد، غير أن أسامة يختلف عن أقرانه في أشياء كثيرة، فهو ليس ابن المشاعر المحايدة، لذلك يبدو صاحب انحيازات إنسانية علي الأقل، ربما لذلك تبدو جملته أكثر قطعية، وربما يشير ذلك الى انتمائها لخطاب، وانتمائها لحكمة تعيد الشاعر الى أسلافه الماغوط وانسي الحاج كما يقول هو في هذا الحوار.

وأسامة الدناصوري في ديوانه الجديد عين ساهرة وعين مندهشة الصادر حديثا عن دار ميريت للنشر والتوزيع، يبدو أكثر تماسكا ونضجا واكتمالا وتبدو شعريته أكثر تحللا من الميراث الذي يشير إليه باعتباره مرجعيته الأولي.
وتظل التحفظات التي يمكن لواحد مثلي أن يبديها علي مثل هذه الشعرية محض مواقف شديدة الخصوصية لا تعني مطلقا التقليل من قيمتها أو حضورها، لكنها تعني فقط أن ثمة شعريات أخرى يمكنها الحضور والفاعلية، لكنها ربما تكون شعريات تختلف اشد الاختلاف لأنها بالقطع ستكون ابنة ذاكرة أخرى ومفاهيم أخرى توسع نسبيا من رئة العالم، وطريقة النظر إليه. وربما كانت إجابات الدناصوري في هذا الحوار كما قال لي حيث تساوي أو تزيد قليلا عن حجم الأسئلة هي ابلغ دليل علي قناعاته الشعرية التي يسير في ظلالها ويؤمن بها، وهي إجابات وان اختلفنا مع بعض منطقها، ومع الكثير من تجلياتها، الا أنها فضلا عن حقها في الوصول تعبر بشدة عن شخص صاحبها وقناعاته، بل ربما عبرت عن قطاع عريض من الإقران الذين يساهمون في صناعة المشهد الشعري الراهن في مصر.
ويعتبر الديوان الذي هو موضوع هذا الحوار الرابع في منجز أسامة الدناصوري، فقد سبق له أن أصدر ديوانا بالعامية المصرية، ثم ديوان حراشف الجهم ، تلاه ديوان مثل ذئب اعمي وأخيرا ديوانه عين ساهرة وعين مندهشة .
حول قصيدة النثر بدايتها ومسيرته ومؤثراتها ومرجعيتها وعلاقتها بالماضي والحاضر يتحدث أسامة الدناصوري.. وهنا الحوار:


تبدو الملاحظة الأولى علي ديوان عين ساهرة وعين مندهشة وعلى أعمال بشكل عام انك تلجأ الى الابتسارات اللغوية حيث تبدو اللغة شديدة التعقيم ولا تقبل أي تزيدات أو ترهلات.. كيف تفسر ذلك؟ وكيف تري ظلال الرمزية لديك؟

اللغة المكثفة أي تلك التي تخلو من الزيادات والترهلات هي مسعاي الدائم، أن وجود مفردة واحدة في غير مكانها، أو جملة غير مستريحة يجعلني مؤرقا وقلقا حتي يتم تعديلها وان استمر ذلك سنوات أما بالنسبة لظلال الرمزية فهي لم تكن أبدا هاجسا من هواجسي ولكنك رغم ذلك لن تعدم وجود ظلال لها هنا أو هناك.

تبدو ظلال شعريتك ذات إحالات الى تجربة قصيدة النثر الريادية، هل هذا صحيح، وكيف تري العلاقة بين الشعرية الراهنة وماضيها؟

نعم بوسعك القول أنني ابن مخلص لقصيدة النثر الريادية، وبالتحديد الماغوط وانسي الحاج. كتبت قصيدة النثر عام 1986 اثر قراءتي لديوان لن و حزن في ضوء القمر ، وافتتاني بهما رغم التباين الحاد بينهما من حيث طبيعة اللغة الشعرية ومكان الرؤية، ونوع المواضيع التي تهم كلا منهما. بمرور الوقت حدث تغير في ذائقتي. انحرفت قليلا عن انسي الحاج وبالتحديد عن لن والرأس المقطوع وان كنت أحب أعماله اللاحقة أكثر.

وظللت محبا لشعر الماغوط، كما أنني مازلت أحب شعر أمل دنقل، رغم انحراف ذوقي أيضا عن بعض اداءات أمل والماغوط الأسلوبية، الا إنني اصدقهما وأستطيع القبض بحميمية علي تجربتهما الإنسانية وأحس بتآخ وألفة مع روحيهما، إما عن علاقة الشعرية الراهنة بماضيها فلا يمكنك تخليص الحاضر من الماضي.
بمعني أن القصيدة الراهنة حتي وان كانت متجاوزة أو رافضة لقصيدة سابقة الا انك لن تعدم وجود آثار تدل علي تاريخ النوع.

هل يمكن نسبة هذا التصور الى كلاسيكية ما وهل يمثل ذلك شيئا من النكوص في المواصفات التي إشاعتها قصيدة النثر عن نفسها؟

بالطبع لا أنا طوال الوقت اكتب ما أؤمن انه يعبر عني خير تعبير في لحظة الكتابة، حتي وان كنت أحيانا اشعر أن شكل الكلام ينحرف نحو كلاسيكية ما، كنت أجدها جميلة ولم افرغ من ذلك. وأنا بشكل عام لم أكن مولعا علي الإطلاق بالتجريب لمجرد الانتماء الى حداثة ما أنا اكتب لغتي، محاولا طوال الوقت الوصول الى صوتي الخاص، ولكنتي الخاصة أيا كانت.

إذا أمكننا العودة الى المواصفات التي إشاعتها قصيدة النثر عن نفسها من التحديد، البساطة، الانتقائية الى أي حد كنت وفيا لهذه المواصفات وكيف تري صورة اللغة حال تعقيمها الى حد الركاكة؟

التحديد، البساطة، الانتقائية: بكلمة واحدة: الدقة. نعم أنا مع لغة بهذه الصفة. إما الركاكة أو البساطة الشديدة فهي موجودة أيضا. ولا أجد غضاضة في كلمة ركاكة ولكنها ركاكة مخادعة في ظني ومقصودة تماما في مواضع محددة. لقد أخذت لغتي وقتا في الرحلة من التركيب الى البساطة أن التركيب في اللغة من الأشياء التي صرفتني سريعا عن قصيدة السبعينات، خصوصا عندما يكون التركيب شكلانيا وينتهي الى مجرد براعة لفظية في أحسن الأحوال.
وكما أن التركيب لا يعني الثراء فان البساطة لا تعني الفقر وبالنظر الى النماذج المجانية لي أجد أن هناك نفورا عاما من التركيب في سطح اللغة وبالتالي أرى لغة سهلة في بنائها للجملة. ولكنني قليلا ما أجد لغة جميلة لها طعمها ونكهتها الخاصة التي تشير الى شاعر بعينه.

هل تعتقد أن الهدوء النسبي الذي يخيم علي الساحة الشعرية المصرية يعني أن قصيدة النثر قد استقرت فعلا واستقر شعراؤها ونموذجها أم تراه لأسباب أخرى؟

أن هدوء الساحة الشعرية المصرية ملاحظ بالتأكيد لقد خفت الضجيج وانحسرت الفوضى التي صاحبت بدايات قصيدة النثر، وتستطيع القول أن هناك ملامح واضحة الآن، ولكن ليس بمعني وجود تيار أو اتجاه عام للكتابة وهناك شعراء بالفعل افرز تهم التجربة بالتأكيد شعراء. شعراء مكتملون من أجيال مختلفة. كل له لغته الخاصة وطريقة أدائه.

هل تعتقد أن الحركة النقدية في مصر استطاعت الوقوف علي الملامح الحقيقية لقصيدة النثر وكيف تري أنت هذه الملامح وهل تري أن المنجز الراهن كاف للحكم علي هذا النص؟

أي ملامح تقصد؟ هل تقصد تلك الأوصاف التي أطلقها النقاد علي قصيدة النثر الجديدة في مصر: شعر الحياة اليومية، شعر التفاصيل، شعر الأشياء الصغيرة، معاداة المجاز والبلاغة القديمة، خرق التابوهات، بالطبع لا لان هذه السمات أو الملامح مرحلية وتخص لحظة بعينها وقد تختفي في لحظة تالية وتظهر ملامح أخرى تناسب تلك اللحظة وهذا ما حدث.
لم يعد الآن احد يفتش في القصيدة عن التفاصيل أو الأشياء الصغيرة أو تابوهات مخترقة. إما بخصوص الجزء الثاني من السؤال: فان كنت تقصد منجز قصيدة النثر في مصر أقول لك نعم انه كاف تماما للحكم عليها، هناك شعراء عديدون أراهم ناضجين ويكتبون شعرا جميلا وجديدا، واعفي من ذكر الأسماء كي لا انسي أحدا.

يحاول البعض إعادة قصيدة النثر الراهنة الى مرجعيات تراثية مثل سجع الكهان والتراث المتصوف، هل تجد في النص الراهن علاقة حقيقية وعميقة بهذا الماضي وأين تكمن مرجعيته؟

أن القول بوجود آباء لقصيدة النثر في التراث العربي القديم: كتابات المتصوفة مثلا لهو قول ينطوي علي تعسف كبير ورغبة في الانتساب الى شجرة وهمية، ورعب من الوقوف في العراء والاتهام بالانقطاع.
قصيدة النثر في رأيي تنتمي للنثر الحديث. نثر السرد، ونثر الصحافة والي الشعر المترجم أكثر من انتمائها الى التراث النثري القديم.

نشرت ديوانا بالعامية. لماذا العامية وهل تري سياقا لهذه التجربة في سياق تجربتك الشعرية عموما؟

أن لنشر ديوان العامية هذا حكاية.
لقد نشرته نزولا على رغبة صديقي محمد المزروعي الذي قام بجهد طباعته كاملا.
وقد كنت مترددا نظرا لقدم القصائد وتمثيلها لي في لحظة قديمة باستثناء قصيدة مجدي الجابري الحديثة نسبيا التي كتبت نثرا أيضا. الا أن إعجاب المزروعي بالقصائد وحماسه لنشرها طمأنني. وهي في النهاية جزء مني علي كل حال. ولقد فرحت به بعد صدوره.

هل تعتقد أن الاستحقاقات الحاصل عليها جيل الريادة لا زالت مبررة، وكيف تري مركزية الأداء والحضور في الشعر العربي؟

أنا لا اعرف ماذا تقصد؟ هل تقصد الرعيل الأول من شعراء التفعيلة. أم أدونيس أم رواد قصيدة النثر.
في رأيي أن الفاعلين والمؤثرين لا ينتمون لجيل بل أستطيع أن أشير الى شاعرين أو ثلاثة قادرين علي التأثير كل حسب لغته وأداته حتى الآن. أن من اعتبرهم كذلك في رأيي هم: الماغوط وسركون بولص ووديع سعادة.

كيف تري سياسة الاحتواء التي تمارسها المؤسسة الثقافية وكيف تري صناعة النجم لديها هل هي فعلا سياسة تحتكم الى معيار قيمي؟

بالطبع لا يخفي علي الناظر الفطن للساحة الثقافية من مصر أن الاحتواء من قبل المؤسسات والنجومية التي يحظى بها البعض لا يعني بأي حال حكم قيمة أو أن هؤلاء هم أفضل الموجودين. أن هذا يحدث دائما في كل العصور.
لأنه يتوقف أولا علي براعة اجتماعية ومصالح مشتركة وليس للموهبة الحقيقية دور كبير في ذلك.

المصدر جريدة القدس العربي
2003/04/07


إقرأ أيضاً:-