حوار : عبد الرزاق الربيعي

منذ أن التقينا لأول مرة في بغداد عام 1987 عندما جاءنا ضمن وفد ثقافي كويتي وأحاديثنا - أنا والشاعر والكاتب احمد الدوسري - لا تنقطع، عبرنا مدنا وجبنا مسافات وابتعدنا عن بلدينا والحوار كل يوم يطول ويزداد، فأنا والدوسري رحلة مستمرة من الأوجاع والآهات والنزيف ولا أستطيع أبدا أن أنسي لحظة غادر منصة قاعة ابن النديم ببغداد أثناء استغراقه في قراءة إحدى قصائده الطويلة لأواصل قراءتها نيابة عنه !! دون إنذار مسبق، وبعد انتهاء الأمسية سألته عن السبب، فأجاب: جراحنا يا أخي واحدة ودمنا واحد والعبء العربي واحد، فلماذا لا تشاركني النشيد؟
حينها عرفت أن أحمد الدوسري مسكون بهاجس الهم العربي ، لكنه سرعان ما أصيب بصدمة عنيفة عندما جاءت حرب الخليج الثانية لتدق آخر مسمار في نعش القومية العربية- هكذا أحسسنا حينها ــ وهو الذي كان قد غادرنا قبل ذلك إلي الكويت عائدا بجرح مفتوح مما شاهده. لكنه سرعان ما اختفي وانقطعت أخباره عنا وسط أسئلة غامضة من أهله عن مصيره، وبعد شهور عرفت انه كان سجينا في البصرة مع اثنين من أشقائه ومجموعة من الكويتيين !!، وبعد انتهاء الحرب وخروجه من السجن عاد إلي الكويت، وعاود نشاطه الصحفي فيها ولمع اسمه بسرعة صاروخية متسلحا بثقافته الأكاديمية وتجربته المؤلمة وإصراره علي استمرار الحياة رغم انف الدمار،لكنه فوجئ ذات يوم بمن يقتاده إلي غيابة الجب وفي سجون الكويت هذه المرة وكانت طعنة جديدة لم يتحملها جسده الذي أصابه المرض والوهن والكوليرا والخيبة، بعد خروجه من السجن قرر إدارة ظهره لكل ما يمت بصلة لهذا الجرح الدامي الممتد من الجحيم إلي الخليج.

وتوجه صوب أوروبا مقيما في جنيف مواصلا دراسته الأكاديمية لينال درجة الدكتوراه في شعر الجزيرة العربية وليؤسس مشروعه الإبداعي الذي بدأه بطبقات التعساء وروايته الظلام من الشمال وديوانه المواظبات والمآخذ وترجمته لأعمال سيلفيان دوبوي وموريس شاباز وجوزيه فلو تابي وأنطولوجيته عن الشعر السويسري الحديث ومسرحياته العديدة بالإضافة إلي مقالاته النقدية والفكرية والسياسية. ويبدو أن الدوسري لم يكتف بذلك ففاجأنا أخيرا بمشروع ثقافي وفكري متميز هو مجلة تحمل اسم الآخر صدر العدد الأول منها عبر الانترنيت ويحاول طبعها في القاهرة بعد أن حصل علي ناشر يدعم هذا المشروع الذي أخذ مساحة واسعة من حديثنا هذا.

دعني أتحدث عن مشروعك عن الآخر ...هل تعني به استشراق مضاد؟

- نعم أنا أدعو إلي دراسة الآخر بكل ما أوتينا من أدوات معرفية مباشرة. إن هذا سيساعدنا كثيرا علي فهم العالم. ليس هناك أيديولوجيا خلف هذه الدعوة. نحن لا نريد من وراء المعرفة والفهم استعمار الآخر. إنها عملية حراك حضاري للأمة العربية. وهي دعوة عملية أيضا. انظر مثلا عندما تحتاج دولة عربية إلي إقامة علاقات كاملة مع شعب من الشعوب فإنها لا تجد في الدولة بأكملها من يعرف شيئا عن الدولة الأخرى. كل ذلك ونحن في زمن الثورة المعلوماتية. وعندما ينوي وفد ثقافي أو اقتصادي مثلا من إحدى الدول العربية السفر إلي الصين كم سنجد خبيرا في الشؤون الصينية. كم شخصا لدينا يتحدث اللغة الصينية؟ كم شخص لدينا يعرف الصين؟ ثقافتها واقتصادها. تراثها وأدبها وشعرها. هذا عن الصين التي تعادل سدس العالم ؟ لا نعرف عنها شيئا؟ بل أن هناك دولا مجاورة جدا ولا نعرف عنها شيئا. هذا في اعتقادي عيب حضاري كبير. وفيه ضياع لمصالح الأمة المشروعة وعلاقاتها التجارية والثقافية والاقتصادية والسياسية.

وماذا تستطيع أن تفعل كمثقف؟

- نستطيع كمثقفين عمل الكثير بالطبع. من ناحيتي مثلا فقد أسست مع الصديق الشاعر والكاتب شاكر لعيبي والشاعرة والكاتبة السويسرية سيلفيان دوبوي والكاتب عبد العزيز الدوسري مجلة الآخر التي نرجو من الله سبحانه وتعالي أن تكون نواة هذا المشروع. ولدينا أصدقاء سويسريون آخرون مهتمون بموضوعة الآخر علي أساس من النظرة المتساوية للإنسان ولنشر التسامح والفهم بين الثقافات والشعوب علي الضد من المفهوم الأمريكي لتصادم الحضارات وانتهاء التاريخ والعولمة بمفهومها الأمريكي الضار وأخيرا مشروع بوش لنشر الدرع الصاروخي. وهو استكمال لمشروع اليمين الأمريكي المتعصب الذي بدأه الرئيس ريغان. وهو في الحقيقة تكريس لهيمنة أمريكا علي العالم. وكلمة هيمنة كلمة وادعة. إذ أفضل كلمة افتراس أمريكا للعالم. ونشر الرعب النووي وتشجيع التسابق علي التسلح. وردع العالم. ردع العدل. وأي محاولة لأنسنة الإنسان خارج الولايات المتحدة الأمريكية. بل حتى داخلها. وهو أيضا درع للعولمة التي هي روح راعي البقر الأمريكي الذي يريد تصفية وإبادة الهندي من أجل الاستيلاء علي أرضه ومقدراته. إنها الفلسفة ذاتها بإخراج هوليوودي أبيضي جديد. لأن أمريكا لا تسمح لأي شعب أن يتحرر وينتج ويبدع ويزرع ويأكل ويصنّع. إنها تتآمر علي العالم. حتى علي حلفائها. ألمانيا علي سبيل المثال تتكبد شركاتها كل عام عشرات المليارات بسبب التجسس الأمريكي والسرقات. إن العولمة الأمريكية أو الأمركة هي نشر لأنماط فاسدة من العلاقات بين البشر، نشر للانتهازية وحب الذات والأنانية والاستخدام المفرط للمصلحة والعنف والمخدرات والجنس والهامبورغر، والاستهتار بالإنسان وتقليصه إلي مجرد آلة أو أداة للإثراء السريع. وباسم المصالح تهان كرامة الإنسان وينهب ويقتل ويشرد ويسجن ويمسخ كل ما هو إنساني وجميل. إنها جناية علي البشرية. إن ثمة حلولا أخري لهذا العالم بالتأكيد غير الحل الغربي له؟

مشروع ثقافي بالفرنسية

وما المطلوب من الآخرين علي صعيد مشروعك للآخر؟

- المطلوب من المثقفين العرب وكل من يستطيع الكتابة في كل مكان لا سيما أولئك الذين يعيشون في دول أخري غير دولهم، سواء كانت دولا آسيوية أو إفريقية أو أوروبية أو أمريكية أن يكتبوا عن البلدان التي يتواجدون فيها. عن كل شيء ابتداء من التجارب الحياتية البسيطة إلي التراث والاقتصاد والأدب إلي السياسة والجغرافيا. لدينا اليوم آلاف من المثقفين والكتاب العرب ممن يعيشون لدي الآخر. ويتحدثون لغته. ومن بينهم من يكتب أيضا بلغته. نريد منهم أن يكتبوا لنا عن الآخر بكل تفاصيله. وأنا أتحدث عن الآلاف لأنني أتحدث عن فئة الكتاب المحترفين. لكن يوجد في الحقيقة ملايين العرب خارج حدودهم. وهم يمثلون ثروة حقيقية للمعرفة. هذا هو الجناح الأول لمشروعنا. أما الجناح الثاني فهو التأسيس لفكر آخر. لرؤية أخري. لمصير آخر. غير الذي يحاك للإنسانية في الوقت الراهن بتناغم شيطاني غريب. لهذا الهدف يوجد لدي%D