يكتب على الهواء مباشرة ومعاركه في الشعر شخصية

حسين بن حمزة
(سوربا)

لقمان ديركيلم يتحدث لقمان ديركي في هذا الحديث سوى عن نفسه بل إنه بالغ في الحديث عن نفسه وتقصّد ذلك على ما أظن. وحتى حين ذكر آخرين في كلامه فالأرجح أن السبب الأهم عائد إلى أن هؤلاء أحبوه أو تحدثوا عنه بإعجاب يوما ما.
يضع لقمان ديركي نفسه في نصه، ومن الطبيعي، بالنسبة إليه، أن يكون الحاضر الأبرز أو الأوحد في كلامه. يرغب في أن يجعل الكتابة الشعرية أكثر إقامة في الحياة والعيش العادي والعاري، ويرى في تشرده وتسكعه اليومي في مقاهي وبارات دمشق مادة أساسية للقصيدة التي ينبغي، في رأيه، أن يقبل على قراءتها جمهور واسع ليس بالضرورة أن يكون مثقفا أو قارئا تقليديا.
صدور مجموعته الرابعة (الأب الضال) كان مناسبة لهذه الدردشة ولكن لقمان ديركي أرادها مناسبة لبيانات شخصية جدا عن الشعر وأحواله.

* (الأب الضال) هو إصدارك الشعري الرابع في أقل من عشر سنوات، هل هذا مواظبة على كتابة الشعر؟

بالإضافة إلى المجموعات الأربع هناك مجموعتان لم تنشرا، الأولى مكتوبة عام 1988 والثانية عام 1993. دائما عندي إحساس بأني كسول. لست مواظبا لا في الشعر ولا في غيره من المجالات. لا أعتقد أنني ملزم بشيء وأنا أستغرب كيف أنجزت هذا الكتاب أو هذه المسرحية أو هذا المسلسل. عندي فورات أكتب فيها، ولا أعترف باليوم مقياساً للزمن، فأنا لا أقسم وقتي إلى صباح وقهوة وكتابة. أنا من كتاب (الفزع)، فجأة أكتب ولفترات متواصلة ثم أتوقف عن الكتابة لشهور.
بالنسبة للشعر تحديدا، لقد أصبح جزءا من حياتي، أعمل لشهور وأعيش لشهور ويكون الشعر حاضرا دائما حتى يجد الوقت المناسب لكتابته، في البار أو في الشارع أو في البيت، حتى إن صديقي فارس البحرة قال لي بعد أن قرأ قصيدتي (وتركت لك):
(إن شعرك المكتوب في البيت أفضل من المكتوب في المطاعم والبارات).

* تريد أن تقول إن لك نظرة خاصة إلى الشعر؟

إن كانت هناك نظرة خاصة، فقد كوّنها أصدقائي الذين يقرأون شعري بلهفة. أحيانا يرسمون لي خريطة للكتابة بطرائق استقبالهم لهذا الشعر. أحيانا أكتب قصيدة في بار وسط صخب الموسيقى، وما إن أضع القلم جانبا حتى يركض ثلاثة أو أربعة لكي يقرأوا الورقة. أنا شاعر يكتب على الهواء مباشرة. وبالمقابل فإن أعدائي أو الأشخاص الذين يكرهونني يحرضونني دائما على الاستمرار. كثيرا ما أكتب الشعر بسبب النكاية وإغاظة البعض. دوافع كتابتي للشعر طفولية بحتة، أنا شاعر (عقله صغير).

نرجسية

* ومع ذلك وبرغم كل هذه الرغبة في جعل الكتابة شيئا ملازما للعيش وأقل منه أحيانا وأكثر انحطاطا كمعنى، فقد بدأت تجربتك تحت ظلال فصاحة قوية وكتابة متعددة التأويلات والطموحات خصوصا في مجموعتك (ضيوف يثيرون الغبار).

بدأ التحول الشعري عندي بمجيئي إلى دمشق، عندما تحررت من سطوة الزمالة الشعرية. فقد كان الزملاء في حلب هم أساتذتي ومنهم محمد فؤاد وعمر قدور وبسام حسين وعبد اللطيف خطاب. كنا نتحاسب على الكلمة بعنف وقسوة ومع قدومي إلى دمشق تخلصت منهم ومن قراءاتهم الأولى للقصيدة التي أعتقد أنهم كانوا يجبرونني على أن أعيدها مرات ومرات. أما الآن فأنا لا (أبيض) قصائدي، وأعتقد أن لا جدوى من شعر مصنوع ومهذب، لا جدوى من الشعر إذا لم يكن حاجة ملحة، بالإضافة إلى اكتشافي أن الشعر ليس مشروعا جماعيا وهو ليس مشروعا حتى. إنه عبارة عن متعة الكتابة يخترعها فرد لنفسه مدعوما ببعض الأصدقاء الذين يوهمونه بأنه شاعر كبير. كل أصدقائي يعتبرون شعري أفضل من شعر محمود درويش ونيرودا وأعتقد أن لدى كل شاعر، مهما بلغ من الرداءة، بعض الأصدقاء الذين يعتبرونه أفضل شاعر في العالم. ولكنني مع ذلك لدي مشاريع غير شعرية، مشاريع نرجسية. أريد أن أسمع شخصا يقول لآخر: (إن شعرك أفضل من شعر لقمان ديركي في يوم من الأيام). وأنطلق من مشروعي النرجسي هذا من الناس. أريد أن أكتب شعرا يقرأه كل الناس، أريد أن أعيد تجربة نزار قباني في الانتشار الأوسع.

* أليس هذا الكلام، الذي يبدو كأنه يهرب من أي توصيف عام، توصيفا واضحا وحاسما لما هو شعر حقيقي برأيك؟

أنا لا أستطيع أن أضع نظرية مسبقة للشعر الحقيقي ولكنني أستطيع ان أكتشف بعض الحقيقة في شعر نزيه أبو عفش وهالا محمد وبسام حجار ووليد خازندار وأمجد ناصر ولكن ما هي هذه الحقيقة، لا أعرف؟ الحقيقة هي ان أستمتع بالقراءة. أنا لا اقرأ الشعر كي أتعلم الكتابة أو كي أصبح مثقفا أو متحدثا. عندما يصدر يحيى جابر كتابا جديدا أبحث عنه لأنني أعرف أن هناك ما سيمتعني في هذا الكتاب. وأتشوق أحيانا لقراءة آخر ما كتبه الشاعر فارس البحرة أو منذر المصري. ولكنني في الحقيقة لم أتعلم من هؤلاء أي شيء. أنا أتعلم من حياتي فقط.

(الخيميائي) والطلاق

* من الواضح أن هناك رغبة شديدة في جعل حياتك الشخصية تتصدر عالم الكتابة وهذا يحضر بقوة في (الأب الضال). ولكن ما تقوله يبدو متضاربا مع إيمانك الذاتي بالشعر.

أنا اعتقد ان الشعر شيء شخصي، لذلك أنت لا تستطيع ان تتعلم من شاعر آخر. تستطيع ان تقرأ، بمتعة، شاعرا آخر، ولكن أنا استفيد من القراءة في جعل حياتي أفضل. فعندما كنت مترددا في موضوع طلاقي من زوجتي قرأت رواية (الخيميائي) لباولو كوالو فاتخذت القرار مباشرة. ولكنني لم أتعلم شيئا من هذا الكتاب كشاعر أو ككاتب، قال احد النقاد عن تشيخوف وديستويفسكي انك بعد قراءتهما تصبح إنسانا أفضل، وأنا عندما تغلق في وجهي جميع الأبواب، اقرأ مجددا ديستوفيسكي فأنتعش مجددا كإنسان. آلام الآخرين تعلمك في الحياة ولكن من المعيب ان تتلصص عليها ككاتب. لكل إنسان، كما يقول كويللو، أسطورته الشخصية، وأنا أسعى لبناء أسطورتي الشخصية. فإذا كان الشعر يساعد في بناء هذه الأسطورة فلا بأس من كتابتي له.

* حياتك في دمشق كصعلوك ووقاحتك وآراؤك الحادة والمستفزة بالإضافة إلى عملك في التلفزيون والمسرح... يعتقد الكثيرون ان كل هذا أسهم في ترويج شعرك وتداوله حتى بين الكارهين والأعداء؟

المجتمع الثقافي السوري يكره صناعة النجوم. وهم يقبلون بالنجم عندما يصبح أمرا واقعا وإلا فما معنى ان كل المؤسسات الثقافية لا تروّج لنتاجاتها. فالغريب ان هذه المؤسسات لا تريد ان تروّج لكتاب أصدرته هي وبالتالي نخسر ماديا وحتى معنويا فقط لكي لا يظهر نجم جديد. ولدى المثقفين السوريين كلمة شهيرة: (هل ينقصنا واحد جديد؟!). لذلك قررت أن أبدأ من الشارع. وكل قرّاء شعري حاليا ليسوا من قراء الشعر أصلا ولا يقرأون لشاعر آخر غيري. إنهم شبان وفتيات يحبون الرقص في البارات والسهر حتى الصباح ويتنافسون في مواضيع لا تخطر في بال المثقفين، أما المثقفون فقد أصبح شعري أمرا واقعا وأنا لست مسرورا بالإجماع الذي حصل عليه ديواني الأخير، أنا أحب نظرات الكراهية التي توجه إليّ وأستمتع بها. كم هو ممتع ان يكون مجرد وجودك في مقهى ما قاتلا لبضعة أشخاص. كتابي الأخير سبب مصالحة، مع الجميع، لم أكن أسعى إليها. وأنا لا أمتلك في داخلي هيبة الشاعر، وفي كثير من الأحيان أقول لفتيات يستوقفنني كممثل ويسألنني عن آخر أخباري (الفنية): لقد أصدرت كتابا جديدا اشتريته وسأوقعه لكِ. بل إن إحدى الفتيات اشترت كتابي وطلبت من الممثل فارس الحلو ان يوقع عليه!!. أنا مهووس بأمل ان يقرأ كل الناس الشعر ولكن ليس لدينا مؤسسات تريد ان تروّج لهذا الشعر. لذلك سأروّجه بنفسي وبكل الوسائل.

فراغ الشعر

* هل تعتقد ان كل ما تذكره سبب كافٍ لكي ينال هذا الشعر أهميته وحضوره ومعجبيه. ألا تظن ان هذا الكلام ما هو إلا اعترافات شخصية قد تستمتع بها لمجرد أنك قائلها..!

أنا مؤمن بأن ما أكتبه سيكون مقروءا من الجميع وهذا هو هدفي. تماما كما أفعل في المسرح. لا أحب الفنون النخبوية ولا أحب الموسيقى الكلاسيكية. وفي رأيي فإن أكثر شاعر وصل لهذه المرحلة حاليا هو زياد الرحباني الذي وصل إلى ذلك بمساعدة الموسيقى وشهرة فيروز وطرافته في الحياة اليومية وتعليقاته الساخرة ومسرحياته الكوميدية. ومع ذلك فإن شعر زياد الرحباني غير متداول على الخريطة الشعرية العربية. ولكنه متداول في كل البيوت. في هذا الزمن يحتاج الشعر العاري إلى عوامل مساعدة من خارجه. سابقا كان الشاعر يستند إلى القافية والوزن ورأي الممدوح، أما الآن فأنت تحتاج إلى حياة شخصية مثيرة للآخرين ومواهب أخرى في مناطق مختلفة كي تصبح شخصا عاما وتصبح حياتك الشخصية مهمة للآخرين وبالتالي شعرك.

* كأن ما تقوله هو نقد مبطّن لما يكتبه آخرون.

لم أعد أهتم بتجارب الآخرين، ولكنني أستطيع ان أدافع مطولا عن شعر عادل محمود أو بندر عبد الحميد أو سليم بركات. فالموهبة أو الألم أو الرقة وكل الأشياء التي تتجلى في شعر الآخرين لا يستطيع احد ان يلغيها لمجرد انه أيضا يكتب. ولكن لكل طريقه، ولكل خياراته. اعتقد ان الشعر السوري دعست عليه أحذية بعض الشعراء السوريين الكبار الذين فضلوا ان يكتبوا عن الشعر السعودي والخليجي والمصري واللبناني وادعوا أنهم غير متابعين للشعر في سوريا. ولولا متابعة الشاعر الكبير ممدوح عدوان لأصغر حدث شعري لقلت ان الشعراء السوريين الكبار هم ألدّ أعداء الشعر السوري الجديد لتجاهلهم المقيت له. إنهم لا يمتلكون شجاعة المديح على صفحات الصحف فيكتفون بالمديح الشفوي، ولو كانت هناك تسجيلات لأقوال هؤلاء على الطاولات لحدثت فضائح. يوما ما سيأخذ الشعر السوري حقه، سيأخذ الشعر العربي الحقيقي حقه ولكن بعد التخلص من بعض الأصوات التي سميت بالشعراء الكبار بسبب الفراغ الذي كان يعاني منه الشعر في فترة ما. قلة من الشعراء الكبار العرب يحملون في داخلهم حبا للشعر. ومن هؤلاء القلة سعدي يوسف. أنا، ببساطة، أتجاهل كل من يتجاهلني وعلاقتي بالشعر ومعاركي في الشعر ليست نقدية بل شخصية.

السفير-2003/09/15