مها بيرقدارنهلت الشاعرة والفنانة مها بيرقدار ثقافاتها الأولى من تربية أسرية وعائلية مرهفة، حيث كان والداها رسامين لكنهما غير محترفين، ومن المعاهد والمؤسسات الإعلامية والفنون في وطنها سوريا. وعاشت حياة مترفة من مختلف النواحي وهي ابنة عائلة: "كانت وما زالت من الباشاوات".
فنيا وثقافيا تعيش مشكلة دائمة مع الكتابة والرسم فهما صديقان لدودان فهي ان رسمت لا تكتب، وان كتبت فلا ترسم. لكنها تعترف بان للرسم خصوصياته، فالشعر لا يحتاج إلا لقلم وورقة وكيان متكامل: "أما الرسم فأكثر أنانية لأنه بحاجة الى المكان والضوء والهدوء والصفاء والأدوات".
إما اجتماعيا فتمثلت مشكلتها مع البيئة المحيطة بها عندما تزوجت من الشاعر الراحل يوسف الخال وهو المتقدم على عمرها بثلاثين سنة، ومن دين آخر، ومن بيئة اجتماعية مختلفة.
في اللقاء التالي مع "بيان الثقافة" تروي مها بيرقدار الخال محطات أساسية من رحلة حياتها مع الشاعر الخال، وهو الذي تعرف إليها بواسطة الشعر، لتكتشف انه "يرفض ان تكون المرأة شاعرة، وانه يريدها ان تكون فقط أما او زوجة لماذا وكيف؟ التساؤلات والأجوبة نطالعها في الأسطر التالية:

ـ الرسم والشعر وجهان للإبداع، متى يلتقيان في إعمالك؟ ومتى يفترقان؟

فتقول: ـ "الرسم والشعر كونا شخصيتي كالتوأم واجد نفسي موزعة بينهما بالتساوي، وبالحب والزخم نفسيهما. وكل منهما يتربع في حضن الآخر. فاللوحة قصيدة مرسومة، والقصيدة لوحة ملونة، ولكن يبدو ان هذا التوأم لدود لأنني عندما ارسم لا اكتب، ولما اكتب فاني لا ارسم. وكأنني ارضي نفسي بعشق كل منهما على حدة. إلا أنهما يتكاملان بجمالية فائقة كالقمر تماماً. رغم ان آلية كل منهما تختلف عن الآخر.

ـ من الموضوعات الأبرز في لوحاتك ما هو وطني وقومي، فرسمت مثلا من وحي مجزرة قانا جنوب لبنان، وانتفاضة الأقصى وفلسطين كلها في وجه العدوان الإسرائيلي. من أية زاوية؟ وكيف تستوحين موضوعات من هذا القبيل؟

ـ "شكلت مجزرة قانا حدثا كبيرا بالنسبة لي. وقد بقيت أثرها لمدة اكثر من عام من دون ان اعمل شيئا، لم اكتب، ولم ارسم. وأول ما قمت به بعد ذلك أنني كتبت شعرا عن قانا، ثم رسمت وقد ألقيت هذا الشعر في مناسبات وأمسيات عدة منها في "مهرجان المحبة" في سوريا، كما في حلقات شعرية عديدة في لبنان، وخاصة في منطقته الجنوبية التي حصلت المجزرة الإسرائيلية فيها.
بدأت التحضير بعد ذلك لإقامة معرض تشكيلي حول الانتفاضة الفلسطينية، على ان يعود كامل ريعه لها. إلا ان عارضا صحيا طارئا قد حال دون ان أكمل ذلك في الوقت المحدد، لكن صحتي الان تحسنت، وأنني منصرفة لاستكمال لوحاتي حول الانتفاضة، وسأقيم المعرض في وقت اعلن عنه في حينه. فالانتفاضة لن تتوقف، وأي عمل يدعمها، على أي مستوى كان، يبقى مطلوبا في كل وقت من الآن حتى استعادة حقوقنا في فلسطين.

ـ أقمت أخيرا معرضا بعنوان "قصائد الحب". لماذا كان حضور المرأة هو الطاغي في لوحاتك؟.

ـ "كان محور المعرض عن "الكوبل" أي الثنائي: الرجل والمرأة، وهما في حالات الحب الروحي. وسمعت الكثير من الآراء الناقدة لكنها نالت تقدير ومحبة الجمهور فموضوع الحب يعني كل الناس ويفرض ألوانه بشفافية ورقة. وكأنك دخلت الى مدى غير منظور، وانتقلت الى مكان سام جدا، وما يليق بمثل هذه القيمة العظيمة التي اسمها الحب ان يبقى غير مرهون، ولا مشروط، بوجود امرأة ورجل، الحب عملية تبقى قائمة ومستمرة في كل لحظة بينك وبين الموجودات، الحب يفترض وجود (الثنائي) قد ترسمه وردتان او شجرتان، او سنبلتان.
كما ان الإنسان وحده يبقى غير كامل، ولا يتكامل او يكتمل إلا بالآخر. والتكامل هو المعنى الأخير للحب، كما للشكل ايضا".
ـ لكن عند الحديث عن الشكل تميل كفة الميزان الى المرأة اكثر. أين هو التوازن في الثنائي"؟ ـ الواقع أنني خصصت المرأة ككيان فقط، لأنها موضوع جمالي من حيث الشكل الخارجي ولأنها ذات جمال داخلي بحيث أنها تشبه الأرض بتحولاتها وغناها من الأعماق. الأرض هي الأم الأولى، والمرأة هي الأم الثانية، فهي التي أنجبت المرأة، حتى المتنبي أنجبته امرأة. وهذا يعطي المرأة خصوصية وتميزاً. فلم تجد موضوعا جماليا من حيث الشكل فقط. بل هي موضوع جمال داخلي شامل محكوم بطاقة مختزنة يستحيل ان تنضب".

ـتلك بعض المحطات مع الرسم فكيف هي مع الشعر؟

ـ بدأت اكتب الشعر في سن مبكرة ايضا. كتبت منه الموزون والمقفى، كان ذلك بمثابة النواة الأولى التي عملت على تنميتها فيما بعد بقراءة الشعر والقرآن الكريم بهدف تقوية لغتي، والى جانب ذلك قدمت برنامجا في "الإذاعة السورية" بعنوان: "مختارات شعرية"، وكان يذاع خلال الليل، حيث لم اترك شاعراً عربيا او أوروبيا بشكل خاص إلا واخترت من شعره، خاصة شعر طاغور. أدى هذا الى تكوين ثقافة شعرية مبكرة في داخلي وعملت على تنمية حسي الشعري فيما بعد.

ـ كيف ومتى تعرفت الى الشاعر الراحل يوسف الخال؟ وكيف تزوجتما؟

ـ كنت بصدد نشر مجموعتي الشعرية الأولى في "دار النهار". وكان الشاعر يوسف الخال مديراً للنشر فيها. فكانت بداية تعارفنا، فقد تركت لديه المجموعة وبعد اسبوعين اتصلت به لأسألة عن مصيرها، والقرار الذي اتخذ بشأن نشرها، أو رفض ذلك، فسارع الى القول لي: "تعالى فوراً".
شعرت للوهلة الأولى ان كلمة "فوراً" هذه تتضمن قرارا ايجابيا بنشر المجموعة، أو سلبيا برفض نشرها. لكنني فوجئت ان المسئولين فيها قبلوا نشرها بصورة قاطعة وأعطوها تصنيفا بالامتياز.
آنذاك قال لي يوسف الخال: "أريد أن أعرفك".
الواقع انه كان اكبر مني بسنوات كثيرة تصل الى حدود الثلاثين عاما، كنت أشبهه بوالدي، وتعاملت معه من منطلق نظرة التلميذ في تعامله مع أستاذه.
لم يكن يخطر ببالي، ولو للحظة واحدة آنذاك، انه قد تأتي لحظة وأتزوج فيها بهذا الرجل الشاعر لكنني وجدت معه نوعاً من الأمان، وبقى يراسلني لأكثر من أربعة اشهر. ثم تحولت رسائلنا تدريجيا الى رسائل غرامية، اظن انه أحبني كثيرا، كما أنني بادلته الحب. فتزوجنا، رغم الفوارق الاجتماعية الجسيمة بيننا من فارق العمر، الى اختلاف الدين، الى الفارق العائلي. فانا من عائلة عريقة جدا. نحن من الباشاوات ومازلنا كذلك لغاية الان.. لذلك فان أهلي لم يتقبلوا فكرة زواجي بيوسف الخال إلا بعد فترة طويلة.

ـ قلت "أظن ان يوسف الخال أحبني كثيرا". لماذا كلمة "اظن"؟

ـ لأنه لا يمكن لشيء ان يؤخذ بطريقة مضمونة ما من إنسان يستطيع ان يضمن عواطف الآخر حتى النهاية. فالإنسان قد يتغير في اية لحظة. والحب الصارخ الأولي يتحول برأيي الى حب من نوع الود والتفهم والحنان. لقد وعيت وأنا في سن مبكرة على تحمل مسئولية رجل بحجم يوسف الخال. فهو مميز، ومثقف كبير، وشخصية فذة ولديه سطوة، ودرجة كبيرة من مزاجية الشعر والتي لا يستطيع ان يتحملها احد إلا إذا أشتغل على نفسك كثيرا. من هنا أحسست ان علي ان اكبر بسرعة لكي أجاريه، وأتفهمه واقبله ايضا.

ـ هل كان ليوسف الخال تأثير في شعرك؟ وكيف؟

ـ الحقيقة انه لم يؤثر علي شعريا إطلاقا. بل لم يقدم لي المساعدة أبدا، لأنه كان يؤمن بي كأم وزوجة فقط، فالمرأة عنده أما ان تكون أما او زوجة. اما ان تكون شاعرة فهذه كانت من السلبيات لديها برأي يوسف الخال الذي لا يمكن ان تريحه امرأة شاعرة على الإطلاق.

ـ إذن خلال زواجك، كيف كنت تكتبين الشعر؟ هل كنت تتحدين يوسف الخال ونظرته تلك مباشرة؟

ـ كنت اعمل بصمت. واقرأ كثيرا. وعندما أنهيت مجموعتي الأولى نقلها لي احد الأصدقاء الى إحدى دور النشر، وهي بعنوان "عشبة الملح". وحين صدرت كان يوسف الخال في المستشفى في بدايات مرضه، فلا هو فرح بمجموعتي، ولا أنا فرحت بها
-------------------------------------
البيان الثقافي - لأحد2 جمادى الآخرة 1423هـ 11 أغسطس 2002 -العدد 135