(1)
تشغل الدكتورة ماري تريز عبد المسيح أستاذ، الأدب الإنكليزي والمقارن بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة، مكانة خاصة في حياتنا الفكرية والثقافية.. كما تمثل سياقا مختلفا داخل التفكير العربي الراهن، بفضل عقليتها النقدية الفاعلة، ويققظتها الذهنية المتوثبة، وقدرتها علي التقاط اللحظة الآنية ودرسها ضمن اولويات أجندتنا السياسية والاجتماعية، فتضع بذلك يدها علي المضامين الحقيقية لعصرنا، وموقع قوي المجتمع الحية من خريطة التحول والتغيير المنشودين، فتسمي طاقة دفع فعلية لشرط الديمقراطية المؤسس، ولسؤال الهوية والجدارة. ولنص الحرية في انحيازه الى العقل والخيال وجسارة التجربة. ومن يطالع سفريها النضرين قراءة الأدب عبر الثقافات و التمثيل الثقافي بين المرئي والمكتوب وترجمتها كتاب علم الجمالية وعلم اجتماع الفن لجانيت وولف وأعمالا إبداعية ونقدية من العربية والإنكليزية، بالإضافة الى بحوثها الضافية في مجال أدب العصور الوسطي والأدب المقارنة والدراسات البينية في الأدب والفن الحديث، من يطالع كل هذا، يدرك مغزى الكتابة، ومسؤولية المثقف صاحب الوعي التاريخي الذي يمنحه الحيوية الدائمة للإبداع، ومشروعية وجوده كفعالية مجتمعية، قادرة علي كشف وتعيين الثقافة البديلة.
يتيح لنا كتابك الموسوم باسم التمثيل الثقافي بين المرئي والمكتوب التعرف الى قضايا الهوية والصورة وطرائق تشكلهما عبر الأمكنة والتاريخ، ولكن لماذا لم يعن بالوقوف مليا أمام حضور الصورة الدائم في حياتنا المعاصرة، من خلال وسائط Media أخرى؟
ربما لم يحدد عنوان الكتاب طبيعة اللغة المرئية التي سوف أتناولها، مثلما لم تتحدد فيه طبيعة النصوص المكتوبة التي يتعامل معها أيضا، ولكن يتضح للقارئ منذ مقدمة الكتاب و الباب الأول إنني اقصر دراستي علي النصوص الأدبية وفن التصوير الزيتي، خاصة أن الكتاب يتناول نماذج من التفاعل بين لغة التشكيل المرئي ولغة الأدب المكتوب منذ العصور الحديثة ـ شرقا وغربا شمالا وجنوبا ـ حتى السبعينيات من القرن المنصرم. ومن ثم تركزت دراساتي علي علاقة التفاعل بين وسيطين تواجدا وتفاعلا قبل ظهور الوسائط التكنولوجية الحديثة، بل تأثرت بهما الوسائط التكنولوجية عند ظهورها. علي سبيل المثال، شكل تراث الفنون التشكيلية، الى جانب فنون الأداء، المرجعية الرئيسية لفن الصورة الفوتوغرافية، وكذلك فنون الحفر (الغرافيك) المستخدمة في الطباعة. وتظل دراسة تاريخ وأسس تصميم الفن التشكيلي مدخلا رئيسيا الى الوسائط الفنية كافة، ينبغي التأكيد عليها لتجنب مزيد من التدهور في جماليات الصورة خاصة بعد ذيوع استخدام برامج الغرافيك المبرمجة (الفوتو شوب وغيرها) دون تنمية الذوق التشكيلي. وهناك حاجة أيضا لدراسة التفاعلات بين الفنون بعامة.
ولندرة وجود دراسة بينية بالعربية تبحث في العلاقة بين التصوير الزيتي والأدب في أزمنة متغايرة، رأيت ضرورة الخوض في ذلك ـ أولا ـ خاصة وان حركة الحداثة لم تكن مقصورة علي محاولات التجديد لدي الأدباء فقط، بل صاحبهم المصورون أيضا في ترسيخها. لم يهتم معظم الباحثين لتلك العلاقة في العالم العربي، بل يجهل معظمنا الكثير من حركة الفن التشكيلي في الأقطار العربية، وهو ما جعلني اقصر دراستي علي التصوير المصري. والقصور في الدراسات الجمالية في العالم العربي يرجع الى أسباب عدة من أهمها تسيد الكلمة علي الصورة في مجتمعاتنا، ونتيجة لقرون من الانقطاع عن التصوير لأسباب تاريخية، ولاقتران عودة فن التصوير مع الاجتياح الغربي، مما أضفى عليه سمة التغريب. كما كان لاقتران ازدهار الفنون امكانات العرض وما يستتبعها من ضرورات الدعم المادي سواء من جهات عامة أو خاصة، سبب في ارتباطه في أوائل عهده ـ في معظم الأحوال ـ بالطبقات القادرة علي الاقتناء، أو مرتادي الصالونات ـ حتى بعد إتاحة الفرصة للموهوبين من الطبقات كافة للانضمام الى كليات الفنون الجميلة أو التدرب تحت رعاية فنان، يظل الفن التشكيلي بعامة فن النخبة حتى وان اختلفت دلالتها أو الشرائح المنتمية إليها.
من ثم، لو تمادينا في تجاهل دور المرئي في شحذ الإدراك وتشكيل الوعي ومكانته في حركة الحداثة، فسوف تنتج عن ذلك فجوات في وعينا المعرفي ان كنا نصبو الى تحقيق مشروع نقدي متكامل. فلقد تغير المسار النقدي في أماكن شتي بعد التنبه الى العلاقة بين المرئي والمكتوب منذ ظهور آلة التصوير ـ في الغرب ـ بامكاناتها الهائلة للمحاكاة، مما دفع بالحركات الطليعية الى معالجات جديدة تبتعد عن المحاكاة، وهو الهدف الاسمي للتصوير الزيتي في الماضي. والتمرد علي المحاكاة أفضى الى معالجات تشكيلة جديدة تخرج علي التقاليد المتوارثة وتسعي الى إعادة قراءة التاريخ لإعادة تقييمه لا من منظور خطي تتابعي بل من منظور تتداخل فيه العناصر كافة. كان هذا هو المحرك الرئيسي لجميع حركات الحداثة في القرن العشرين، والأمثلة علي ذلك عديدة، فالتأثيرية في الفنون أوحت الى الكاتبة الإنكليزية فيرجينيا وولف بتغيرات في الأسلوب السردي للرواية، والموسيقي ـ الشاعر ـ الفنان ـ الكاتب جون كيج استخدم خبراته التكنولوجية في برمجة الحاسوب لاستحداث أشكال جديدة من الكتابة الشعرية، وفن الحفر. إما موسيقاه فاستوحاها من قراءاته وممارساته للزن Zen، لذلك لا نستغرب كتاباته النقدية بصيغتها التي تبتعد عما هو معهود. خلاصة القول، أفضت التجارب التشكيلية الى تنشيط الإدراك مما ترتبت عليه مقاربات معرفية جديدة، أفضت الى تغيرات ذرية في الكتابة والنقد.
كان علي تتبع ذلك التداخل في حركة الحداثة الغربية وتلمسه علي الساحة المصرية بشكل خاص علي المستوي القطري، وبشكل عام لتحديد موقعها في التمثيل الثقافي على خريطة العالمية، واعتقد أن التخبط الذي نشهده في الوسائط المرئية المستحدثة في العالم العربي اليوم يرجع أساسا الى الجعل بعناصر التجديد التي ادخلها فن التصوير الزيتي منذ بدايات القرن المنصرم، وهذا الفصل قد أوجد هوة في الثقافة المرئية أفضت الى افتقاد الحس الفني الذي نلمسه فيما يحيطنا من صور وأشكال.
ولكن غدت وسائط الاتصال المرئية التي تستخدم التكنولوجيا الحديثة جزءا من المحيط الثقافي، إلا ترين أن هناك تفاعلات بينها وبين الفنون الجميلة؟
يصعب الفصل الآن بين الفنون الجميلة ووسائط الاتصال المرئية الأخرى، فالتفاعلات بين الفنون المرئية التي تشحذ طاقة الإبداع في أي من الوسائط لا تتحقق دون اكتمال الوعي التاريخي والتحصيل العلمي المتكافئ. وان تتبعنا ذلك علي مدار الأزمنة فسوف ننتبه الى التفاعلات بين المعارف علي الأصعدة كافة حتى حينما تم الفصل بينها في عصر الأنوار.
فالتقدم العلمي في الغرب تزامن مع متغيرات فكرية منذ عصر النهضة في ايطاليا، وأعمال المصور الزيتي ليوناردو دافنشي خير مثال علي ذلك، فقد كان عالما ومهندسا وفنانا، بل ساعده إبداعه الفني علي تخيل مخترعات سابقة علي جيله ولم تتحقق في حياته، ومن أمثاله الكثير من معاصريه واللاحقين به.
وفي معظم الأحيان يصبح من الضروري علي الفنان التشكيلي أن يدرس ترشيح الكائنات للتزود بأسس التصميم الهندسي للتكوين، فاللوحة أو التمثال، أو فنون التشكيل بعامة لا تعمل علي تقليد المادة ولا تجسيدها، بل تسعي الى إعادة صياغتها في فضاء متخيل، مما يتطلب إجادة تامة بالتركيب العضوي للكائنات، والتصميم الهندسي للفراغ. وتعد الفنون المرئية شاهدا علي صعوبة الفصل بين العلوم الطبيعية والفنون، كما يتضح راهنا في فنون الحفر والطباعة وبرمجيات الحاسوب، فكلها يعتمد علي الإبداع العلمي والفني في آن، ومن الطبيعي ان يتم التفاعل بينها وبين الفنون الجميلة.
كما يعد فن العمارة نموذجا آخر لتمازج العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية فهو يجمع بين الهندسة ولغة التشكيل، والوعي بتاريخ المكان وجغرافيته، وكذلك بالمناخ الاقتصادي والمناخ السياسي الذي يمثله أو يتمثله. والتصميم المعماري لجامعة القاهرة الذي نفذ مع بدايات القرن العشرين يؤلف بين عنصري المعمار، الجمالي والوظيفي. وترجع حداثته الى دراية بالعناصر الجمالية في المعمار المصري علي مدار الأزمنة. كما تحققت تلك القيم في البنايات العامة والخاصة التي صممها المعماري المصري حسن فتحي.
غير ان وسائط الاتصال المرئية التي تستخدم التكنولوجيا الحديثة غدت جزءا من الإدراك والتفكير في التعامل مع الواقع وتخييله أو الإيهام به، كيف تفاعلت إذن مع عناصر التمثيل الأخرى في واقعنا الثقافي الراهن؟
وسائط الاتصال المرئية التي تستخدم التكنولوجيا صارت تشكل الوعي العام لأنها تحاصرنا في كل مكان. وقد ساعدت علي إذابة الفوارق بين الطبقات بإزاحة الفواصل بين الثقافة الراقية والثقافة الشعبية، مما كانت له آثار ايجابية لا شك، ولكن نشأت عنه سلبيات شتي، وأحيانا تختلط الايجابيات بالسلبيات! ففي مرحلة ما كانت هناك سهولة في الفصل بين العمل الهابط والراقي، في صناعة السينما أو التلفاز أو الفيديو، وكذلك بين التصميمات التجارية والفنية في فنون الحفر. ولكن مع رواج العادات الاستهلاكية غدا الجد والهزل عاملين متكاملين في نص الحياة، واختلطت الثقافة الشعبية التي تمثل صوت المقموعين المهمشين بالثقافة السائدة في الإعلام الموجه أو الذي يفتقد الى توجه، مما اضعف فاعلية الثقافة الشعبية من جهة، فيما تنزوي الثقافة الراقية مرة أخرى وتبتعد عن العامة.
تأمل ما اصاب الإبداع النقضي المعارض للإتباع والعادات الاستهلاكية من تهميش، فالحركات الجديدة في الشعر، وأفلام شادي عبد السلام ورضوان الكاشف، وروايات السبعينات، ناهيك عن التسعينات، وحركة التجديد في الفنون التشكيلية، فمعظمها تفاعلت بشكل مباشر أو غير مباشر مع المستجدات التقنية، وبعضها يعد إسهاما ولكن في دائرة النخبة.
إما في الغرب وبعض دول آسيا فقد اقتربت الفنون الإعلامية والتجارية والترفيهية من فنون الأستوديو (فنون المراسم)، فأشكال التصميم كافة صار ينظر إليها بعين الاحترام والتقدير بوصفها فنونا جادة لها تقاليدها وتوجهاتها الثقافية، بدءا من تصميم الإعلان، والأزياء، والأجهزة، والمركبات، وأماكن المعيشة، وانتهاء بتصميم صفحات شبكة الاتصال العالمية، فالذوق العام يمثل ثقافة المكان التي تتشكل بتاريخه وجغرافيته، والتمثيل الثقافي لا يستبعد أيا من الممارسات الثقافية، فالمهم هو توفر عنصر الإبداع وكيفية توظيفه وليس مجال توظيفه. هذا مفهوم ينبني علي المساواة في حق التمثيل، والاعتراف بقدرات الآخر سواء كانت موظفة لغرض ربحي أو تأملي محض، حيث يتلازم الربحي واللاربحي في المجتمع، بل يتحقق تجانسه بتوازن الأضداد وتعاضدها. يمكننا التكهن الآن بالأسباب التي من اجلها لم يتم التفاعل السليم بين الوسائط المرئية التكنولوجية الحديثة والممارسات الفنية التقليدية في عالمنا العربي. لقد تم استيراد التصميمات الفنية الجاهزة وكأنها جزء مكمل للأجهزة الحديثة، فالمجتمع الذي يستورد المعرفة العلمية يصعب عليه الابتكار في نسقها، إلا إذا استوعب الخلفية الثقافية التي تستند عليها تلك المعرفة، وذلك بالطبع لم يتم في مجتمعاتنا لأسباب عدة. تسببت الأجهزة الحديثة في صدمة ثقافية، فالتقدم العلمي في الغرب انبنى على تقدم معرفي ترتبت عليه تغيرات في الأنساق الفكرية والسياسية، وهو ما لم يتح لمجتمعاتنا بفعل ظروف تاريخية خارجية وداخلية حجبت عنه المعرفة. واستيراد التصميمات الجاهزة وتنفيذها علي ما هي عليه، أو محاولة تعديلها جاء بنتائج غير مرضية تفتقد الخبرة اللازمة، لاقتلاعها من محيط ثقافي مغاير. ترتب علي ذلك تبديد الهوية الثقافية نتيجة الفصل القائم بين ماض افتقدنا الوعي التاريخي به، وحاضر اغتربنا عنه بمحاكاتنا ثقافة لا نشعر معها بالتواؤم لتعذر الآليات المعرفية المساعدة لاستيعابها بدرجة تساعدنا علي الابتكار والخروج بأنساق جديدة.
أشرت في كتابك الى صعوبة الفصل بين المرئي والمكتوب مما استدعي نهجا جديدا في قراءة النصوص بوصفها تمثيلا ثقافيا، فما علاقة قراءة النصوص بقراءة الأمكنة؟
أردت في كتابي تجاوز التعاريف النوعية للأعمال والفنون المفروضة من قبل المؤسسات الأكاديمية، والتي دأبت علي تصنيف الأعمال وفقا لحركات فنية سائدة، ترتب عليه أحيانا الوقوع في رؤية اختزالية، أو الانزلاق في أحكام تعميمية تنزع الى خلق تراتب هرمي بين الأنواع الإبداعية. لذا ففي ممارستي النظرية حاولت الكشف عن تداخل المرئي والمكتوب وتبادلهما العلامات في النصوص الإبداعية، وعالجت تلك النصوص بوصفها تمثيلا ثقافيا يتم فيه تبادل الأدوار بين العلامات ومنتجيها. فالفصل التعسفي بين الكلمة والصورة تأسس علي إيديولوجية تنحو الى الثنائيات المتضادة متجاهلة تبادل الأدوار بين المبدع والمتلقي في النص الإبداعي بوصفه احد أشكال التمثيل الثقافي.
جاء ذلك التجاهل نتيجة خطاب سائد قائم علي التمييز بين الأنا والآخر في نص الحياة، ومرجعيتها المكان وما يعمره من كائنات، فالتعرف علي تنوع الكائنات ـ بدوره ـ يفضي الى تقويض التعريف الأحادي للهوية. وقراءة النصوص المرئية المكتوبة بوصفها تمثيلا يعني اشتراك المبدع والمتلقي في الممارسة الثقافية، مما يذيب السياج القائمة بين الأنا والآخر، وقد يفضي ذلك الى منظور اشمل للأمكنة يتجاوز الغيرية ويهيئ الفضاء لتجاور الاختلاف. يتجلى لنا ذلك في الإبداع الذي يمثل الأندلس قديما كما جاءت في كتابات طارق علي الكاتب الباكستاني المقيم في إنكلترا، أو العواصم الأوروبية التي غدت مدن المنافي، وقد خصصت بابا كاملا للإسكندرية بوصفها مدينة كوزموبوليتانية تشكلت خصوصيتها بفضل إبداع الفنانين المقيمين بها أو النازحين إليها، ومحاولاتهم بناء هوية فنية سكندرية غدت إسهاما في حركة الحداثة عالميا. وهناك كتاب الأمكنة تحرير علاء خالد وسلوى رشاد ومهاب نصر ويتضمن كتابات تعد خير تمثيل للمكان بوصفه عنصرا فاعلا في الوجود ومتفاعلا به. نخلص الى ان تمثيل الهوية يرتهن علي الساحة العالمية بالوعي بتفاعلات البشر مع تواريخ الأمكنة، ومن ثم تشكلها الدائم، خاصة بعد تغير الخرائط الجغرافية.
(2)
المشهد الأدبي المصري حافل بالتعدد والحراك علي الرغم من المحبطات
المكان ليس له وجود مطلق بل يتشكل بساكنيه، وتتشكل جغرافيته بتاريخه، فالمكان يمثل نص الحياة. ومن ثم فالمكان ليس رقعة ثابتة لها خريطة محددة الملامح مسبقا بل موقع يتغير بتغير العلاقات الاجتماعية بين البشر، فهناك إنتاج اجتماعي للمكان كما توجد علاقة حوارية بين تغير طبيعة الأمكنة، ومشاهدها، وأحيائها، ومبانيها، وتغير الأدوار الاجتماعية بين الأفراد وتبادل مواقعهم. فالمحيط البيئي في المكان يمثل ملامح الخصوصية التي تشكل الهوية الثقافية وتتشكل بها. وتعرف الفرد على المكان يعد أول محاولات الخروج من الخاص الى العام، والتكيف مع العام وتكييفه ينطوي على إعادة صياغة الذات إزاء الآخر. فكلمات تنوعت العناصر البشرية في المكان، ازداد ثراء، ونلحظ ان الأمكنة التي هيأت معابر وغدت مرافئ للنازحين، مثل الأندلس، والإسكندرية، وباريس، وزيوريخ، والتي ارتاحت تجاور الاختلاف حققت لهويتها الثقافية موضعا علي الساحة العالمية. والمدن الكوزموبوليتانية بتجربتها الناجحة، عرفت سكان المواطن الأخرى بضرورة قبول الآخر، بدءا من الآخر الذي يشاركه المكان ويختلف عنه في الرأي أو الديانة، أو اللون، وانتهاء بالآخر الغريب عن المكان. ومن ثم فالوعي بالمكان، ومفرداته الجغرافية التاريخية هو وعي بموقع الذات في علاقتها بالآخر أيا كانت عوالمه. فالحوار مع الآخر يبدأ من الحوار مع المكان للتعرف علي ملامح الهوية ـ الذات في احتوائها الآخر علي المستوي القومي، لينتهي بتبني ثقافة الاختلاف، ثقافة قبول الآخر ـ علي المستوي العالمي ـ والتفاعل معه لبلوغ الحوار العالمي المنشود.
لم تتبع الحداثة المصرية ـ علي حد تعبيرك ـ أية برامج ثقافية، بل كانت نتاج اجتهادات فردية ـ في معظم الأحيان ـ في محاولة لتدعيم الهوية الثقافية القومية، الأمر الذي يهيئها للمشاركة في الحوار العالمي القائم علي التعددية الثقافية. كيف تسني ـ إذن ـ لهذه الحداثة في ضوء غياب مشروعها العام، التأكيد علي ذاتها في انفتاحها علي العالم ضمن صيرورة مفتوحة؟ وأين يكمن الاتصال والانقطاع بين هذه الحداثة وما تلاها؟
عادة ما ينتمي أي برنامج ثقافي الى مشروع عام تتبناه الإدارة العامة أو عدة مؤسسات خاصة. والمتتبع للبرنامج الثقافي الذي تم تحديث الثقافة الأوروبية علي مدي ثلاثة قرون يري انه نتاج حوار دائب بين المؤسسات الأكاديمية والمهنية العامة والخاصة كافة، تزامن مع حوار بين علماء الفكر والدين والدولة. تعثر البرنامج الثقافي أحيانا، ولكنه تماسك في معظمه لكونه برنامجا عاما تشارك فيه جميع الأطراف، فكانت الغلبة لمن عاد مشروعه بفائدة علي الغالبية. ويؤخذ في الاعتبار توفر رأي عام علي درجة من الوعي بكيفية تلازم المصلحة الفردية والجمعية، فالعلاقة بين العام والخاص تظل الشغل الشاغل للمنظرين حتى يومنا هذا.
إما في مجتمعاتنا العربية فلم يتبلور برنامج ثقافي متكامل، واختلط مفهوم الحداثة بـ التحديث، واقتصر جهد القائمين علي النظام علي تحديث الدولة باستيراد الأجهزة، وتلقين المعرفة، دون تهيئة الأفراد فكريا لاستساغتها، والجهل بها وصعوبة استيعابها اشعر الأفراد بالاغتراب عن هذه الثقافة. ويتجلى لنا ذلك في ابسط الأمور واعقدها، بدءا برفض استخدام المواصلات العامة عند إدخالها في أوائل القرن العشرين لإباحتها الخلط بين الأغراب في مكان مغلق، وانتهاء برفض بعض المناهج المعرفية التي تنحو الى تفكير مغاير لما هو سائد. فالبرنامج الثقافي يتحقق نتيجة عمل مشترك يفضي الى أوجه متعددة للحداثة في الفكر والفن، وهذا ما لم يتحقق في العالم العربي، الذي رزح تحت وطأة قرون من الاستعمار لينتهي به الأمر الى الرضوخ لمتطلبات الحكومات الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال لتحقيق الحلم القومي. ربما فشلت الحكومات المسماة بالثورية في وضع برنامج ثقافي متكامل لتحملها عبء ميراث المستعمر من جهة وعبء التحديث السريع لملاحقة التقدم من جهة أخرى. وقامت معظم البرامج الثقافية للحكومات القومية علي الإقصاء والاستثناء تحت دعوى الحفاظ علي وحدة الأمة. لذا تبني الأفراد مشروع الحداثة كخطاب نقضي يعمل علي تعرية خطاب السلطة، ولا أقارب الحداثة بوصفها مفهوما متجاوزا، بل قد تتخذ الحداثة أشكالا متنوعة لذا فهي تحمي التعددية الثقافية، ومن ثم توجد مجالا للحوار مع الثقافات الأخرى. والمجهودات الفردية في حركة الحداثة المصرية وان افتقدت الاستناد الى برنامج ثقافي موحد، فلا يعني ذلك افتقادها الى مشروع عام، فالمقصود بالعام في هذا السياق لا يعني القطاع العام المملوك للدولة، بل المقصود بالعام هو الكيان الجماعي الذي يتوجه إليه المشروع الخاص.
إما بالنسبة الى مسار الحداثة في مصر ومدي تواصلها مع ما سبقها والتوقعات المستقبلية لها، فتظل المجهودات بشكل عام فردية، وان ظهرت بعض مؤسسات النشر والعرض والتصنيع الخاصة، إلا أن الساحة ما زالت خالية من برنامج شامل نظرا الى افتقاد المصادر البحثية، وافتقار الدعم المادي والمعنوي للإبداع والاكتشاف خاصة بعد ظهور معوقات فكرية متشددة دفعت بها المتغيرات السياسية والاقتصادية علي المستويين المحلي والعالمي.
ما النقلة التي أحدثها جيلكم في حقل الأدب المقارن، بعد جيل الرواد المصري المؤسس، فيم الاتفاق والافتراق؟
يقع التغير الرئيسي في المنهج البحثي حيث انتقل من دراسة علاقات التأثير والتأثر الى دراسة التفاعلات، ولكن ذلك لا ينطبق علي جميع الباحثين في ميدان الأدب المقارن. فمن لهم نزوع نحو القومية المتشددة ينحون الى محاولة إثبات تفوق ثقافتهم وتأثيرها علي المعارف كافة في شتي الثقافات، محتفظين بالمنهج القديم. في نهايات القرن التاسع عشر تزامن ظهور الأدب المقارن مع النزعة القومية المتشددة، حين سعت كل دولة أوروبية الى التدليل علي أسبقيتها علي غيرها في مجال معرفي أو أسلوب إبداعي، كما استخدمه المستشرقون لإثبات تفوق الآداب الأوروبية علي غيرها. وقد اتبع الباحثون العرب هذا الخطاب الارتقائي في منتصف القرن العشرين وصاغوا خطابا كولونياليا معكوسا بمحاولة إثبات تفوق ثقافتهم علي الثقافة الغربية. وقد جاء هذا الخطاب وسيلة للدفاع عن الهوية القومية التي حاول المستعمر طمسها أو التقليل من شأنها. تكمن أهمية تلك الدراسات لنا اليوم في أنها أشارت بشكل غير مباشر الى وجود صلة بين النصوص الغربية وغيرها، وتلك الصلات هيأت لنا الطريق للتعرف علي كيفية التفاعل بين الثقافات، فالمسعى الآن هو استبيان المداخل الى الثقافات الأخرى عبر قراءة نصوص تعد معابر بين الثقافات علي مدار الأزمنة، ذلك تمهيدا للوصول الى أبجديات لغة مشتركة قادرة علي تمثيل خصوصيات الثقافات المتغايرة. فالأدب المقارن ينحو الآن نحو الدراسة المقارنة للثقافات، وتندرج تحت ذلك دراسات ما بعد الكولونيالية، وإبداع المنفي، وكلها اجتهادات أقامت جسورا بين ثقافات الحاضر وغيرت من خرائطها.
كيف يتبدى لك المشهد الأدبي المصري الآن؟
أراه مشهدا تتجاوز فيه الثنائيات، يضعف طرف أحيانا ولكن هناك دائما منفذا للمقاومة. علي الرغم من المحبطات كافة، هناك إبداع في القرية والمدينة علي حد سواء نجح في الوصول الى دور النشر والعرض نتيجة للحراك الاجتماعي بين مختلف الفئات. وبالرغم من سعي السياسة التعليمية لحكومات ما بعد الاستقلال الى تنميط الهوية عبر سياسة اصطفائية تتأسس علي التمييز وتؤكد الغيرية، فقد ساعد انتشار التعليم علي ظهور أصوات أدبية من الأطراف متحدية مركزية العاصمة. دعني أركز حديثي علي الإنتاج القصصي والروائي، فهناك أصوات جديدة في الكتابات الروائية والقصصية من النوبة حتى الإسكندرية، شاغلها الأهم هو كيفية تمثيل الذات في بنية سردية تحتمل التعاطي مع إشكالية الهوية المركبة. لذا جاءت البنية السردية متواشجة، تتعدد إحالاتها، تتلاشي فيها الفواصل بين السيرة الذاتية وعمومية الموقف التاريخي مثلما في أعمال أسماء هاشم وياسر عبد اللطيف، ويتجاوز معظمها الفصل التقليدي بين الواقع والخيال مثلما في أعمال مصطفي ذكري. وهذا ما يمثل خصوصية التجربة عند تناول علاقة الراوي أو الراوية بالجنس الآخر مثلما في أعمال صفاء عبد المنعم، وإبراهيم فرغلي، أو البيئة المحيطة مثلما في أعمال احمد أبو خنيجر، بينما تمثل أعمال منال القاضي واقعا يقع خارج نطاق المنطوق، وكأن الحضور ينبئ عن غياب، عن واقع يتعدى الواقع. والكتابة عند عاطف سليمان ليست ضربا من الفانتازيا، بل إيهام يعمل على تعميق رؤية القارئ بالحضور المزدوج في واقع يكتمل بما هو ليس واقعا فيه، حتى يغدو أحيانا كابوسيا مثلما في أعمال مصطفي ذكري. وهناك تمثيل جديد للصراع بين الفرد والجماعة فالانفصال عنها لا يبعد شبهة التورط في شباكها مثلما في أعمال حمدي أبو جليل أو سعد القرش، بل يشعر الراوي أحيانا بالفصام نتيجة تعرفه علي اختلافه مع الآخر أو الجماعة واستحالة انفصاله عنها مثلما في أعمال منتصر القفاش. وتظل هناك أعمال تعيد كتابة التاريخ القديم ليتسنى إعادة قراءة الحاضر مثلما في أعمال سلوى بكر ونجوى شعبان، والتاريخ الأكثر معاصرة مثل كتابات إدريس على وبهاء عبد المجيد، ومن يكتب التاريخ من منظور ذاتي مثل ميرال الطحاوي، وهناك من يمزج التاريخ بالأسطورة مثل الحسين عبد البصير وحجاج أدول، واذكر هؤلاء علي سبيل الحصر لا الجمع، فهناك كثيرون غيرهم يستحقون التقدير. وربما يبدو تجميعي وتصنيفي لهؤلاء الكتاب متناقضا بالنسبة الى الناقد التقليدي. ولكن هذا هو كنه الجمالية المستقاة من الكتابات الجديدة، فهي تتمحور حول محاولة التعرف علي أوجه الذات المتعددة سواء باندماجها أو انفصالها عن الآخر المتمثل في اختلاف الجنس، أو الجماعة، أو المكان، أو عالم الخيال، أو الماضي في غيابه وحضوره المتلازمين.
القدس العربي
2003/06/03
2003/06/04