حاوره : حسن الوزاني

محمد بنيس في الدار البيضاء (2001) تصوير صموئيل شمعونمحمد بنيس، أستاذ جامعي، ناشر، رئيس بيت الشعر في المغرب، وهو قبل كل ذلك، شاعر ومنظر للشعر. وهذا الحوار الهام والطويل، سفر في عالم واحد من أهم الأسماء الشعرية العربية اليوم. هنا القسم الأول من الحوار.

أصدرتَ مجموعتك الأولى "ما قبل الكلام" في نهاية الستينات (1969)، وانتميتَ لجيل السبعينيات، ونسجتَ حضورك بشكل مستمر وأعمق خلال اللحظات اللاحقة. ما الذي منحك إياه هذا السفر ؟

أُحس أحيانا أن هذا السفر كانت مدته ليلة واحدة. وأحيانا أُحسه وكأنه تطلب أعمارا وأنا أنظر إليه الآن. أي بعد اكثر من ثلاثين سنة على اللحظة الأولى، التي وشمتَها أنت بصدور ديوان "ما قبل الكلام". سؤالُك يطرح علي الزمن في معنيين : الزمن الأفقي الذي عشتُه وخطوتُ فيه منذ نهاية الستينيات حتى الآن، بما يعنيه من تقاطعات مع الحقل الثقافي المغربي والقصيدة المغربية، أو عربيا أو إنسانيا. وهذا ما أسميه بالزمن الخطي؛ ثم هناك زمن آخر لا نراه، وهو الزمن العمودي الذي عشتُه داخل القصيدة ومع القصيدة، أقصد الأفعال الشعرية المتعددة التي كنتُ من خلالها، كل مرة، أحاول البدء من جديد في البحث عن القصيدة.
هذان الزمنان معا لا ينفصل أولهما عن الثاني. ولكن، أعتقد أيضا أن زمن القصيدة وما عشتُه في القصيدة يكاد يكون مستقلا بذاته، ويكاد يكون سريا ومكتوما لا نعثر عليه إلا في آثار هذا الزمن على القصيدة ذاتها. بمعنى كيف انتقلت القصيدة من حال إلى حال، وكيف كانت في البداية تنظر إلى اللغة وإلى الصورة، وإلى ما هو خارج القصيدة، وإلى الزمن، وإلى العالم وإلى الإنسان بطبيعة الحال. ثم كيف كانت كل مرة تصطدم بما يجعلها تعيد النظر في هذه الطريقة التي كانت لها مع ذاتها أو مع خارجها، من أجل أن تغامر من جديد في أفق كان دائما بالنسبة لي مجهولاً.
إذا قلتُ شيئا بخصوص هذا السفر، فربما سيكون هو أنه لا يمكن أن نقيس السفر، عمرَ الشعر والإبداع، أو عمرَ شاعر بالزمن الخطي. بل فقط بهذا الزمن، الزمن العمودي، أي هذا البعد العميق لما يجعل من القصيدة قصيدةً أو من العمل الأدبي عملا أدبيا. وأحس أن هذا الزمن العمودي كان زمن اختبارات، كانت فيها القصيدة دائما تتحدى نفسها، باحثةً عن كيف يمكنها أن تنتقل إلى خبرة شعرية وكيانية في الآن ذاته. بمعنى، أنني ربما أكون في هذه المرحلة عشتُ مع هذه القصيدة أسئلةَ الشعر المغربي. وفي نفس الوقت، حاولتُ أن أجعلَ من أسئلتي جزءا من هذه الأسئلة المطروحة على الشعر عربيا وإنسانيا.
لم أتعلم من سفر هذه المرحلة دائما الطريقَ الواضحَ في كتابة القصيدة ولا أن أتفادى نتائجَ المغامرة التي هي دائما اندماج في المجهول واعتباره الطريق الوحيد الممكن لكتابة قصيدة تبحث عن ذاتها بما هي متفردة به. ولا أعتقد بعد هذا أن هذه الحياة كانت حياةَ من يملك أسرارَ القصيدة. بل بالأحرى، هي حياة من يكتشف كل لحظة أسرارَ هذه القصيدة، وأيضا عذابات هذه الأسرار، وما يمكن أن يصطدم به في القصيدة وخارجها. أي في تصوره للقصيدة الحديثة وفي القيم الاجتماعية التي تحيط بالقصيدة. هذا كله يجعلني باستمرار أنظر بريبة لما وصلت إليه القصيدة، ولما أنا دائما منخرطٌ فيه، في حياة، أجدُها دائما تبتعد أحيانا ثم تقترب، ولكنني أدفعها وأُلح في مواصلة السفر فيها ومن أجلها.
لنبق، إذن، في مجموعتك "ما قبل الكلام". إلى أي حد استطاعت هذه المجموعة أن تخترقَ بنية "السقوط والانتظار" التي حكمت المتن الشعري لجيل الستينيات بالمغرب، حسب ما أثبتتَه في بحثك "ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب". وأطرح هذا السؤال بمنطق التساؤل عن حدود إمكانية اختراق تجربة شعرية ما للمتن الشعري العام المساوق لها.

"ما قبل الكلام" هو ديواني الأول، قصائد أولى كتبتُها بين 1966 و 1969، كاستجابة لتورطي في حب الشعر وجمالية القصيدة. لكنني في هذه المرحلة، لم أكن على وعي بكثير من القضايا التي تعيشُها القصيدةُ، سواء المغربية أو العربية. فضلا عن ذلك، يبدو لي أن القصيدةَ المغربيةَ المعاصرة بدأت، تقريبا، في هذه المرحلة. نلاحظ ذلك مع شعراء الستينيات الأساسيين، وهم أحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد السرغيني، وعبد الكريم الطبال، ومحمد الميموني، بالإضافة إلى أحمد صبري ، وأحمد الجوماري.

محمد بنيس
محمد بنيس
(تصوير صموئيل شمعون)

وكان أغلب هؤلاء الشعراء يكتبون قصائد تحترم نمط البيت القديم إلى حدود أواسط الستينيات. كما كانوا ينشرون هذه القصائد في مجلات مغربية مثل مجلة "دعوة الحق"، ابتداء من مرحلة الاستقلال، كما نشر بعضُهم، مثل عبد الكريم الطبال ومحمد السرغيني (الذي كان ينشر باسم محمد نسيم، الشاعر المصري)، قصائد ذات طابع رومانسي في مرحلة ما قبل الاستقلال. ولم يبدأ هؤلاء الشعراء بكتابة قصيدة معاصرة والاهتمام بها إلا في أواسط الستينيات. إذن، لم يكن مفهوم بنية السقوط والانتظار واضحا في هذه المرحلة، حتى في هذه القصيدة المعاصرة. ولذلك، فقد كنتُ اشتغلتُ في رسالتي عن الشعر المغربي المعاصر من أواسط الستينيات إلى سنة 1975. وفي هذه المرحلة، تحددت البنيةُ التي اعتبرتها بنية السقوط والانتظار. بمعنى، أنني عندما كنت أكتب قصيدتي لم تكن القصيدة المغربية المعاصرة حاضرةً، سواء في الساحة الثقافية أو في الذخيرة الشعرية التي كان من الممكن أن اعتمدها في كتابتي. أنا بالعكس، كنت موزعا بين مجموعة من الشعراء. و من أهم الشعراء العرب الذين واكبتهم بدر شاكر السياب، وخليل حاوي، الذي كنتُ أنظر إليه نظرة تقدير خاصة، أو صلاح عبد الصبور الذي كنتُ أحيانا أحس أنه يمكن أن يبحثَ عن قصيدته هو، أو أدونيس الذي كان آخر من تعرفت عليهم من هذه الفئة. ولكن بالتزامن مع ذلك، كنت منفتحا على الشعر الأوربي والأمريكي. وبالتالي كانت انشغالاتي على مستوى الكتابة الشعرية خارجَ الاهتمام ببنية السقوط والانتظار وخارج مواجهتها. وأظن أن هذه المرحلة كانت بالنسبة لي مرحلة قصائد. وربما كان أهمها قصيدة "آخر مذكرات المعتمد بن عباد" التي أَعتبرها قصيدة تطلبت مني مجهودا شعريا ومجهودا ثقافيا. وهي لا تدخل في هذا السياق العام. لأن هذه المرحلة الأولى بالنسبة لي هي مرحلة الرومانسية الحالمة التي يمكن أن تفضي لنوع من الصوفية الأولى.

شبَّه الشاعر المغربي عبد الله زريقة الوضعَ الشعري بالمغرب خلال السبعينيات، بغرفة مغلقة يملؤها الصراخ. في مجموعاتك "شيءٌ عن الاضطهاد والفرح" (1972)، و"وجهٌ متوهج عبر امتداد الزمن" (1974)، و"في اتجاه صوتك العمودي" (1980)، يحضر شيء من الصراخ ذاته، بشكل مختلف، وباشتغال جمالي أكبر بالطبع. ولكن، ألم يكن واردا أن تكتب "مواسم الشرق"، أو "ورقة البهاء"، أو "هبة الفراغ" خلال السبعينيات نفسها ؟

أظن أن الدواوين الثلاث (شيء عن الاضطهاد والفرح، وجه متوهج عبر امتداد الزمن، في اتجاه صوتك العمودي) يمكن أن تكون شبه ديوان واحد. مع حدود من الاختلاف بينها. فيما يخص ديوان "شيء عن الاضطهاد والفرح"، كان تجربةَ انتقال نفسي وشعري أيضا. كنت أخذتُ أحس به منذ نهاية "ما قبل الكلام". أي كيف يمكن أن أرى المجتمعَ والتاريخَ والمصيرَ الجماعي كجزء من مشروع القصيدة. كان هذا شيئًا بديهيا بحكم واقع الشعر العربي آنذاك، في مرحلة تزامنت مع قيام حركة يسارية عربية في السياسة وفي المجتمع وفي الأدب، وفي مقدمته الشعر بطبيعة الحال، ترُدُّ على واقع الهزيمة التي عاشها العرب في 1967. وكان الجواب على سؤال "كيف يمكن أن تكون القصيدة ؟" متعددًا. كنت آنذاك طالبا في الجامعة وقريبا جدا من اليسار، وكنتُ أيضا متعاطفا مع الحركة الماركسية العالمية ومع مجموعة من الشعراء في مقدمتهم، مثلا، بابلو نيرودا. وجعلني هذا الشرط الثقافي والاجتماعي والتاريخي العام أُومن بأن أكتب " قصيدة مضادة" كما هو الأمر بالنسبة ل"وجه متوهج عبر امتداد الزمن". أي أنني كنت واعيا بأنني أكتب شيئًا مضادا للشعر، دون أن أعرفَ بالضبط ماذا أكتب، ولكنني كنت اعرفُ انه سلب لما هو معيار شعري.
إن ما تمت تسميته بالصراخ، أسميه أنا بالنشيد. لقد كان نشيدا بصوت جماعي، أو بالأحرى، نشيدا للصوت الجماعي. وقد لاحظتُ في بداية السبعينيات، أن هذه القصيدة التي أكتبها في مأزق، لأنها لا تستجيب لبحث جمالي استثنائي، يفتح لي أفقا لم أكن أعرفُه. وفي الوقت ذاته، كنتُ أحس أن وجود خطاب شعري نقدي وثوري أيضا، يجب أن يسلك مسارا آخر. وكنت في هذا النقد لهذه القصيدة متابِعا لفكر نقدي وجمالي، فرنسي بالخصوص، مرتبطٍ بالحركة البنيوية وبتيارات المرحلة التي تبلورتْ أفكارُها في فرنسا على الخصوص، والتي تجعل من اللغة حقلا لكل ممارسة كتابية نقدية ومضادة. وبالتالي، فإنني اعتبرتُ الكتابةَ فعلا ثوريا ضمن الفعل الاجتماعي الواسع، عندما تتحول إلى فعل مغير داخل ذاتها أولا، لكي تكون مغيرة في الأنساق الأخرى. ومن ثم، فقد كانت قصائد "مواسم الشرق"، التي اختلفت بشكل نهائي عن هذه المرحلة الثانية، التي كانت فيها رغبة النشيد الجماعي مكان الشعري.
لقد بدأتُ آنذاك أتأمل وأقوم بنقد هذه التجربة بعنف ضد نفسي في اتجاهين. من جهة أولى، كنتُ مقتنعا تمام الاقتناع بأن هذه التجربة كان لا بد أن أقوم بها، إذ لم يكن لدي خيار الانتقال إلى وعي شعري مختلف دون أن أمرَّ من هذه التجربة، سواء في العلاقة مع اللغة، أو مع الصورة، أو مع المرجعية، أو مع الدلالة. ومن جهة ثانية، كان لابد أن انتقل منها إلى شئ أخر أجهله، لا أعرفُه. وهذا ما يجعلني أعود إلى ما ذكرتهُ في البداية حول المجهول. إذ أنني لم أكن أعرف القصيدةَ، ولكنني كنت دائما مستعدا لأغامر في اتجاهها دون أن يكون لدي شرط مسبق بأن تكون ناجحة أو غير ناجحة، رغم أنني أعتبر هذه القصيدة، التي غنت باسم الجماعي وردةً. وردة لهذا الزمن. أُعطِيت لي لكي أقول بصيغة أخرى هذه ال"لا" الضرورية لميلاد بحث شعري أو ميلاد قصيدة.
لا أعتقد، إذن، أن هذه المرحلة كانت غرفةً مغلقة. لقد كانت رحيلا في الأدغال والكهوف على السواء للدخول في اتجاهات متعددة وفي تجارب مفاجئة، وفي حركيةٍ مدهشةٍ مع الشعر، ومع المعرفة الشعرية، ومع الثقافةِ، ومع الإبداع والفنون. وهذا ما يجعلني أنظرُ دائما إلى هذه المرحلة كمرحلة مختَبر إيجابية جدًا على مستوى العمل من أجل القصيدة، ولكن ليس على مستوى القصيدة بحد ذاتها. وأنا دائما أعود للتأمل و للتساؤل. وكل مرة، أجد نفسي غيرَ نادم على ما كتبت. بل ما يهمني هو أن أستمر في ما أكتب بنفس تلقائية الاستجابة لنداء الكتابة. وهذا بالنسبة لي هو، ربما، ما حررني من مجموعة من التقاليد الشعرية، وما قيدني، أيضا، في مغامراتٍ شعريةٍ، تبدو الآن بعد ثلاثين سنة، وكأنها تبحث دائما حيث لا تعرف أن هناك أهوالا ستنتظرها بمجرد الانعطافة الأولى. ومع كل ذلك، فأنا أنظر إلى السبعينيات في المغرب كمرحلة إبداعيةٍ خلاقة، كانت لها القدرة الكبرى للدفع بالوعي الشعري نحو مواقع الصدمة. لو أن الحركة الشعرية المغربية لزمت مكانها وظلت تشتغل بنفس المفهوم الذي كان يؤسسها آنذاك، لبقيت تخشى المغامرة والمفاجأة. ولكن هذه المرحلة أعطت لكل الشعراء تقريبا فرصةَ الخروجِ إلى قصيدة أخرى. من هنا، كانت إيجابياتها. وربما هي التي، تدل، برأيي، على أن جيلَ السبعينيات كان قابلا للمخاطرة حتى لو كان يكتب قصيدة مضادة للشعر، بعكس شعراء الستينيات الذين كانوا يرفضون المخاطرة، ولا يكتبون إلا ما كانوا يعتبرونه ضمانةً لنوع من الشعرية.

هل يمكن الحديث، إذن، عن تداخل الزمنيين الخطي والعمودي اللذين أثرتَهما، خلال مرحلة السبعينات ؟

بالتأكيد. إن هذه المرحلة هي مرحلةُ تعلم كبرى، ومرحلةُ أسفار كبرى من أجل القصيدة، ومن أجل حرية الشاعر الذي يكتب بدون شروط المؤسسة الأدبية، أوفي حمايتها. لقد كان الشعراءُ السابقون يعانون من هذه الحياة القاسية ولكنهم لم يكونوا يجرؤون على الكلام. ونلاحظ الآن، أن هناك خطابا أخر، في التسعينيات مثلا، لم نقم بعد بتأمله. وربما يكون السبب هو أننا، في المغرب، نقطع مراحل كبيرة دون أن نعي دلالتها، وكأن الزمن لم يكن، وكأن ما كُتِب لم يكن. وبالتالي، هو ما يجعلنا لا نناقش أو لا نتأمل ما كان موجودا.
إن الزمن العمودي، الذي أتحدثُ عنه بالنسبة لهذه المرحلة، كان هو معرفتي الأوسع بالشعر العربي وبالشعر الأوربي، وعلاقتي المباشرة بمجموعة من الشعراء العرب الأساسيين. ويمكن أن أقول أن هذه المرحلة هي المرحلة العربية لعملي الشعري. فهي التي نشرتُ خلالها بشكل مكثف في مجلة "مواقف"، وشاركتُ خلالها في مجموعة من اللقاءات العربية، وهي المرحلة التي امتزجتْ خلالها كتابتي الشعرية بالاشتغال على مجلة "الثقافة الجديدة"، أو على أطروحتي عن الشعر المغربي المعاصر. ومن هنا يكون الزمن العمودي حاضرا. لكن هذه المرحلة هي أيضا مرحلة كتابة قصائد، كنت أنظر إليها بنوع من الشك، و بعدم التنازل عنها. حيث إن قصائد "مواسم الشرق"، كُتبت ما بين 1975 و 1982، تاريخ كتابة "مسكن لدكنة الصباح" التي يمكن أن تشكل ديوانًا مستقلاً فيما هي وداع لقصيدة سابقة. غير أنني لم أكن أنشر هذه القصائد ولا ما قبلها لانشغالي بأشياء كثيرة، حيث كنت أعمل، مثلا، على نشر دواوين أصدقائي، كما كانت مجلة "الثقافة الجديدة" تفترس وقتي، وهو الأمر ذاته سواء بالنسبة لاشتغالي كمسؤول في الكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب، أو في أطروحتي الجامعية الأولى. لهذا وقع التباسٌ ما، حيث إن قصائدي، التي كتبتها سنة 1973 لم تُنشر إلا في سنة 1980، ضمن ديوان "في اتجاه صوتك العمودي". وكان ضروريا أن تنشر، لأن في مجموعة منها بحثا سيظهر بصيغة أخرى في "مواسم الشرق" المكتوبة بدورها في السبعينيات كما أسلفت.
لهذا أنظر إلى هذا الزمن العمودي في السبعينيات كبعد أساسي لكتابة القصيدة، قصيدتي، ولتعلم متعدد الأبعاد والمعارف، ولتمازج وتداخل الزمنيين الخطي والعمودي. في كل ذلك كانت الحياة الاجتماعية و الثقافية والسياسية حاضرةً، باستثناء أن تكون حاضرةً كانعكاس، كان من قبل يختزل من قبل القصيدة والكتابة. لقد كان الزمن العمودي، إذن، يحفر مجراه شيئا فشيئا، في الطبقات السفلية، رائيا ومواجها. كنت أحس آنذاك أن القصيدةَ تنقلني إلى عالم آخر مجهولا تماما. هي التي علمتني أسرار المجاهدة، وهي التي منحتني أيضا معارفَ تزودت بها في السفر مع القصيدة إلى القصيدة.

شكلت، إذن، مجموعاتُك الصادرة ابتداء من سنة 1986 (مواسم الشرق، ورقة البهاء، هبة الفراغ، كتاب الحب، المكان الوثني،ثم أخيرا نهر بين جنازتين..) اختراقا لتجربتك الشخصية. هل يقوم هذا الاختراق على سعي كتابتك إلى محو ذاتها ؟

- مفهوم "المحو"، الذي توصلتُ إلى صياغته مع ديوان "ورقة البهاء"، لم أعثر عليه في كتاب نظري أو في دراسة، بل عثرتُ عليه في القصيدة، وفي الطريقة التي اشتغلتُ عليها. من هنا أريد أن أقول شيئا مهما جدا، وهذه مناسبة لأعبر عنه. كثيرا ما أقرأ أن الثقافةَ النظريةَ للشاعر هي التي تملي عليه كتابةَ قصيدته. ويمكن أن أقول، بدون أي التباس، بأن قصيدتي هي التي كانت تُملي علي التأملات النظرية. بمعنى أن انتباهي للقصيدة في بعض الحالات، أو بعض الأسئلة التي تُطرَح علي بعد كتابة القصيدة، أو ما يمكن أن يواجهني به قارئٌ لقصيدتي أو أن ينبهني إلى ما لم أنتبه إليه وأنا أكتب القصيدة، هو عادة ما كان يدفعني، ويدفعني باستمرار، إلى تجديد معرفتي بالقصيدة. وهذا أمر مناقضٌ تماما لما أسمعه وأقرأه. ثمة ما يبرر هذا الموقف. أولا، هناك من يعتقد أن الفكرَ النظري معارضٌ لكتابة القصيدة. وأنا لا أعتبر هذا الأمر حقيقيا على الإطلاق. بالعكس، كل الشعراء الأساسيين في العالم، تقريبا، كانوا يشتغلون على قضايا نظرية، وهي موجِّهة لقراءتنا، أو على الأقل لمعرفة كيف كان يفكر شاعر في قضايا شعرية. ثانيا، إن القصيدة ليست ممارسة نظرية بالسلب، بل هي معرفة. وهذا هو الجميل والمدهش، وهو ما يجعلني الآن أتشبثُ بخلاصات كنت بدأتُ في القبض عليها منذ المراحل الأولى، ثم لازمتني أو أصبحت واضحةً، مثل مفهوم "كتابة المحو". و لا أجد، وأنا الآن مشرف على المرحلة الأخيرة من إنجاز أعمالي الشعرية في ديوان، صياغة لعلاقتي بالكتابة أدقَّ من هذه الصيغة.كلما تأملتُ، وجدت أن حياتي كانت هي هذه الممارسة، ممارسة المحو، وكأنها كتابة محو لما هو ذاتي، ومحو لما هو لغيري. كتابة المحو فعل للكتابة، وله علاقة بمفهوم ماديةِ الكتابة، وبالممارسة التي تتم داخل القصيدة وداخل اللغة. هذا كله يجعلني أنصت أكثر فاكثر القصيدة، ولمغامرة القصيدة.

تُقيم مجموعة "نهر بين جنازتين" عند الحدود العميقة للعالم وللحياة وللأشياء. تفعل ذلك بكثافة لغوية أقل وبكثير من البياض. ما الذي يستطيع أن يمنحه البياضُ للنص؟

البياضُ كتابةٌ ثانية، وهي كتابةٌ محجوبة. وما قمتُ به في "نهر بين جنازتين" هو نفسه ما قمت به منذ فترة طويلة، ومنذ الدواوين الأولى، و هو غيرُه في نفس الوقت. لقد جعلتني هذه المراحل الأولى أقترب من مفهوم الكتابة. مفهومُ الكتابة يختلف نهائيا عن مفهوم النظم، أو عن مفهوم الارتجال. إذ أن الكتابةَ لا تتم إلا بيد وقلم وحبر على ورقة بيضاء. فالاشتغال على الورقة هو الذي جعلني أشتغل على البياض. لكن، هناك عنصر آخر يبدو لي مفيدًا جدًا. ويرجع من جهة، إلى اهتمامي الكبير بالفنون التشكيلية وبالفضاء داخل اللوحة، ومن جهة أخرى، إلى اهتمامي بالتجربة الأندلسية في الكتابة التشجيرية الشعرية، التي هي تجربة مدهشة. وقد وجدتُ تعبيرا عنها بشكل عميق لدى ملارميه، الذي كان أكبر ما استفدتُه منه هو كتابته لقصيدة "هيرودياد" التي تظل قصيدةً مدهشة، أو القصيدة الهوائية كما يسميها البعض.
منذ قصائدي الأولى ، كنت لا أكتب السوادَ فقط، ولكن كنت أكتب البياضَ أيضًا. وأنا أجد صعوبةً كبرى في نشر قصائدي في المجلات وفي الصحف، لأنه عادة ما لا يتم الانتباه عربيا إلى هذا العنصر. وبالنسبة لي، إذا لم يتم احترامُ طريقة تركيب الفضاء، أو البياض، في القصيدة التي أكتبُها، فإن القصيدةَ تموت. ثمة العديد من الأفعال الشعرية التي لا تُرى في المرة الأولى، لأننا عربيا، ما زلنا ناسين تاريخا للقصيدة وللعين في الآن ذاته نفضل ما هو سماعي على ما هو بصري، دون أن نربط بينهما. وبالطبع، هذا مشكلٌ كبير، وهو قائمٌ حتى في الثقافة الغربية. ما أود الإشارةَ إليه، هو أن البياضَ الذي أحفره على الصفحة لا يوجد، كما هو الأمر بالضبط بالنسبة للأسْود إلا أثناء الكتابة، لا يوجد قبلها ولا بعدها. ولذلك، فأوراق القصائد لا تتشابه، ولا يمكن أن تتشابه، بين ديوان وديوان، بين قصيدة وقصيدة، وبين صفحة وصفحة. أكاد أقول إن هذا الجانب يستحوذ علي لدرجة أنني دائما أحلمُ بتوفري على إمكانيات أقوى من أجل أن أُجسِّد بعض القصائد كما أريد لها أن تكون في فضاء الصفحة.
كانت هذه التجربة، تجربة البياض، حفر البياض، من بين ما اكتشفتُه وأنا أبحث عن القصيدة ، ربما خارج المتعارف عليه. لقد كنتُ دائما أعتبر نفسي أبحث في مكان آخر، في شيء شخصي أُحس به.
أنا معتز بأن أكتب بهذه اللغة العربية الحديثة، التي كتبها وجددها شعراء وكتّاب كبار

بموازاة مع هذا الهاجس، على مستوى الاشتغال على البياض، وعلى فضاء النص عموما، كيف يستطيع محمد بنيس أن يحفظ للنص بلاغتَه تلك عند الانتقال إلى مرحلة الإلقاء الشعري ؟

منذ زمن طويل وأنا أفكر في فكرة كنت أعتبرها مجنونةً، ولكنها غير ذلك على الإطلاق. وهي أن القصيدةَ بالنسبة لي هي متعددةُ الأصوات، ويجب أن تُقرأ بعدة أصوات. لا يتعلق الأمر هنا بتاتا بالقصيدة المسرحية. تعددُ الأصوات هو بمعنى هذا الصوت الذي لا يتكرر داخل القصيدة. وأطرح السؤال مرارا على نفسي : "ما هو هذا الصوت ؟ ". أجد نفسي منقادًا إلى تعدد الصوت مع تعدد المكان، ومع تعدد الأبيض والأسود. وأظن بأنه يمكن أن نقدم تجربةً جديدة إذا توفرت الإمكانيات الضرورية. لقد سبق لي أن تحدثتُ مع المخرج المسرحي الصديق عبد الواحد عوزري بشأن إشراك شخص آخر في قراءة بعض المقاطع، ولكن تبين لنا أن الأمرَ يفترض أشخاصا احترافيين وتدريبا طويلا على هذه التجربة، إذ أن تعددَ الأصوات يقتضي الحرصَ ذاتَه الذي يفرضُه الاشتغالُ على البياض. ولذلك، أفضل في كثير من الأحيان قراءةَ المقاطع ذات الصوت الواحد، وأتجنب الأخرى ذات الأصوات المتعددة. لربما، تكون هناك إمكانيات في المستقبل لاختبار هذا الصوت المتعدد. وأنا لا أعتبره مناقضًا للشعر، بل لدي انطباع بأنه يمكن أن يَفتح،على الأقل لما أكتبه أنا، أفقا لإبراز طبيعة القصيدة الغنائية المتعددة الأصوات.

حققتْ تجربتُك الشعرية انتماءها المغربي، سواء من خلال التجربة الكاليغرافية القائمة خصوصا على توظيف الخط المغربي، أومن خلال فضاءات النص، أو معجمه. وهو الأمر الذي يتم اعتباره، أحيانا، مصدرا لمستوى من الاحتدام بين هذا الانتماء وانتمائها للبعد الإنساني . كيف تتصور ذلك ؟

لا أجدُ أي تعارض بين ما هو مغربي وما هو كوني فيما أكتب. كما أنني لا أجد أي تعارض بين ما هو فرنسي في قصيدة معينة لبودلير وبين بعدها الإنساني. أنا لا أفهم أحيانا لماذا نقول للشاعر المغربي "أين يكمن تميزك كشاعر مغربي ؟" . لماذا نخص الشاعرَ المغربي، أو التونسي، أوالجزائري بهذا السؤال، ولا نطرحه على الشاعر العراقي، أو السوري، أو غيره ؟. بما أنني جزء من الشعر العربي، إذن، لا يمكن أن أكون إلا كفرد، بدون أن يتمَّ النظرُ إلي كمغربي. أما استعمالي لما هو مغربي، فذلك جزء مني. من لا يستوعب هذا العمل، كأنه يقول لي "اقطع يدك، واكتب". فبأي يد سأكتب ؟. أنا أكتب من خلال معجم، من خلال أشكال، من خلال لاوعي، ومن خلال مكبوت. وهذه كلها ما تبرر الكتابة بالنسبة لي. وإن أنا ألغيتُها، فكل الكتابة لن تعني بالنسبة لي شيئا.
لقد قرأت فعلا بعض الانتقادات من طرف بعض الشبان الذي يعتبرون، مثلا، وبغير قليل من السخرية، أن كلمة "الغنباز" هي التي يريد من خلالها بنيس أن يكتب قصيدة مغربية. أنا لا يهمني ذلك. حيث لم يكن واردا في طريقتي أن أبحث عن كلمة "الغنباز". لقد هجمت علي، كما هجمت على بدر شاكر السياب كلمة "بويب". إن ذلك أمر شخصي جدا، ولا يمكن أن أُحاكَم فقط لأنني مغربي وفق هذا المنطق. لا يوجد أي تعارض بين الانتماءين، المغربي والإنساني. ما هو إنساني كامن في ما هو مغربي كلما انتقل إلى وعي جمالي حديث. لقد وجدتُ لدى العديد من الشعراء (من أوربا وآسيا وأمريكا وإفريقيا) الأوربيين اهتماما تأويليا لزهرة "الغنباز" في علاقتها بكتابة المحو. والحقيقية أنني أستغرب كيف أن شعراء، لا علاقة لهم بثقافتنا وبقضايانا الثقافية ولا يعرفون الفرق بين المغرب والمشرق، ينصتون بعشق للقصيدة التي أكتبها. ولا أحد يسألني "ما هي زهرة الغنباز ؟". إنهم يعرفون أن هذه الكلمة موجودة داخل الشعر، ونظام القصيدة هو وحده مولِّد الدلالة.
يتعلق الأمر، إذن، بمعجم عادي جدًا. هو الذي يكلمني، وهو الذي يجعلني أندمج به فيما هو إنساني. فالكثيرَ من كلمات المعجم وافدة من لغات أخرى، ولا يُطرح علي سؤال "لماذا استعملتَ كلمة وافدة ؟". والحقيقة أن المشكل يدل على عدم معرفتنا بالكتابة بصفة عامة. لأنه إذا عدنا للثقافة العربية، من الجاهلية حتى الآن، لن نجد شيئا مفروضا على الشاعر، بما فيه عدم استعمال المعجم القريب منه. وسواء تحدثنا عن الشعر أو عن النثر، أو عن كل ما هو مكتوب، فتلك هي القاعدة. والأساسي فيها هو هل نحن أمامنا قصيدة أم أمامنا معجم لا علاقة له بالانسجام داخل القصيدة. إن ما يجب أن يُطرح إذن، هو الكتابة، والانسجام، أو الصفاء داخل الكتابة. وبالتالي يصبح السؤال هو : ، هل يمكن لهذا المعجم ) المغربي ( أن يكون ممنوعا لمجرد أنه معجم مغربي مثلا، أم لأنه لا يحقق انسجاما وصفاءً داخل القصيدة. إن المعيار الأول والأخير إذن، هو القصيدة كعمل كتابي، له رغبة في أن يجعل من الذاتي عنصرا أساسيا في الكتابة.

ثمة أسئلة تستوقفني، وانا أعيد قراءة ما كتبته وما عشته. وأحب أن أثير بعضها. تزامنت بداياتُ مسارك الشعري باقترابك من المجانين والمجاذيب. تَمَّ ذلك بالتساوق مع عشقك للغة المجنونة، كما كتبت في "شطحات لمنتصف النهار". ماهي حدود التوافق والاحتدام بين حريةِ هذا الجنون وديمومةِ شحنته، وبين وعيك النقدي والنظري بالتجربة الشعرية نفسها وبالجنون ذاته ؟

وجدتُ نفسي منجذبا بشكل تلقائي، منذ صباي، إلى المجانين والمجاذيب، لأنهم يقدمون صورة أخرى لإنسان، ظل بالنسبة لي دائما غامضا. الغامضُ هو ما كان يقربني من هؤلاء الناس. وأجد الأمر مدهشًا، مثلا، أن يقضي شخصٌ عمرًا كاملاً وهو يردد جملة واحدة، كلها حكمة، لست أدري من أتى بها. هل حفظها عن السابقين عليه، أم هي شطحة من شطحاته. وفي مرحلة لاحقة، وخلال المراهقة بالضبط، وجدتُ نفسي قريبا من مجموعة من المجانين، لأنهم كانوا يعطونني فسحة الثورة. الثورة على العائلة، وعلى مفهوم مدينة فاس كمدينة للأريستوقراطية، وعلى مفهوم الانضباط وقيم الطاعة والامتثال، أي قيم النموذج والنجاح.
كنت أصاحب هؤلاء المجانين كمصاحبة لما هو هامشي، لما لا معنى له، ولحالة المفرد الذي يتم العمل على إفراده وإلغائه. وقد تعلمتُ من هؤلاء هذه الحرية. ولكن، كنت دائما أعلم أن المجنون ليس مبدعا. إنه يعيش فقط اللحظةَ الأولى السالبة. ولا يمكن للإبداع أن يكون محصورا في فعل سلبي، إذ لا بد أن ينتقل إلى فعل بالإيجاب. بمعنى أنك تخرج عن أنساق، وعن قيم، من أجل أن تخلق نسقًا آخر وقيما أخرى. والكتابة فعل نقدي للقيم، بما فيها القيم الحياتية والجمالية، وطريقة الرؤيا. إن طريقة الكلام مع شخص آخر، وطريقة معاشرة السماء أو البحر أو الحجر تحتاج لرؤيا أخرى. فأن تحب حجرًا هو ضرب من الجنون، ولكن عندما يتحول الحجرُ إلى عنصر داخل الكتابة، عندما تمنحه حيلة ثانية من خلال الصورة الشعرية، لا يصبح هنا، الحجرُ حجرا، بل يدخل في علاقة جديدة مع المادة، تحددها نظرتُك لها وطريقتُك في منحها الحياة داخل القصيدة. لذلك، كنتُ واعيا بهذه الحدود. ورغم أن سلوكاتي، كانت في كثير من الأحيان سلوكات مجنون، فقد كنتُ في النهاية أقوم بالاشتغال الإيجابي على هذا الجنون. أقصد بالسلوكات، مثلا، أن أقضي أياماً في القراءة، أو في التأمل، أو في التفكير بدون أن أنتبه لأي شخص. وأعتبرُ ذلك نوعا من الرياضة الروحية أو الرياضة الشعرية بهدف تعويد جسمي على التعامل مع العالم الداخلي والخارجي، ومع الكلمات والأصوات. كان ذلك يتطلب مني ثقافةً لم أجدْ أبجديتَها إلا عند المجانين والمجاذيب. وهذه الثقافة تفاعلت مع ثقافة إنسانية شعرية هي التي علمتني أن السفر إلى القصيدة يتطلب المعرفة والصرامة من التعامل مع اللغة أو مع ما تخلقه اللغة في القصيدة.

كنتَ حريصا في طفولتك على الصلاة بالمسجد، ثم اخترتَ المواظبة على زيارته "للصمت أو للمشاهدة". هل يحكم الأمرُ ذاتُه علاقتَك الآن بسؤال الدين. أقصد الصمت والمشاهدة.

أُحب دائما أن تكون علاقتي بالمسجد علاقةَ الصمت والمشاهدة. ليس المسجد وحده، بل أماكن العبادة باختلافها، في ثقافات وأديان. ولا أستطيع أن أفسر لماذا هذا السلوك على هذا النحو. لكنني الآن، على نحو آخر، أنظر إلى الدين كدين، في العالم، في حضارات وثقافات. منه ما هو دين سماوي (دين الكتَاب)، ومنه ما هو أديان وثنية، في آسيا على الخصوص، ثم في بعض المناطق الإفريقية. ما يدفعني للتأمل أيضًا، هو النزعةُ الدينية. النزعة الإسلامية أولا، ثم النزعة اليهودية والمسيحية. حيث يصبح الدين ذا وظائف جديدة في المجتمع، كما في السياسة والاقتصاد والثقافة، ومنها الأدب والشعر. وأنا في هذا، أشتغل بطريقتي دون أن أكون متكلما دائما في هذه القضايا. إنها تحتاج إلى تأمل وإلى مناقشة في حدود ما هو ممكن. وأظن أن ما يُسمى الآن، بالأدب الإسلامي يحتاج إلى قراءة نقدية، حمايةً للشعر، وحمايةً للشعر العربي والأدب العربي. وأنا كما تعلم، أكاد لا أنشر شيئا في المغرب، أي أن صمتي ليس محصورا فقط عند ما هو ديني، ولكن يمتد ليشمل كلَّ شيء. وسببُ ذلك، هو أنني أكاد لا أجد أين أنشر في المغرب. والمجال الوحيد المفتوح لي للنشر هو جريدة "الحياة" اللبنانية، وأنا أكتب فيها باستمرار، مع علمي أنها بعيدة عن القارئ المغربي الذي لايستطيع أن يتابع ما يمكن أن أكتبه.

بالتحاقك بالجامعة، صار كارل ماركس صديقا لك في الأدب والحياة. هل مازال كذلك؟

كارل ماركس فيلسوف كبير. ولكنني لم أعد لقراءته منذ سنوات. وربما الأسئلة التي هي مطروحة علي اليوم ليست هي الأسئلة التي كانت مطروحة علي من قبل. لم أتعامل مع كارل ماركس في يوم من الأيام، كخطاب غير قابل لعدم الاتفاق، أو كخطاب مُغلق. بمعنى أنني، من ناحية، كنت بيني وبين نفسي أفتح بعض الحوارات مع ماركس في الحدود التي أستطيع أن فتح حوارا معه فيها، وفي الوقتِ نفسِه، كنت متحررا من الجوانب التي تقول بها الماركسية، وأنا لا ألتزم بها، ولا أقتنع بها. من ثم فإن علاقتي به كانت هي علاقة مع مفكر كبير، أعطى نسقا فكريا جديدا للثقافة الإنسانية. طبعا، أعطى أيضا الآمال، والأوهام. وهذا كله في أحيان كثيرة، مناقض لما كنتُ احلم به على المستوى الفردي، بخصوص موقع الذات داخل المجتمع، أو داخل الإبداع، أو داخل التاريخ.
كنتُ دائما، أستغرب للطريقة التي يتعامل بها بعض المثقفين الماركسيين العرب مع ماركس. وقد كتبتُ بهذا الخصوص تأملا، نشر في مجلة "الطريق"، استجابةً لرغبة الصديق المرحوم حسين مروة، الذي كان طلب مني، شخصيا، أن أكتب عن علاقتي بالماركسية، فكتبتُ كلمة حرة. لا أنسى تلك الحرية التي كانت لحسين مروة دائما، وذلك التقدير الذي كان يحتفظ به في علاقتي معه، وهو يعلم أنني ماركسي ثقافيا، ولست ماركسيا سياسيا ولا حزبيا. وهذا يعني أنني لم أنْتم في حياتي لأي تنظيم سياسي. وهو أمر استغرب له عندما أنظر إلى كثير من الأعمال التي حاولتُ القيام بها ابتداء من السبعينيات. ولذلك، فعلاقتي بماركس كانت هي علاقتي بمفكر كبير، أنظر إليه كما كنت انظر لأرسطو، وكما أنظر لديكارت، أو هيغل. باختلاف، أنه في المرة الأولى كان يقدم لي إحساسا بأن العالم يمكن أن يصبح كما هو بشَّرَ به مع انجلز، فإذا بهذا العالم يختار وجهةً أخرى. علاقتي بماركس هي علاقةُ من لا ينسى فيلسوفا كبيرا، ولكن لا يجعل منه البابَ الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى المعرفة الإنسانية.

أصدرتَ سنة 1974، رفقة مثقفين آخرين، مجلة "الثقافة الجديدة". هل تشعر الآن أن مشروعها الثقافي استطاع بالفعل تجاوزَ بنية الثقافة التقليدية المساوقة لها؟ ثم هل مازال قرار منعها قائما ؟

كانت مجلة "الثقافة الجديدة" إعلانا عن خطاب أساسه السؤال. وذلك في وقت لم يكن فيه من الممكن أن تطرح السؤال. كنا نشعر، عبد الله راجع وأنا، بأننا لا يمكن أن نكتب قصيدة جديدة أو رأيا جديدا دون أن نخلق مجلة نستقل بها. كان إنشاء "الثقافة الجديدة" يصدر عن سؤال لا يتوقف وعن عدم التنازل عن السؤال. من الصعب اختزال تاريخ هذه المجلة، لكني كنت أتألم دائما للتعتيم الكبير على دورها، وهو تعتيم يتناقض مع ما يمكن أن نلمسَه من تأثير كان لهذه المجلة في المغرب، ومع الصورة التي كانت بدأتْ تعطيها عن الثقافة المغربية خارج المغرب، سواء عربيا أو خارج العالم العربي.
في يناير 1984، بعد عشر سنوات عن الصدور واتساع التأثير، جاء أمرُ توقيف المجلة، ولم يكن هناك منع، لأن المنعَ يحتاج لمسطرة قانونية لم يستعملها وزير الداخلية آنذاك. وأنا الآن لا أهتم بهذا الموضوع، ولا أعرف هل هي ممنوعة أم لا، فلم يصدر أي توضيح بهذا الشأن عن وزير الداخلية ولا وزير الثقافة. لن أسأل أحدا ولن أضيف احتجاجا. أنا في خضم أشياء أخرى. وفوق ذلك، أعتقد أننا عربيا، لسنا بحاجة إلى مجلة اسمها "الثقافة الجديدة"، ولسنا بحاجة لنكرر تجربة "الثقافة الجديدة"، بل نحتاج لمجلة تجيب على أسئلة هذا الزمن. علينا أن نترك "الثقافة الجديدة"، بهذا التوقيف الذي أعطاها دلالتَها، علامةً على مرحلة زمنية بكل ما فيها، فكرة لاختراق ما كان يستعصي اختراقه، وإقامة في المكان الذي كان مصدر اتهام بما شاء لهم آنذاك أن يتهموا. وتظل بذلك شهادة على أن ما وهبنا حياتنا من أجله كان في الطريق الصحيح إلى مفهوم جديد للثقافة في المغرب.

أعود إلى "بيان الكتابة"، حيث كنتَ طرحتَ علاقة تبعية الشعري والثقافي للسياسي. ماهي في نظرك، حدود تغير هذه العلاقة في ضوء التحولات المفترَضة للشعري وللسياسي في المغرب الآن ؟

طرحتُ هذه الفرضية بصدد المؤتمر السابع لاتحاد كتاب المغرب، الذي أعلنتُ على إثره انسحابي من الاتحاد نهائيا. وقد عشتُ بعد الانسحاب عذابات لم أكتبها إلى الآن. ويمكن أن يأتي يوم أكتب فيه هذه تفاصيل هذه العذابات بوثائقها، للبرهنة علنية على ما الذي أقصد بهذه الفرضية. وقد كنتُ أثرتُها من قبل (بقليل) في "بيان الكتابة" لأطرح بها سؤال الشعر المغربي الحديث منذ الثلاثينيات حتى وقت كتابة "بيان الكتابة" (المنشور في العدد 19 من مجلة "الثقافة الجديدة"، سنة 1981). فرضية تعني تبعية كنت أراها في اتجاهين. اتجاه أول، تصبح حقيقةُ الخطاب السياسي، في إطاره، حقيقةَ الخطاب الشعري، كأن الشعر ليس له حقيقة يبحث عنها. وهذا يُلغي الشعرَ تماما كفاعلية إبداعية استثنائية على المستوى الإنساني. وهذا الموقف، كما سميته، موقف ديني، فقهي، حيث إن السياسي في المغرب الحديث فقيه، لم يستطع أن يطور لا فكرَه السياسي ولا ممارستَه مع المعرفة. وفي الاتجاه الثاني، تتمثل التبعية في كون المؤسسة السياسية هي التي تُعيِّن وتُحدِّد الأوضاعَ الشعرية، كما أنها هي التي توزع الألقاب الشعرية. وقد كان كل هذا ناتجا، برأيي، عن فقر الساحة الثقافية المغربية إلى إمكانياتٍ للنشر، حيث كانت الصحافة وحدها هي الموجودة. وقد كانت هذه الصحافة بيد الأحزاب. وكان طبيعيا أن يكون مجموعة كبيرة من الأدباء والكتاب يتقربون إلى الأحزاب، أو يخضعون لها لكي ينجحوا في النشر. ولكنهم لم يكونوا يدركون أن هذا التنازل كان في الحقيقة تنازلا عن الكتابة. لهذا كان لدينا فشل كبير، لعقود. ومن هنا، كان تفكيري أن الانتقال من الجريدة إلى الكتاب سيخلق بنيةً جديدة مختلفة. وأنا أكاد أجزم بأن نشوء دور نشر بالمغرب لعب دورا كبيرا في تحرير القصيدة من هذه التبعية للسياسي. ونحن منذ فترة، أصبحنا نملك جرأةً اكبر على أن نقول " لا" للسياسي، بلغة مختلفة، رغم أننا، للأسف الشديد، ما زلنا نعيش تحت هيمنة السياسي، لأنه هو الذي يملك الصحافة المكتوبة. والصحافة المكتوبة لها تأثير كبير على القيم الثقافية، في منطقة لم تتبلور فيها تلك القيم بشكل يجعلها تحمي نفسها من كل القيم المضادة. فلهذا، يمكن الآن، كما أمكن منذ أواسط الثمانينيات، لشاعر أن يكتب ما يشاء. وفي اعتقادي، أن جيل السبعينيات قام بهذا الدور لكي يهيئَ الأرضية لجيل الثمانينيات والتسعينيات. فما عشناه من ضغط، ومن عنف رمزي للخضوع والإخضاع، لم تكن مواجهتُه ممكنةً فقط بمجرد قول "لا". فنحن كنا بحاجة إلى أفعال كثيرة.
أظن أننا الآن اجتزنا هذه المرحلة الأولى، وأصبح خطابُنا أكثرَ نقديةً مما كان عليه في أي مرحلة سابقة. لا يعني هذا الكلام أننا استطعنا القيام ببناء قيم ثقافية. هذا مشكل آخر. نحن نعيش وضعا شعرياً منفجرًا، مبدعاً. ولكننا نعيش، في الآن ذاته، مآزق كبرى لهذا الخطاب الشعري. فعدم تبعية السياسي، ليس وحده الذي تتطلبه القصيدة. بل يجب، إلى جانب ذلك، أن نقوم ببناء قيم شعرية. وبدون هذه القيم الشعرية لا نستطيع أن تكون لنا بالفعل، حماية للقصيدة، سواء من الايديولوجيا، أو من اللامعرفة، وهما معا خطيران على كل مستقبلٍ شعري.

لم تختر بشكل حاسم أن تكتب باللغة العربية. شاءت ظروفٌ تكوينِك الأولى ذلك. هل تشعر أن مسارك الشعري كان محاطا بإرغاميات هامش تداول اللغة ؟

لست أدري كيف كنتُ سأكون لو كتبتُ بغير اللغة العربية. أنا أعتبر أن رأيَ الشعراء الألمان، خاصة هولدرين، ثم رأي هيدغر في العلاقة بين اللغة وبين الإقامة، ثم بين اللغة والشعر والإقامة على الأرض، منطلقَ كل تفسير حديث لمفهوم اللغة في الشعر أو مفهوم الكتابة.
نعم، للغة العربية عوائق عديدة، سواء على مستوى البناء أو التداول. وأجد هذا حافزا على القيام بعمل استثنائي للشاعر. فأن يأتي شاعرٌ عربيٌ إلى اللغة العربية ويشتغل عليها من أجل تحديثها فهذا مدهش. عندما أسمع بعض الأوربيين يقولون بأننا نكتب بالعربية الكلاسيكية، لا أفهم هذه الجملة، حيث إن هناك عربية حديثة لا علاقة لها بالعربية القديمة. وأنا معتز بأن أكتب بهذه اللغة العربية الحديثة، التي كتبها وجددها شعراء وكتاب كبار، من جبران خليل جبران إلى طه حسين، إلى الشابي، إلى بدر شاكر السياب، إلى نجيب محفوظ، إلى أدونيس، إلى محمود درويش. وبطبيعة الحال، هذه مجرد عينة مهمة بالتأكيد لهذه الأسماء التي قامت بثورة التحديث وبكتابة عربية لم ندرس بعد خصائصها وتميزها عن العربية القديمة. فأنا سعيد أن أشتغل على لغة تحتاج إلى ثورة، وهذا من أهم ما لم يستطع أن يستوعبَه أصدقائي في اليسار المغربي، الذين لم يفهموا على الإطلاق توجهي في السبعينيات نحو الاشتغال في قضايا ثقافية، وفهم الشعر بطريقة لم يكونوا يقتنعون بها.
أما التداول، فهو مطروح علي كسؤال، وخاصة في البدء. حقيقة، نحن في المغرب نعيش مرحلةً مأساويةً كبرى، ولا افهم كيف يمكن أن يكون المستقبل. و ما يهمني هو أن أكتب بهذه اللغة، وأكونَ أكثر صرامة مما كنت في كل مراحل حياتي تجاه هذه اللغة والكتابة بها، لأنني لا أتوهم شيئا. إنني أكاد أكتب لأجل هذه اللغة وحدها. لا أكتب لأي شخص على الإطلاق، بمعنى أنني أكتب وأنا لا أتخيل شخصا ما سيقرأ ما أكتبه بالعربية. هي تجربة تعمدتُها، سواء في القصائد التي تأخذ أحيانا حيزا واسعا يصل إلى ديوان بكامله، أو في مجموعة من النصوص النثرية.
ليس لي اختيار آخر.ليست المسألة بالنسبة لي أن أتقن أو لا أتقن لغة أخرى لأكتب بها. إذ لا يمكن أن أوجد إلا بهذه اللغة، وفي هذه اللغة، التي هي اللغة العربية. أقصد لغة عربية حديثة، يكتبها وشعراء وكتاب، ومبدعون، يعيشون زمنَهم بكل آلامه، وبكل أسراره في آن. ومن ثم، فأنا لا أعتقد أن هناك تجربة أقوى في حياتي من الكتابة باللغة العربية. بل أقول، ربما كنتُ أُلخِّص ما قمت به في حياتي فيما أنجزته من أجل الشعر ومن أجل العربية كلغة شعرية حديثة.

دائما في الإطار ذاته، تُرجِمت مجموعةٌ من نصوصك إلى لغات أخرى، و تُرجم ديوانك "هبة الفراغ" إلى الفرنسية، كما أن "نهر بين جنازتين" في طور الترجمة إلى الفرنسية أيضا، بعد أن فاز بجائزة الأطلس للترجمة، فهل يشكل ذلك بحثا عن حياة أخرى لتجربتك الشعرية؟

أنا لا أختار دائما ترجمةَ قصائدي أو أعمالي إلى لغات أخرى. لماذا نعتقد دائما أن الشاعر هو من يبحث عن ترجمة قصائده. هناك الآخرون الذين يستكشفون الشعر العربي ويريدون التعرف عليه، ومن بينهم من يلتقي بقصائدي وبأعمالي ويتولى ترجمتها. ولا أفهم لماذا يتم تصور أنني أسعى لتترجم أعمالي إلى لغات أخرى.

لا. لم أطرحْ السؤال بهذه الصيغة !
طبعًا. ولكن هناك من كتبوا كتابات آلمتني كثيرًا، لأنها تنظر فقط بنوع من التحقير لما يمكن أن أقوم به، كيفما كان هذا العمل، حتى لو تعلق الأمر بترجمة بعض أعمالي. ولا أريد أن أعطي معلومات أكثر مما يعرفه المتتبعون في هذا المجال. وأظن أن الزمنَ هو الذي سيكشف عن الأعمال التي تُرجمت لي، لحد الساعة، إلى عدد من اللغات، وبأشكال كانت مفاجِئة بالنسبة لي. هذا يُفضي بنا إلى المتخيل العربي، و المتخيل المغربي بتحديد أكثر. لأننا تعتقد عادة، بأن العالم يعرف الشعرَ العربي من ألِفه إلى يائه، وبأن له أحكاما نهائية عنه. وهذا كله غير صحيح على الإطلاق. هناك مناطق لم تسمع بعد بالشعر العربي بتاتًا، وإن كان ثمة بالفعل، شعراء وكتاب يتعاملون بعقل متحرر ولا يعانون من هذه المشاكل التي نعاني نحن منها.
أما الترجمة، ومنها ترجمة بعض إنتاجي، فأنا أعتبرها اكتسابا لحياة أخرى. إن الترجمة اختبار لقيمة ما أكتب وحدود انتمائه لهذا الزمن. وهذا هو ما يهمني. ولذلك، فإن كثيرا من القضايا النظرية التي نتداولها في المغرب أو عربيا هي خارج ما يجري في العالم. إذ أن العالمَ ينظر بصيغة أخرى للأشياء. وهذه هي الخلاصة الأولى التي تعلمتها. والخلاصة الثانية، هي أن الترجمة تجعلني في حوار أوسع مع قارئ ومع شاعر ومع مهتم بالشعر حيث لم أكن أعتقد أنني سألتقي به. وهذا ما يجعل قارئ قصيدتي دائما يفاجئني حيث لا أدري ولا أتوقع أن أجده.
أضيف أن الترجمة أفادتني في حماية ما أكتبه من الضجيج وفي حماية العربية، التي أصبحت منبوذة في بلدي وعلى يد أبناء بلدي أنفسهم.

كان هاجسُك دائما هو ممارسة كتابة تتنكر لكل سلطة، وتهدمُها. ما الذي تفعله كي تحمي نفسَك من أن تصبح نفسك سلطة شعريةً ؟

أولا، أنا لا أجعل من قصيدتي حقيقةً. هي قصيدةٌ بين القصائد، قابلةٌ للهدم. ولكنها قابلة للهدم وللنقد على أسس معرفية. هناك من يتوهم أنها قابلة للهدم بيسر. عندما ننظر إلى هذا البعد، بعد الهدم، في الثقافة العربية، نجد أن تاريخ القصيدة العربية الحديثة كان دائما يحفل بالواهمين بهدم أعمال غيرهم دون أن تتعرض أعمالُهم بدورها للهدم. هؤلاء الواهمون لا يفهمون أن العمل الشعري (والأدبي عامة) مؤسسة غير قابلة للهدم وللمساس بها إلا ضمن رؤية محددة وشرائط محددة. ولا أحس بأن كتابتي خلقَت شروطا لإلغاء سواها، أو للحديث باسم حقيقة الشعر، أو بالنظر إلى ذاتها كنهاية لما يمكن أن يُكتَب. من هنا، كنت واضحا منذ "بيان الكتابة"، عندما كتبتُ بأن البيان نفسه، لايعبر، أولا، عن جيل السبعينيات، بل عن قصيدة شخصية. وبأنه، ثانيا، لا يطرح قواعد تُفرَض على أي شخص آخر. هذا البيان خاص فقط بما رأيتُه أنا في قصيدتي، وبما يظهر لي قريبا مما أفكر فيه وأسعى إليه.
وما حصل في اللاحق كان أمرا فاجئني، ولم أقصد تحقيقَه. حيث كان لهذا البيان تأثير في مجموعة من شبان تلك الفترة، كما كان له تأثير في أكثر من مكان ثقافي عربي. وهنا أصرح، لأول مرة ربما، أن الكاتب الروائي الجزائري رشيد بوجدرة قام في الجزائر بنشر البيان نفسه باسمه، مع إدخال بعض الأسماء الجزائرية. ويشكل ذلك دليلا على أن هذا البيان لم يكن يُعبر عن ما أفكر فيه فقط، بل كان يعبر أيضا عن كتاب آخرين، بما فيهم الكاتب رشيد بوجدرة الذي هو أكبر مني سنا وأكبر مني خبرة كتابية، ولم يكن على الإطلاق في حاجة لأن ينسب إليه البيان. ولكن يبدو أن هذا البيان كانت له كل هذه القوة.
ويبدو لي أن ما كتبه ميشيل فوكو عن السلطة مقنع . فسلطة أي عمل تكمن في الأسئلة أو الجدل الذي يثيره. من ثم لا يوجد شيء اسمه النهائي في القصيدة التي أكتبها مادامت هذه تقوم على المحو، أي على ما لا ينتهي في القصيدة.

يتجه العالمُ نحو الانتظام في إطار قرية كونية. ما الذي يستطيع أن يفعله الشاعرُ هناك ؟ وماذا يعني، بالنسبة لك، أن تكون شاعرا الآن ؟

الشاعر يبدأ الآن دوره، بخلاف ما نسمع ونقرأ عن الشعر والشاعر، في الكتابات الاختزالية. في هذه اللحظة يعود من جديد سؤال هلدرلين عن ما معنى الشعراء في زمن الضيق والشدة. لربما لم يظهر دورُ الشاعر منذ فترة بقوة مثلما يظهر الآن. الشاعر هو الذي عليه أن يدافع عن اللغة، إذ لا وجود للغة بدون شعر. ثم، لابد للشعر أن يدافع عن معرفة الدواخل. تعيش الإنسانيةُ الآن، تمزقات نفسية عنيفة، كما تعيش افتقادَ المعنى. وهو ما يجعل الحلكة تستولي على الإنسان في أكثر من مكانٍ في العالم.
نعم، إن العالم الآن قرية كونية، لأننا توحدنا مع العالم في المشاكل الكبرى، مع كوننا لم نستطع حل مشاكل حلَّها جزءٌ آخر من العالم قبلنا. والشاعر باللغة العربية، كما هو الشاعر في مجموعة من اللغات الثانوية في العالم، مطالبٌ بوعي أكبر بهذا الدور، ومطالبٌ بمعرفة كيف يدافع عن الشعر. وهذا هو السؤال المطروح الآن.
إن التقنيات المتطورة تقرب المسافات، وهي تقرب المعلومات وتعيد توزيعها وتبادلها عبر الانترنيت، مثلا.لقد كانت لي وجهة نظر في استعمال الانترنيت، عبرن عنها في ندوة ، نظمتها دار الأدب ببرلين، بألمانيا ، حيث نبهت على أنه علينا أن لا نخلط بين المعلومة وبين التجربة. فإذا كانت التقنيات الحديثة تعطينا المعلومة، تقربنا منها، تجعلنا نتبادلها في أسرع وقت ممكن، فإن الشعر ليس معلومة. وكما هو معروف، فإن الدول المتخلفة تنجذب إلى التقنيات أكثر من الدول الغربية أو الدول التي نصنع التقنية، وتعتبرها امتيازا وسلطةً في آن. إنها السحر. ومالك التقنية ساحر بإمكانه بلوغ المحال. يقوم عن طريقها باكتساب ما يحقِّق التفوقَ والسيادة، ثم ما يجعله يظن أنه يحل ما لم تستطع حلَّه منذ فترة طويلة من قضايا، سواء نظرية أو عملية.
باهتمام كبير أتابع العلاقة الجسدية للشاب بجهاز الكومبيوتر، وأتابع الخطابات التي تُكتَب من طرف الشباب عن العلاقة بالكومبيوتر، والأنترنيت، وخاصة في الحقل الأدبي والشعري، أتأمل وأتابع، أقول : نعم، نحن في قرية صغيرة، ولكن صوتَ الشاعر يظل، دائمًا، صوتًا معزولاً في جزر تتناءى وحيدة، يضاعف الصمت عزلتها، هناك، حيث تحافظ الكلمات على الدهشة، الصدمة، المعنى.

*********

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر المغربي محمد بنيس

الجمعة 05 يوليو 2002

صدرت للشاعر المغربي محمد بنيس، "الأعمال الشعرية" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، بالتعاون مع "دار توبقال" في الدار البيضاء. ويغطي هذا "الديوان" الذي صدر في جزئين اعمال محمد بنيس الشعرية من ديوانه الأول "ما قبل الكلام" (1969) وحتى ديوانه الأخير "نهر بين جنازتين" الذي صدر في العام 2000. (وسوف يصدر هذا الديوان الأخير بالفرنسية في الخريف المقبل). هنا شهادات من شعراء ونقاد عرب قيلت في شعر محمد بنيس:
"الى جانب أدونيس ومحمود درويش، أنشأ محمد بنيس عملاً لا يدين فيه إلا للبحث الصبور عن لصالته الخاصة ليصبح نموذجا داخل اللغة العربية، وقد أصبح الان يحمل مستقبلا هو ما يجعل منه عملا تأسيسيا" ( الشاعر الفرنسي برنار نويل، من مقدمته للترجمة الفرنسية لديوان "هبة الفراغ").
"نص محمد بنيس ينبني على تسمية الواقع في تعدديته، ذلك ان الكتابة الشعرية عدلت عن الإبانة والتبيين وصارت تفتح مجراها في عتبة أخرى ما ان يطَلْها الكلام حتى تنهض لهمة في غاية الخطورة: إعادة بناء اذلات في الكلمات". (الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي).
"هذا الشاعر ليس لديه لأي تصور حسي او تجريدي للألفاظ خارج التعلق الإبداعي الذي يخضعها له، ولذلك فإننا لا نستطيع، باعتبارنا قراه، ان نتصور لغة بنيس أي ضرب من التصور المعجمي او التركيبي، ألا إذا اعتبرناها قائمة على مجاز التخييل". (الناقد المغربي إدريس ولمليح).
"لا شك ان محمد بنيس شاعر يتمنع على التصنيف، فهو رافض للتقليدي القديم فيما هو شاعر حر بأفكاره المستقلة وتجديده الجريء". (الناقدة والمستشرقة الإيطالية فرانشيسكا كوراو).
"الهاء أول صفات هذا الشعر، والبهاء آخر كل قصيدة، وبخاصة إذا انتهت بأسطر مرموقة بشكل مثلث يدل برأسه الى أسفل الصفحة، شأن كتب التراث، وتنتهي الصلاة الشعرية بكلمة "آمين". وكلام القداسة الشعرية ينسج محبة الشاعر في التصاقه بأرضه. يتغنى بمولد فاس بنثر شعري منتزع من "سفر التكوين" - أول أسفار العهد القديم- لكنه نثر بهي يوحي بالعرافة ويخلو من وعثاء اللغة العنيفة، وها هو يعود يتغزل بمدينته فاس (فاء لنسل النخل، سين لأقواس المياه) بلغة تذكرنا بالنثر المتوهج فيلا "نشيد الإنشاد الذي لسليمان" فإذا بنا نقرأ تيسبيح التسابيح الذي لبنيس". (الناقد والباحث العراقي عبد الواحد لؤلؤة، دراسات نقدية".
"يكتب بنيس بحرية تامة تجيز له مزج الأنواع، وتكسير البنى التقليدية، ودمج النثر بالنظام الإيقاعي الحر، فالقصيدة، كما تتبدى لديه، حقل اختبار مفعم بالعناصر الشعرية وغير الشعرية، والتعابير والمفردات المختلفة النابعة من غير ذاكرة وغير مرجع؛ وهي لا تخضع لسياق ضيّق ونظام محدد، لأنها تجد غاية الشعر نفسه في فوضاه الجميلة وهدفه واحتمالاته الكثيرة" (الناقد عبد وازن، جريدة "الحياة").

وقدم محمد بنيس للأعمال الشعرية بكلمة تحت عنوان "حياةٌ في القصيدة" نقتطف منها هذه المقاطع:
"يمكن للكلمات ان تعطي الليل لما يبحث عن لًيله، في زمن وفي قصيدة. تلك هي حياةٌ (حياتي) في القصيدة، وأنا مقبل على إصدار إعمالي الشعرية في ديوان. ولي هنا حالة الوقوف أمام شعر كتبته، أعدتى كتابته، في مراحل من حياة. كأنما هي ليلةٌ واحدةٌ. كأنما هي الأزمنة كلها. غموض هذه الحياة يسفر عن شقوق وعن ندوب. حياة متعددة الميلاد، وأنا اليوم أمامها أرجع الصمت الى مكانه. ما كتبته (وما لم أكتب)، في الدهشة والرهبة والريبة. دواوين تحتضن القصائد مثلما هي الدواوين في القصيدة تُهاجر.
وأنا الذي رافقتها في السراديب، ليلة لا تنتهي، أزمنة، ربما، أقول لنفسي, أنا أنظر الان الى حياة تنفصل عني قليلا: ألم أعش حقا إلا هذه الحياة، حياة في القصيدة؟ أو بتعبير متردد: هل جعلت من الحيوات الأخرى عبورا، مجرد عبور، نحو القصيدة؟ ثم أصوغ القول على نحو مباشر: أليست الحياة في الكتابة نفيا لكل انعكاس حياة شخصية (أو غير شخصية) في القصيدة؟ أسئلة تفضي الى حياة ضاعفت فيها من افعال اختراق مسالك خلفية، ما زلت اسمع في سفوح ذكرياتها أصداء السير على قدمين داميتين، صاعدا نحو المكان الذي يدنو مني او يبتعد. القصيدة. حتى أصبحت أكثر من مكان. إنها وطن. وحدها القصيدة. الكتابة. وطني".

هنا ثلاث قصائد من ديوانه "هبة الفراغ" (1992).
مستحيل
الى محمد الخمار الكنوني وعبد الله راجع
لم يختف الغنبازُ عن أجرام سهرتنا له
كنا نعد تدفق الأمداح من شطح الى ماء
وهذه النار تحجبُ يشبْبها بفصولِ
دالية مهددة على أعتابها
كنّا
نقيمُ
شعيرة
لتماسك الأضواء
نسلم يتمنا لعواصف تعلو بكل عروقها كنا
نحرر شمسنا من غفلة الأشياء ننشء ريح أقواس
هي العتمات نسكنها لنبلغ رجفة أشهى مفازتها
مدارٌ
من عنيف الهتك تختبر اللغات سموقه
وجع لصمت الصاعدين الى البداية ها
هنا كتفٌ توسد بترها جهةٌ على أهوالها
ومضات عابرة تذكر بالهبوب غبارنا
ماذا
تريد ساعة
وهبتْ لنا أجراسها
لا شيء غيرُ الصمتِ
في ولع
ليثبت مستحيلا
من
شقر
ق المَوت.

ظنون

لهذي الظنون التي
نستضيء بها
لهذي المنافي التي التأمت
بينها
نحدد لون الأثر
وننثره
بجعا
وننثره
موجةً
أو حجر.

مكان

لطخة تأتي الكتابه
من جناح الموت
من غور
متاهْ
من فراغ سيدٍ
يشطح بالضوء مداه
من سلالاتي النقيضه
بيننا اليوم نداءاتُ وشوم
وسماواتٌ خفيضه.

وهنا قصيدة من ديوانه "نهر بين جنازتين" (2000).
سماء الموت
نتف السحاب إذنْ توسع من مدارك أنتَ بين مسافتين وعند سطح النهر كنتَ تركتَ وجه اللوح يغمره الرنين اهبط إليك كوابٌ فاضت بها الأنهارُ والكلمات تغمض ايها الأحياء في حلقي أفتش عن مساقط نقطةٍ هي ما يسرُّ الى كيف النهرُ يجذبني الى طرق موزعة على حد الشكوك وقد عثرتُ عليّ أشلاء مسلمة لفتكِ الخوفِ
لي
لغةٌ
تورثني
سماءَ الموت
نهر له أنشأتُ فاتحتي
طيور
من صنوف الأزرق
الفضي،
تقصدني
وأنتَ هناكَ تبحث عن تكوّن
قطرةٍ
في النهر
تهبطُ
كُن جذاذا ايها الزمن
المبشر بالقتام
وليس لي حلم أدافع فيه عن سربٍ من الكلمات
لي
لغةٌ
تردد لي
سماء الموت
مطرٌ
تساقط فوق
ذاكرة
مشوشة
ولا
سطح تنام عليهِ
لي لغةٌ
تطلُّ على
سماء الموت.

أعمال محمد بنيس
الخميس 20 ديسمبر 2001

شعر

ما قبل الكلام
فاس، مطبعة النهضة، 1969 ؛
شيئ عن الاضطهاد والفرح
فاس، منشورات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، 1972 ؛
وجه متوهج عبر امتداد الزمن
فاس، مطبعة النهضة، 1974 ؛
في اتجاه صوتك العمودي
الدار البيضاء، منشورات الثقافة الجديدة، 1980 ؛
مواسم الشرق
الدار البيضاء، ، دار توبقال للنشر، 1986
طبعة رابعة. الدار البيضاء، ، دار توبقال للنشر، 2000 ؛
ورقة البهاء
الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1988
ط.2. الدار البيضاء، ، دار توبقال للنشر، 2000 ؛
هبة الفراغ
الدار البيضاء، ، دار توبقال للنشر، 1992 ؛
كتاب الحب
عمل فني مشترك مع الفنان ضياء العزاوي
طبعة أصلية، لندن-الدار البيضاء، 1994
طبعة أولى، الدار البيضاء، ، دار توبقال للنشر، 1995 ؛
المكان الوثني
الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1996؛
نهر بين جنازتين
الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2000.

نصوص
شطحات لمنتصف النهار
الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 1996 ؛
العبور إلى ضفاف زرقاء
تونس، تبر الزمان، 1998 ؛

دراسات
ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب
بيروت، دار العودة، 1979
ط.2. بيروت- الدار البيضاء، دار التنوير-المركز الثقافي العربي، 1985 ؛

حداثة السؤال
بيروت- الدار البيضاء، دار التنوير-المركز الثقافي العربي، 1985 ؛

الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها.
الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1989-1991
الجزء الأول، التقليدية، 1989 ؛
الجزء الثاني، الرومانسية العربية، 1990 ؛
الجزء الثالث، الشعر المعاصر، 1991 ؛
الجزء الرابع، مساؤلة الحداثة، 1991 ؛
كتابة المحو
الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1994

ترجمة
الاسم العربي الجريح
عبد الكبير الخطيبي. بيروت، دار العودة، 1980
ط.2. الرباط، منشورات عكاظ، 2000 ؛
الغرفة الفارغة (شعر)
جاك أنصي. القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1996 ؛

هسيس الهواء (أعمال شعرية)
برنار نويل. الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1998 ؛
قبر ابن عربي، يليه آياء (شعر)
عبد الوهاب المؤدب. القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1999.

عن مجلة (ايلاف) الألكترونية


إقرأ أيضاً: