حاوره: فرج الحطاب

مقدمة:

قبل كل شيء، لابد أن نتفق على أن المحاورات الثقافية يجب أن تقدم في حصيلتها أفكاراً جديدة؛ أفكاراً ومقولات قد تسبب ارتجاجاً للراكد والمتداول من الآراء. الحوارات الثقافية تختلف تماماً عن الحوارات المجاورة كالحوارات مع الممثلين أو نجوم السينما والتلفزيون، والتي تركز دائماً على السطحي والشكلي والخاص في حياة الممثل، بينما يختلف الحال مع الفنان والأديب المثقف الذي يسعى في حواراته إلى الدخول عميقاً في جوهر المسألة وتفحص محتوياتها بدقة، ومن ثم إعطاء ملخصات عن ما أملته تلك المسائل من إحالات وجدل.
والحوار مع شاعر مهم مثل زاهر الجيزاني، يقترب من أن يكون حواراً متشعباً لا يكتفي بالشعر وحده، هناك خطوط عديدة تبدأ بالظهور والنمو والانطلاق من داخل البؤرة، من داخل الجوهر.. وأعني الشعر. لهذا فمن الصعب الاكتفاء بخطوط مقترحة بعينها، فالشاعر يمثل قطباً مهماً بين مجايليه من الشعراء ومما لا يختلف عليه أحد إنه موهبة متقدمة ومنجز كبير، إضافة إلى أنه ذاكرة تتسع لترود تخوم التاريخ والسياسة فضلاً عن الثقافة والشعر.. نقطة الانطلاق.
وإذا كانت السنوات الماضية قد جعلت من الشاعر في منأى عن متناول الصحافة والأوساط الأدبية نسبياً، بسبب عزلة اختيارية ارتآها بنفسه، فإن ذلك لا يعني بالتأكيد أن هذه العزلة هي عزلة سلبية، فها هو الآن يعد أوراقه لطبع قصائده الجديدة تحت تأثير وعي جديد وبآلية جديدة ومغايرة.
حاولت في هذا الحوار نشرت مقدمته في صحيفة الزمان في لندن ألا يفوتنا الكثير، لا سيما وأن الجيزاني، مثلما له من الاعتراف بإبداعه وفنه وأهمية شعره، فإن عليه كذلك بعض المآخذ سجلها المتابع والقارئ، وحتى بعض زملائه، من بينها دخوله في سجالات لا شعرية خصوصاً ما كتبه من مقالات ودراسات في السياسة وتاريخ الأحزاب وغيرها. ومما لا يخفى هنا، هو التزامي بدور المحاور واشتراطات هذا الدور بعيداً عن آرائي الخاصة والتي تتقاطع أحياناً مع الجيزاني.
كما أنوه إلى أن مجلة ألواح هي المطبوع الثقافي الوحيد الذي وافق على نشر هذا الحوار كاملاً دون حذف أي شيء منه، وهو ما يعزز من مكانة مجلة ألواح كمنبر ثقافي حُر، يسعى إلى تأسيس ثقافة إنسانية حرة لا تؤطرها الأيديولوجيات.

فرج الحطاب

أين الجيزاني طيلة السنوات الماضية؟أنت متهم بالغياب شعرياً وعدم إكمالك الدور الذي لعبته على الساحة الشعرية العراقية والعربية، أين الجيزاني طيلة التسعينات؟.

لدي شعور عميق باللاجدوى، فعلاً أفتقر إلى الحضور، سواء في الصحافة، أو في نشاطات الوسط الأدبي، والسبب الأساس هو الشعور باللاجدوى. أنا شخص مهزوم، كان الشعر بالنسبة لي وعلى الدوام، عزاءً شخصياً، لذلك أتراجع وأنزوي وأنقطع وأصمت ثم أعود مرة أخرى.. هل أنا فعّال حين أكتب؟ وهل شعري له تأثير ما؟.. لا أعرف، لكنني أعرف جيداً بأني رجل خائف، والجملة التي وردت في إحدى مسرحيات جورج شحاته:"الرجل الخائف حذر وفعّال". تقوي آمالي. منذ سنتين صدرت أعمالي الشعرية الكاملة عن وزارة الثقافة السورية، وبسبب اللااكتراث والبطء لم أحصل على نسخة من أشعاري ولم أر هذه الأشعار، التي يحدثني عنها بعض الأصدقاء بالتلفون ممن اقتنوها.. هل خاب رجائي، مرة واحدة، بكل شيء؟. كنت أعتقد بأن إحدى وظائف الشعر أنه:" يعترض على..". ليس مصهراً لتركيب الترميزات والاقتباسات والأمثال والتوصيفات فقط، ليس شكوى فقط ولا غناء فقط، وليس التعبير الأشد خصوصية عن علاقاتنا بما حولنا فقط؛ الشعر كل هذا وهو أيضاً:" اعتراض على..". في فسحات ضيقة جداً استخدمت هذه الوظيفة، بنبرة خافتة هنا وهناك منذ أبي العلاء المعري إلى أدونيس، لا أقصد إطلاقاً الاحتجاجات الشعرية السياسية، لا أقصد هنا المعنى السياسي، فأنا أمقت هذا الشعر، سواء الشعر السياسي ضد أو مع، ولم أكتب الشعر السياسي، ولم أهن شعري بالنزول إلى الأوحال.. كلا هذين النمطين تضييع لروح الشعر، الذي تم استهلاك وقته كله منذ أكثر من ألف سنة في خزعبلات المادحين والممدوحين.. ما أعنيه هنا؛ هل أسهم الشعر الحديث، في تدقيق ثقافتنا العربية الإسلامية مادام هذا الشعر يستخدم هذه الثقافة في بناءاته المختلفة، بمعنى؛ مادامت الثقافة العربية الإسلامية مادة الشعر، وتدخل في تكوينه، مثلاً الأسطورة، التاريخ، السياسة، الحياة اليومية، التعبير عن الذات، إذاً الشعر يستخدم هذه الهياكل في بنائه، وهذه الهياكل الثقافية تحتاج إلى تدقيق صارم، وإعادة نظر في مقولاتها، في ظل تزوير ضارب في جذور نشأتها ووظيفتها قد نجد لمحات تشير إلى عبثية هذا التزوير، هناك إشارات مثلاً في كتاب أبي الثناء الآلوسي (نفحة الشمول في وصف السفر إلى إسلامبول) يشير إلى قيام مفتي السلطة العثمانية ببيع الألقاب والأنساب لقاء اقطاعات أو مبالغ مالية كبيرة. وهذا التزوير يمتد ليشمل جوانب كثيرة من ثقافتنا؛ كتابة التاريخ، تدوين الأحاديث، تزوير المواطنة ونظم الدولة والتراتب الوظيفي وأجهزة الإدارة والجيش وتبرير القمع وملاحقة الناس.
لا يمكن للشعر وهو يستقبل هذه الثقافة في نسيجه أن يقبلها من غير تدقيق في لحظة ما. أعتقد أن الشعر قادر أن يلاحق، وقادر أن يقطع أوصالاً، ويعيد ربط أوصال أخرى. كان اعتقادي هذا يستند على يقين آخر. إن الشعر منطقة رخوة في ثقافتنا العربية الإسلامية، منطقة عسيرة الإمساك، لا تتماثل ولا تمتثل لنظام التقييدات الصارم أو نظام الممنوعات، فلم يجر إطلاقاً لعن أبي العلاء أو طرده، كذلك الأمر مع المتنبي رغم تجاوزاتهما المتكررة على نظام الممنوعات هذا، فقد امتثل المؤرخ والفقيه والسياسي ورجل الإدارة والعسكري، قد تكون هذه اللحظة مبالغ فيها. الشعر في ثقافتنا مصدر رجاء ومصدر خوف في وقت واحد، الفن الأول الذي كان لسان الأمة كلها.. والفن الذي تم تخليطه بالجن والشياطين والقوى الخفية وبما يمتلك من مرموزات وإشارات، يستطيع أن ينفذ إلى أعماق ثقافتنا، ينزل إلى عالمها السفلي، مثل (الجنيّ) في قصص ألف ليلة وليلة، يستطيع أيضاً أن يقوم مقام الفكر، فيه (طاقة جدل) كما فيه (طاقة غناء) وكما فيه (طاقة تصوير). لكن الفكر الذي يحاول في كل مرة، أن يجرد هذه الثقافة، ويعزل عناصرها اللاعقلانية، يُهزم شر هزيمة، بل أن هذه الثقافة في جوانبها العقلانية واللاعقلانية تشكل كرة سديم لا يمكن الاقتراب منها، وهي تعمل بآليات خرافية. اعتقدتُ في لحظة ما أن الشعر قادر على الاقتراب وتقليب هذه الثقافة، فقد فعل ذلك المتنبي، وهو أعظم شاعر أنتجته تلك الثقافة في ذروة تفوقها.

نفهم من هذا أن اللاجدوى التي يصاب بها الشاعر أحياناً هي أمر لا فراغ منه مادام الشاعر يواجه العالم بتحديات تتكرر وتأخذ أشكالاً عدة؟.

أريد أن أقول؛ إننا نعاني من اختلال مؤلم في حياتنا وبقيت أجيالنا العربية تحلم منذ بداية القرن إلى الآن بحياة أفضل، ولم يتحقق ذلك.. لنتذكر جيل طه حسين ومصطفى عبدالرزاق ومعركتيهما من أجل انتشار التعليم ولكل مواطن، لكن التعليم، فيما بعد، تم تقويضه بالكامل، ففي العراق مثلاً، أصبح التعليم العالي مقتصراً على الحزبيين وليس لكل المواطنين، وتم تفضيل جماعات أجهزة الأمن والمخابرات في ملء مقاعد الدراسات الجامعية، وتم تخريج وإعداد محترفين جدد لاستئناف عمليات التزوير الثقافي. إذاً ثقافتنا في كل أطرها تميل بشكل حاد إلى تمجيد (القوة الغاشمة)، تمجيد (الثورة اللاعقلانية في تراثنا) ومنها بعض الأنظمة السياسية في بلداننا، وهي أنظمة في مجمل تكوينها، تدخل في نطاق القوة اللاعقلانية لثقافتنا. لا يوجد عنصر ثقافي واحد يكبح تنامي هذه القوة الغاشمة، وهذه سبب في موت التفكير العقلاني في سجالنا اليومي. عندما قال المتنبي بيته المشهور:

الرأي قبل شجاعة الشجعان              هو أول وهي المحل الثاني

كان الرجل يعتذر عن هذا الإيغال المفرط في تمجيد القوة الغاشمة، وهو أحد ممارسي هذا التمجيد. ثقافة القوة الغاشمة عمدت إلى (تسذيج) الشعر الحديث من خلال رعاية هذا الشعر، أن يكون تحت المراقبة الدائمة؛ مهرجانات وندوات ولقاءات رسمية دائماً. لم يتح للشعر الحديث أن يعمل بعيداً عن مراقبة الأجهزة الرسمية، الآن الشعر يستهلك بطريقة قاسية، أكداس من ألفاظ ومضامين مكرورة.. أشعر أن (التوتر) غاب عن القصيدة العربية اليوم. نحن نريد حياتنا أن تتغير نحو الأفضل وفي الأخص نحن العراقيون الذين منحنا القدر سوء حظ لا مثيل له، ولا يوجد في الأفق أي شيء يبدل سوء الحظ هذا.. اللاجدوى جعلتني أنقطع.

منذ سنوات وأنت هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، هل تعتقد بأن المكان يلعب دوراً معيناً في بلورة وإعادة صياغة المشروع والتجربة الشخصية؟.. ثم ما الذي يمكن أن تستثمره أو تقدمه هنا في ولاية أريزونا؟.

لم أختر هذا المكان، كانت أمريكا بالنسبة لي مكاناً بعيداً جداً. قبل 25 سنة قرأت رواية كافكا (أمريكا) وتخيلتها كما تخيلها هو، بعد ذلك بسنوات قرأت ما كتبه أمين الريحاني عن أدب أمريكا وثقافتها ومذكرات ورسائل جبران خليل جبران، ثم توالت قراءة المترجمات عن شعراء أمريكا وروائييها ومفكريها. وصلت هذا المكان كواحد من بضعة ملايين من العراقيين المهاجرين، وبعد عشرين يوماً في زاوية أحد المقاهي، كتبت قصيدة قصيرة عنوانها كولومبس، رسمت فيها صورة تلك اللحظة (لحظة اللاإختيار):" لم يكن في ضفاف المحيط/ سوى زبد أبيض/ يتدافع بين الصخور/ وصناديق مقفلة/ ارتمى فوقها حشد بحّارة/ وكلام يدور/ هذه جنة أم جحيم/ ولكنهم بدأوا بالعبور".
إذا تحدثت عن أمريكا كمكان، تبدو في صورتها الأولى عبارة عن (شركة كبيرة) تتوفر فيها فرص عمل مختلفة وأجور مختلفة، تبدو هكذا للعابر مثلي أو المهاجر، لكن في حقيقة الأمر لأمريكا صورة ثانية، إنها ليست شركة كبيرة وإنما هي دولة تعمل على قدم وساق، كما يقال. أما الذين استقروا فيها بدت لهم في صورة ثالثة، عبارة عن ملجأ آمن، يكبح العداوات التاريخية، ويذكر الإنسان أنه إنسان أولاً، هذه هي هويته الأصلية الأولى، وما بعدها هويات ثانوية، وربما تكون لها صورة رابعة، عبارة عن مكان خاص يتيح للناس جميعاً، أن يختبروا كفاءاتهم، أي المكان الذي يظهر فيه الناجحون بسرعة. أما أنا لا أزال عابراً أو مهاجراً، وأريزونا، وهي إحدى ولايات أمريكا التي تقع على حدود المكسيك، ليست المكان المفضل لي. عموماً في أمريكا أمان حقيقي، هكذا أرى، عكس الذين يقولون أن أمريكا بلا أمان. وهذا الأمان أتاح لي أن أكتشف أهمية العلاقة الإنسانية وأهمية أن ينذر المثقف نفسه لملاحقة الشر وفضحه، وهذا يتجلى في قصائدي الأخيرة: رجل بلا مغزى، إلى جميل صدقي الزهاوي، إلى جعفر أبو التمن، مصر، وقصيدة لم تكتمل بعد عن بغداد.

المتابع لتجربتك الشعرية، يرى أنها كانت تتجاوز نفسها بنفسها، وأن خطاً بيانياً يأخذ بالصعود منذ (تعالي نذهب إلى البرية) مروراً ب(من أجل توضيح التباس القصد) وصولاً إلى القمة عند مجموعتك الأخيرة (الأب في مسائه الشخصي).. كيف يمكن لك أن تقيم وبحيادية هذه التجربة أيضاً؟.

أنا قلت في لقاء سابق: إن ما كتبته قبل ديواني (الأب في مسائه الشخصي) كان تمريناً للمخيلة، في الأوزان، في اللغة، في التجريد، لكن تلك التمارين مهدت بنجاح لقصائد (الأب في مسائه الشخصي). بدءً من هذه التجربة التي صدرت في الثمانينات، قيل لي أنني شاعر مختلف، قدمت سيرة ذاتية مركبة تقوم على المكان والتاريخ، بغداد هي المكان الأساس وإن لم اسمها بالاسم، والتاريخ كان أبي وخالي هما الشخصيتان الرئيسيتان اللتان يتشكل منهما تاريخ المكان. مجازياً أنا دققت في الثقافة التي استخدمتها في شعري ونقدتها.. ومع ذلك فأنا أيضاً متهم بالتجريد، والمبالغة، ومجانية الواقع، ولكنني أستطيع أن أدافع عن صدق معاناتي، وعن اهتمامي الجدي بالمشاكل التي أطرحها، وشعري صورة صادقة عن معاناتي.

ماذا تكتب الآن، وإلى أية مرحلة ينتمي؟. هل هو استكمال لمشروعك الشخصي السابق أم هو مرحلة انقطاع وتأسيس آخر، خصوصاً وأن ما تشي به قصائدك الأخيرة لا يدل على تبنيك للمشروع السابق؟.

كتبت أربع قصائد نثر طويلة تمثل تطوراً لتجربة (الأب في مسائه الشخصي) وتكاد كون قصيدة جعفر أبو التمن، قصيدة إشكالات..هل يمكننا تقديم تعريف جديد للشعر؟ أي ما هو الشعر الآن؟. هل يمكننا توسيع وظيفة الشعر لتشمل التاريخ والفكر؟ هل يجب أن يكون الشعر غنائياً حصراً؟. ففي الوقت الذي تبدلت أشكال الشعر ومضامينه منذ الأربعينات حتى اليوم، ما يزال هناك من يصر على تكرار التعريف الخالد للشعر كما وضعه قدامة بن جعفر منذ ألف سنة، في حين لم يعد ينطبق هذا التعريف على الأشكال الشعرية التي تكتب منذ الأربعينات. عملياً لم يعد هناك أي وجود للتعريف القديم، لكن هل يستطيع شاعر مثلي؛ نصفه موغل في الماضي، أن يتخلى بسهولة عن الغناء، في أقصى الأشكال المتطرفة، كانت هناك نبرة غناء خفية ونافذة. إلى جانب هذا جمعت قصائدي الغنائية القصيرة في مخطوطة وصلت إلى 100 قصيدة. أنا شخصياً أحتاجها لنفسي أرددها، أنشدها، أتمثل بها بين وقت وآخر، شبيهة بالتمائم القديمة. قد أبدو متراجعاً شعرياً وقد أبدو مندفعاً إلى الأمام، ليست تلك هي المسألة، المسألة هي ماذا يقول قارئ شعري، في الختام.

منذ زمن وقراء الشعر يتناقصون، بعضهم متيقن من عدم فاعلية الشعر، و عدم قدرته على تحقيق شيء يذكر.. مؤخراً؛ قراءة الشعر تكاد أو تكون مقتصرة على النخبة فقط. وإذاً على من تراهن بقولك الأخير: ماذا يقول قارئ شعري في الختام؟.

الكلام عن قارئ الشعر كلام يحتاج إلى تفصيل دائماً.. هناك شعر متعدد، متنوع، وهناك قراء متنوعون، متعددون، هناك شعر يدور حول التحريض السياسي، وشعر يدور حول المرأة، وشعر يدور حول نقد ثقافتنا السائدة، هناك شعر بسيط جداً، وآخر مركب.. إذاً مستويات الشعر المكتوب تشترط قراء متعددين، والوسط الأغلب من القراء هو الوسط الذي يتمركز حول شعر الهموم السياسية والمرأة.. هناك شعر يعبر عن أحزان شخصية ورؤيات قلقة، استباقات لحركة الشعر العربي. أعتقد أن أشعاري تخفق في هذه الضفة، ضفة القراء القليلين جداً، أعتقد أيضاً أنني عالجت مشاكل أساسية في المجتمع بخفاء شديد في مجمل قصائدي، أو في النهاية يمكن القول: إن الشعر العربي لم يقرأ في ساحات عامة، كان ينشد في مجالس النخبة.. ومع ذلك أن لي قراء يتابعون ما أنشر.

كنتَ ضمن مجموعة من الشعراء، سعيتم لتقديم ما هو مغاير..ما الذي عنيتموه من هذه المغايرة؟ وكيف انفرط عقدكم الجماعي؟ ماذا يمثل مفهوم الجماعة لديكم؟.

الأجيال الشعرية في العراق حقيقة مرئية ولا طائل من نكرانها. نحن كنا مجموعة من الشبان آنذاك، أي قبل أكثر من 25 سنة، وقد سبقنا شعرياً جيلان هما: الرواد وجيل الستينات، جيل الرواد كان مهماً جداً، فقد نقل القصيدة العربية من شكل إلى آخر جديد وطور موضوعاتها ولغتها، هذه هي أهم الركائز في تقديري؛ تجديد في الشكل والموضوعات واللغة، هذا إنجاز كبير جداً، أيضاً جيل الستينات قدم إنجازاً آخر رغم أنه أقل بكثير من إنجاز الرواد، جيل الستينات أدخل (التعبيرية) في القصيدة.. لأول مرة يقدم الشاعر العربي صورة عن العالم أو بما يجري حوله، انطلاقاً منه هو وليس انطلاقاً من الأعراف والتقاليد الثقافية. فصورة العالم وما حولنا، تتكرر من خلال الأمثال والشواهد والحكايات. هذا الجيل انفتح على ثقافات أخرى، ومنها تحديداً الفكر الوجودي، لذلك دخلت ثيمات جديدة في القصيدة، التعبير عن القلق والمصير والاكتئاب والمستقبل، وبعبارة أخرى؛ هم أدخلوا (الذاتية) في القصيدة وهو تجديد حصراً في موضوعات الشعر. لكنهم من جانب آخر التزموا بالقواعد الجديدة التي شرعها الرواد؛ الوزن والغنائية والتقفية بين حين وآخر، وترديد موضوعات الرواد أيضاً.. أي أن تخفق القصيدة قريبة من الواقع ومن الحياة اليومية.. لكن هذا الجيل انتكس من جانب آخر، إنه كان جيلاً حزبياً وهنا أتكلم عن الشعراء العراقيين وبالتالي فقد مصداقيته، في تناقض واضح بين الإعلان عن مشاريع إنسانية وبين التزامات حزبية ضيقة، لذلك كان أقل صدقاً وأكثر صخباً.
القصيدة كما اجترحها الرواد بقيت هي هي حتى أواخر السبعينات. جيل السبعينات، ومنه نحن في العراق، عشنا وسط هاتين التجربتين، احتكاكاً وتأثراً من جهة، وتصادماً من جهة أخرى، وانتظرنا حتى الثمانينات لتظهر تجاربنا الشعرية تحمل بعضاً من المغايرة، فقد ظهرت لي مجموعة قصائد جديدة ضمتها مجموعتي (الأب في مسائه الشخصي) منها: أراضي دانيال، المقهى، شاحنة البطيخ، أسفل الشرفة، الأب في مسائه الشخصي وغيرها. في هذه القصائد تم التخلي عن الوزن، وإدخال السيرة الذاتية المركبة كعنصر جديد في موضوعات القصيدة، مع تغييرات في اللغة. في الموضوعات، استندت بالكامل على التاريخ الشخصي أو العام.. وفي اللغة؛ أدخلت جملاً، أو كلمات، أو حوارات ذات طابع فلسفي جدلي.. أي شيء من لغة الجدل، ثم إدخال الواقعة التاريخية القريبة أو البعيدة، والتخلي عن الوزن. أيضاً كتب خزعل الماجدي مجموعة قصائد جديدة، ومنها قصيدته (عكازة رامبو) مستعيناً بالسحر الثقافة السحرية بكل رمزيتها كموضوع أساسي في القصيدة، ورعد عبدالقادر مستعيناً بشروح الأحلام كما عند ابن سيرين، وكمال سبتي مستعيناً بالسرد الروائي كما في الروايات العربية والعالمية. وسلام كاظم أيضاً كتب مجموعة جديدة ومنها(دع الجمال يثرثر) إلى آخر قصيدة سمعتها منه في أمسية مشتركة في اتحاد الأدباء في بغداد قبل سفري بعنوان (العالم كله شتاء) مستعيناً بالمفارقات السريالية.

نفهم من هذا الكلام بأن الأسماء التي ذكرتها: خزعل الماجدي، رعد عبدالقادر، كمال سبتي، سلام كاظم، وأنت طبعاً، قدمت تجارب ريادية على صعيد الجيل السبعيني وإن التجارب الشعرية الأخرى لمجايليكم هي تنوعيات فقط على تجاربكم؟.

هناك أسماء شعرية أخرى مهمة في جيل السبعينات، لكنني أريد التحدث عن تجربة ما أطلق عليهم في وقت ما ب(الرباعي أو الخماسي الذهبي) هؤلاء الشعراء كانوا أكثر اندفاعاً من أجل وضع لمسات أخرى جديدة على القصيدة الحديثة التي تكتب في العراق. ستقول هناك تجربة في قصيدة النثر سواء في العراق أو لبنان كانت موجودة وفاعلة، وهذا صحيح تماماً.. لن أتحدث عن التجربة اللبنانية، أو عن أدونيس وأنسي الحاج حصراً، أولاً أنا أتحدث عن تجربة محلية. كيف وصلت هذه التجربة في نهاية المطاف، وليس عن نشأتها وتأثرها وتأثيرها. أما التجربة الأخرى التي سبقتنا في كتابة قصيدة النثر، هي تجربة مجموعة من الشعراء العراقيين، أطلق عليهم فيما بعد (جماعة كركوك) فيها فاضل العزاوي، سركون بولص وصلاح فائق أهم ثلاثة أسماء شعرية، كانت تمثل تياراً جديداً في القصيدة، لكن لماذا لم نعر أهمية لهذه التجربة؟ أي لم نكن متأثرين بها من جهة، ولم تكن من مراجعنا الشعرية من جهة أخرى، والسبب أن هذه التجربة كانت تقدم نموذجاً يماثل القصيدة الأوربية المترجمة، أي كأنك تقرأ قصيدة مترجمة. عناصر الشد المحلية لم تكن متوافرة فيها، إنها تخلو من الثقافة المحلية، ومن تاريخ المكان والزمان المحليين، بمعنى آخر، كانت التجربة مقتلعة محلياً، من وجهة نظرنا، لكن، هذه التجربة كانت محفزاً حاضراً على الدوام، يدفعنا جميعاً إلى محاولات للخروج من الأطر الضيقة للقصيدة التي أصبحت تقليدية.. أي قصيدة الرواد والستينيين على حد سواء. إذاً القصيدة الجديدة التي كتبناها كانت تتشكل حول نواة محلية (التاريخ) العربي الإسلامي، (السحر)، (الأحلام)، (السرد الروائي)، (المفارقات) ومع ذلك يبقى هذا التفصيل في حدود الكلام.. اليوم ما أهمية تجربتنا الشعرية؟ أنا شخصياً ما أهمية تجربتي؟ ما مدى تأثيرها بعد 25 سنة؟ لا أعرف.. هل أنا نجحت شعرياً أم فشلت؟.

ماذا قدمت لكم تجربة أدونيس، أين وقفتم منها، وهي التجربة التي مثلت بؤرة ومحوراً لتجارب شعرية حديثة لاحقاً؟.

أريد التحدث عن أدونيس بوصفه تجربة تجديدية أثرت في معظم المراحل اللاحقة، ليس عيباً التأثر بشاعر كبير مثل أدونيس، وأنا شخصياً أكثر الشعراء احتراماً لشعر وفكر هذا الرجل، وقيمة أدونيس ستظهر أهميتها لاحقاً، وتتذكره الأجيال كأهم شاعر عربي تحديثي أنجبه القرن العشرين. لكن هناك فارق بين الاحترام والإعجاب وبين التأثر الساذج. أنا كنت أقرأ أدونيس شعراً وفكراً، وإعجابي بفكره أكثر من إعجابي بشعره، وهناك شيء مهم يجب أن يقال حول طريقة استخدام اللغة في بلاد الشام عموماً.. يظهر موروث (إنشائي)، (تزويقي)، (تزييني) واضحاً لدى الكتاب عموماً في بلاد الشام، ولم يسلم حتى أدونيس من تغليب الجانب التزييني، على الاهتمام بالمعنى، وفي شعره تزيين وتزويق كثير.. على العكس تماماً منه في العراق أو مصر. لكن مجموعتنا انفرطت ولم يعد لنا أي بريق، وتعقيل اللاعقلاني بات ليس عسيراً فقط، بل أنه عمل عبثي بالكامل، واقترابنا من الموروث الثقافي اللاعقلاني جعل أهدافنا بعيدة المنال، لكننا كنا على شيء من الصواب، فنحن نعيش ونتحرك في منطقة مأهولة بضغوطات التاريخ، والسحر، والأحلام والسرد والمفارقات.. فعالمنا العربي والإسلامي، عالم مسيّر ويكرر الأفعال ذاتها ويتطير من استخدام العقل.. كأننا نؤدي حبكة مرسومة سلفاً.. يا للفضاعة!.

ما الذي تعنيه تحديداً بقولك: إن الجيل الستيني كان جيلاً حزبياً؟

الشاعر كائن (انتقائي)على الدوام، وفي لحظة ما، حين يرى ما يطابق أفكاره وذائقته وتوجهاته، ينحرف بقوة للدخول في هذا الانتقاء الجديد من أجل إغناء تجربته، كما أنه يغادر ما اختاره حين يرى بعدم جدوى الاختيار..هذه حالة مرت بها أسماء شعرية مهمة عربياً وعالمياً، كما أن هناك فرقاً بين الشاعر الحزبي..والحزبي الشاعر.
أنا أتساءل: هل هناك مبررات تدفع الشاعر ليكون حزبياً؟ ربما في السنوات المبكرة يخضع الشاعر لمؤثرات ضاغطة؛ صداقات مؤثرة، أوضاع مادية صعبة، اعتقادات أولى.. لكن أن يستمر الشاعر حزبياً؛ قضية قابلة للجدل الطويل. الأحزاب السياسية في الوطن العربي طرحت منذ منتصف القرن السابق برامج كلامية مغرية حول الاشتراكية والعدالة والتقدم والمساواة، لكن هذه البرامج بقيت في نطاق الكلام. المثقف يستطيع أن يلحظ، على نحو سريع، أكذوبة الأحزاب، وأنها غير قادرة على نشر العدالة أو التقدم.. وبدلاً من ذلك نشرت الخراب والجهل والحروب، وسببت لنا هذه الأحزاب من المصائب والتراجع والفساد ما لا يوصف بأطنان من الكتب. وجهة نظري؛ أن الأحزاب عوامل معرقلة لتقدم المجتمع، لأنها تهدم أهم عنصر اجتماعي في أي بلد وهو الوطنية، فالحزبية، على الدوام، نقيض الوطنية، أن تكون حزبياً، بمعنى أنك تشتبك في نزاع دام مع الوطنية وستحل المشاعر الحزبية محل المشاعر الوطنية. وهذا ما حصل لبلدنا العراق وللعراقيين، كمثال واضح على النزعة السلبية للحزبية، من هنا، كنت أعتقد ومازلت بأن انخراط الشعراء والمثقفين عموماً في الأحزاب، في العراق ليس كل الشعراء والمثقفين يمكن أن يطلق عليهم ب(الحزبيين) هناك مجاميع انتسبت تحت ظروف الخوف وهو انتساب شكلي، وهؤلاء لم يحصلوا على أية امتيازات سوى الحد الأدنى من الحفاظ على حياتهم.. وهناك شعراء ومثقفون، وهم قليلون جداً، حزبيون، أي لديهم وظائف كبيرة وامتيازات ويدافعون بشكل علني عن سياسة هذا الحزب أو ذاك.. بالإمكان أن نتحدث عن شاعر حزبي بعثي مثل سامي مهدي، وعن شاعر حزبي شيوعي مثل سعدي يوسف، ولدى كل واحد منهما تاريخ حزبي طويل يشكل مجمل حياته.. أنا أتحدث عن هذا الشاعر الذي اختار أن يكون حزبياً.. هل هناك مبررات معقولة لهذا الاختيار؟.

كيف تنظر إلى مفهوم التجديد.. ومن أين استقيتم منابعه وأصوله؟.

تدربت على قراءة أنواع مختلفة من الشعر، سواء لشعراء أساسيين أو هامشيين، من أبي نؤاس إلى عبدالحسين الأزدي وعبدالباقي العمري والمتوكل المصري والشيخ عباس النجفي الذي يقول في مطلع قصيدة لازلت أتذكره منذ ثلاثين سنة:

عديني وامطلي وعدي عديني        ذريني والصبابة فهي ديني

من هذه الخشونة اللغوية إلى مقطع حميم للسياب:

".. خلا البيت/ لا صفقة من نعالٍ/ ولا كركرات على السلّم".

بسهولة جداً يظهر لك الجديد، والتجديد من هذين البيتين لاحقاً، تظهر خطوة أخرى في التجديد تحسها وتلمسها أيضاً في مقطع آخر للسياب:

"عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر"

من هذا الوصف التقليدي للعيون إلى مقطع من قصيدتي (شاحنة البطيخ):

"في ساحة الميدان/ العين تأخذ وظيفة الكلام"

من الوصف الخارجي، كما في مقطع السياب، إلى الوصف الداخلي في المقطع الآخر، أي من سواد النخيل إلى سواد العيون عند السياب، نوع من التناظر البلاغي، ضمن استعارة عمرها ألف سنة، المرجع الضاغط.. لا يمكن للسياب الحيدان عنه. وفي قصيدتي عبور آخر من وظيفة الإيماء إلى وظيفة الكلام. أيضاً هنا يظهر لك الجديد والتجديد واضحاً، المكان يلعب دوراً لغوياً ضاغطاً على الشاعر، في الريف تحضر الصورة الفنية الريفية وفي المدينة تحضر الصورة الفنية المدينية. في المدينة يتم اختزال اللغة بسرعة، وتجنب الكثير من التفاصيل. قبل العصر الصناعي كانت الأماكن مقطوعة عن بعضها البعض والاتصالات بطيئة وتداول المعلومات على نطاق واسع أمر عسير جداً، لذلك كان التطور بطيئاً.. لماذا يقف الشعر العربي قرابة ألف سنة يكرر نفسه كما هو، من غير انتقالات تجديدية ملموسة، والسبب واضح؛ ليست هناك اتصالات ولا وسائل تسريع في التأليف والنشر والتوزيع والترجمة والسفر والتعليم، والحياة نفسها تتجدد ببطء.. تخيل أن الأتراك قد حكموا العراق 400 سنة ولا يوجد شارع واحد مسفلت، وحين جاء الإنكليز إلى العراق أدخلوا الإنارة الكهربائية وشقوا الشوارع ورصفوها وسفلتوها، فتحت محال جديدة ومقاه ومدارس وظهرت المركبات البخارية.. إلخ. بعد عشرين سنة، من العشرينات إلى الأربعينات، يتجدد الشعر والفكر والثقافة عموماً، واستقبلت الحياة الجديدة كميات كبيرة من الأفكار والوسائل والابتكارات، ودارت عجلة الحياة بسرعة.. لذلك لا نعجب حين نسمع كل عشر سنوات بظهور جيل جديد يعلن عن بضاعة جديدة في الشعر والنقد والقصة والرسم والموسيقى والفن والفكر، لأن السنوات العشر الآن تساوي في الأقل مائة سنة. المكان الجديد يفرض تعبيراً جديداً، لم يعد الآن أي وجود لشاعر مثل عباس النجفي أو عبدالباقي العمري وغيرهم، إنهم محفوظون في زاوية من زوايا التراث، وحين يقرأ هذا التراث، يقرأ احتراماً، إنه التشكيل الأول لهويتنا، لذلك بقي الجواهري، مثلاً، موضع تقدير كبير، لأنه شاعر من القرن الرابع الهجري عاش بيننا في القرن العشرين، ذكرنا بموروثنا، بنشأتنا الأدبية القوية، لكن لن يستطيع أي شاب الآن أن يقرأ الجواهري من غير الاستعانة بقاموس. اللغة والمضمون والشكل.. كل هذه العناصر تتغير مراراً لتلائم تبدلات المكان وتبدلات الحياة عليه.. نظرياً هكذا فهمت أنا التجديد، لكن عملياً مازلت أحتفظ ببقايا أمكنة ماضية وبلغة ماضية وأحياناً لغة خرافية.. لا أستطيع أن أبدل جلدي بسرعة، جزء كبير مني في الماضي. قبل فترة اشتقت لقراءة المتنبي وبقي ديوانه معي بجزئيه ما يقرب من شهرين أقرأ فيه يومياً حد التخمة.

بأي منظار شاهدتم التغيرات التي طرأت على خارطة الشعر العراقي والعربي.. كيف قرأتم تجربة الرواد وما تلاها من التجارب المتميزة؟

كل شاعر حر في اختيار الطريقة التي يحبها، وقد تكون طريقة تلائم مزاجه وانتقائه، لذلك كنت أميل منذ بدايتي للجملة الشعرية (عميقة المعنى) أي التي تثير إشكالاً ما.. جمالياً، اجتماعياً، فكرياً وسياسياً. وكانت لديّ في فتوتي محفوظاتي الخاصة بي مازلت أتذكر أبياتاً ومقاطع متفرقة هنا وهناك.. وربما هذه العينة تعكس توجهي الشعري، لنقرأ هذا المقطع لنازك الملائكة كتبته عام 1948:
"أطفئ الشمعة/مازلنا وحيدين هنا/ نحن جزءان من الليل/ فما معنا السنا؟".
أو لبدوي الجبل: "يا جواداً/ تكاد تورق بالنعمى/لأعدائه القنى والنصول".
أو لمحمود درويش: "ونسري مكبلين كأننا أسرى/ يدي لم أدرِ أم يدها/ احتست وجعاً من الأخرى".. أو لمصطفى جمال الدين: "كيف تعلو مع النسور طيور/لم يزل ريش جنحها من تراب".. أو لأبي تمام: "وما أنت إلا السيف لاقى ضريبة/ فقطعها ثم انثنى فتقطعا".. أو للجواهري: "أنا في ركاب الشعر إن لم أحده/ فإذا حدوت فإنه بركابي".. أو للمتنبي: " رأيتك محض الحلم في محض قدرةٍ/ إذا شئت كان الحلم منك المهنّدا".. وعشرات من المقاطع كانت هي محفوظاتي التي أرددها في الطريق.. العمق كان دليلي إلى الشعر هبوطاً وصعوداً. كتب الجواهري قصيدة عن مصر في الخمسينات، مطلعها هكذا:" يا مصر تستبق الدهور وتعثر/ والنيل يزخر والمسلة تزهر". وفي أواخر الستينات كتب مصطفى جمال الدين قصيدة عن بغداد.. وأنا متأكد من أنه ظل يقرأ في قصيدة الجواهري طويلاً ويتشربها، لأن قصيدته أيضاً على البحر ذاته والقافية ذاتها، مطلعها هكذا:" بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر/ إلا ذوت ووريق عمرك أخضر". لكنه تجاوز قصيدة الجواهري، وتخطاها بعيداً، هذا ما أراه، وأرى قصيدة (المسيح بعد الصلب) للسياب من أهم وأعمق شعره، إضافة إلى (بويب) و(أنشودة المطر) ومقاطع هنا وهناك، أيضاً أستطيع أن أشير إلى كمية كبيرة من النظم العادي في شعر السياب، لكن السياب من أكثر الشعراء العرب مهارة بالسيطرة على العروض والقوافي، واستخدام الأفعال الرباعية ذات التأثير الحاد.
أيضاً هناك قصيدة مهمة للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي هي (مرثية العمر الجميل).. الروح الملحمية المثيرة التي تنتشر في نسيج القصيدة كلها.. حيث يمتزج الفخر العالي بالإحباط العالي.. قصيدة عميقة جداً تجاوبت مع مزاجي آنذاك، قصيدة أدونيس (مفرد بصيغة الجمع) وكأن الشاعر خبير آثار يحفر ويرمم ويعرض ويؤطر، ثقافة سديمية.. يلاحظ أطرافها البعيدة. أنسي الحاج.. صوت الحداثة الذي تحتاجه الأجيال على الدوام.. الآن حين أنظر إلى خارطة الشعر بهذا المعيار، أبحث عن قصيدة متوترة (قصيدة المعنى) وليست (قصيدة اللعبة).

في بداية السبعينات بدأتم الكتابة بغنائية عالية سرعان ما تنازلتم عنها في الثمانينات لصالح مشروع قصيدة النثر، والمتابع لقصائدك الآن، على ندرة المنشور منها، وقصائد زملائك، يجد أنها تغازل.. إن لم تقترف الغنائية السابقة ذاتها.. هل هو تعثر المشروع وغياب فاعليته، أم هو إعادة للنظر للمنحى الشعري لكم بأكمله؟

صحيح نحن جماعة شعرية، لكننا نختلف كثيراً حول وظيفة الشعر. بين أول قصيدة نشرت لي في جريدة الثورة عام 1974 بعد رجوعي من سفرتي إلى فينا، وقصيدة (المقهى) مهداة إلى أبي نشرت في مجلة الطليعة الأدبية عام 1986 قرابة اثنتي عشرة سنة. كانت أول قصيدة تهتم بالوزن وتهتم بالغنائية.. قصيدة تمرين، وبين قصيدة (المقهى) قصيدة نثر طويلة شكلت بداية انعطافة جديدة لي، ثم تابعت الكتابة في هذا الاتجاه، لكن خطر لي مرة، وأنا أتصفح كتاب أدعية ضخم علم 1994 في شمال العراق، أن أعيد صياغة هذه الأدعية، إلى قصائد غنائية، وفعلاً بدأت أكتب.. ولم أواصل، توقفت بعد إنجاز ما يقرب من عشرين قصيدة غنائية نالت استحسان نمط من القراء آنذاك. كنت متوقفاً عن كتابة الشعر، ومنصرفاً إلى إنجاز بعض الدراسات القصيرة عن تاريخ العراق السياسي الحديث. كتبت عن عفلق وفهد وساطع الحصري وعن تدخل رجال الدين الإيرانيين في المطالب الوطنية للعراقيين الشيعة، وعن الجيش العراقي؛ النشأة والوظيفة. هذه الدراسات أثارت ردود أفعال مختلفة معي وضدي، ثم سافرت إلى أمريكا. هنا بدأت مرة أخرى العودة والاقتراب من الشعر لإكمال مشروعي فيما أسميه سابقاً ب (القصيدة السبيكة) التي تتركب من كل أشياء الحياة، وكل شيء يمكن أن يدخل في نسيج القصيدة ويشكلها. أنجزت أربع قصائد أعتبرها مهمة لي شخصياً: (رجل بلا مغزى)، (جميل صدقي الزهاوي)، (جعفر أبو التمن) وهذه القصائد منشورة في جريدة الزمان، وقصيدة عن مصر مخطوطة، وهناك قصيدة خامسة طويلة عن بغداد لم تنجز بعد.

الشاعر كائن شعري، يتأمل ويفكر ويصوغ العالم بشكل شعري. في السنوات السابقة كنتَ منهمكاً بانشغالات (لا شعرية) أخذت منك حيزاً كبيراً، أما كان الأجدى أن توظف هذه الطاقة لخدمة الشعر وأغراضه؟

الجماعة الشعرية تقوّضت، فقد تفرقنا، ولا يمكن للمثقف أن يتخلى عن بلاده ويغض الطرف عن أزماتها، وبلدنا يعيش أزمة سياسية منذ أمد، وتفاقمت هذه الأزمة إلى كارثة يصعب تصورها.. هل أكتفي بالشعر؟ أم عليّ أن أسهم في طرح وجهات نظر حول هذه الأزمة؟ هذا ما فعلته ولامني الكثير من أصدقائي الشعراء. هناك أحزاب سياسية، من وجهة نظري، هي المسؤولة عن تخريب البلاد منذ الأربعينات حتى اليوم وهي: حزب البعث والحزب الشيوعي والأيديولوجيات الإسلامية، وعليّ أن أقول بصوت عال، إن هذه الأحزاب يجب أن تختفي من حياة العراقيين لتنتهي الأزمة. فالسياسيون العراقيون لا يملكون ذاكرة، ولا يكترثون لمراجعهم السياسية، فقد أهمل التراث السياسي العراقي ورمي إلى سلة المهملات وانتشرت حركات سياسية خارجية، فالحزب الشيوعي وصل إلى العراق عن طريق رجل من أرمينيا يعمل خياطاً في الناصرية التقى ب فهد ولقنه مبادئ الشيوعية. وحزب البعث جاء من بلاد الشام عن طريق رجل سوري، أما التراث السياسي العراقي، أقصد تراث جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وياسين الهاشمي ومولود مخلص ومحمد الصدر وعبدالفتاح إبراهيم.. تراث محلي وطني يمكن أن يشكل رباطاً متيناً للعراقيين ويضعف من الروابط الطائفية والقبلية، هذا التراث السياسي، مجازياً، يقوم مقام الأب السياسي، العراقيون قتلوا هذا الأب وانتسبوا إلى آباء من أماكن أخرى، فقد تم إدخال البعث المكون من عنصرين متناقضين من الفكرة المسيحية التي ترى في الإسلام العثماني خطراً عليها، إلى الفكرة العروبية الأيديولوجية المتعالية خلط الروح العروبية بالروح المسيحية وهي فكرة نبذها الموروث الديني والثقافي، فتحولت إلى فكرة الاستيلاء بالقوة، فالبعث يأتي دائماً عن طريق الانقلابات العسكرية، كذلك الأمر مع الشيوعية؛ غريبة اليد واللسان أيضاً، نبذها موروث المنطقة وبقيت فكرة متحجرة مثل حيوان قديم منقرض. النتائج التي حصدها العراقيون من هذين الحزبين، تناحراً دموياً لا ينقطع وتخريباً مستمراً للمشاعر الوطنية لا ينقطع أيضاً.. أيضاً تدخل رجال الدين الإيرانيين في الثورات والانتفاضات الوطنية، من ثورة العشرين إلى ثورة آذار 1991 وتغيير اتجاهات هذه الانتفاضات من مطالب وطنية لتكوين دولة دستورية إلى مطالب هامشية طائفية لا تخدم العراقيين الشيعة وإنما تخدم رجال الدين هؤلاء فقط، وحصدنا أيضاً اخفاقات وفشل دائم، ولم تتحقق الوحدة الوطنية ولا الدولة الدستورية ولا معارضة عراقية موحدة المشاعر والأهداف.

في حديث شخصي مع الشاعر خزعل الماجدي عام 1997، سألته عن غياب الحماس والاندفاع والتجريب في السنوات الأخيرة. كان جوابه؛ بأن كل شيء قد تغير وليس من السهل تحريك الأخير، وكان هذا الرأي متزامناً مع بيانه (موت الحداثة).. هل يمكن القول بأن هناك قصور شعري عام، أم أن الشاعر، أي شاعر، قد وقع تحت مطرقة تغيرات متلاحقة سريعة جداً لم يستطع استيعابها وتمثلها؟

الشاعر خزعل الماجدي أحترمه كشاعر مجدد ومثقف باحث، وهو حر في حديثه عن موت الحداثة.. وهذا رأيه، وأنا أختلف معه، لأني أرى أن الحداثة الشعرية مستمرة، وكل مرحلة لها حداثتها، ولا تخلو فترة زمنية من حداثة فنية، أما تراجع قراء الشعر، يمثل موتاً للحداثة، فهذا رأي قابل للمناقشة، هناك تململ اجتماعي وسياسي في مجتمعنا العربي يتصاعد باتجاه المطالبة بحقوق المواطنة، أي الاهتمام الآن بالمزيد من حقوق الإنسان، وبناء دولة الدستور وتوفير المشاركة في الثروة الوطنية والأمان الوطني وفي السلطة أيضاً. لم يعد الشعر الآن ولم تعد الفنون بمجملها تشغل حيزاً في مشاغل مجتمع مأزوم. المجتمع العراقي مثلاً ليس هو المجتمع ذاته في السبعينات، كان هناك تطلعاً نحو مستقبل أفضل، وكان هناك تفاؤلاً، لذلك ازدهرت معظم الفنون، ومنها الشعر. اليوم المجتمع العراقي ينهار برمته، لا مكان للفنون، لا مكان لكل شيء، من هذه الزاوية ممكن الحديث عن موت حداثة محددة، عن موت زمن محدد.

في كتابه (منطق الكشف الشعري) يرى الناقد سعيد الغانمي أن الفرق بين الأصالة والحداثة يكمن في أن الأولى تصوب نظرها إلى الماضي في حين أن الثانية تصوبه نحو المستقبل، وأن الحداثة تجد أصولها الفلسفية لدى كانت وهيجل وماركس وأن فيلسوفها الممثل لها هو نيتشة الذي وضع إصبعه على أهم خصائصها وإن لم يسمها، كيف تفهم الحداثة، عربياً، وما السر في تجدد الدعوات إلى موتها؟

في بغداد مثلاً، دخول الكهرباء واكساء شارع الرشيد بالإسفلت، وإقامة محال على رصيف الشارع، وظهور الواجهات الزجاجية المضاءة يعني (تحديث) مركز المدينة، الذي تبعه تحديث الإنسان المشتغل في مركز المدينة هذا، فقد تغير لباسه وتعامله مع الآخرين، وأخذ يتطلع إلى معرفة ما يحدث خارج مكانه الذي يتحرك فيه، دخلت مفردات جديدة على الحياة، والحياة القديمة ذاتها تدريجياً بدأت تغير جلدها. هذا التبدل الشكلاني في المدينة لابد أن يلحق به تبدل في القيم، بمعنى أن الشكل يستدرج مضمونه، الذي يناسبه، لذلك يكون الشكل والمضمون متداخلين، ولا يمكن تمييزهما إطلاقاً، فشكل الحياة في بغداد آنذاك هو مضمونها أيضاً، وحين نقول ما هو شكل الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري على الفور سنتحدث عن مجموع القيم والأفكار والعادات والأمزجة التي تشكل تلك الفترة.
فالحداثة الشعرية أيضاً هي الشكل الشعري، فالقصيدة ذات الشكل القديم تركب عالمها من مضامين قديمة، فقصيدة الجواهري مثلاً، دائمة الاستشهاد والاقتباس، بالقيم الموروثة:"كن لي أبا الطيب الجبار لي مدداً"، "أنا ابن كوفتك الحمراء لي عمدٌ فيها / وإن طاح من أركانها عمدُ". وهكذا تكون المتوالية الشعرية، في حين يكون الشكل الحديث دائم الاستشهاد بثقافة وقيم متعددة سواء قيم عربية، أو إسلامية، أو هندية، أو صينية، أو أوربية.. فالشكل الحر يستدعي مضموناً حراً واسعاً فسيحاً، بمعنى أن الحداثة الشعرية تجاوزت قيمتها الخاصة إلى قيم عامة، من النواة المحلية إلى النواة العالمية. الحداثة الشعرية العربية ضمت في إطارها قيمها وقيم غيرها، وركّبت (أيقونة قيم) يمكن أن نطلق عليها بالقيم الإنسانية، فالسياب خصص قصيدة كاملة مستعيناً بالرموز المسيحية للتعبير فنياً عن وجهة نظره في (المسيح بعد الصلب) والبياتي أكثر الشعراء الرواد استخدم رموزاً وأفكاراً وقيماً شرقية وأوربية، ولذلك كان أفق الحداثة عنده أكثر اتساعاً من أفقها عند السياب في حين أن الشعرية عند السياب أكثر عمقاً من شعرية البياتي. هناك أيضاً الحداثة والشعرية، فإذا كانت الأولى ترتبط بالمكان والزمان، أي أن تحديث المكان يرمي في النهاية إلى تحديث الثقافة والشعر، فالشعرية لا علاقة لها بالمكان والزمان، فالمتنبي، في رأيي، يمتلك شعرية لا يضاهيه فيها أحد في كل العصور. أيضاً هناك شاعر حديث ولكنه يمتلك شعرية ضعيفة، وهناك من لديه شعرية عميقة ولكنه يفتقر إلى إدراك الحداثة، وحين تجتمع الحداثة والشعرية في قصيدة، وهي قلما تجتمع، سيكون الشاعر متفوقاً.
قلت أن الحداثة بشكل عام لن تموت، لكن هناك حداثات وليست حداثة واحدة، فموت الحداثة، قد يكون موت حداثتنا نحن، بمعنى، يمكن القول، أن حداثة المتنبي ماتت، وحداثة شكسبير ماتت، وحداثة بودلير ماتت، وحداثة السياب والبياتي ماتتا وستموت حداثة أدونيس أو في طريقها إلى الموت، وستظهر حداثة أخرى، فالمكان والزمان يشهدان تبدلات متسارعة في الأفكار والوسائل، لكن من يلتقط هذه الحداثة الجديدة، هو الفائز الأول.. الذي يبشر بميلاد حداثة جديدة، وموت حداثة سابقة.

كنتم تصرون على أن الجيل الثمانيني هو امتداد طبيعي للتجربة السبعينية وأن مرحلة السبعينات كانت بحاجة إلى وقت لتنضج وتحقق لها ذلك في الثمانينات.. هل كان ذلك يعني نشر (المعطف السبعيني) على بقية الأجيال مثلاً.. أم ماذا؟

مرة كتب الشاعر خزعل الماجدي تقييماً حول جيل الثمانينات وانتهى إلى أن تأثير شعراء السبعينات مازال يظهر في أشعارهم وبالتالي فهم امتداد طبيعي للشعر السبعيني، بلا شك، وهذا ليس ادعاء، إن جماعة السبعينات تركت تأثيراً واضحاً في المجال الثقافي العراقي، وبدلت شكل القصيدة تماماً، فلا تجد أية علاقة بين قصيدة (عكازة رامبو) وأية قصيدة للرواد أو للستينيين، ومع ذلك اختلف مع تقييم الشاعر خزعل الماجدي، فهناك أصوات شعرية ثمانينية، تخلصت تماماً من أي أثر سبعيني وظهر تميزها واضحاً، هناك اسمان أو ثلاثة أسماء مهمة جداً.

مرحلة الثمانينات شهدت اشتغالاً تجريبياً وتبني لمحاولات جديدة، إضافة إلى وجود ما يشبه الانفلات من أسر التجارب السابقة. كيف تفسر إذاً وقوع هذه التجارب في مطب التجريدية العالية، واللغة الذهنية حتى أصبحت أسيرة للشكل والانتحال المعرفي؟

قد يكون هذا رأيك كشاعر تسعيني، بشعراء الفترة السابقة، أما أنا فلي رأي آخر، أنا مازلت أعول كثيراً على جيل الثمانينات، وهم الآن يرودون تخوماً جديدة، وما يقدمونه من نتاج شعري يمثل حداثة أخرى جديدة.. أنا متفائل بهم.

النقد العراقي والعربي يمر الآن بمرحلة انفصال عن النص، هوة عميقة تفصله عن معاينته.النقد منشغل بنفسه ويحاول الاقتراب من الفلسفة والنظريات الجديدة على حساب النص ذاته. كيف ترى هذا الرأي،وكيف تقيم دور النقد العراقي عموماً؟

ممكن الحديث الآن عن موت النقد الشعري. منذ بداية الثمانينات، انتهى النقد بوصفه علماً تقويمياً للفنون، وتحول إلى (سرد معرفي) لا يمت بصلة إلى النص، وإذا ما أراد ناقد ما، أن يحلل نصاً شعرياً، فهو غير معني بالأهمية الشهرية له، وإنما بتفكيك النص، أي نص، سواء كان (وثيقة) أو قصيدة، وهذا التفكيك هو المرحلة الأكثر انحطاطاً في نقد الشعر، وهو ليس جديداً، وفي رأيي أن رائد التفكيك النقدي، هو الشيخ حسين المرصفي، الناقد المصري الذي عاش في القرن التاسع عشر، ونقد المرصفي للنص الشعري يمثل أعجوبة نقدية، فهو أولاً يفكك البيت الشعري (نحوياً) ثم (معجمياً) ثم (جغرافياً) ثم (تاريخياً) ثم (فلسفياً) إذا ما تضمن البيت أية إشارة فلسفية، ثم يفككه (دينياً) ثم (اجتماعياً) ثم (قياسياً) أي التقييم الفني سيكون تقييماً قياسياً، على غرار أبيات قديمة لشعراء قدامى في الموضوع ذاته.
النقد الآن يقوم بالوظيفة ذاتها، فهو يعزل الأفعال عن الأسماء في النص ويفصلها وفقاً لزمنها، ثم يفصل الأسماء والتي تتضمن حروفاً متشابهة، ثم يحصي عدد الأفعال والأسماء ويشرع في تأويلات ثقافية معرفية لا يتحملها النص ولا توجد أية علاقة بين هذه الجرودات وبين التطلع إلى تقييم شعري للنص. موت النقد هذا قاد النقاد إلى أن ينصرفوا أخيراً عن متابعة الشعر إلى متابعة الأمثال والقصص الخرافية.. والسؤال: ما هي القصة بالضبط؟. المنهج النقدي المستخدم لدى هذه الجماعة، هو منهج معرفي ورواده الأمريكان والأوربيون، استخدموه لتحليل حضارتهم الجديدة، انتكاستها، وصعودها.. منهج يرصد التقدم الأوربي، ويحلل مركباته ومكوناته.. إنه مراجعة نقدية علمية للحضارة بمجملها.
إذن هناك استهانة مقصودة، باستخدام ناقص لهذا المنهج، وحصره بالفنون؛ القصة والرواية والشعر وغيرها، في حين أن المنهج يصلح تماماً لتفكيك النظم السياسية في الوطن العربي والإسلامي، وتحليل مكوناتها والوصول إلى تقييمها ونقدها. فالتيار النقدي الجديد لا يمت للشعر بصلة، بل هو يعمل على تخليط الأوراق، فغالباً ما يستخدم نصوصاً ضعيفة لكتاب لا أهمية لهم أو هناك من يكتب عن أصدقائه وجماعته. لقد مضى الزمن النقدي الكبير وانتهى، والكل يتذكر كيف يسافر ناقد متخصص مثل د. إحسان عباس إلى بغداد بحثاً عن الشاعر السياب وهو لا يعرفه، وينجز عن تجربته الشعرية والحياتية كتاباً مهماً.. وكان السياب يستحق ذلك. مرة أخرى التيار النقدي الجديد ليس جديداً، فهو نسخة عن التيار النقدي التقليدي في القرن التاسع عشر، كما مثله أهم رواده، (المرصفي)، وبعد موجة النقد الجديد التي ظهرت في الخمسينات واستمرت إلى السبعينات، كان من المفروض، أن يظهر تيار نقدي آخر، ولم يظهر.
وكانت هناك أسماء نقدية مهمة تتصاعد وتتحرك في الطريق الصحيح منها: حاتم الصكر وسعيد الغانمي.. أما البقية فإنهم يمارسون الضحك على الذقون.

ما هي تصوراتك وانطباعاتك عن المشهد الشعري العراقي الآن، تحديداً جيل التسعينات، هذا الجيل يتقاطع مع طروحاتكم ويصرح بأن تجربتكم قد فقدت قدرتها على التأثير والوصول؟

أنا أعتقد بذلك، أي أن فترة عشر سنوات كافية لظهور جيل شعري، ولكن هذا الجيل يظهر وسط انهيار النقد العربي من جهة، ووجود الأجيال السابقة. فكل جيل جديد هو جيل محاصَر، وأنا قرأت بياناً شعرياً لبعض شعراء التسعينات، وفي تقديري أنه لم يتضمن اطروحات جديدة، سوى التأكيد على أن يكون الشعر مرتبطاً ب(هنا والآن) وعلى القصيدة أن تستجيب لمجريات الحياة الآن.. بعيداً عن الأساطير والتجريد والتاريخ وغيرها، كما قرأت نصوصاً قليلة جداً لبعض شعراء هذا الجيل، وليس لدي تعليق مفصل، علينا أن ننتظر بعض الوقت ونرى..
لكن أؤكد مرة أخرى، الحداثة وحدها غير كافية لصناعة قصيدة خلاقة ولابد من وجود قدرة شعرية لدى الشاعر، فالقصيدة ليست تصفيف كلمات سهلة، إنها معنى أيضاً، وتأثير أيضاً. صحيح أن هذا الجيل يتقاطع فيما يعلن عن نبذه لمرجعيات النص، ولكن عليه أن يبرهن تميزه عملياً.

عن جدلية الشاعر والمنفى وفضاء الغربة.. كيف تنظر إلى تجربة الشعراء العراقيين والعرب في المنفى؟

المنفى أفق واسع ومتعدد، وهذا ما يجعل رؤيتنا للعالم واسعة ومتعددة، وهذا له علاقة بديناميكية الشاعر في المنفى. هناك شعراء ماتوا شعرياً في المنفى، وهناك آخرون يواصلون بنجاح. في المنفى قد يتحول الشاعر إلى مثقف واسع الثقافة، لكنه شعرياً، يتراجع وهناك من يتقدم ثقافياً وشعرياً. الموضوع يرتبط بالشاعر ذاته، وفي المنفى ادعاءات وأكاذيب.. وفي المنفى حميمية وصدق.
وأنا شخصياً عانيت في المنفى الكثير من الأكاذيب، هناك متخصصون، مهمتهم فقط أن يشهروا بالآخرين وترديد الإشاعات والأكاذيب يومياً.. تصور هناك أدباء تركوا العراق منذ ثلاثين عاماً ولا يعرفون عن حياته الثقافية سوى أقاويل وإشاعات، ثم يكتبون في الصحف طعناً بالحياة الثقافية وبالمثقفين والأدباء. في رأيي تلعب الحزبيات دوراً أساسياً في تغذية هذه المشاكل وتضخيمها، والمبدع الحقيقي لا يعبأ بهذا، وبالرغم من ذلك أنا متفائل جداً بقدرات العراقيين في المنفى.

عن مجلة ألواح العدد 13- أسبانيا

سيرة ذاتية للشاعر:

 ـ من مواليد بغداد/ الكرخ 20 آب 1948.
 ـ أول قصيدة نشرت له عام 1974 في جريدة الثورة العراقية.
 ـ أول مجموعة شعرية صدرت له في بغداد عام 1978 بعنوان: (تعلي نذهب إلى البرية).
 ـ آخر مجموعة شعرية صدرت له في بغداد هي: (الأب في مسائه الشخصي) عام 1987.
 ـ صدرت له المجموعات الشعرية الكاملة عن وزارة الثقافة السورية وضمت أربع مجاميع وقصائد متفرقة عام 2000.
 ـ صدرت له في الأردن دراسة نقدية عن عبدالوهاب البياتي: (الحداثة والشعرية) 1997.
 ـ أصدر في نهاية الثمانينات في بغداد؛ أنطلوجيا عن الشعر العراقي الحديث من عام 1975 1986 وضمت 51
   شاعراً  عراقياً.
 ـ نشر عدة دراسات نقدية، إضافة إلى أخرى عن التاريخ السياسي في العراق الحديث.
 ـ سعى مع مجموعة من الشعراء من أبناء جيله إلى تكوين جماعة تحديث جديدة بدأت وانتهت في الأعوام 1977 ـ
   1990، استطاعت هذه الجماعة أن تثير وتستفز وتحفز,,
 ـ غادر العراق منذ مطلع التسعينات وهو يقيم الآن في ولاية أريزونا في أمريكا.

* فرج الحطاب: شاعر عراقي يقيم في أمريكا، من أعماله:سيول أليفة، لصوص، هواء قلق.