صالح دياب
(باريس)

Abdel Ilah Salhi- photo by Nathalie"كلما لمست شيئا كسرته " باكورة المغربي المقيم في باريس عبدالإله الصالحي, الصادرة عن دار توبقال في الدار البيضاء، قصائد ناضجة، مختمرة تتجاوز البدايات نحو آفاق أرحب، حيث يكتب الصالحي قصيدة ضد التفاصيل اليومية. قصيدة تذهب إلى الحياة مباشرة، وهي لئن كانت شرسة وخشنة وصادمة إلا أنها لا تخفي نضارتها وحنانها كما أنها تعمد إلى الرخاوة والركاكة أحيانا بوصفهما ضرورتان شعريتان. التقيناه وحاورناه:

* "كلما لمست شيئا كسرته" لماذا هذه الهشاشة؟ وكيف اخترت عنوان المجموعة؟

العنوان بالنسبة لي يختزل الديوان بأكمله. إنه يعكس عوالم حياتي في السنوات الخمس الماضية، وهو آخر جملة في قصيدة "الحب المذنب" التي أحكي فيها قصة حب يعيشها سارد القصيدة مع امرأة متزوجة. ورغم جمال العاطفة التي تجمع بين الاثنين، في هشاشتها، واستحالتها فهي قصة مدمرة تفضي إلى دراما عاطفية تحيل على العلاقة الملتبسة مع العالم، علاقة يحضر فيها الشرخ وسوء التفاهم والصراع. كما يغيب عنها ذلك الحب الذي سرى في ذواتنا عبر الكتابة أكثر من الواقع.

* كأنك تكتب ضد نفسك قبل العالم، فالشحنة الاحتجاجية في قصائدك، تصيب أول ما تصيب عبد الإله الصالحي نفسه؟

هذا أكيد، إنني ساخط على العالم الذي يخصني. النفس أو الذات صورة مصغرة عن العالم، تختزن في داخلها كل تناقضاته. لأنك حين تكتب ضد نفسك فأنت بالضرورة تكتب ضد العالم الموجود داخلك. مجموعتي الشعرية بالفرنسية عنوانها "قتل العربي في النفس". بهذا المعنى لست في وفاق لا مع نفسي ولا مع العالم, ولا حتى في وئام. ولو كان الأمر كذلك لما كتبت سطرا واحدا. في فترة معينة من حياتي كانت عندي قناعة أنه يجب أن أولي الأهمية الكبرى للعيش، وأن اللهاث خلف الكتابة مضيعة للوقت. مع مرور الوقت توصلت إلى أن الكتابة والحياة مساران لا ينفصلان. الكتابة بدون حياة لا تعني لي شيئا. والحياة بدون كتابة ستكون حتما أصعب.

* تكتب كتابة حياة هشة، توازيها الرخاوة اللغوية والركاكة مع ذلك فقصيدتك هي ضد التفاصيل اليومية، من أين تنبثق القصيدة التي تكتبها ؟

أحب الرخاوة في العبارة. رهاني على الشعر في الحياة. ولا أحب الشعراء الذين يكتبون في ظروف مريحة. لا أكتب ضمن صفة معينة ولا في سياق معين. أشعر إنني لا أدين بشيء للأسماء الكبيرة لا أدونيس ولا محمود درويش. الكتابة عندي تنبع أساسا من الشرخ الذي لي مع العالم. الكل لهم شروخ مع العالم ولكنهم لا يكتبونها. الشعر جرح شخصي. وأنا لست شاعر تفاصيل.

* تكتب بلا طرائق أو صيغ جاهزة، لكن المعنى يظل حاضرا في قصيدتك. لماذا كل هذا الإصرار عليه؟

أكتب في صيغة اسمها القصيدة العربية، وأطمح أن تكون هذه القصيدة في مستوى ما نعيشه الآن. ليست المشكلة في الصيغ الأدبية المشكلة في المعنى.
لا يرغبون بالتحدث عن المعنى. كل شيء له معنى. هل يستمر الشعر أم لا يستمر الشعر مع الحياة دائما. لا أتحدث عن الكلمات بل الفضاءات المعينة التي تحيل إليها. يجب على الشعر أن يتحدث عنها. السينما تتحدث عنها. الشعراء لا يجرءون أن يتحدثوا. فقد فقدوا العلاقة مع العالم.

* هل تعتبر أن على الشعراء الشباب أن يؤدوا مهمة ما. حتى ولو كانت مهمة شخصية جدا ؟

مهمة الشعراء الشباب أكبر من مهمة أدونيس ومحمود درويش. إننا نعيش في عهد الحصار. مهمة جيلنا مهمة صعبة. ذبحتنا الدكتاتورية والإسلاميون. نحن ضمن حصار فظيع. نحمل دائما الحب والانكسار. إننا نعيش هنا حربا يومية.هناك من يعيش في المغرب ولبنان وسوريا بحياة أفضل. وأهم ممن يعيشون في باريس. الفقراء هم الذين يعيشون في باريس. من يرتب أحواله يعش في بلده. ومن لم يستطع يسعى إلى الهرب.

* كأنك تدعو إلى مزج الواقع مع الشعر وإزالة التخوم ما بينهما ؟

المشكلة ليست في الشعر بل في الشعراء. لدينا شعراء عندما يجلسون إلى طاولة ينقطعون في شكل كلي اوتماتيكي عما عاشوه في يومهم. كأن كتابة القصيدة تستدعي الغياب عن العالم والابتعاد عن ضجيجه. الأمور واقعيا لا تجري هكذا, لا أدري لماذا يصر الشعراء العرب على اعتبار أنفسهم على هامش العالم. بهذا المعنى العالم في قصيدتي.

* يتضمن الكتاب بعض الإشارات الاشهارية جنسيا وسياسيا واجتماعيا. كيف تم نشر هذا الكتاب في المغرب؟

حاولت أن أنشر سابقا بعض القصائد في المغرب. فواجهت صعوبة كبيرة. كان من المستحيل نشر قصيدة "مجرد عابر"التي كان عنوانها" مغرب العهد الجديد" والتي تتناول الواقع المغربي في إطار ما يسمى بالعهد الجديد. هذه العهود العربية الجديدة التي تتحدث عنها الصحف ووكالات الأنباء بشكل يومي: في المغرب محمد السادس، وفي سوريا بشار الأسد، وفي الأردن الملك عبد الله، بعثت القصيدة إلى الشاعر الصديق سيف الرحبي فاعتذر عن نشرها في " نزوى " للأسباب نفسها. رغم أن الأمر لا يتعلق بقصائد احتجاجية سياسية بالمعنى "الملتزم" بل بنصوص تتوجه غالبا إلى النخبة ولا قدرة لها على استثارة لا الجماهير ولا الشارع ولا قلب نظام الحكم. أيضا كنت قد بعثت الديوان إلى دار" الجمل" وكان هناك استعداد من خالد المعالي لنشره، خاصة انه سبق وأن نشر بعض قصائدي في مجلة عيون. أثناء لقائي مصادفة مع الشاعر محمد بنيس المشرف على دار توبقال، حدثته عن الديوان فأبدى استعداده لقراءته والنظر في قضية نشره. بعد أسبوع اتصل بي ليؤكد لي أنه سينشره قريبا. إنني أجد عنده شجاعة كبيرة، لأن الديوان يتضمن حمولة احتجاجية لا يمكن لأي ناشر مغربي أن يتحملها. في بنيس وجدت الناشر بالمعنى العميق للكلمة. بنيس له تجربة مغايرة عن تجربتي. لكنه كناشر أخذ على عاتقه نشر المجموعة. النقاش الخصب الذي دار بيني وبينه حول المجموعة هو بالفعل حوار بين جيلين ولقد انتبهت عبر هذا الحوار إلى أن الكتاب هو، فعلا، ليس نتاج كاتبه فحسب بل وناشره أيضا.

* أغلب القصائد أهديتها إلى شعراء هم من غير المكرسين رغم حقيقتهم الأدبية. ماذا أردت أن تقول عبر هذا الكم الكبير من الإهداءات؟

مرة نشرت قصائد بالفرنسية في "المجلة التعامدية" وهي مجلة فرنسية طليعية تم وقفها بتدخل شخصي من الكاتب ميشال ويلبيك، قبل سبع سنوات، أهديتها إلى هاتفي النقال. في تلك الفترة كان هاتفي النقال هو الخيط الوحيد الذي يربطني بالعالم الخارجي في سياق كنت فيه منغلقا على نفسي أتلوى بين مشاكل لا تعد ولا تحصى فاستغرب البعض واستنكر الآخر إهدائي تلك القصائد إلى هاتف نقال.
الإهداء بالنسبة لي مسألة أساسية. كل قصيدة تهدى إلى شيء أو إنسان. كنت أتمنى لو أهديت كل القصائد لا غالبيتها. أولا لأن الكاتب لا يملك شيئا يهديه أكثر أهمية من قصيدته. ثانيا: الإهداءات مثل التواقيع. إنها رسائل نبثها إلى أصدقاء، وحتى لو انتهت الصداقة وانعدمت لاحقا فهذه القصائد تصبح مثل شواهد القبور على هذه الصداقة التي اختفت أو هذا الحب الذي تلاشى. الصداقة كانت ولا تزال شيئا مهما في حياتي والى جانب الحب تشكل الصداقة إحدى الخيبات الكبيرة. إنها نوع من الحب هكذا أراها دائما، لذا فهي صراط ملئ بالعقبات. يحضرني هنا نموذج الصديق عبد القادر الجنابي الذي اسر لي مرة أنه يعمد إلى حذف الإهداءات من قصائده عند نشرها ثانية. أعتقد أنه صائب جدا، لأن الصداقات تتلاشى لكن القصائد تبقى.

* عربيا من الشعراء تجده الأقرب إليك، ألا يوجد شاعر عربي تشدك نصوصه إليها ؟

كلما لمست شيئا كسرتههناك عدة تجارب شعرية عربية صادمة, وتستدعي ـ بغض النظر عن مدى إعجابي بها ـ كل الاحترام. أدونيس ومحمود درويش صارا صنمين شعريين، إذ لا يمكننا أن نقول حتى في أتفه جريدة عربية إنهما خارج السياق الشعري الآن. هذا طبعا لا ينفي الإضافات الهائلة التي قدماها إلى الساحة الشعرية العربية. أحب قصائد محمد بنيس الأهم في الساحة الشعرية المغربية. لكن أود أن أسجل هنا أن الشاعر الذي أثار كل اهتمامي في الشعر العربي هو سركون بولص، الذي فتح ثغرة حقيقية في جدار الشعر العربي السميك انسل منها العديد من الشعراء الشباب ومنهم "عبد ربه الصالحي". سركون بولص شاعر مقل لكنني أعتبره أهم شاعر عربي حديث. لقد زاوج بين المتخيل العربي مع تجربة الهجرة بطريقة أصيلة. ولأنه أيضا في عزلته ابتعد عن كل الأمراض الثقافية العربية. فهو ليس مسئولا ثقافيا ولا صحفيا، إنه شاعر يعتصره الألم في ضواحي سان فرنسيسكو ويكتب من وقت إلى آخر قصائد تشبه رسائل استغاثة. في يوم من الأيام سيأخذ حقه ويعاد له الاعتبار كشاعر عربي أصيل. لا يجب الاستخفاف بأذواق القراء فهم يقرءون مابين السطور ويعرفون هل هذا الكاتب إنسان صادق أم لا.

* كأنما تريد أن تتحدث عن جيل بلا مرجعيات عربية واضحة لا يدين لأحد من الأسماء الكبيرة المعروفة ؟

نعيش في زمن المطلقات، الأسد لا يقبل إلا بابنه، وادونيس لا يقبل بشاعر بعده . ثمة جيل كامل من الموتى ولا يستحقون حتى الهجوم. لا أريد أن ارثيه بشعري ولا أن أبكي على قبره. عنوان المرحلة الآن هو الحياة، الحياة بكل تفاهاتها. لا دين احمله لا لمحمود درويش ولا لأدونيس. ديني للحياة والناس المشروخين. ومرجعيتي ليست عربية بل عالمية إنسانية. نحن أول جيل عربي ليس لديه مرجعيات. أنا اعتقد أن محمد بنيس إنسان شجاع لنشره هذا الكتاب. ثمة كتاب يديرون ملاحق ثقافية وليس لهم علاقة بالأدب.

* هل تحدثنا عن أشعارك المكتوبة بالفرنسية؟ ولماذا تتردد في نشر مجموعة شعرية كاملة باللغة الفرنسية ؟

عندي مجموعة شعرية باللغة الفرنسية هي "قتل العربي في النفس " هي نتاج بضع سنوات توقفت فيها بالمطلق عن الكتابة باللغة العربية. عندما بدأت الاشتغال في الصحافة آنذاك قررت أن أترك اللغة العربية وأن أبدع باللغة التي أتكلم بها صباح مساء منذ خمسة عشر عاما في باريس. الأمر سيان عندي سواء كتبت باللغة العربية أو الفرنسية. إنني اكتب العوالم نفسها في اللغتين، رغم أن علاقتي بالفرنسية ليست بنفس القوة التي لعلاقتي باللغة العربية. أعتقد أن التجارب الشعرية الأكثر جدة وجودة في الشعر يمكن أن تقرأ في جميع اللغات.

الوطن البحرينية
18 يناير 2006.