مع أعمال الموسيقي والمعماري ومصمم الأزياء

محمد الحمامصي
(مصر)

عبد المنعم تليمةلا تتوقف مسيرة الناقد عبد المنعم تليمة عند النقد الأدبي فقط بل تمتد لتشمل الفكر التقدمي المستنير والنضال الوطني والإصلاحي المخلص، شارك ولا يزال في أكثر الفعاليات والأنشطة الثقافية والفكرية حيوية في مصر والعالم منها مشاركته للمستعربين اليابانيين في نقل أمهات من التراث العربي، وإشرافه علي مشروع جامعة الأمم المتحدة الذي هدف للتعريف بالأدب والسينما والعمارة في العالم العربي، كما أنجز مع باحثين مصريين مشروع مصر 2020 والذي يعد أهم عمل ثقافي جمعي في التاريخ الثقافي العربي الحديث، ومن أبرز وأهم أعماله النقدية (مقدمة في علم الأدب) و(مداخل إلى علم الجمال الأدبي) و(نجيب محفوظ)، ولا تزال المسيرة والعطاء مستمرين، وفي هذا الحوار نتعرف على جانب مهم من آرائه وأفكاره.

* ما هي المرتكزات الأساسية التي ارتكزت عليها رؤيتك النقدية وهل نستطيع أن نقول ان لك مشروعاً نقدياً لم يكتمل بعد؟

مصادري الجمالية والنقدية، بل والثقافية والفكرية عامة، ثلاثة: الأولى الفكر المصري، عندي أن مصر حقيقة أساسية من حقائق التاريخ البشري، وأن دورها في هذا التاريخ أنها (مبدعة ثقافة)، لقد أبدعت مصر أول أيديولوجية تحل الإنسان المحل الأرفع على كوكب الأرض، وتجلت هذه الأيديولوجية في طائفة هائلة من الخوالد الآثارية والفكرية والدينية والصوفية والعلمية، ومن المنحوتات والمصورات والموسيقى والوثائق والمدونات والنقوش، من طراز البناء والتشييد وعادات العيش وأعرافه، ومثل السلوك وأنماطه، ومن نظم الحكم وأساليب الإدارة، ولقد اجتهدت أن أحيط بكل ذلك قدر الإمكان والاستطاعة، وأن أعي بالتعليم والدرس الدلالات والنتائج، بخاصة في آفاق الروحي والعقلي والجمالي، والمصدر الثاني عربي إسلامي، تفتحت عيناي على رف من صغير في ركن بعيد ببيتنا عليه ثلاثة كتب هي كل ما كان في بيتنا من علم ومعرفة، القرآن الكريم وصحيح البخاري والفقه على المذاهب الأربعة، حفظت القرآن في كتاب القرية وملت ميلاً قوياً إلي العلوم الشرعية مدونة ومتواترة ومروية، وتخصصت مهنياً وعلمياً في اللغة العربية والأدب العربي، المصدر الثالث تراث الإنسانية في الأديان والفلسفات والمذاهب والمناهج والإبداعات العلمية والفنية، درست أكاديمياً اللغات القديمة العبرية واليونانية واللاتينية، وألممت ببعض اللغات الحديثة وبخاصة الإنكليزية، كل ذلك فتح لي السبل واسعة إلى العيش في قلب المنجز البشري قديمه وحديثه، وبالخصوص في ميادين الدين والفلسفة والعلم والفن.

لي مشروع نقدي صغت أصوله الفلسفية والجمالية في كتاب (مقدمة في نظرية الأدب: 1973) وفي كتاب (مداخل إلي علم الجمال الأدبي: 1978)، واجتهدت عبر عشرات السنين أن أعرض هذه الأصول مزودة بضبط المنهج والإجراءات وبالنتائج الجديدة في علوم الجمال والبلاغة واللغة، وبالاقتراب المطرد الحميم من آفاق تآزر الفنون والانتقال من حضارة الكتابة إلى حضارة الصورة والدرس المقارن لمواد التشكيل الجمالي وخصائصها وطاقاتها، ومدار مشروعي العلمي في النظرية الأدبية وعلم الجمال تأصيل أركان الكتابة والقراءة، الإبداع والتلقي، وينهض العمل على دقائق جمالية منضبطة: فالأساس في هذا العمل أن الفنان يلوذ بعين خياله، يقع بها على ما لا تراه كل عين، ثم يشكل باللغة جسداً نصاً ما سطع وضاء في خياله، ومدار المحاكمة النقدية ليس ما تصوره الكاتب بعين خياله وإنما ما صور وشكل بأداته. وليس الأمر طرفين الموقف والتشكيل وإنما الأمر عملية واحدة، تشكيل جمالي لمواقف، فالشأن كل الشأن للتشكيل، ومن هنا فإن العملية النقدية في هذا المنظور لا تنتهي ببيان موقف للفنان إلا بتمام درس إجراءاته التشكيلية وطرائق البناء والأداء في عمله، وكل قول نقدي لا ينهض على قرائن تشكيلية هو من ذات الناقد وليس من عمل الفنان، هنا يبدو أننا نتجاوز الانعكاس المرآوي كما نتجاوز ثنائية (الشكل والمضمون).

وقد يرى راء أن ما نعتمده هنا من أن النص الأدبي (تشكيل جمالي لموقف) يوجد ثنائية جديدة هي ثنائية (التشكيل والموقف)، وليس هذا بشيء، لأن مذهبنا إنما يعني في البدء وفي الانتهاء أن النص تشكيل ينتهي مع آخر وحدة من وحداته إلى موقف، بمعنى أن التشكيل عماد النص والفيصل في (وجوده)، وأن الموقف ثمرة لهذا التشكيل وليس طرفاً موازياً له، ولا بد في هذا الشأن من تحديد أمرين: أولهما أن عمل الفنان إنما يرتد جملة وتفصيلاً إلى اقتداره التشكيلي، وليس معنى الاقتدار (الحذق) الذي ينتظم درجة استيعاب تقاليد النوع الفني وتشكيلاته المتوترة وحده، بل معناه هذا الحذق موجهاً بموهبة مغزاها العميق أن الفنان (يرى) واقعه مشكلاً، وثانيهما أن (موقف) الفنان إنما يرتد إلى طائفة معقدة من العناصر والمكونات الموضوعية والذاتية، الاجتماعية والفردية، الفكرية والوجدانية، الماثلة والمثالية. ولما كان موقف الإنسان فناناً وغير فنان يمكن أن يقرر بوسائل إشارية وتعبيرية لا نهائية، فإن الموقف في الفن لا يمكن أن يبين إلا بوسائل تشكيلية جمالية، من هنا كان المدار في قراءة النص التشكيل، مذاهبه وطرائقه وأساليبه وإجراءاته، لقد كانت خطتي البحثية في أولها تتأسس على مبحث ماهية العمل الأدبي فصارت إلى تأسيس علم الكتابة، وكانت تتأسس على مبحث العمل الأدبي فصارت مع الاغتناء بالتجديد الفكري والتقدم العلمي إلى تأسيس علم القراءة، وينتهي الأمران إلى غايتهما الضرورية: النص العربي، من حيث الأصول المعرفية والتقاليد الكتابية والحقائق التشكيلية، ومن حيث دور هذا النص وتطوره في البناء الثقافي.

الماركسية

* هل النظرية الماركسية استنفدت أغراضها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهى دورها تاريخياً على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي أم أن ثمة ماركسية جديدة تستطيع أن تكيف نفسها وفقاً للمتغيرات المفاجئة التي حدثت بعد أن أصبح العالم واحد القطبية؟

لا شيء يفنى من إبداع الإنسان وعمله، والماركسية أهم إبداع إنساني فلسفي ومنهجي في العصور الحديثة، تبقى الماركسية تحيلاً عبقرياً للثورة الثانية، الصناعية ولمجتمعها الرأسمالي، دخلت مقولات الماركسية ومنهجها إلي كل العلوم الحديثة، فصارت جزءاً من البناء العلمي والثقافي والفكري لكل مجتمع حديث، كما أنها صارت منهجاً وطريقاً لكل فكر تحرري ولكل نضال ثوري في كل المجتمعات، ومن البدهي أن ينتهي من الماركسية القراءة الظاهرية الحرفية المرتبطة بملابسات تاريخية بعينها، ولكن من البدهي أيضاً أن يبقى نهجها الموضوعي ومنهجها العلمي، ومن البدهي ثالثاً أن تظهر اجتهادات ماركسية جديدة آخذة بما وصل إليه العقل البشري من رؤى، وما انتهى إليه المجتمع البشري من تطور، وما استخلصه العلم البشري من نتائج، ثمة ماركسيات عديدة واشتراكيات جديدة، وكلها يعتد بالمشترك الإنساني الذي يحدد مسار المستقبل على كوكب الأرض.

* في حوار لك على قناة التنوير فضلت لفظ الكوكبية على لفظ العولمة فما الفرق بينهما وما مفهومكم لكل منها وهل ترون أن الكوكبة الثقافية تمتلك إيجابيات إلى سلبياتها وكيف نعيد صياغة الهوية في إطار هذه الكوكبة؟

إنها الثورة الثالثة في كل التاريخ البشري، وهي تجري على كوكب الأرض، لهذا فإن اللفظ اللغوي الدال هو كوكبة الأرض، لهذا فإن اللفظ الدال هو كوكبة والعملية هي كوكبية، ولكن لأن الذي ساد وهيمن هو لفظ عولمة من العالم فلا نرى بأساً من استخدام هذا المصطلح، المهم أنها حركة كبرى في التاريخ تعبر عن الثورة الثالثة في هذا التاريخ، بعد الثورتين الزراعية والصناعية إنها تعبر عن ثورة ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة، ثورة العلم وتطبيقاته والاتصال وتدفقاته، ثورة تتجلى في ريادة العلم وقيادته للتطور الإنساني، إذ يصير العلم يوماً بعد يوم قوة الإنتاج ويصير منتجه المعلومة أهم السلع. في هذه الثورة تصير السوق على كوكب الأرض واحدة، وتصير البيئة شأناً بشرياً عاماً يشترك الجميع في الحفاظ عليه وحمايته، وفي هذه الثورة تتجه المساعي إلى الكشف عن مواد أولية جديدة وإلى تطوير المواد المعروفة في حركة واسعة للتجديد والتطوير والتبديل، ويسعى البشر في هذه الثورة إلى نظام عالمي جديد ينهض على التحرير والحرية والعدل والسلام، بتطوير الأمم المتحدة وتوسيع عضوية مجلس الأمن، أو بهياكل مؤسسية عالمية جديدة بديلة تصطنع صياغات سياسية وقانونية عصرية ومستقبلية في علاقات الدول وتعتد بالتطورات الشعبية الديموقراطية التي بدأت وتتعاظم في أركان الدنيا الأربعة. وفي هذه الثورة تتقدم (الثقافة) إلى المحل الأول من الجدلية البشرية، فيبرز الاتجاه إلى الاتساع للتنوع الثقافي مع الكشف عن المشترك الثقافي بين الأبنية القومية والحضارية والحضارة وبين الأديان والمذاهب والفلسفات والعقائد والملل والنحل، وهنا يتقدم سؤال (الهوية)، ويتعامل معه الفكر الجديد علي قاعدة تتجاوز المواجهة العدائية بين (الأنا الآخر) إلى مبدأ (أنا في الآخر الآخر فيًّ) و(أنا مع الآخر الآخر معي)، ها هنا تتجاوز ثقافة الاختلاف إلى ثقافة الاتفاق التي أخذت تسود حاضر البشر وتتعاظم في مستقبلهم.

زمن الرواية

* يلاحظ أن جهدكم النقدي يتمحور حول التنظير والتأسيس المنهجي، فأين أنتم من حركة النقد التطبيقي في عالمنا العربي؟

لا أفصل في جهدي بين نظر وتطبيق، فأسانيدي في التنظير الأعمال والنصوص، ومن الطبيعي أن تكون اجتهادات لي منصرفة تماماً إلى الأصول النظرية والمعرفية والفلسفية والمنهجية. والفكر في ثقافتنا الحديثة فقير، لذا فإن الأمر يحتاج إلى جهود جمة في الأصول وضبط المناهج والإجراءات، ومع ذلك فإنني أقلق من أن عملي المهني في التدريس يشغل مساحة كبيرة في تناول الأعمال والنصوص قراءة وتحليلاً وتفكيكاً.

ولقد قرأت مع طلابي فيما يقرب من نصف قرن نصوصاً من الشعر الجاهلي والوسيط والحديث والمعاصر ومن القرآن الكريم والرسائل والسير والملاحم والقصص والمسرحيات والروايات. ونشرت بعض هذه القراءات مدارها: معلقة طرفة بن العبد، سورة يوسف، رسالة الغفران، وكتاب التوهم للمحاسبي، وقصائد للمتنبي، وقصائد لأحمد شوقي، وعمل من مسرح توفيق الحكيم، وأعمال من روايات نجيب محفوظ، ونصوص شعرية وقصصية وروائية من إبداع الأجيال العربية الراهنة.

* كيف ترى إلى القول بأن الزمن الثقافي الراهن هو زمن الرواية وهل تراجع الشعر؟

الإبداع هو جوهر الكائن البشري وسر أسرار وجوده، لأن الإنسان هو الكائن الفنان، وتجسد الإبداع عبر التاريخ في فنون وتجسدت الفنون في أنواع وتجسدت الأنواع في نصوص وأعمال، وحكم هذا كله التطور الإنساني العام، التاريخي الاجتماعي الثقافي، وشهد هذا التطور نشوء فنون وأنواع وانقراض أخرى واندماج أنواع في أنواع، إنما الشأن في حاضرنا أن الإبداع يتجه بسرعة وبقوة إلى تآزر الفنون والأنواع، تقع على القصيدة في القصة القصيرة، وعلى القصة في البنية المعمارية، وعلى القصيدة في العمل الموسيقي، وعلى الإيقاع والقص في الرواية، وعلى تقنية الحكي في المنحوت، تقع على الغنائية والملحمية والدرامية في كل عمل فني، تآزر الفنون يزيل التخوم والحدود بين الفنون والأنواع، ولن نجد في مستقبل قريب الشاعر الذي يقف ليلقي قصيدته على المتلقين، إنما سنجد عمل الشاعر متآزراً مع أعمال الموسيقي والمعماري ومصمم الأزياء والراقص والمغني، في نص واحد، وسنجد أن المتلقين يشاركون المبدعين في خلق النص وفي تفسيره، ولقد نقول هنا إن أداة التوصيل (المطبعة، الصحيفة، الراديو، التلفزيون، السينما، الفيديو ..) قد تتحدد طاقاتها في التسجيل والبث فتميل إلى نشر نوع فني بعينه فيذيع وينشر، لكن هذا يرتد إلى خصائص التوصيل وقدراته وطاقاته، وليس إلى ماهية الإبداع التي تتجه إلى التآزر بين المجسدات في نصوص وأعمال.

وفي ثقافتنا الراهنة ازدهارة روائية أكيدة، حتى لقد باتت الرواية العربية دائرة من دوائر أربع للرواية العالمية، الدائرة اللاتينية والدائرة الأفريقية والدائرة الشرق أقصية والدائرة العربية، وهذا مفهوم عند النظر إلى تفتح شخصية الفرد العربي ونضج شرائح من الطبقات الوسطى العربية، فهنا نجد أن الرواية وعاء صالح للعبارة عن هذا، إلى جانب تطور تقنيات التوصيل، وهذا شأن اجتماعي ثقافي تقني، أما ماهية الإبداع فاتجاهها إلى تداخل الفنون والأنواع وتآزرها ..

وأما الشعر العربي فإن تجديده يحكي النهضة الحديثة بكل أركانها التاريخية الاجتماعية الفكرية التقنية، لذا فإن مؤرخ هذه النهضة يجد مواد عزيزة لعمله في رصد حركات التجديد الشعرية وسندها في التناقضات الاجتماعية والصراعات الفكرية والتطورات التقنية، إن حركة تجديد الشعر العربي قد اتسعت لإحياء العمود التقليدي، ولأداءات القص والحكي، ولحوارات الدراما، وللتأسيس علي التفعيلة، ولقصيدة النثر، وكل هذه قرائن على حيوية هذه الحركة التجديدية التي تتقدم في وعي لدى طلائعها بطاقات الفنون الأخرى وخواص موادها، وبالتطور الهائل في اتجاه حضارة الصورة وتقنيات الاتصال والتوصيل العصرية.

* عشت في اليابان لعشر سنوات أستاذاً زائراً .. حتماً كانت تجربة ثرية، ماذا أفدت منها؟

عشت في اليابان لعشر سنوات مكلفاً من جامعة القاهرة لتدريس العلوم الإسلامية والآداب العربية بجامعة أوساكا للدراسات الأجنبية، كانت هذه الانتقالة بالغة الأهمية هي الأهم في حياتي كلها روحيا وعلمياً وثقافياً وجمالياً وإنسانياً، دونت هذه التجربة في (تخليص البيان في تلخيص اليابان) يصدر في الربيع القادم حاولت فيه أن أتابع شيئاً من أثر الرائد الخالد رفاعة رافع الطهطاوي في (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، رحل الطهطاوي إلى الغرب في بواكير القرن التاسع عشر إبان فتوة الثورة الصناعية، ورحلت إلى الشرق في نهايات القرن العشرين إبان صعود ما بعد الصناعة، كانت عينا الرائد العظيم وهو في باريس على مصر، وكانت عيناي وأنا في أوساكا على مصر، فكانت الموازنة والمقارنة، وكان استشراف الأفق الأبعد للتقدم، ويستحيل أن يتسع مقامنا هذا لتجربتي في اليابان، إنما تتسع لها فصول وكتابات لا تنقضي.

* لك مواقفك الشجاعة، بماذا توصف ما نحن عليه الآن على الساحة المصرية والعربية أيضاً؟

ولدت في يوليو ,1937 وقامت حركة الجيش في يوليو ,1952 أتممت يومها عامي الخامس عشر، ورأيت نفسي أعيش تجربة وجودية فذة، تتقوض حولي أعمدة وتنهض أخرى، ويأفل قديم ويولد جديد، فكان اضطراب استغرق سنوات، ثم كانت مواليد يقظة ذاتية وصحوة روحية فكرية، اليقين اليوم أنني لم أكن يوماً 23 يوليو ولم أكن يوماً ضدها ولم أكن يوماً في صفوف معارضيها، بيد أنني كنت في كل الأيام ولا أزال مختلفاً عنها: تبنت سلطة يوليو البرنامج الوطني المصري الذي صاغته مبادرة المصريين المحدثين في التاريخ الحديث، غير أنها أثمرت نتائج عكس غايات هذا البرنامج، احتكرت إدارة البلاد بالمعنى الشامل لكلمة إدارة وحرمت قوى المجتمع الفاعلة من المشاركة في هذه الإدارة، فتجمدت التعددية قاعدة كل حداثة، وهيمنت الشمولية فكان الحكم المطلق وكانت الدكتاتورية الحازمة التي شدت مصر إلى العجز والعقم وجرت عليها الويلات والمصائب والهزائم، ولينعدل ميزان الحكم ويتوازن نقول إن 23يوليو قطعة مهمة من تاريخ مصر الحديث ومرحلة أساسية من مراحله، وهي في ذات الوقت بحكم التاريخ ومعياره ومصطلحه مرحلة استثنائية، وللاستثناء بطبيعته نهاية.

تعيش مصر هذه السنوات حاضراً يطلب التكاليف والنضالات والتضحيات وهو في ذات الوقت يعد بالتفتح والتقدم: لقد دخلت مصر إلى التاريخ الحديث وأنجزت في القرنين الماضيين منجزاً مرموقاً يؤهلها لتأسيس نظام الجبهة الذي يحل محل نظام الحكم المطلق حتى تنتصب التعددية في مواجهة الشمولية، مستقبل مصر في (التحالف) بين قواها عبر المصالحة الوطنية الكبرى، ويؤهل هذا التحالف مصر إلى سبيل (التعاون) بينها وبين العالم عبر المحاورة التاريخية العظمى .

السفير
2006/06/02