(يري أن الفن ليس مجرد نحت تمثال وإنما تربية متواصلة للنفس)

حوار: عبدالرحمن أبوعوف

آدم حنين: في باريس بدأت اسأل نفسي: من أنا؟النحات والمصور المبدع - أدم حنين - في أبسط تلخيص ممكن لمن يتأمل ويتعمق القانون الفكري والجمالي الذي يحكم كلية إبداعاته النحتية منذ الخمسينيات وحتى الآن يشكل في اعتقادي استمرارا خلاقا مجيدا وواعيا للسلسلة الطويلة المتعاقبة من البنائين والنحاتين الذين شيدوا الأهرامات ونصبوا المسلات، وأحيوا بالنقوش الغائرة والتماثيل المعابد والأضرحة.
غير أن أصالته والتزامه الحي المعبر عن جذوره وتراثه في النحت والتصوير الفرعوني لا يقلل من قوة الحداثة في انجازه الجمالي والفني... غير أنه يتميز وينفرد عن كثيرين من النحاتين المصريين والعرب برفضه الواعي الحر الاستلاب والتبعية لحضارة وفنون الآخر الغربي الأوروبي.

***

يمارس أدم حنين في إبداعه حرياته المجانية في اختياره موضوعاته النحتية وأساطيره المعاصرة ببعدها التعبيري التشكيلي سواء من نبع الطبيعة والإنسان والحيوان أو كليات الرؤى الكونية لمعني الوجود والنماء ودفء التواصل بين الإنسان والطبيعة وصخب الحياة وديناميكيتها وهو يجسد في نحته أحيانا المواضيع المألوفة التي يتبادلها في معظم الأحيان بظرف ودعابة.

وتردنا تكويناته النحتية الصرحية وتصاويره علي أوراق البردي لحميمية التزامه بجذوره في مصر القديمة التي يبدو أنه استوعبها بعقله وحملها في قلبه طوال رحلة عطائه المتجددة بالرؤى والأساليب التشكيلية.

***

*كيف بدأ مشروعك؟

عرفت طريقي وأنا صبي.. كنت دائما وبلا إرادة أفكر، فالمشروع بدأعمره.طفولة.. بدأ بالتساؤل البريء عند الأطفال.. عن غموض الوجود.. كيف خلق الكون.. هذه أسئلة تشغل فكر الإنسان الفنان طوال عمره . بعضها يتساقط وبعضها يتبلور ويظل يتغربل والنتيجة ما يخلفه الفنان حسب مراحل العمر وممارسة التجربة، وطريقة التربية والظروف الحياتية ويظل بعد التصفية سؤال.. السؤال هو عن معني الوجود الا أن تصطدم بواقعة أو تجربة توجهك.. وكانت هذه التجربة بالنسبة لي زيادة واكتشاف عالم المتحف المصري للآثار الفرعونية، وأنا عمري 8 سنوات وكنت في ابتدائي المتحف المصري أعطاني نوعا من الإجابة وأرشدني لبداية الطريق عرفت من خلاله أن هناك عالما ساحرا مهيبا آخر لم يكن في بيئتي المحدودة.. حيث المدرسة والبيت..

* كيف تري الفن وما هي المؤثرات الأولي التي كونت مشروعك التشكيلي؟

إن الفن عندي نوع من الأحلام. إنه اكتشاف.. بالصور والإبداع عندي لا يطرح أسئلة ولكنه تأكيد وتعميق إجابات وأفكار مستقاة من التجربة الخاصة والقراءة والمشاهدة والتأمل.

كان المؤثر الأول الغريزي في تكويني دهشتي وفرحي وأنا التقي بالنحت الفرعوني عندما زرت المتحف المصري وأنا في الثامنة ولاحظ 'الأب دريتون' مدير المتحف آنذاك إعجابي الطفولي فاهداني كتابا مطبوعا أبيض وأسود عن بعض تماثيل ومنحوتات الفراعنة.. وانكببت علي هذا الكتاب ولا أكون مغاليا اذا قلت انني في هذه الفترة من طفولتي ربما اكتشفت بداية الطريق.. هل قررت أن أكون نحاتا.
ورغم نضجي الآن وممارستي للفن وكل خبراتي فكل ما استطيع قوله لك في بداية الحوار..
أن جوهر النحت المصري القديم هو المهابة والرقي وصلابة وخفة التمثال أو االمنحوتة وهاتان الصفتان هما اللذان أعطيا الفن الفرعوني شكله الذي يبدو بسيطا إنما سحيق وعميق الأغوار.
لعب التأثير عندي دورا بسيطا فأنا دائما أتأثر بكل فن جيد راق معبر يحمل أكثر من بعد ودلالة عبر لغته التشكيلية وخصوصية حضارته وإنسانيته في نفس الوقت فأنا أتأثر إذن بكل ما تقع عليه العين، وعندي معايير جمالية وعديدة ومعقدة.
غير أني لم أتأثر بأساتذتي في كلية الفنون الجميلة ربما لأن الاتجاه الأكاديمي لا يخاطب ذوقي ومشاعري وبحثي الغريزي عن أصالتنا.
واعتقد أني تأثرت بمختار. لقد أثار في بعمله وأحاديثه ضرورة وجود فن مصري قومي بأسلوبية مصرية غير أن مختار وأرجو أن أكون مخطئا رغم اهتمامه بالفن المصري غير انه اخذ الشكل الخارجي ولم يدرك صراع المتناقضات في بنية النحت المصري والتي حكمت جوهر النحت المصري القديم كما قلت بين الخفة والصلابة.
هناك قطبان متناقضان في جوهر الفن المصري القديم وهما الكتلة والخفة.

* ما هي أهم الإشكاليات التي رافقتك في حياتك العامة؟

إشكاليات حياتي العامة كفنان تشكيلي مرتبطة بالوطن بتاريخي القديم والحديث وحياتنا ومجتمعنا له متطلبات غير بعض المجتمعات الغربية.. كانا الجلاء والاستقلال وحكم الدستور وكنا مشحونين ضد الاحتلال وضد فساد الملكية وأنا اعتبر نفسي من الذين عاشوا مجد الصعود الناصري والحلم القومي وكان عندي اتجاه يساري لان الوضع السياسي.. كان ينقسم لأخوان مسلمين ويسار واللا موقف.
استشارتني في البداية حركة الفن والحرية وأقطابها أمثال رمسيس يونان، وفؤاد كامل.. فعرفت أن هناك جديدا مختلفا عن التصوير التقليدي.. غير أنهم لم يقنعوني بالمغالاة في التجريد والسريالية التي شعرت انها هجينة علي أصالتنا التشكيلية التي تشكل جذور الشخصية المصرية.
مجموعة عبدالهادي الجزار' و'حسين أمين' كانت تعجبني وتبهرني لأنهم كانوا يبحثون بجدية ووعي عن أسلوب مصري معاصر وحداثي غير انه يقوم علي المعني والجذور فهم في اعتقادي حاولوا البحث عن المصرية في فن التشكيل فلجأوا إلى موضوعات الزار والسحر وعبروا عن موضوع مصري وله شكل حداثي آخر للرسم والتصوير.

العملية الإبداعية عندي لها منطقها الخاص.. لا نعرف فيها أين يبدأ الواقع وأين يبدأ الخيال، وفي النهاية لا نعرف هذا من ذاك لأنها خرجت من مخزون الذاكرة الممتلئة بعديد الذكريات والموضوعات والخبرات والتجارب والملاحظة والمراقبة والرصد والمؤثرات.. تخرج إلى الفعل الإبداعي ممزوجة بكل هذه الأشياء.
وكل ذات فنية وبما تحتوي من مخزون تشكل وتحقق العمل الابداعى المتميز الفريد غير المتكرر.. وهذا الذي يؤدي للتنوع والفردية الأساسية بين فنان وفنان في اختلاف الرؤية والتجسيد والتحقق الجمالي.

*رحيلك عن مصر.. هل كان بسبب التراجع الساداتي عن مكتسبات عهد يوليو؟

بكل تأكيد هذا هو السبب الرئيسي.. لقد شعرت أو أدركت ان وجودي أصبح صعبا وغير منطقي وغير مطلوب فماذا سنفعل اذا بقيت وعشت في مصر في هذه الظروف المضطربة المنهارة المتفككة.. هل سنعمل بالسياسة أو نستسلم لغيبوبة المخدرات والهروب من مواجهة الواقع بأشكال فنون التجريد والفانتازيا أو الانتحار البطيء . كان هذا إحساس وما سيطر علي في شهر نوفمبر.71

كنت أتوقع بوعي أو بغير وعي أن ظاهرة تراجعات السادات ستستمر وتنمو وتدمر ايجابيات ثورة 1952 وتقضي عليها أو تؤخر تحولات الثورة وتحقيق الأحلام القومية العظيمة التي أنجزها رغم كل نقد عبدالناصر.
وفي لحظة يأس حزين اتخذت قرارا بالهجرة إلى باريس حتى أشاهد وأدرس وانغمس في منجزات الحضارة الأوروبية والآخر ثم اذهب إلى المكسيك وتركت البيت لشقيقي يقيم فيه.

كانت لحظة صعبة فهذا مكاني الذي أعيش وأبدع فيه علي أن اهجره مؤقتا والمكسيك كما قرأت وأحلم.. تحتوي علي حضارة المكسيك القديمة !فيها شبه بالحضارة المصرية القديمة مع الاختلاف بالطبع فعندهم أهرامات ورسومات ومنحوتات هامة ولكني ظللت أعيش في باريس بوتقة الثقافة والفن والأدب والسياسة.

* وماذا عن إبداعك في مرحلة باريس؟

منذ بدأت الرسم أو النحت في أول حياتي وأنا لم انقطع عن الإبداع تحت أي ظروف.. ولذلك لم انقطع عن الإبداع في هجرتي إلى باريس بل بالعكس لقد تكتف الإبداع وتدفق واتخذ رؤى وأشكالا جديدة مبتكرة ومدهشة بالنسبة لي..

لقد أحسست أني اختنق في بداية حكم السادات فسافرت إلى باريس ومصر في داخلي وقلبي ووجداني وعقلي كان وطني بالمعني الشامل بداخلي.. ولعل هذا هو الذي ساعدني وحصنني من فقدان شخصيتي المصرية الفنية كذلك طموحاتي ومشروعي التشكيلي منهما شاهدت من معارض ومتاحف وتأملت ودرست الاتجاهات الحداثية في الفن والتي كانت تصطخب بها باريس وأوروبا وقتذاك.

* لقد وجدت نفسي محاطا بفنون وابداعات كل رموز وأقطاب الفن الأوروبي.. فتساءلت وخفت علي نفسي وقلت في تساؤلات محيرة لماذا جئت؟ وماذا سأفعل هنا؟.. وماذا أريد؟

اعتكفت في منزلي.. وزارني 'جمال كامل' خلال عودته من رحلته في انجلترا واهداني 'علبة ألوان' ونوتة وكانت مشكلتي في البداية انني لا اعرف ما املكه ورغم ذلك حاولت ان ارسم ولكن المشكلة التي واجهتني ان الأمر ليس رسم صورة.. كنت اريد أن اعرف ماذا عندي وما هو الذي املكه.. وظللت ارسم وكان منزلي جديدا علي أسلوب معيشتي الذي عشته في منزلي ومرسمي بالحرانية بالقاهرة.. وكانت محصلتي في مصر وهي التي املكها وتساءلت ما هي مكوناتها وجوهرها.. وكنت أمارس التأمل لمدد طويلة من الزمن.. أتأمل نمو النبات.. وحركات الحشرات الصغيرة، وبدأت ارسم.. وكانت هذه تجربتي ومجموعاتي علي أوراق البردي.. التي بدأت الرسم عليها منذ أن زارتني تحية حليم بباريس واهدتني بعض أوراق البردي.
ووجدت نفسي أصبغ تأملاتي كلها علي الورق وبدأت اقرأها.

* ولكن وضعي وحياتي اليقظة في باريس واعتكافي دفعني لوضعها علي الورق مجسدة، وهذا في حد ذاته إجابة علي سؤال من أنا؟

وحيث استغرقت شهورا وهي مجموعة عندي مرسومة وعرضت في المعرض لاستعادي الذي أقيم في قصر الإمبراطور عام .2006

* هذا في حد ذاته مرتبط بإحداث تستوحيها حتى لا تضيع منك، حتى لا تدفن هذا التيار الأدبي الذي تعيشه والموجة عالية، فبعد ان تعرف من أنت وتاريخك يمكنك هذا الاستعداد لطرح سؤال ماذا ستفعل؟

وماذا ترفض ويؤهلك لان تحكم علي الذي تراه حتى لو كان الحكم خطأ فترفض الضياع والتردد وهذا يمنحك قوة وإرادة، هذا بجانب أن ما يدور حولك في أوروبا من مدارس واتجاهات فنية وأساليب حداثية تعطيك قدرا من الحرية.
والآن وبعد جهد ومثابرة عرفت من أنا.. هذا لن يجعلك ترفض الذي حولك ولكن يبقي أن لك حقا في الحرية بأن تتجاوز كل هذا وتبحر في بحار جديدة وتفعل ما تريد وما تراه بالرغم من ارتباطك بماض وتاريخ لأن الانغماس في المصرية خطأ بشكل معين يجعلك انطوائيا ويجب أن تقيم توازنا بين مصريتك وأصولك وبين ما تراه من جديد وتجريب وحداثة، فالفن في اعتقادي ليس أن تجلس وترسم صورة أو تنحت تمثالا أو تدخل في تجارب إنما هو تربية، تربي نفسك، تشتغل علي نفسك، هذا الذي يخرج هو نوع من الالتزام.

أخبار الأدب
2006 نوفمبر 26