وللأسف لدينا الآن خلل في الوضع الثقافي

حاوره: فريد رمضان
سوسن دهنيم
(البحرين)

علي عبدالله خليفةتعتبر تجربة الشاعر علي عبد الله خليفة بالنسبة لمرحلة الشعر الجديد في البحرين، مؤشراً على الدخول في الحداثة من حيث الشكل والمضمون، إذ أسس تجربته في فترة مبكرة من 1969 حين أصدر مجموعته الشعرية ''أنين الصواري'' التي كان لها حضورها المتمثل في قصيدة التفعيلة، ناهيك عن تأكيد مضمونها الواقعي الحي الذي يلامس قضايا الإنسان البحريني البسيطة، بشكل غير مسبوق، مجسدا هموماً أوجدها الإقطاع البحري والزراعي، سابحاً بين قصيدة فصحى، وموال يجر الآهة بعد الآهة. التقينا الشاعر علي عبد الله خليفة، وكان قلبه يهمس بالشعر، ونحن نتحاور حول التجربة وتقاطعاتها الزمنية القاسية والصاخبة بالحوارات والجدل الفكري والثقافي، حيث سألناه:
منذ مجموعته الأولى ''أنين الصواري'' الصادرة عام ,1969 إلى مجموعته الأخيرة ''لا يتشابه الشجر'' ,2005 قطع الشاعر البحريني علي عبدالله خليفة مسافة واسعة المدى مع الشعر في أحدث أساليبه، بين العامية والفصحى.

*كيف تنظر إلى هذا الأفق الذي حققته تجربتك الشعرية وحضورها المؤثر على المشهد الشعري البحريني، خاصة وإنك والشاعر قاسم حداد شكلتما قطبي الشعر البحريني الحديث، ووضعتما التجربة الشعرية البحرينية على الخارطة العربية؟ وكيف تنظر إلى هذا المشوار الشعري الذي شكلك وشكلته؟

- حقيقة أشعر بأنها حافلة، أولاً بسبب كتابتي بالفصحى والعامية. ففي هذا المشوار مازال لدي ما لم أقله، ودائما أشعر أنني مقدم على شيء، حيث يعطيني هذا الإحساس حافزاً بأن أخطو أبعد. مازلت أنتظر شيئا. في مجال الفصحى بقيت أمينا على الموسيقى واحتفائي بها في الشعر، وبتشبع القصيدة بالموروث من التراث الشعبي. أنا مؤسس أساسا بالشعر العامي من خلال شعرائه الكبار، من أمثال محمد بن لعبون، وعبدالله الفرج، وفرج بومتيوح وغيرهم، وما تلا ذلك من شعر الموال الشعبي. بعد ذلك جاء تأسيسي من خلال الشعر العربي، أنا أعتبر نفسي قارئا جيدا للشعر العربي. وقد ظل هاجس الموسيقى والإيقاع مقترنا بالشعر، ولا زلت مقتنعا بأنه لا يوجد شعر بلا موسيقى. أنا أقبل على كل التجارب الجديدة، ولكنني لا أتخيل نفسي أكتب شعرا دون موسيقى. حاولت أن أعبر دون تخطيط عما يعتمل في نفسي، وأشعر أنني دائما تلميذ ما زال يتعلم، ويرتكب الأخطاء التي كان يمكن أن يتداركها. إحساس دائما ما يدعوني لتأمل تجربتي والحرص على مراجعتها قبل الطباعة أو النشر.
الكتابة مشوار طويل، ومهما استكمل الإنسان أدواته، ومهما أجاد فنه، يظل نقطة في بحر. مؤخراً كتب الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، قراءة في ديوان ''لا يتشابه الشجر'' نشرها قبل فترة قصيرة قي جريدة السفير اللبنانية أشار إلى مسألة لأول مرة يتم الإشارة إليها والمتعلقة باستخدامي لأكثر من تفعيلة في القصيدة الواحدة، هذه المسألة غير متعمدة بالنسبة لي، وهو يلاحظ أن الخلط بين هذه البحور لا يخلق موسيقى، والانتقال من تفعيلة إلى أخرى يفقد تجانس الموسيقي اكتماله. بالنسبة لي أنا أجد أن هناك موسيقى داخل القصيدة، وهو بهذه الملاحظة دعاني لإعادة قراءة التجربة وقبلت رأيه إذ أن هناك أكثر من وجهة نظر في الشعر، وفي ''تكنيك'' الكتابة الشعرية، وأن هذا الانتقال هو انتقال تلقائي، فأنا لا أعاني مشكلة في الشكل، حيث أن الشعور الذي يحتويني لحظة الكتابة يخلق هذا الشكل، إذ تأخذ القصيدة لونها، ودمها وهي تأخذ لحمها وعظامها وتتشكل لدي دون قالب معين أرسمه مسبقاً وأصب فيه القصيدة. كثيراً ما أسأل متى تكتب القصيدة بالفصحى أو العامية؟ وأنا لا أملك جواباً لهذا السؤال، فالخيار لدى القصيدة نفسها، هي تختار نفسها، لحظة الكتابة لا أفكر بالشكل، إنها تقفز من داخلي إلى الورق دون أن يكون لي اختيار للشكل أو الأسلوب أو اللغة. في السبعينيات تلقيت الكثير من العتب والنقد حين كتبت القصيدة العامية، واعتبرها البعض تناقضاً في التجربة، مما خلق في نفسي صراعاً، وحسمته بعد فترة، ربما اتفق معهم، لكن أنا ابن هذه البيئة. أول نص شعري حفظته كان شعراً عامياً، لأن أهلي في البيت، كانوا يحفظون الأشعار العامية ويرددونها. والدتي - يرحمها الله - كانت تردد الكثير من المواويل، لقد تشربت نصوص المواويل، ونصوص المجتزئات للقصائد النبطية التي تحولت إلى أغاني الهدهدة للطفل، وتحولت إلى أمثال، ووجدت الخيار أن استجيب لنداء روحي الداخلي، ولم استجب للنقاد والمنظرين. وحتى هذا اليوم أنا في توازن روحي وعاطفي مع نفسي، وليس لدي مشكلة في ذلك.
في 1970 في حوار أجراه الصحافي الكويتي محبوب العبد الله، في مرحلة احتدام الصراع حول الكتابة بالعامية والفصحى، سألني عن مستقبل الكتابة بالعامية فقلت له: الكتابة بالعامية ليس لديها مستقبل، حينها سألني كيف؟ فأجبته: إن الكاتب المتعلم الذي يكتب بالعامية عليه أن ينظر إلى المستقبل، لأن اللهجة العامية سوف تتغير، والذي نكتبه اليوم في سنة سبعين، سيحتاج إلى قاموس وشرح لكي يفهمه الناس، بعد خمسين عاما، ولكن على الكاتب أو الشاعر الذي يكتب باللهجة العامية أن يستجيب لحركة المجتمع ويطور هذه اللهجة حتى تصل أقرب ما تكون إلى اللغة الفصحى. وهو ما وصل إليه الشعر العامي الحالي، مثل تجارب بدر بن عبد المحسن، وخالد الفيصل، وغيرهما سوف تجد إنها تجارب أقرب ما تكون إلى الفصحى، وأعتقد أنني كشاعر حققت هذه المعادلة، أنا عبرت عن نفسي وعن مرحلتي وجيلي.

* كيف تَشكّل هاجس التحديث الشعري في التجربة البحرينية وأنت وزملاء التجربة كنتم تحفرون في مناطق شعرية حديثة؟ كيف تحقق هذا التجاذب بين ما يُكتب في بغداد وبيروت والشام والقاهرة؟ كيف جاءت شرارة الكتابة بسياق جديد لم يحظَ بقبول القارئ العربي أو المستمع له؟ ولماذا تميز شعراء البحرين في هذه المنطقة بالذات بهذا التواصل مع التفاعلات الحديثة في عواصم أكثر تقدماً؟

- انظر إلى طبيعة ونفسية وتكوين شعوب الجزر في كل مكان في العالم، تجد شعوب الجزر أكثر انفتاحا على الآخر وأكثر قبولاً به وبالأفكار الجديدة، كون الجزر مناطق عبور للطيور وعبور البشر والجنسيات واللغات والأديان وللأجناس، هذه الميزة الجميلة تحققت في البحرين ولشعب البحرين. كانت الحركة الأدبية في البحرين عبر كتّابها في بداية الخمسينات والستينات على اتصال وثيق بما ينشر في بيروت والقاهرة وبغداد، وهو امتداد طبيعي للمرحلة التي سبقت هذه السنوات حين كانت تصل المجلات والجرائد والمطبوعات منذ العشرينات من القرن الماضي إلى البحرين، وكانت تصل عن طريق البواخر، وكان أهل البحرين يتلقفون هذه المطبوعات، مثل مجلات ''الرسالة'' و''الثقافة'' و''الشعر'' إضافة إلى مطبوعات بغداد.
وبيروت التي كانت عاصمة متمردة على الثقافة التقليدية ولديها الجديد المطروح على المشهد الثقافي، إضافة إلى الحلقات التي تعقد في البيوت مثل بيت محمد الماجد، وقاسم حداد، وفي بيتنا، وكنا قساة في نقد تجاربنا، وكان الحوار دائما ما يكون حادا، وكان موضوع الالتزام مطروحا بشكل واضح، إضافة إلى دور التنظيمات السياسية السرية وتأثيرها في أدلجة الأفكار، وتأسيس أسرة الأدباء والكتاب التي كانت حدثا غير عادي في الساحة، وكانت هناك أسماء تقليدية نشيطة مناهضة للأطروحات الجديدة في الشعر، فكان كتاب نازك الملائكة (قضايا الشعر المعاصر) ثورة بالنسبة لنا، وكذلك تجارب السياب، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، أحمد عبد المعطي حجازي، وكان لكل منا عالم قائم بذاته، وكان كل واحد منا يعتقد أنه على حق، وهذا هو الشيء الجميل الذي خلق الصراع الفكري والثقافي .

* كيف كان قبول الشارع والجمهور في ذلك الوقت للقصيدة الجديدة التي كنتم تقدمونها، هذا الجمهور بتنويعاته ومستوياته التعليمية، كان حضوره قوياً مثلما أعتقد، هل لذلك علاقة متواصلة مع التجديد العربي على مستوى الإبداع؟

- دعني أقل شيئا معاكسا لذلك، كانت هناك حركة ضد هذا التوجه وكان يقودها في ذلك الوقت المرحوم الأستاذ محمود المردي، والشيخ عبد العزيز بن محمد آل خليفة، وغيرهم، بل كانت هناك نية لتأسيس كيان مناهض لاتجاه أسرة الأدباء، وكان انتقادياً ورافضاً لهذا التوجه ويستهزئ بكل ما ينشر من تجاربنا.
الشارع البحريني كان مقبلاً على كل ما يطرح في الأدب وفي الشعر وهي القضايا المعاشة، قضايا الإنسان المعاصر، كان مجرد طرح شعار الأسرة (الكلمة من أجل الإنسان) في ذلك الوقت مثل جدول ماء يندفع. وكانت البحرين بحاجة إلى أمسيات وإلى ندوات لالتقاء الناس، كما لعب الجو السياسي دوراً كبيراً، صحيح كان له دوره السلبي كذلك، والذي لا زالت آثاره ملموسة حتى الآن. كان الإنسان البحريني يريد انعكاساً لصورته الحقيقية، وهذا ما لا تجده في التجارب السابقة حيث كنت تقرأ الصور الرومانسية المثالية، فوجد الناس صورة الإنسان البحريني بمشاكله الحياتية واليومية منعكسة في نصوصنا.
التجارب في تلك الفترة لم تكن مغالية في التجريب، ولم تكن بعيدة مثل قصيدة النثر الحالية، أضف إلى ذلك أن الأدباء الذين كانوا يمارسون الكتابة كانوا من الطبقة الفقيرة، أبناء الحارة، حيث كان الناس يلتقون به في الشارع في حالته الطبيعية كإنسان بسيط، يركض مثلهم وراء لقمة العيش، لقد أدرك المجتمع البحريني أن الشعر والأدب ليسا للنخبة وليسا في برج عال، بل الشعر الذي يمشي على الأرض ويدخل بيوتهم، ويلتقون به ويخافون ويتحاورون معه.

* هل يمكن أن نعتبر تاريخيا أن إرهاصات شاعرنا الكبير إبراهيم العريض في مغامرته الشعرية التي كانت مخلصة للنص الشعري دون الوقوع في شعر المناسبات المنتشر في الساحة الخليجية في ذلك الوقت واتصاله بالكتابة الشعرية التي تعبر عن الموقف والالتزام تجاه القضايا العربية. و هل هناك ما يمكن أن نسميه قطيعة، بين الاثنين أو أنكم انطلقتم من أرض بكر؟ كيف تولد هذا الإغواء بالشعر الحديث؟

- إبراهيم العريض حالة من الصعوبة أن تتكرر في الثقافة والأدب في البحرين، إبراهيم العريض أديب مغاير لكل أدباء وشعراء البحرين، من حيث إجادة اللغات، إذ كان متمكنا من أربع لغات، العربية، والأوردية، الفارسية والإنجليزية، أضف إلى اهتمامه بالفلك والرياضيات ولديه اهتمامات كثيرة فهو يعد ثقافة موسوعية. لقد كان هذا الرجل في مرحلة من المراحل هو كل أدب البحرين في العالم العربي، فإذا ذكرت البحرين كان يذكر إبراهيم العريض، حيث كان يتواصل مع كل المجلات العربية. حين تأسست أسرة الأدباء والكتاب، كنت أقرب أديب شاب لإبراهيم العريض، وقد أسست علاقة شخصية حميمة معه، واعتبره أستاذي في أسلوب تعامله معي. وأتذكر أول مرة حين ذهبت إليه أحمل إليه قصيدة من قصائدي، وكيف استقبلني استقبالا رحبا، وسألني: ماذا تريد؟ فأخبرته بأني أريد أن أعرض عليه قصيدتي، وحين سمعها لم يعلق عليها، وبدأ يتحدث في مواضيع أخرى حينها أشعرني بأن قصيدتي لم تعجبه، وقد تواصل هذا اللقاء معه، حتى عندما عملت في إدارة الجمارك كموظف صغير، كان يزورني، وكانت صورته بهيبته وقامته المديدة وبشته الجميل وهو يأتي لموظف صغير، تثير استغراب الجميع.
عندما تأسست أسرة الأدباء والكتاب، كان العريض قد أسس لجنة اسمها (لجنة أدباء البحرين) حيث كان هو رئيسها وعضوها الأوحد، فلما طرحت اسم إبراهيم العريض لرئاسة أسرة الأدباء واجهت معارضة شديدة، وكنت الصوت الوحيد الذي يريد تحقيق هذا المطلب، كانت الأمور حادة في ذلك الوقت، وطلبت معالجة هذا الموضوع، خاصة بوجود هذه اللجنة التي أسسها الشاعر إبراهيم العريض وكان حينها يستقبل كل مراسلات الاتحادات الأدبية ويشارك فيها باسم البحرين، وحين عرضت عليه فكرة الرئاسة، وطلبت منه مباركة هذا الكيان، قال: يا ولدي أنا معكم بروحي ولكن لا أستطيع المشاركة معكم، هذا موقف كريم، وموقف إنسان كبير، ووعدني أن يحول أي مراسلات للأدباء والكتاب إلى الأسرة، وقد أرسل بنفسه للاتحادات يخبرهم عن هذا التأسيس على أن تتم المرسلات باسم هذا الكيان الجديد، وبالفعل أول رسالة وصلتنا للمشاركة كانت من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا الذي شاركت الأسرة فيه بوجود الشاعر إبراهيم العريض. لم يكن رافضا لتجربة الشباب، كانت لديه رؤية نقدية تجاه تجاربنا، وكان معجبا مثلا بتجربة الشاعرة حمدة خميس التي نوه بها كثيرا، إضافة إلى تنويهه بتجربتي في الشعر العامي. لا يمكن أن تطلب من شاعر بقامة إبراهيم العريض أن يقيم كل نتاج الشباب. أعتقد بأنه لم يتم الاستفادة من تجربة هذا الشاعر الكبير بشكل صحيح ومناسب في ذلك الوقت. للأمانة الرجل كان يحترم جميع الكتاب الشباب.

* برز الشاعر علي عبدالله خليفة في الشعر العامي والفصيح، ولقد شكّلت قصائدك العامية انفجاراً وتأسيساً لقصيدة محلية أخذت طابعا ثوريا خاصة في كتابة الموال الشعبي البحريني، بعد فترة غياب طويلة، بل ونسيان الموال عن المتلقي أو القارئ بخاصة من خلال مجموعتك (عطش النخيل). كيف تنظر إلى ذلك؟

- كتبت الموال بدون استعداد أو تصور، وفوجئت بالقبول لدى الناس لهذه التجربة، أعتقد بأنني مؤسس به منذ البداية من قبل البيئة التي عشت فيها، تشربته منذ الطفولة، وكنت أحفظ المواويل، وحاولت أن أعكس تجربة الإنسان المعاصر البسيط في الموال الذي اعتبره صندوق آلام وأحزان البشر، وحين تأتي وتُحمل الموال مادة فيها طرح أسئلة، في (أنين الصواري) طرحت مفهوم الإقطاع البحري، وعبرت عنه، الناس تعرف أن البحرين مشهورة باللؤلؤ، ولكن كيف تطرح معاناة البحار البسيط وبأن هنالك إقطاعا بحريا موجودا وأن هذا الإقطاع موجود بأشكال مختلفة، وان الذي كان يمول سفن الغوص ويمتص قوت الآخرين تحول الآن إلى بنوك في زمننا الحاضر، وهذه البنوك هي مثل من كان يمول سفن الغوص، واللؤلؤة هي الحياة الكريمة التي نعيشها الآن ولكن بديون كثيرة على عاتق البشر.
أن تطرح هذا الموضوع بهذا الشكل العلني، فهناك مستغل وآكل لقوت البشر وهناك من يتعب ويموت من أجل شيء لا يحصل عليه، وما عبرت عنه في الماضي موجود الآن ولكن بتسميات مختلفة، إلى اليوم نحن في غوص مستمر، المستغل موجود، قوت الناس موجود. البنوك مثلا تمثل الإقطاع البحري، ولكن بصورة جديدة، الإنسان المستغل هو نفسه موجود، من منا غير مدين للبنوك، في (عطش النخيل) هناك صورة أخرى للإقطاع الذي يعاني منه الإنسان الفلاح وهو يعمل في حقله ويتعاطى بحب مع أرضه وثمارها التي كانت تسلب منه.

* لقد ساهمت تجربتك الشعرية في كتابة الموال في تغيير روح الموال، وهو الأمر الذي تأثر به العديد من الشعراء. لقد أسست لموال لا يعتمد على الرثاء أو الهجاء أو المدح، بل ذهبت به لروح جديدة فيها المعاناة للإنسان البحريني البسيط، مثل موال (عذاري)، أو (ياعبيد). كيف استطعت أن تلتقط هذه الروح وتعيدها بهذا الشكل الإنساني الجديد؟

- بطبيعة الحال، كان الظرف الاجتماعي والسياسي مساهم في بلورة هذه الروح في المواويل، سعيت لتصوير الإنسان. وهناك مواويل غير عادية قيلت في ظروف غير اعتيادية مثل موال (حسين بو رقبة) في مواله (نيران غدر الدهر).. بصراحة أنا سعيد بهذا البعد الذي أخذه التلقي الشعبي لموال (ياعبيد) الذي كتب أصلا لعبد الله بونوده، ولكن الكل اعتبر هذا الموال ملكا خاصا له، لقد أصبح هذا الموال حالة عامة، وهذا ما تحقق عندما غنى الفنان خالد الشيخ هذا الموال. كلما صار النص صادقا ومعبرا، صرت لا تنقل من خلاله الواقع، أنت تنقل الواقع الممزوج بك وبداخلك، فإذا كان فيه ما يلامس الناس سوف يعيش، وإذا كان فاقدا لذلك فسوف يموت . كم شاعر ظهر في عصر المتنبي، لماذا لا نتذكرهم مثلما نتذكر هذا الشاعر، لأن شعره هو الذي يظل حيا.

* ماذا يبقى أو يتبقى من الشاعر، بعد كل هذا العناء في معترك الكتابة، هل تبقى اللغة، روح الشاعر الملتبسة به. المتداخلة بهذا الجسد اللغوي الحي وهو يمتد ويتقاطع بين قصيدة وأخرى، وديوان شعر وآخر؟

- تبقى الحياة التي يصنعها الشاعر. الشاعر وهو يكتب الشعر يعيد خلق الحياة من جديد، ويعيد خلق الواقع، ويرتبه وينغمه، ويشكله حسب هواه ورؤيته. هذه الحياة التي يخلقها الشاعر هي التي تبقى لأنها تكون حياة مغايرة للحياة التي نعيشها، حياة ربما نتمناها، أو نعارضها أو نختلف معها أو مع حلمنا الذي لا يتحقق. خذ على ذلك قصائد قديمة مثل قصائد أبن الفارض في زمن آخر، نحن اليوم نشعر بأنها تخصنا، لأنه خلق من خلالها حياة. أنظر إلى ترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام، لقد صنع منها حياة أخرى رائعة. هذا ما يبقى من الحياة التي يصنعها الشاعر. نص لامس الناس ويظل يلامسهم، ويمكن أن يضيع اسم صاحبها ولكن يبقى ما يتركه لنا من حياة صاغها في نصوصه.

* منذ ديوانك الشعري الأول وأنت تدخل حريتك في قول شعري تميز بخصائص في فهم اللغة بشكل يتنافى مع زملاء التجربة، كانت القصيدة منذ (أنين الصواري، ومرورا بإضاءة لذاكرة الوطن، ووصولا بديوانك الأخير لا يتشابه الشجر) تأخذ حريتها الخاصة بها من ذاتها، ومن تقاطعها معك كونك إنسانا يتقاطع مع الحرية والتوق والحب والحلم، حتى أخذت في تجربتك الأخيرة اتجاها رومانسيا إن صح التعبير، كيف تدخل المغامرات الشعرية باختلافاتها؟

- العلاقة التي تتأسس بيني وبين الكائنات التي حولي والتي أتعاطى معها وأتعايش معها، هذا التحدي الذي يخترقني هذا الآخر وهو يجعل من نفسه هو وبعلاقتي به يستثير بداخلي المخيلة الشعرية، ويجعل مني كائنا مستفزا، عندما أكتب لا يخطر ببالي أن هذا رومانسي أو واقعي، أنا أكتب الشعر، وأعيشه والتبس به، حتى الرسائل القصيرة التي أبعثها عن طريق الهاتف صارت شعرا.
الشعر هو حياتي، لباسي، مشربي، أكلي، تعاملي، علاقتي بالكمبيوتر والورق، بالكائنات. الشعر ليس شيئاً استدعيه أو هو يستدعيني، لا هو يسكنني وأنا أتصرف من خلاله، الشعر موجود معي، رفيق لا يغادرني، حتى وأنا حاضر معكما الآن، الشعر جالس معي ويوجهني ويكلمني، ويوجه السؤال، الشعر موجود في كل لحظة، أنا معجون بالشعر.
بالنسبة للغة إنني أرجع الفضل الكبير لتمكني منها إلى أول حرف فصيح قرأته وكان ذلك في القرآن، وأنا فخور جدا بأن من علمني هذا امرأة وهي المطوعة (السيدة لطيفة بنت عبد الله بن سليم) التي أرجع الفضل الأكبر لها ، حين اعتنت بي عناية خاصة، إذ تشربت باللغة وانغمست فيها وكان هنالك في تلك الفترة مرحلتان لحفظ القرآن، وذلك يعتمد على (المطوعة)، فإن أنت قمت بحفظ القرآن بعد طول عناء انتهت بك عن هذه المرحلة، أما إذا أحست بأن لديك القابلية للتعلم أكثر، انتقلت بك إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة التجريد وهذه الكلمة تعني أن تجرد الكلمة من حروفها وتقرأها بالتشكيل الحركي حيث تقرأ رحل مثلا بالطريقة التالية: راء فتحة راء، حاء فتحة حاء لام فتحة لام، رَحَلَ، وبهذه الطريقة فإنك تقرأ الكلمة بحركاتها الصحيحة وبنطقها السليم، وقد أفادني هذا كثيرا في التقطيع الشعري، وفي اللغة السليمة، وأخيرا في الإحساس بالموسيقى، فمثلا: ( الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان)، ألا ترى أن في هذا شعرا؟

أنا إلى الآن أحفظ سورة مريم، حيث أنني وجدت بها موسيقى رائعة، وعندما أقرأ هذه السورة، أشعر ببهاء الشعر والموسيقى، وأشعر بعظمة هذا الخالق الذي أبدع في سورة مريم، من ناحية السرد ومن ناحية الموسيقى.
ببساطة يمكنني القول إن تعلم القرآن وحفظه أفادني كثيرا في الإحساس باللغة والنطق والفصاحة، وكان تأسيسي في الإلقاء عن طريق هذا البيان الكبير تأسيسا مؤثرا وله الدور الأكبر في كيفية إلقائي للكلمة ولفظي لها.

* ألا تعتقد بأن هناك ارتباطا متكاملا جدا في المجموعة الشعرية الواحدة لديك؟ فعلى سبيل المثال إضاءة لذاكرة الوطن، كان في فترة من الفترات بمثابة منشور سري.

- نعم، هذا ما تصنعه المرحلة، فكل مرحلة تصنع قصائدها، وأنت تعجن بها، وبعد ذلك تشعر أنك تنغمس فيها، ففي فترة السبعينيات كنا متلبسين ومتشبعين بالسياسة، لقد كنت الوحيد من الشعراء والكتاب الذي لم أنضم لأي تنظيم سياسي، حيث إنني كنت أرفض ذلك..

* لكن هذا لا ينفي وجود العديد من المحاولات لحسابك على جهة معينة أو تنظيم معين؟

- بالطبع، فقد كانت هذه المحاولات عديدة، لدرجة أن البعض قاطعني بسبب رفضي هذا لكني كنت أؤمن بأني فرس بدون لجام، أو سرج، وقد ظل هذا الإحساس معي وكنت أمينا عليه. أتذكر عند صدور عطش النخيل، نظمت أسرة الأدباء في النادي الأهلي جلسة لتقييم التجربة، وكانت ردة فعل الجميع تقريبا سلبية حول التجربة، لدرجة أن أحد الحضور، قال إن هذا الكتاب مجرد رسائل عشق يجب أن يهديه الشاعر لحبيبته، ولا يطبعه أو يوزعه، وبعد انتهاء المناقشة طلب مني أحد الحضور أن أرد وأدافع عن التجربة ، فقلت لهم، لا دفاع ولا رد لدي، كان الجميع مستغربا لردة فعلي، لكني أرى أني ما دمت كتبت يجب أن أكون صوتي أنا، لا امتدادا لصوت الآخرين.

* كيف تلتقي موهبة كتابة الشعر مع فن الإلقاء؟ نحن نمتلك شعراء رائعين، ولكن لا نملك شاعرا يقرأ شعره بالشكل الجميل. أنت أحد الشعراء القلائل إن لم تكن الوحيد، الذي يمتلك هذه الموهبة، كيف استعطت ذلك؟

- أنا أؤمن بأن كتابة الشعر العامي موهبة وكتابة الشعر الفصيح موهبة أخرى وموهبة الإلقاء موهبة ثالثة، يعطي الله هذه المواهب منفصلة للبعض ومجتمعة للبعض الآخر، فن الإلقاء له حالة خاصة، حيث إنه موهبة خام جدا تتعلق بحبال الصوت وفجوات الفم، ومدار التنفس، هذا شيء خلقي في البشر، وأنت لا تستطيع تعليم شخص فن الإلقاء إذ أن البعض يستطيع التعلم لكن مؤهلاته الخلقية لا تسعفه من صوت ونفس وقدرة على مواصلة الجملة دون انقطاع في الصوت، أضف إلى ذلك، مسألة الفصاحة التي تكتسب مع العلم، وأخيرا التدريب.
منذ العام 1965 م أقوم بتقديم برنامج إذاعي (ضما الأوتار)، وكنت حينها لا أعلم أنني أمتلك هذه الموهبة، هل تصدقان أن الممثل ''عبد الوارث عسر'' ألف كتابا أسماه فن الإلقاء من ستة أجزاء، وأنا تتلمذت على يده ؟ وفن الإلقاء يدرس في المعاهد المسرحية كمادة مهمة، وقبلها تقوم بدراسة فن التشريح، تشريح القصبة الهوائية والفم وغيرها، أنا تعبت على نفسي، فعندما اكتشفت امتلاكي لهذه الموهبة عززتها بالدراسة والتدريب..
أنا عندما كنت طالبا كنت أغلق باب غرفتي علي وأقرأ الشعر بصوت مرتفع، وكانت والدتي تنظر إلي من خلال باب غرفتي، وتقول إن ابني قد جن، كنت أحب قراءة الشعر بالصوت المرتفع منذ بداية مشواري مع الشعر، لا يكفي أن تمتلك الموهبة، بل يجب أن تنميها من خلال القراءة والتعلم والتدريب، فقد كنت أسأل من يدرسون المسرح من أصدقائي عن كتبهم التي تخص مجال الإلقاء وأستعيرها منهم.

* كيف تنظر إلى مستقبل المشهد الثقافي في البحرين في ظل تأسيس أكثر من مؤسسة ومركز يصبون في تحقيق وتنويع التعاطي الثقافي بشمولية عند البعض، مثل الملتقى الأهلي مثلا، وبخصوصية باتجاه الأدب عن أسرة الأدباء والكتاب. كيف تنظر لهذه المؤسسات وما دورها، خاصة وأن هناك مركزا وبيوتا تفتح رسميا، ثم تتحول إلى ملكية فردية دون فعاليات أو نشاطات بالشكل الطموح؟

- أرى أن هنالك المزيد من المراكز والمؤسسات التي ستفتتح وتنشأ وأتصور أن البحرين بحاجة إلى مثل هذه المراكز، لكن المشكلة أن هذه المراكز بحاجة إلى رؤية جديدة في النشاط الثقافي، حيث إن نشاطاتنا الثقافية هي ردة فعل لا فعل، فعلى سبيل المثال، هؤلاء أقاموا مهرجانا يجب أن نقيم نحن كذلك، وفلان، القامة المعروفة مرت بالجوار لم لا نستضيفها، لا توجد لدينا خطة ثقافية واضحة المعالم لحد الآن، وهذا خلل في الوضع الثقافي ككل، الأنشطة تقام عشوائيا، بما في ذلك أنشطة الملتقى الثقافي وأسرة الأدباء والكتاب.

سأعطيك مثالا على هذا الجمود، الآن تطرح مسألة قبول الآخر في المجال السياسي، لم لا نتحاور مع الثقافة الأفريقية، أو الهندية أو الفارسية وهذه الثقافات متجاورة معنا جغرافيا ومتداخلة معنا فكريا وفنيا، فعلى سبيل المثال نحن ندعي أن فنوننا البحرية تتقاطع مع الإيقاع الهندي، فهل قمنا باستدعاء دارس أو باحث هندي، أو أفريقي متخصص في هذا المجال حتى يفرز لنا هذا التراث وهذه الثقافة ونتعرف على أنفسنا من خلاله؟

لم نكرر ما هو موجود؟ الأمسيات الشعرية والسردية مهمة. والندوات مهمة، وكل المحاضرات التي تصب في الشأن الثقافي مهمة أيضا، لكن لابد من توجيهها، لابد من وجود خطة، فأنا في كثير من الأحيان أشعر بنقص، فكم عدد الهنود في البحرين، وكم تبعد فارس عنا ؟ لم لا نتداخل مع هذه الثقافات ونخلع النظارات التي من خلالها نفرز الأشخاص ونشك بهم وبنواياهم، هناك الأطماع الموجودة في المنطقة، لكن الفنون هي الفنون، نحن بحاجة لإعادة النظر في النشاطات الثقافية، وأن نتحاور مع هذه الحضارات والمجتمعات، كما فعل أجدادنا تماما، نحن نقول إن هناك تداخلا في الفنون البحرية مثلا مع هذه الحضارات، من أين جاء هذا التداخل إن لم يكن أجدادنا قد مدوا جسورا للتواصل في تلك الفترة مع هذه الدول من خلال التفاعل الصادق البعيد عن كل العقد والأطماع ؟

باختصار، نحن بحاجة لخطة ثقافية ولجهاز ثقافي مؤثر ومتخصص يستطيع أن يصنع ويفعل ما يجب فعله، نحن بحاجة لمزيد من المؤسسات والمراكز والإمكانيات لنبرز من خلال نشاطنا الثقافي بروزا جميلاً.

*؟ كيف ترى علاقة جيلك الأدبي بالجيل الشاب؟ هل هناك علاقة صحية وإثراء متبادل على الجانبين؟ ألا ترى ان الجيل الشاب يتقدم بتجارب متواضعة ولكنه يمشي مثل الطاووس. وهل تعتقد أن لدور النشر الالكتروني دور في هذا؟.

- علاقتي بالجيل الجديد علاقة ممتازة، إذ من خلال الملتقى الثقافي الأهلي والأسرة تكونت علاقة حميمة بهذا الجيل الجديد وأنا أرى أنني بحاجة لهؤلاء الشباب من هذا الجيل، حيث إنهم يشكلون المستقبل الواعد، والهاجس الجديد، وأنا بحاجة لمعرفة هذا الهاجس، وأن أتمثله وياليتني أستطيع إعادة خلق تجاربي من خلاله، بالطبع والنشر الالكتروني وسهولة الطبع والتواصل، قد خلق حالة من استسهال النشر، ففي وقتنا السابق لكي تنشر مجرد قصيدة يجب أن تخوض غمار قضية كبيرة، وكان نشر الديوان حلما في السابق أما الآن فإن توفر المبلغ انتهى الأمر وطبع الكتاب، أضف إلى ذلك أن هنالك التشرذم والشللية الكبيرة والملاحظة الموجودة الآن في الواقع الثقافي، والتي أتمنى أن تنتهي ليغدوا المشهد الثقافي أكثر بروزا وأكثر نقاء من خلال (شلة) واحدة قوية ومتعاونة.

الوطن-