حاوره بلوديف - فرنسا: حسن الوزاني

دي بريتويعتبر كازيميرو دي بريتو أحد أهم الشعراء الذين يطبعون المشهد الشعري البرتغالي في الوقت الراهن. ولا يبدو الوصول إلى ذلك أمراً يسيراً في مشهد كان خلال فترة طويلة مسكوناً بظلال شاعر كبير بحجم فرناندو بيسوا والذي يشبهه باعتزاز كبير ودال كازيميروا في هذا الحوار بقرية شعراء. لا يبدو كازيميورا دي بريتو، الذي يرأس فرع نادي القلم بالبرتغال، مشغولاً بذلك بقدر ما يهمه أن يعيش وأن يفكر كشاعر شاب رغم أنه يشرف على السبعين من عمره. نسج دي بريتو مساراً حافلاً بحضور متجدد ومستمر من علاماته حصولُه على عدد من الجوائز من بينها الجائزة الدولية لفيرسيليا عن دواوينه العشرة الأولى وإداراتُه لعدد من المجلات الأدبية كدفاتر “الخريف” و”فبراير” ثم ما حظيت به نصوصه من ترجمات إلى أكثر من عشرين لغة والتي كانت آخرها ترجمة ديوانه “لا سيد ولا عبد” إلى اللغة الفرنسية.

عشتَ داخل أسرة كل أفرادها أميون. كيف جئت إلى الشعر؟

- بالفعل، كانت أسرتي شبه أمية. لكن ذلك أفادني كثيراً. لأنني تعرفت، بفضل ذلك، إلى الشعر شفاهياً. وتلك هي الطبيعة الأصلية للشعر الذي كان في البداية إبداعا شفاهيا. ومنحني ذلك أيضا فرصة الإنصات لموسيقا القصيدة. ويبدو ذلك مهما لأن الشعراء الأولين انطلقوا من الإنصات للعالم ولتفاصيله من أصوات ألم وفرح وخوف.. وأعتقد أن بداية الشعر ارتبطت بالانتقال من هذا الإحساس إلى التعبير عنه. لقد قضيت طفولتي في بيت جدي بالقرية. وكنا نتحلق كل ليلة حول مائدة العشاء ليسرد كل واحد منا ما فعله خلال اليوم. وبالنسبة لي، كنت أتحدث عن التفاصيل الصغيرة. عن الشجر والماء والعصافير. وكانت طريقتي في الحكي تثير جدي خصوصا. ولعل ذلك ما شكل لاوعيي الشعري المبكر. وكان ذلك مهما بالنسبة لي. لأن القصيدة تقوم، بشكل عام، على ثلاثة عناصر أساسية وهي الموسيقا والمعنى والإحساس. والعنصر الثالث مهم جدا لأنه لا يتعلق لا بالموسيقا ولا بالمعنى وإنما هو أقرب من الألم. ذلك لأن الشاعر يشتغل على معاناة العالم ومعاناة المجتمع ومعاناة الفرد. والقصيدة هي إذن إنصات لهذا الألم ولكنها أيضا احتفاء بالفرح. ولذلك اهتمت قصيدتي دائما بهذه العلاقة العميقة والخفية أحيانا بين الموسيقا والمعنى وبين الإحساس بالألم الذي يُفترض أن تعكسه الكتابة.

أنت شاعر وروائي. كيف تتمثل حدود العلاقة بين مشروعيك الشعري والسردي؟

- لا أعرف ما هو عليه الحال في الدول الأخرى. لكن في البرتغال، أظن أن الشاعر حينما يكتب رواية فهو يبقى دائماً شاعراً، بالطبع مع وجود استثناءات. هناك دائما طريقة في الكتابة. وفي بلد كفرنسا، هناك روايات شعرية. وبالنسبة لي، أظل دائما شاعرا حتى في كتاباتي النقدية. وأعتقد أن التعبير عن عدد من القضايا الفكرية يقتضي أحيانا بطريقة لا يستطيع أن يمتلكها غير الشاعر.

أنت قريب جدا من قصيدة الهايكو. هل تلك طريقتك في الإنصات للتفاصيل الصغيرة التي يمكن أن تفلت من الملاحم الكبرى؟

- الحقيقة أنني أعتبر اقترابي من قصيدة الهايكو طفولتي الثانيةَ. وقد عشتها داخل فضاء علاقتي بالطبيعة وبمحيط منزل جدي، حيث كانت أحاديث والدي مليئة بالحكم. وبالنسبة لي، واظبت طيلة حياتي على البحث عن أشكال مختلفة للكتابة. وتحفل تجربتي بقصائد قصيرة جدا وبأخرى طويلة. أما علاقتي بالقصيدة اليابانية فقد بدأت سنة ،1958 وكنت حينها مراهقا في السابعة عشرة من عمري. وأذكر أن ناقدا برتغاليا كتب حينها مقالا يشبهني فيه بشاعر ياباني. وأخبرني آخرون بأن هذا الشكل من الكتابة هو شكل مسموم وعليّ أن أبحث عن طريقة شعرية أخرى. وبعد ذلك، التحقت بمؤسسة تعليمية أخرى وكنت سعيدا بأن أدرس الشعر الياباني الكلاسيكي، وكان أمراً مذهلاً بالنسبة لي أن أكتشف هذه التجربة الكبيرة التي كان لها بالغ الأثر في قصيدتي الشعرية. وهكذا، واظبتُ، منذ سنة ،1958 على كتابة قصائد قصيرة مع الاستمرار أيضا في كتابة أخرى طويلة. وعملتُ أيضا على تعلم اللغة اليابانية، غير أن ذلك لم يكن بدافع الاشتغال بالترجمة وإنما كان يرتبط بمتعة شخصية كبيرة. وبذلك، صارت القصيدة، بالنسبة لي، نصاً مُرَكَّزا. وحتى بالنسبة للقصائد الطويلة، كان هاجسي دائما هو البحث عن الأشياء الأساسية. ذلك لأن قصيدة الهايكو تقوم على ثلاثة عناصر مركزية. أولها مرجعيتها المرتبطة بالطبيعة وثانيها بحثها عن البعد الإنساني للعالم وثالثها خلق الإحساس بالمفاجأة. وأظن أن القصيدة العربية كانت دائما تحتفظ، بشكل عام، بهذه الخصائص.

بعد إحدى أمسياتك الشعرية بلوديف. حرص البعض على تقديم الشكر لك امتناناً للحظة الجميلة التي منحتَها للجمهور. غير أنك عقبتَ قائلاً: “أنا لم أفعل شيئاً بل قصائدي”. هل تشعر فعلاً بهذه الاستقلالية عما تكتبه؟

- هذا سؤال جميل وأشكرك على طرحه. طيلة حياتي، كتبت القصيدة انطلاقاً من فكرة أولية ترى في القصيدة بساطاً أبيض يتوجب علي أن أملأ مساحته بتفاصيل تكمن على سبيل المثال في الحب والحكمة وفي تأمل الموت. وبالنسبة لي كان تأمل الموت حاضرا منذ قصيدتي الأولى. كما يحضر الحب أيضا، حيث كتبت أكثر من ثمانين قصيدة خلال الأربع سنوات السابقة التي جمعتني بزوجتي الثانية والأخيرة. ولا أحب مصطلح “مجموعة شعرية” وأفضل الحديث عن قصائد تتكون من شذرات. ويحدث كثيرا أن أكتب نصا من مائة شذرة بينما أنشر نصفها فقط لأنني أواظب على الاشتغال على النصوص وعلى القيام بكثير من التعديلات. وهذه الشذرات المتبقية هي بالضبط التي أشعر بأنها جزء مني وهي التي يمكن أن يجد فيها القارئ أيضاً جانباً من أحلامه ومن رغباته. وأعتقد أن صعوبة الكتابة الشعرية تكمن في كونها تفترض أن الشاعر يقدم نصف القصيدة فقط أما النصف الثاني فيكتبه القارئ.

تابعت دراساتك في لندن وأقمت خلال فترة من الزمن في ألمانيا، كما أنك زرت عدداً كبيراً من الدول. ما الذي يمكن أن يمنحه السفر للشاعر؟

- بالطبع، وجودي خارج البرتغال كان لدواع مختلفة. فمتابعتي لدراستي في لندن كانت بسبب بدايات الحرب التي كانت تعيشها البرتغال. وقد سافرت للندن من أجل دراسات صيفية لمدة ثلاثة أشهر ثم قررت البقاء هناك لمدة، حيث اشتغلت في بيع بعض الأشياء الصغيرة. ثم عدت للبرتغال لأنني صرت حينها مقتنعا بأنني سأنجو من التجيند بعد ازدياد وزني بلندن. ثم اضطررتُ إلى اختيار ألمانيا كمنفى خلال سنوات اعتبارا للمضايقات التي كنت أتعرض لها من طرف النظام البرتغالي الحاكم حيث لم يكن وضعي كمسير لبنك يمنعني من اعتناق أفكار ومواقف معارضة للسلطة القائمة. الآن، أسافر باستمرار. بل إن الوقت الذي أقضيه خارج البرتغال يفوق ما أقضيه داخلها، حيث اعتزلت العمل الوظيفي وأتفرغ بشكل تام للكتابة الشعرية، كما أن لدي رغبة كبرى في معرفة العالم وفي الاقتراب من تفاصيله الصغيرة ولكن أيضا في استعادة حرية أفتقدها في حياتي اليومية بالبرتغال، حيث لا أكون مجبرا، أثناء لحظات السفر، على الإجابة على هواتف الأصدقاء ولا قضاء أغراضهم. أنا لا أحب الحياة الاجتماعية بشكل كبير. ولذلك أحتفظ دائما لنفسي بلحظات خلوة، حيث يحدث أن أقضي ليلة بيضاء في حالة وجود مشروع كتابة يشدني إليه.

تُرجمت قصائدك إلى أكثر من عشرين لغة. ما الذي يمنحه هذا السفر للشاعر ولقصيدته؟

- بالطبع أنا لم أبحث عن ذلك. وبالبرتغال الآن حوالي عشرين شاعراً يكتبون نصوصاً متميزة وأعتقد أنني واحد منهم. كما أظن أنني الشاعر الثالث أو الرابع بالبرتغال من حيث عدد الأعمال المترجمة. وفي جميع الأحوال، لا يهم أن أكون الأول أو الثاني. وبالطبع لا يجب هنا أن ننسى أهمية تجربة فرناندو بيسوا على مستوى فتح آفاق جديدة أمام ترجمة الشعر البرتغالي إلى العديد من اللغات. لأن قراءة شعر بيسوا تفتح بالتأكيد شهية القراء لقراءة غيره من الشعراء البرتغاليين. وبذلك، ليس من المدهش بتاتا أن توجد نصوصي، على سبيل المثال، بأكثر من مائة أنطولوجية عبر دول العالم.

تبدو راضياً على المشهد الشعري البرتغالي الراهن. هل يمكن الحديث عن خصائص مشتركة لتجاربه؟

- يصعب الحديث عن خصائص محددة للشعر البرتغالي اعتبارا لتعددية تجاربه واختلافها. لقد كانت بداية القصيدة الحديثة مع فرناندو بيسوا والذي كان يكتب مستعملا العديد من الأسماء المستعارة بشكل يبدو معه كقرية شعراء! وذلك هو وضع الشعر البرتغالي الحديث. ويحكم هذا الاختلاف بالتأكيد حتى شعراء الجيل الواحد. وهو ما كان حالنا داخل مجموعة “بويسيا 61” التي كانت تجمع خمسة شعراء من نفس العمر تقريبا. وثمة الآن حركة متواصلة وشعراء شبان جدد، مع الاستمرار في الاختلاف نفسه. وأعتقد أن هذا الاختلاف هو جوهر الشعر. لأن الشاعر الحقيقي يجب أن يمتلك لغته الثانية التي تحقق مغايرته عن الآخرين وهي اللغة التي تتأسس على إنصاته العميق لأصوات طفولته ولإحساسه بالفرح والألم ولمختلف تفاصيل عالمه الخاص.

لديك أكثر من صديق من بين الشعراء العرب. هل مكنك ذلك من الاقتراب من الثقافة والشعر العربيين؟

- أعتقد أن علاقتي بالثقافة العربية هي بالضبط علاقة أغلب ساكنة جنوب البرتغال بها. وهي علاقة تأسست على تأثر تاريخي واضح ببعض ملامح هذه الثقافة. وهو تأثر شمل أيضا جوانب من الحياة اليومية خصوصا في المناطق القروية بالجنوب. وفيما يخص الشعر العربي، قرأت بعض الأنطولوجيات الشعرية العربية المترجمة ولي معرفة بخمس أو ست تجارب شعرية. وبالتأكيد، إن معرفتي بالشعر العربي تظل غير كافية بتاتا. ولدي رغبة أكيدة في الاطلاع على تجارب أخرى لأن الأمر يبدو مهماً بالنسبة لي اعتباراً لقيمة هذا الشعر.

كتبتَ “كل قصيدة هي اختزال للعالم”. هل تملك القصيدة هذه القوة؟

- لكن لا يجب أن ننسى أيضا أن العالم أشبه بحيوان جموح يرفض أن يُختزل كما كتبتُ في نفس القصيدة التي اخترتَ منها البيت. كنا نعتقد، خلال الستينات، أنه بإمكاننا، نحن الشعراء وليس القصيدة، أن نغير العالم. وبعد ذلك، نبهتنا واقعيتنا الجديدة إلى أن الذي يمكن أن نغيره هو الأشياء الصغيرة. والقصيدة بالضبط هي التي يمكن أن تغير ذلك. وقد تُغير عبر هذه الأشياء العالمَ. لأن كل شيء صغير هو مركز للعالم كما هو الأمر بالنسبة لحياتي أو حياتك.

لكنك تبدو منشغلا بالموت في كثير من نصوصك؟

- سأقول لك أمراً مهماً لم يسبق لي أن صرحت به ويمكنك أن تنشره. لدي إحساس بأن ما يربطني بهذا الوجود هو أمي التي تقضي أيامها بدار للعجزة. وبرحيلها سأكون متحرراً من أي التزام تجاه الحياة.

ستنتحر؟

- أكتب ذلك. وأحب أن يكون ذلك في البحر.

*****

قصائد لكازيميرو دي بريتو

ترجمة: حسن الوزاني

تسجيل

أنا خط أرسم
بجسدي.
الطريقُ حيث أضع رجلي
تنمحي بمروري.

حوار

التقيتُ بحكيم. علمني الصمت
لم تكن أسئلتي تحتاج لأجوبة في حضوره.
كانت أسئلتي جوابا مطلقا
لأنها لم تكن تفرق بين السائل والمجيب.

الآخرون

الآخرون الذين يعيشون برفقتي
مثقلون بالحاجيات وبالخوف من الغد.
الآخرون الذين يعيشون برفقتي
يتاجرون في الأشياء والأفكار والأحاسيس
كمن يغير معطفه كل يوم.

أنا وحدي هادئ وصامت

لأنني لست في حفلة على الجبهة
ولست أحتاج أن أبتسم
لأحد ولا أن أعنّف أحداً.
الآخرون الذين يعيشون برفقتي
يركضون في كل الجهات من دون
أن يهتدوا للطريق
أما أنا فلا أعدو مطلقاً.

ربما أنا جاهل

ربما أنا مجنون
ربما لست غير مرآة
لا ترفض شيئاً ولا تحبسه
غير أن الآخرين الذين هم برفقتي
مثقلون بالحاجيات وسيفنون لا محالة
لأنهم لا يدركون أنهم يحملون في دواخلهم
المزهرية والبذور.

قِط

قطي حكيمٌ
غيُر مكترث.
ينصت بانتباه
لأصغر قطرة مطر
غير أنه لا يدرك بأن الخريف قد حل.

اجتياح

إذا كنت تريد احتلال بيتي
فَهُو لك.
لن أقاوم أبداً من أجله
لأنه لا يستحق ذلك.

أملك بيتاً آخر

لن تستطيع اجتياحه
أقصد بيتاً يحميني.
البيت الذي أُعيد تشييده
داخلي.

الخليج
2006-10-30