لأنّ الكتابة سعي باتجاه مفهوم أو أفق مُغاير

أنور بدر
(سوريا)

إبراهيم أصلاندمشق القدس العربي جاء الروائي المصري إبراهيم أصلان في أول زيارة له إلي دمشق ليُشارك في افتتاح دارة الفنون، عبر أمسية للشهادات الروائية، شارك فيها لروائي السوري ممدوح عزام.
وقد تحدث أصلان عن تجربته في الكتابة، وعلاقته بالرواية، مما أغري بحوار خاص في اليوم التالي لاستكمال المشهد الذي مهد له في شهادته قائلاً: أنا دخلت عالم الرواية مُصادفة، إذ كنت اكتب القصة القصيرة، وكانت تتصدر المشهد الثقافي في الستينات، اجتماعات يوم الجمعة التي كان يحضرها نجيب محفوظ ومجموعة من الأصدقاء، بعضهم رحل وبعضهم ما زال حيّاً، يحيي الطاهر عبد الله، أمل دنقل... ومنهم من استقال من الكتابة ومنهم من استمر، وكان نجيب محفوظ مُهتماً بالقصص القصيرة التي أنشرها، حتي لاحظ تغيبي عن لقاءات الجمعة، وعرف أنّ ذلك بسبب عملي في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية، قسم البرقيات الخارجية، إذ كنت أشتغل وردية ليل، فسارع إلي كتابة تزكية كي أحصل علي منحة سنة تفرّغ، كما كتبت لطيفة الزيات وكتب صلاح عبد الصبور، وحصلت علي منحة تفرغ سنة قابلة للتمديد، وبدأت تظهر الأخبار في الصحف، أنّ إبراهيم أصلان حصل علي منحة تفرّغ كي يكتب رواية، فنفيت الخبر مؤكداً أنني كاتب قصة قصيرة، لكنه اتضح لي أنه لا يوجد تفرّغ للقصة القصيرة، وأنّ التفرغ يعني أن تكتب رواية أو مسرحية أو بحثا طويلا، فقلت: ما دمت حصلت علي التفرغ، فلا توجد مُشكلة، سوف أكتب رواية.
وأضاف أصلان: إنّ ما ساعدني في ذلك، أنّ القصة القصيرة التي أكتبها بالأساس لم تكن استجابة لمنبه منفصل عن حالة عامة، بل كانت مجموعة القصص عبارة عن استقصاءات داخل هذه الحالة، بحيث أنّ المجموعة القصصية قابلة لاكتساب شخصية مُستقلة، حتي لو تباينت الموضوعات بداخلها، لأنّ المناخات العامة لكتابة هذه القصص تمنحها وحدة عامة.
وتصادف أنّ هذا الكلام كان أواخر الستينات، وكان السادات قد بدأ عملية الانفتاح الاقتصادي، وإغلاق مجموعة كبيرة من المنابر الثقافية، وكنا قررنا مُقاطعة المجلات رافضين النشر داخل مصر، كي لا نعطي عملية التغيير التي حصلت في مصر أي مشروعية، وبالتالي كان لدي وقت مُتاح لكتابة شيء أكبر من القصة القصيرة.
كما أنني في كتابتي للقصة القصيرة لا أبدأ بمفهوم أو معني أسعي لتأكيده عبر النص، لأنّ الكتابة سعي باتجاه مفهوم أو أفق مُغاير، وليس معني ذلك أن أبدأ من فراغ، بل من إحساس أحاول التعرّف عليه. وأنا مُتيقن أنّ الحقيقة الفنية شأنها شأن أي كائن آخر لا تحتاج إلي بُرهان لإثبات وجودها.
وبدأت كتابة مالك الحزين وهي تجربة مُختلفة، لأنني كتبتها بمزاج كاتب قصة قصيرة، ولا أحكي حكاية مُتماسكة، بل أعتمد علي تفاصيل ومحاولة تجسيد أجواء، مع اهتمام بالحس الجغرافي للعمل ومعرفة تفاصيل المشهد حتي لو لم أكتبها، وهكذا بدأت صياغة استكشاف للمجال الجغرافي الذي تتحرّك فيه هذه الرواية أو هذا الكتاب، وكانت المادة متوفرة، فأخذت أسعي نحو إحساس ٍ أو نحو هدف ٍ مُعيّن. ثم جاء دور المونتاج وهو عنصر أساسي في كل الفنون، مع إدراك أنّ كل مونتاج سيؤدي إلي نتائج مختلفة عن مونتاج آخر، والكتاب (لأنني عبر هذه التسمية توصلت لحل العلاقة ما بيني وبين ما أكتبه باعتباره كتاباً) أخذ سنوات طويلة جداً ما بين الكتابة والتوقف وإعادة العمل أو المونتاج، فترة وصلت لعشر سنوات تقريباً، اكتشفت خلالها أنه يوجد شكل كامن في هذه المادة يُريد أن يسفر عن نفسه، وهو جديد بالنسبة لي، وبالتالي بالنسبة للمتلقي، وهو يُشبه عمل النحات الذي يتعامل مع قطعة من الحجر وفق تصوّر ما لديه، بينما نحات آخر يستشعر عبر العلاقة الحميمة بينه وبين الحجر أنّ كائناً ما أو شكلا ما داخل هذا الحجر يُريد أن يتحرر منه، وتكون مهمة النحات المساعدة علي إظهاره، أو إتاحة الإمكانية لتحرّر ذلك الشكل الكامن داخل الحجر، حتي لو جاء غير مُتلائم مع قواعد التشريح.
المسألة الأخري أنّ ذاكرتي بالأساس ذاكرة بصرية، وعلاقتي بالكتابة هي بحث عن إمكانية استخدام الحواس من نظر وشم ولمس .. الخ، والكتابة ليست الوسيط الأمثل دائماً لتقديم ما هو مرئي، ويبقي الحل في أن نتعرّف علي الإمكانيات البصرية الموجودة والمتاحة في وسائط أخري، لأنّ اللغة عندي تشكل ولعاً باللحظة الآنية، أي لحظة وقوع الحدث، وهذا يُمكن للوحة أو المشهد السينمائي أن يُرينا إياه، ويمنحنا القدرة علي تأمل هذه التفاصيل في علاقتها مع بعضها البعض. بينما في الكتابة لا يكون حاضراً بنفس القوة وفي مُجمل تفاصيله، لذلك أتمهل داخل المشهد محاولاً رصد العلاقات ما بين الأشياء، أو الحوار فيما بينها والذي يرصد أو يؤشر لنمو الحدث، والنبرة أو الصوت المهيمن دائماً هو صوت الغائب صاحب هذا المكان.
وأضاف أصلان أنه في تعامله مع المادة يحسّ في لحظة ما أن الكتاب تكون بسرعة وبشكل مفاجئ وجميل، لكنّ هذه اللحظة تغادره بسرعة، وبسبب ذلك فإن المادة تبقي بحاجة مستمرة لليقظة في التعامل ولعمليات مستمرة من المونتاج، حتي يبدأ الشكل الكامن في هذه المادة يسفر عن نفسه، وينتهي الأمر عند هذا الحد.
وعندما يكون الكاتب مشغولاً بهذه التفاصيل، يجد نفسه مدفوعاً للبحث عن سند في مظاهر الحياة العادية من حوله، وكلي إحساس ويقين أنّ إمكانيات التواصل حولنا مبذولة ومتاحة، وأنّ كل الحركات الفنية هي سعي لمضاهاة صيغ التواصل المتاحة في الدنيا، وصيغ التواصل متاحة عبر الإيماءة أو نظرة عين. وكل ما هو يوميّ نستطيع أن نستخلص منه طاقات جمالية وشعرية ومساحات للإبداع.

القدس العربي
2006/06/01