( "مرثية الماء" أثبتت أن شكلا شعريا جديدا طالما جرى التشكيك في مشروعيته استطاع استيعاب الموروث الشعري)

حاورها : إبراهيم الحميد

فوزية أبوخالدبقدر ماتعبر تجربة الدكتورة فوزية أبو خالد عن نفسها بكثير من الصور انطلاقا من تجربتها المميزة في الكتابة والإبداع لمختلف أشكال الكتابة الإبداعية بقي الشعر هو الغواية الأولى واللون الأدبي المفضل للشاعرة فوزية .
فمنذ انطلاقتها الشعرية عبر مولودها الشعري الأول ظلت فوزية وفية للشعر تخرج من خزانتها المليئة بالأسرار والأسئلة قصائدها التي تلون المشهد الشعري وتزيده تألقا .

غنت في قصائدها وفاجأت قراءها بلغة رشيقة معبرة في بعض قصائدها وجاءت بقصائد مكثفة حينا وبقصائد مطولة أحيانا أخرى ، تجيء حاملة في قصائدها كل الذكريات الحميمة، لتستعيد الخنساء وكأنها ترثي بقصائدها كل الأعزاء الذين افتقدناهم في مرحلة ما من حياتنا لنعود معها لنتذكرهم ونعيش معهم في حلم لاينتني مع قصائدها .

وبالرغم من تجارب الشاعرة الإبداعية التي تتجاوز الشعر إلى كتابة المقالات السياسية و الإبداعية و الكتابة للأطفال أثرنا أن نتحدث في حوارنا إلى الشاعرة الكبيرة الدكتورة فوزية أبو خالد عبر مفاصل التجربة الشعرية وتحولاتها لديها ، والمرحلة الفاصلة بين ديوانها الأول"إلى متى يختطفونك ليلة العرس" وديوانها الأخير "شجن الجماد " لكونها أهم التجارب في حياة الشاعرة و كونها السمة التي ميزت مسيرتها الإبداعية و طبعت صورتها على خارطة الشعر و على الخارطة الثقافية في المملكة والوطن العربي كرائدة لشعر النثر .

وفيما يلي نص الحوار :

*مفاصل التجربة الشعرية وتحولاتها عند فوزية أبو خالد كيف تنقلت ، وكيف ترين هذه المرحلة الفاصلة بين ديوانك الأول " إلى متى يختطفونك ليلة العرس " و ديوانك الأخير " شجن الجماد " ؟ .

اسمح لي أن أسمي ماتسميه أنت بتمرحل تجربتي الشعرية من ديواني الأول إلى ديواني الأخير الذي ليس بأخير بإذن الله بتحولات الريح أو رحلة الحفر في جوف الصحراء ورمالها بحثا عن مفاجأة الماء. وإلا ما ذا يعني أن تتجرأ بنت في الرابعة عشرة لم تمد رأسها بعد خارج حجر هضبة نجد وجبروت سلسلة سروات الحجاز لتسأل ذلك السؤال الوجودي والاجتماعي الإشكالي إلى متى يختطفونك ليلة العرس لو لم تكن أحصنتها قد اكتسبت ملكة الجموح في تلك العمر المبكرة عبر مواجهة الارتحال في فلوات غير مأهولة إلا بالمخاطر وشجاعة غرة لمخالفة قانون الجاذبية ولمخاتلة جبروت الجفاف. لعل منا من يتنكر أو يستسلم لمكر الذاكرة عندما نحاول أن ننسى أو نتجنب قيافة أثر تلك العلاقة المشيمية بين مايحمله الشعر في مراحله وأشكاله المتعددة من شهوة الماء وبين إرثنا في حفريات الارتحال حيث الهبوب وليس الاناخة, والسفر وليس الاستقرار والقافلة وليس القبيلة هي الوطن , وحيث السؤال وليس الإجابات المسبقة أو اللاحقة هو بوصلة قياس سرعة الريح واتجاهاتها إن أمكن ودرجة الندى في التراب.

فلولا دهشة السؤال التي تزداد أوارا وتوهجا وحرقة كالزيت في النار كلما تعرضت عربة العمر لمزيد من الملاحقات ماذا كان سيدفع أو يشفع لامرأة صهرتها حرائق الحبر إلى اقتراف شيطنة البنات واستراق السمع لشجن الجماد. كانت مرحلة إلى متى يختطفونك مرحلة الأحلام التحررية الكبيرة التي حاولت بجسدي الطفل النحيل المزاحمة للمشاركة في حملها مع جيل الأمهات والآباء مع ماحاول جيلي إضافته من الملح والجرح على تلك الأحلام. ولهذا فلربما يمكنني وقد صار ت تفصلني عن ذلك الديوان العديد من السنوات أن أحمل نفسي على التأمل فأميل إلى الظن بأن قصائد ذلك الديوان ربما لم تخل من التنكر حينها لمرحلتي العمرية بانشغالها بأسئلة المرحلة التاريخية في بعدها الثقافي والسياسي ولهذا فلربما لم يكن الاختيار المتعمد والمعاند لكتابة قصيدة النثر في ذلك الوقت الذي كانت تعتبر كتابتها وخاصة في مجتمع مثل المجتمع السعودي خروجا على المقبول والمستتب إلا تعبيرا عن انحيازي في الشكل الشعري على الأقل لرؤية لاتصدع لغير طموح أو بالأحرى جموح ذلك الجيل الذي ودع طفولته على فجيعة النكسة . وإذا كان ديوان قراءة في السر قد خرج من معطف رعب الاجتياح الإسرائيلي للبنان وبركان الحرب اللبنانية وذهول العالم العربي وصمته أمام وقع الكارثة فجاء يحمل هذيان وصمت الصدمة بتشظي تلك الأحلام الكبيرة وانشكاك شظاياها في حبالنا العصبية فإن ديوان ماء السراب حاول الاستشفاء من الخيبات وهيبتها التي حاصرتنا من احتلال الكويت إلى إطباق التحالف على رقابنا في محطات أسلو وملحقاتها بالترياق المستحيل وهو حرية الشعر ليس إلا فهل تظن أفدح من مطلب تلك الحرية.

*يلاحظ المتابع لنصوص فوزية خلال مسيرتها الشعرية مما يمكن تسميته بالغموض الشعري في البدايات من خلال ديوانك الأول "إلى متى يختطفونك ليلة العرس" ثم "ماء السراب" ثم "مرثية الماء" وصولا إلى "شجن الجماد" حيث يفاجئنا الديوان بحميمية ولغة شفافة تصل بشكل واضح للقارئ .. فهل تولد هذا نتيجة نضج شعري وهدم يقين كان متأثرا بشعارات الحداثة في مراحل سابقة أم ان ذلك نتاج تجربة حياتية أم ماذا ؟!

هل يحاول هذا السؤال أن يمكر لي أو بي أم انه يُسائل العبور العابر للحداثة الإبداعية بمضارب القبائل المنقسمة بين الاستقرار وبين الارتحال المتأرجحة بين ما كان وبين ما قد يكون. كأنك بهذا السؤال تقدم لي صكا مفتوحا على طريقة الشيك المفتوح لأوقع براءتي من الحداثة أو براءة الحداثة مما أبيح من دم شعري . وهذا كما تعلم ليس فعلا يليق بطيش الشعر إذ أنني لا أرى في الحداثة تهمة يجب دفعها أو التنصل منها. وموضوع الحداثة سواء ما اقتصر اختزالا على الحداثة الإبداعية أوما شمل الحداثة بمعناها الابستمولوجي والاجتماعي وسواء اقتصرنا تناوله كمنتج غربي أو فككنا بعض مكوناته كمنتج ذا بعد حضاري في علاقتنا الإشكالية به هو موضوع لا يمكن تضييق زاوية طرحه في الغموض الشعري. ثم أن هناك التحولات التنظيرية لما بعد الحداثة التي تتأسس على عملية المحو المتعمد للحدود الفوقية التي طالما حكمت وحاكمت الفضاءات الثقافية المختلفة. ولست أدعي محايدة محوها . على أنه وبعيدا عن كل ذلك أو قريبا منه أسمح لي أن أسجل إفادتي المباشرة على سؤالك وهي أنني لم الحظ يوما أن شعري في دواويني الأولى كان يتسم بالغموض كما أنني لا أظن أن شعري في دواويني اللاحقة يتسم بالوضوح أو حتى بتلك الشفافية التي قد ترشي القارئ لأول وهلة ولكنها كأي غلالة رقيقة لفعل عشقي شرس ما يلبث أن يجرفنا على حين غرة في اللحظة التي قد نظن أننا نمسك بزمامه بينما ليس من زمام له. وفي هذا فإن شعري في السابق وألاحق إن صح أن أقول رأي حوله يحاول ألا يكف عن التحولات وألا يفرط في حس المغامرة ومباهجها الشفيفة والغامضة معا.

*للماء حضوره عند كثير من الشعراء كما هو لدى سعدي يوسف بحيرات وأنهار وعند بعضهم يأتي الماء بصور مختلفة .. إلى أي المصبات تفيض المياه عند فوزية أبو خالد من ماء السراب إلى مرثية الماء ؟! ..

منذ طفولتي يتكرر الماء في أحلامي وكوابيسي في الصحو والمنام بعدة أحوال فمرة يكون ينابيع عسل ومرة يكون سم فوار , مرة يكون شلالات لبن تخرج من جوف الصحراء , مرة يكون غدير خجول , مرة يكون طوفان خطاف , مرة يكون بحرا ومرة يكون بئرا ليس لها قرار أو قربة ماء , مرة يكون مطرا ومرة يكون نوافير تندفع تارة من الصخر وتتلوى تارة أخرى مع تموجات السراب. وأستطيع أن احدد بالصوت والصورة ارتباط كل شاردة وواردة في حياتي من مشي الأول إلى يومي الأول بالمدرسة إلى ليلة عرسي وأشهر حملي إلى صباحات انتصاراتنا العربية الشحيحة أو لواعجي الشخصية أو عتمة الهزائم العامة بانهمار الماء.

فالماء امرأة والماء وطن والماء دورتي الدموية في شعر امرأة لاتستطيع وإن عاشت في المدن أن تخرج على عشق المفاوز والفلوات وأفلاك البيداء.

*في مرثية الماء كنت ترثين أخوك محمد بتلك القصيدة الطويلة التي شكلت كامل الديوان في تجربة من التجارب القليلة إن لم تكن النادرة في إدخال باب الرثاء بهذا النفس التفجعي الطويل إلى شعر قصيدة النثر. فهل أردت بقصيدة النثر أن تضاهي شعر الخنساء العمودي الجزيل في القدرة على الرثاء كما فعلت الخنساء مع أخيها صخر؟
وهل يمكن أن تكشفي لنا موقع أم محمد في قصيدة مرثية الماء حيث لم يفارق محياها ذلك الديوان من صفحة الغلاف الأولى إلى ما بعد الصفحة الأخيرة؟

أحمد الله أن هذا السؤال السيامي من أسئلتك المسنونة قد لا يكون من الممكن فصله جسديا دون ضمانات أن لا تعمل أي جراحة يتعرض لها على فصل التعالق الروحي بين حدي السؤال.
أنك في الشق الأول من السؤال تطرح تساؤلا كثيرا ما وجهه إلى عدد ممن قرؤا الديوان قراءة نقدية لم يكفها الانشغال بالديوان كقصيدة وحسب بل حاوره على ما يبدو كحالة شعرية محملة باحتمالات جديدة لاكتشاف مجاهل لم تكن مطروقة من قبل كالرثاء مثلا. بما يفصح عن طاقات كامنة في قصيدة النثر لا تحد فضاءاتها على تعاطي اليومي والعادي وتحويله إلى شعر كما أكتفي بكتابتها وقراءتها في ذلك الحيز عدد من الشعراء والنقاد.
وقد يكون السؤال مرده نوع من السرور السري الذي قد يساور بعضنا حين نحس أن شكلا شعريا جديدا طالما جرى التشكيك في مشروعيته استطاع أو يستطيع استيعاب بعض من موروثنا الشعري باستيعابه لبعض أو كل أغراض الشعر التقليدية المعروفة تاريخيا كالمديح والهجاء أو الرثاء. على أنه لا بد من ملاحظة أن السؤال ليس سؤال مضاهاة قصيدة الخنساء العمودية في الرثاء بقصيدة نثر في نفس الغرض ولكنه السؤال الوجودي والشعري والإنساني الذي دون أن يأبه كثيرا بمواقف النقاد الموضوعي أو حراب الحراس المنحازة ليس له إلا أن يعيد طرح نفسه ممتشقا رؤى وأشكالا جديدة للسؤال . أما ما أتطوع لأجيبك عليه مما لم تسألني عنه مباشرة ولكنه جاء سؤالا مفخخا في هذا الفرع من السؤال فهو السؤال النسوي في قصيدة الرثاء سواء ما كتبته الخنساء أو ما كتبته فوزية ابوخالد في مرثية الماء.

ودون أن أخوض في فلسفة السؤال وفروضه المضمرة أقول لك ببساطة إن ملكة الشعر في الرثاء بما يتعلق بهذا السؤال تحديدا ليست حكرا على النساء أو الرجال لأن حس الفقد وقسوة الفراق ليست مشاعر تخضع لمعايير النوع الاجتماعي(أنوثة وذكورة) ولكنه قد يكون في هذا الموضع بالذات من التمييز الايجابي الذي انعم به الله على المرأة رغم ما تنعرض له طوال دهور من التاريخ الاجتماعي من تمييز عنصري سلبي, إذ حباها الله وحدها بأن تنعم بملذات وعذابات الحمل والولادة والقدرة على البكاء أو التفجع والتعبير بحرية عن الذات على ما في ذلك من فعل إنساني جميل ونبيل. ولأزيدك من الشعر بيت فإن هذه القصيدة لم يكتف بمقارنتها بقصيدة الخنساء بل جرى ربطها بمراثي فدوى طوقان لأخيها إبراهيم طوقان كما سمتني بها الصحافة العُمانية "خنساء الجزيرة العربية الجديدة" عندما ألقيت لأول مرة بمهرجان الخنساء الشعري بمسقط في عُمان 1999م, وكان مهرجانا شعريا ضم عددا كبيرا من الشاعرات العربيات , فدوى طوقان / فلسطين , لميعة عمارة / العراق , ملك عبدالعزيز وعلية الجيار مصر , فوزية السندي/البحرين/ سعيدة خاطر/عُمان وبحضور عدد آخر من الشاعرات والشعراء. وقد طرحت تلك المقاربة والتسمية بسؤال: كيف لم يستعصي على النساء في أي من القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر تحويل الرثاء إلى حالة شعرية إنسانية؟

أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال فأعلم أن أم محمد هي من كتب هذه القصيدة بأعقد وأشف وأقسى وأصعب وأشرس وأرق مما جاء في ديوان مرثية الماء بملايين المرات. وأم محمد لم تكتب هذه القصيدة بعتمة الحبر أو ضوء شاشة الكمبيوتر كما فعلت, ولكنها كتبتها بمطر عيونها وبدماء أوردتها وشرايينها الدقيقة , كتبتها بشموخها وبسجودها , كتبتها بنخاع عظمها وبهواء رئتيها ,كتبتها بصحوها وسهرها, بسواد يأسها وببوارق آمالها في الشاب المسجى على حجرها عشرين عاما , الناهض من أحلامها بعدد أوقات الشروق طوال عقدين من الزمان. فهل رأيت ريشة يُكتب بها الشعر أمضى وأشد رهافة من ريشة النزال السرمدي الشرس بين الموت والحياة.

لقد كتبت في أحد قصائد ديواني ماء السراب إهداء لأمي قلت فيه: "إلى نور التي انتحلتُ شعرها وحزنها وأحلامها لنفسي وكتبتها قصائد باسمي". ولذا فلربما كان نوع من القصاص الذاتي أنني أصبت بعد مصاب محمد بجمود حجر أصم فلم استطع أن أمارس مع أمي العاب الخفة تلك التي كنت أسطو بها على شاعريتها وأنسبها لي فلم أبكي ولم أكتب شعرا طوال 3 سنوات بعد رحيله غير بعض المسودات البائسة . ولهذا ففي ديوان مرثية الماء لم أستطع إلا أن أترك أمي تحرك روحي وأوراقي وأصابعي كما تحرك عاصفة طاغية الأشرعة في محيط مائج متجبر فتجري جسدها واندلاعات روحها في الأبجدية وتذهب بي أبعد مني. ومع ذلك لم تكن قصيدة مرثية الماء على رمزية موت الماء إلا تشبها بأم محمد في ملحمة صبرها وزهوها وهي تهاتفني بعد ان أغمضت عينيه بيدها وتقول بصوت يحمل رهجة الهزيمة والفوز معا لقد حرر الله محمد فاحضروا لتزفوه معي.

* في قصائدك وجع دفين وإيحاءات بعيدة تختزل تجربة عميقة وحياة متعددة ومعاناة .. من أين تنطلق هذه القصائد؟

تنطلق هذه القصائد من ملح الأخيلة ومن خبز الحياة وببماء.وابل السرية الممزوجة بماء . كما تنطلق من كثير من تمارين الروح الشاقة ورياضة الكتابة المهلكة. هذا عدا عن قبس الرمضاء وسموم السياسة وشهد الدهشة من حيوات وحالات عشق لم نعشها بعد كأن تلمح جناح فراشة مغموس في الشمع او في حوض زهر فهل لا تظن إن هذه الخلطة المحيرة ليست كافية لتعطينا أرغفة الشعر او توهم وهجه.

* بدأت تجربتك الشعرية في مرحلة عمرية مبكرة وأظهرت نبوغا قل نظيره ..ما الذي أوصلك إلى ذلك؟

أستحي من جرأة هذا السؤال على هذا الإطراء, ولكن ربما ما أوصلني لذلك في ذلك الوقت المبكر هو أسرة لم تمنعني إن لم يكونوا نور وعبدا لله وعمتي طرفة وموضي وعمي محمد وعمي عبدالعزيز وخوالي هاشم وعلى وحمزة وجداتي سارة وعائشة وأخواني وأخواتي محمد و فيصل وحسن وأحمد ونوال ونها ومشاري وانوار وبؤبؤ عيني عبدالرحمن وحسناء قد اجتمعوا جميعا على تشجيعي على كل أشكال العشق الضارية. فمن عشق تراب هذه الأرض وعشق الجمال والعدل إلى عشق الكلمة و القراءة وعدم التردد في التمرد على الجمود أو البقاء على الحياد من حركة الحياة. كما لا أنسى دور معلمات من مدرستي المدرسة الابتدائية الخامسة بحي الرويس بجدة ( أبلة نها العبوة) ومن مدرستي المتوسطة الأولى ( أبله مواهب وأبلة مهجة من مصر وأبلة ابتسام السقا ونبيلة الخماش من سوريا) و(أبلة أحلام عزب من فلسطين. وكذلك دور صديقات الطفولة ومطلع الشباب وإن بشكل غير مباشر ولكن تلك العلاقات كانت تمدني بمساحات للركض البكر في فلوات الحب والصداقة والعلاقات الإنسانية الحميمة التي هي نسغ الشعر وخميرة الاشتعالات ومن رفيقات المدرسة أمل خوجة وفاتن كيال ونورة الجميح ونوف ومنيرة الفارس وسميرة أسعد وفريال جاد الحق ونور المحضاروأميمة الجوهري وعفاف باحارث ولميا باعشن ونورة السديري وزينة طفولتي مزنة المحمود. ولن أنسى في عمري الكتابي المبكر تشجيع محمد حسن عواد لي والشيخ حسن آل الشيخ ومحمد حسين زيدان وحسين سرحان وعبدالله جفري ومحمد الشدي وفاتن شاكر وخيرية السقاف وحمد الجاسر. ففي الصندوق القديم الذي تحتفظ لي فيه أمي بعدد من دفاتر التعبير ومقالاتي الأولى في الإبتدائي والمتوسط توجد رسائل سخية كتبوها لي بخطوطهم السامقة قبل أن أغادر مقاعد المدرسة.
وليس لي إلا أن أشكر هذا السؤال اللماح أو الفضاح الذي جرني وورطني من حيث لا ادري في الدخول الحميم إلى سجل صفحة خلتها طويت فإذا بها حية مورقة بماء الذكريات الأولى لمسرتي الشعرية والكتابية.

* كيف تفسرين العلاقة بين شعرك وبين الصور التي تنحتينها على شكل قصائد وماهي العلاقة بينها؟

هل تظن ان هناك علاقة بين "وادي عبقر" وتلك الأطياف والأشباح والأرواح الشريرة أو الهامات المتظلمة التي تهيم في بطاحه فتزعزع سكونه بأزاميلها ومزاميرها وتحول صمته إلى ورش عمل وعشق صاخبة أو هامسة تقيم على وقعها بين عرائش العشرق والخزامى والعرفج في قاعه السحيق مواكب الأعراس و الجنائز تلك التي يتسامع الناس عنها بين مكذب ومصدق بينما لا يعرف حقيقتها ولا يطلع على أسرارها إلا القوافل العابرة لكمين ذلك المكان بعد منتصف الليل أو بعض من بهم مس أو عندهم طاقات خارقة على مآخات الجن؟

لو كان أي كان يستطيع أن يجيب بإيجاب نهائي أو يعطي إجابة قاطعة على السؤال أعلاه فإنه عندها فقط سيكون ليس لي إلا أن أحمل سؤالك محمل الجد وأبدا في محاولة البحث في السؤال.

إن سؤالك سؤال صعب فالصورة الشعرية اعقد من تلك اللقطات التي لا يظهرها إلا التحميض في الظلام وإن كان لا يمكن تبسيطها أيضا بتلك العملية الخاطفة التي تقوم بها الكاميرا الرقمية في تحويل مقاطع الصورة لونا وحركة إلى منحوتات متحركة في أقل من لمح البصر دون أن يجرؤ ضوء أو عتمة على محوها.

* ما الفارق الذي كان به ديوان قراءة في السر يحمل شعرا صارخا متفجعا في قصائد طويلة بينما جاء ديوان ماء السراب يحمل قصائد مكثفة تتدفق برفق وعمق وكأنه شعر لا يريد أكثر من أن يهمس بهسهة الرمال؟

الفرق على المستوى الشخصي هو فارق عمري وعلى المستوى العام هو فارق تاريخي بمعناهما الابستمولوجية والاجتماعي السياسي. كما أنه فارق في أفق وأدوات الإبداع الشعري كتعبير عن الاستقلال النسبي للتجربة الإبداعية نفسها عن محددات المكان والزمان وفي اشتباكه النازع إلى الحرية في العلاقة بهما وعدم التسليم بضيق شروطهما. فعلى مستوى تاريخي كان ديوان قراءة في السر خارجا من لحظة تحولات صادمة على المستوى العربي شكلت درامية التشظي والانكسار العربي فيه سنة 82م إضافة نوعية مرعبة على ما عرف بنكسة حزيران عام 67 م بما تمثل في الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وفي توسيع مساحة ذبح الحلم العربي من الوريد إلى الوريد أي من المحيط إلى الخليج وفي تحويل بيروت من عاصمة للثقافة العربية الحديثة وواحة من حرية وبحر للمثقفين العرب بمختلف التيارات الفكرية والإبداعية إلى مدينة للكوابيس والقناصة وأشباح تلوح ببشاعات الحرب الأهلية على الهوية. كما ان ديوان قراءة في السر على مستوى شخصي كان منبعثا من أتون مرحلة عمرية كانت لاتزال مشبوبة بالتجربة الطلابية لتلك المرحلة من الاعتصام والمظاهرات والعنفوان والرؤى المتمردة.

أما ديوان ماء السراب فرغم أنه صدر بعد حرب الخليج الثانية وتلك الانقسامات القاصمة التي ضربت العالم العربي ورغم أنه جاء بعد تجربة اجتماعية وسياسية وثقافية موجعة تعرضت لها شخصيا وتعرض لها جيل عقد كامل من المثقفين كادت تحيل تعدد طيف الأصوات الإبداعية لتلك المرحلة إلى لون الرماد أو إلى رماد , فإنه قد جاء أيضا بعد تجربة الأمومة والعمل الأكاديمي والبحثي وبعد أن صهرتني التجربة بأسئلة العلاقة بين الحرية الاجتماعية للإبداع وبين حرية الإبداع نفسه. فلم أفعل في ماء السراب إلا محاولة جارحة لاستعادة تلك البنت التي كان يلبسها القرين إلى القرين وأطلق أفراسها بغير سروج في براري الصحراء تسابق حلمها في الحرية. وإذ يقولون أن شدة القتال تصقل الأسلحة فقد كان لي بعد تجربة ديواني الأول والثاني أن أدخل حواسي في أفق جديد لقصيدة النثر. ولا أظن أنه يصعب على المتابع لتجربتي الشعرية أن يلحظ ولعي بالتجريب بمعناه الفني وشغفي المتعمد في في طرق أفاق ودق أبواب من الصور والمواضيع والموسيقى لم يجر دخول قصيدة النثر إليها من قبل. فهل من يلومني إذا كتبت فأفليت وأنا بنت الفيافي ورفيقة رشا شاردة وشموس معاندة.

* من الشعراء الذين أحببت شعرهم وماهي التجارب الشعرية التي استوقفتك .....وفي رأيك من هو الشاعر الذي لم يأخذ حقه ؟

كثير جدا جدا الشعراء الذين أحب شعرهم . من طرفة بن العبد الذي اكتشفت به مبكرا حرقة ظلم ذي القرب والخنساء التي جرى دمعها إلى ركبتيها مدرار وعنترة الذي ود تقبيل السيوف وامرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة وزهير بن أبي سلمى والشريف الرضي ومالك بن الريب ناهيك عن المتنبي الذي تعلق قلبي بشعره تعلق فتاة غرة فلم تعلمني الأيام والتعرف على التجارب الشعرية الفارعة عندما شببت عن الطوق إلا مزيدا من الافتتان به إلى هموروس وعمر الخيام وناظم حكمت وبوشكين ولوركا ويتييس ونيرودا وسلفيا بلاث وفولتير ووليم وليم واليزبيث موزرال ورستالا إلى عدد من شعراء الشعر الحديث بالوطن العربي وبالمجتمع السعودي .
من نازك الملائكة والسياب وقباني وعبدالصبور وفدوى طوقان سلمى الجيوسي لميعة عمارة حمدة خميس أندريه شديد أمل جراح جمانه حداد أشجان هندي أمل موسى لينا الطيبي ظبية خميس سعدية مفرح هدى الدغفق وغيداء المنفى ميسون صقر إلى المقالح أدونيس قاسم حداد محمود درويش أحمد دحبور غسان زقطان راشد عيسى ممدوح عدوان محمد الماغوط عباس بيضون أمجد ناصر نوري الجراح سليم بركات عيسى مخلوف عبده وازن سيف الرحبي زاهي وهبه علي الدميني محمد الدميني أحمد فقيه على فقيه غسان الخنيزي الثبيتي وعبدالله الصيخان غازي القصيبي وآخرين بطبيعة الحال. هذا بالإضافة إلى الشاعر بدر بن عبدالمحسن الذي وإن كان يعد شاعرا نبطيا فإنني أعتبره شاعر من شعراء الشعر الحديث إن لم يكن بطبيعة الحال على مستوى الإيقاع فبدون شك على مستوى العلاقة باللغة والقدرة المبدعة على مباغتتها بالمفردات والصورة والعلاقات الجديدة بها وبما تعبر عنه.

والحقيقة أنه قد يبدو من المضحك لي على الأقل أن يورطني هذا السؤال في أن أعدد كل هذه الأسماء "المعروفة" وكأنني استعد لنعي ذاتي ولكن لتكن نوع من التحية لمن ذكرت ولمن لم أذكر من الزملاء الأموات منهم والأحياء.

هناك بطبيعة الحال عدد وإن كان ليس كبيرا من التجارب الشعرية التي استوقفوني وتستوقفني (كتجارب شعرية وليس كقصائد وحسب ) وبعضها يمتد عبر العصور وقد نمى بعضها معي وفي داخلي في تداخل وتشابك حميم للأزمنة ولعدد من الشعراء ممن لم أكتفي بقراءة شعرهم بل عكفت على الشغف بها ومنها تجربة الشاعر قاسم حداد في تجلياتها المتعددة بما فيها إطلالتها الإلكترونية المبكرة.

أما سؤال من من الشعراء لم يأخذ حقه فإن هذا السؤال من تلك الأسئلة التي إما إنها تريد ان تقض مضاجع النقاد أو أنها تريد أن تخوض في جروح الشعراء وأرى أن أقرر به ان أضع حدا وأتوقف عن المضي في التواطؤ مع وسواس هذه الأسئلة وسحرها أو غيها.

عن مجلة الجوبة


إقرأ أيضاً: