واحد من أهم الأصوات الشعرية العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي، وبقي لما يقارب الخمسين عاماً من أكثر الشعراء العرب غزارة وتنوعاً في الإنتاج، فبالإضافة إلى الشعر كتب للمسرح والسينما، ولا تقل كتاباته النثرية أهمية عن كتاباته الشعرية، وبقي طوال حياته كاتباً وشاعراً إشكالياً ومتمرداً، وحاد المزاج في رؤياه السياسية، ولاذعاً في نقده للأنظمة العربية الشمولية، حصل على العديد من الجوائز العربية كان آخرها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية.
الماغوط خص جريدة "الخليج" بهذا الحوار وفتح قلبه التعب لها بعد أن لزم الصمت لسنوات عديدة أمام وسائل الإعلام المختلفة، استقبلني في منزله وهو في حالة صحية صعبة، كان خلال حديثه المتقطع بعبارات كنت ألمّها بصعوبة يجلس تارة ثم يعود إلى الاستلقاء ثم ينحني حائباً وكأنه يبحث عن جلسة تهدأ فيها أوجاعه، وهكذا كانت حركته تتبعثر وترتجف يداه، كما كانت ترتجف "سيجارته" التي لم تفارقه طيلة حياته، وصوته المتهدج الذي كان يبحث أيضاً عن وتر أو نغم تسكن فيه حروفه الضائعة، هنا نص الحوار معه:
* نادراً ما ذكرت الشرطي في قصائدك لكنه يبقى بطلها بامتياز، هل ما زال الشرطي يقف سداً بين روحك والانطلاق بعيداً؟ وهل ما زال يقف خلف الباب، أم أصبح ساكناً لروح الإنسان الشرقي المستلب؟
- نعم ما زال يقف ولن يزول أبداً، والشرطي كما أراه ليس شرطاً أن يكون ذلك الرجل الذي يرتدي ثياب الشرطة، ربما يكون أي شيء، جمعية أو شيخاً، ما عدا المتعارف عليه بلباسه المعهود.
الشرطي لم يكن سداً بل كان حافزاً على الإبداع، فالشرطي الآن هو أمام الباب وخلفه وعلى يمينه ويساره حر في كل مكان، فأنا أستخدم الشرطي في إبداعاتي، وإنني على استعداد لاستخدام أي شيء آخر في الإبداع من أجل الإنسان والحرية، فأنا لا أحب الخمول بل أحب الصراع، ولكن النجوم عندنا ليست حرة طالما هي مراقبة من الأجهزة الأمريكية.
* جرى مؤخراً سجال ملفت حول نتاجكم الأخير، فالبعض رأى فيها تكراراً للذات وغير ذلك، هل الشاعر نتاج للمعاناة أم المعاناة حالة ملازمة للشاعر الحقيقي بحكم حساسيته المفرطة بغض النظر عن المعاناة المباشرة واستمرارها؟
- أنا لا أفسر، ولا أشرح. أنا من أكثر الكتّاب العرب صدقاً وبساطة، وأصل إلى الناس بسهولة عن طريق الشعر، وإن لم يكن عن هذا الطريق فليكن عن طريق المسرح أو التلفزيون أو الإذاعة وهكذا.
إن دروبي عديدة للوصول إلى القارئ لأنني أعلم أن محمد الماغوط من أكثر الكتّاب الذي يقرأ له الناس، فالعالم العربي كله قرأ كتابي "سأخون وطني" وكان من أكثر الكتب قراءة في فلسطين والسجون "الإسرائيلية"، والعديد من المناضلين والمجاهدين، وكان أبرزهم المناضل الراحل الشيخ أحمد ياسين الأب الروحي لحركة حماس الذي كان حريصاً على متابعة كل أعمالي ونتاجاتي. مع كل ذلك لو أنكرني الجميع، سأظل كما أنا ولن أغير أو أبدل كلمة واحدة أو أعدل في أسلوبي.
* هل حقاً أن ما كتبته في البدايات كان تعبيراً عن حالة نفسية نتيجة ظروف اجتماعية وسياسية تأثرت بها وأثرت بها في آن في وقت كانت فيه كل الجماهير العربية تتطلع إلى صوت جريء يجعل من الديمقراطية والحرية عنواناً لإبداعه؟
- لقد كنت ضد منطق الغوغاء منذ صغري، والهزائم التي لحقت بالأمة العربية على جميع الصعد تثبت هذا، كان حلمي الوحيد أن أتزوج ابنة عمي أو ابنة خالتي أو جارتي لنعيش بأمان، لكن الظروف كلها كانت ضدي وضد رغبتي إلى أن وصلت بي الحال إلى السجون والقهر والجوع والتشرد، لقد أصبح الحزن قدري وتحول كأي مهنة تلازمني كل دقيقة.
* لماذا أنت حزين إلى هذه الدرجة؟
- في أوائل الخمسينات وعندما كنت داخل مقهى "الهافانا" بدمشق وهو ملتقى الكتاب والشعراء آنذاك دخل سعيد الجزائري رئيس تحرير مجلة "النقاد"، وكان برفقته الشاعر نزار قباني الذي كان يرغب بالتعرف إلي، فاقترب مني الجزائري وقال موجهاً كلامه إلى الشاعر قباني هذا هو محمد الماغوط - فوجه لي التحية وقال لي بالحرف الواحد: "أنت شاعر كبير وستبقى كبيراً ولن تنتهي"، وقد بكى على كتفي ذات يوم، وقال: "أنت أصدقنا وأبرأنا".
* الشعر ليس مجرد رسالة حب أو "مانشيت" سياسي بل هو رؤية للحياة، وفي شعركم ألاحظ بأنكم عكستم في كثير من الأحيان رؤية تجمع بين عبثية الموت والحياة وتجعلهما متساويتين في حالة الاستلاب التي تعيشها مجتمعاتنا حتى لتكاد بعض قصائدكم تصور الأمر مجرد لعبة؟
- ليس عندي أي شيء في الحياة لعبة وأنا لم ألعب بالحياة ولم أعبث بها وما من صدفة في الحياة حتى اسم صدفة في فيلم الحدود كان مدروساً، ولكن فليكن في علمك أن هناك فرقاً بين الارتزاق والافتعال والصدق.
هل يمكن اعتبار العبثية موقفاً قائماً بحد ذاته؟
ممكن للبعض ولكن بالنسبة لي، لا. أن الحياة بقدر ما هي ساخرة هي جادة. وعلى كل حال لكل إنسان قدره.
*في لحظات الانكسار التي تمر بها الأمة العربية وحالة الخراب الذي بدأ يعصف ببلادنا أرضاً وإنساناً. من أين يستمد الشاعر قوة الإرادة للاستمرار في الكتابة؟
- من الصدق والمثابرة شرط أن يكون الشاعر نظيف اليد والعقل والعاطفة. وما من شيء رخيص في هذه الحياة حتى حبة البذار ثمنها باهظ في بعض الأحيان.
* بعودة المنطقة العربية إلى المربع الأول من احتلالات مباشرة وسيطرة وهيمنة وتسلط من الدوائر الغربية. هل سنرى عودة الشعر إلى المربع الأول في حقبة الاستقلال حيث المباشرة والحماس؟
- الشعر دائماً في المرتبة الأولى ولن يتراجع أبداً وهو الأول والأخير إن كان مربعاً أو مستطيلاً.
* يأخذ البعض على الشعر العربي الحديث بأنه يعطي الأولوية للمضمون على حساب التقنية. ما قولكم في هذا؟
- في الشعر الجيد المضمون والتقنية أخوة، ثم ليس هناك "شعر ولا شعر" فأنا ضد التصنيفات.
* كرست كل كتاباتك للحرية، بعد هذا العمر هل بت تمتلكها؟
- نعم أمتلكها إلى حد ما طالما أكتب ما أريد وأحلم كما أريد، طبعاً هناك ثمن باهظ وقد دفعته بكل نبل وإخلاص. ثم باختصار، أنا مع القضايا الخاسرة حتى الموت كما أشار إنعام الجندي في إحدى مقالاته النقدية.
* دمشق لم تغب يوماً عن إبداعك، ولكن بعد استقرارك فيها بعد طول ترحال، فهل ما زلت تحمل ذات الألق لقصيدتك؟
- دمشق ملهمتي في الكتابة فعلاً حتى ابنتي اسمها شام، لكن دمشق التي أعطيتها صدري أربعين عاماً لا أجرؤ أن أعطيها ظهري ثانية واحدة.
* كيف للمبدع أن يشتغل بالسياسة دون أن يؤثر ذلك في مساحة الحرية التي يحتاجها من أجل مواصلة إبداعه؟
- أنا لا أعمل بالسياسة المباشرة ولا أتعاطى معها، نحن كلنا ضحايا الضجر الأمريكي.
* ما آخر أعمالك؟
- لي أعمال جديدة ستصدر قريباً وهي بعنوان "البدوي الأحمر" وهي عبارة عن نصوص جديدة تتناول كل شيء.
وصدر لي مؤخراً مجموعة بعنوان "شرق عدن غرب الله" تتناول كثيراً من القضايا العربية. وآخر عمل مسرحي لي هو "قيام، جلوس، سكوت". وأول عمل لي هو مسرحية "المهرج" وكان عمري نحو 34 سنة.
* لقد فزت بجائزة العويس للشعر. كيف وجدت ذلك؟
- إن فوزي بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية للشعر كان مثابة تكريم لي. وهي أدخلت السعادة في قلبي، وإن هذا الفوز هو فخر لي وللثقافة العربية، وهي دليل قاطع بأن هناك أناساً ما زالوا يهتمون بالكلمة الحلوة.
كما حصلت على جوائز أخرى مثل جائزة "سعيد عقل" وجائزة "النهار" لقصيدة النثر وجائزة "احتضار" 1958.
الخليج- الشارقة
26- فبراير- 2006