حاورته: زينب عساف
(لبنان)

قاسم حداد"هل تعرفين أحداً يرغب في النوم مع تسعة ذئاب في سرير واحد؟". بهذا السؤال الإنكاري ختم الشاعر البحريني قاسم حداد حواري معه. كان يجب أن أجيبه: نعم، ذئب عاشر. "ما أجملك أيها الذئب: جائع وتتعفف عن الجثث"، عنوان كتاب حداد الأخير الصادر لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وربما ذريعة لا نحتاجها  للقاء مؤسس "جهة الشعر" التي تعتبر من أبرز المواقع الثقافية العربية على الإنترنت.

عشر سنين، أو ربما عشرة ذئاب بلغة الشاعر، مرّت على انطلاقة هذا الموقع. وأكثر من عشرين كتاباً على انطلاقة شاعرنا. بين "البشارة" (1970) و"ورشة الأمل" (2004) تمتد تجربة غنية لشاعر قرّر وضع "الشعر في مكانه"، حين أنشأ في العام 1996 الموقع "كنموذج يقدّم الشعر العربي الحديث بترجماته المختلفة، بالإضافة إلى اهتمامه بالشعر العالمي في أكثر من خمس لغات، والشعر المترجم إلى العربية". وعلى الرغم من كون مادة عالم الإنترنت الافتراضي معطى علمياً خالصاً، إلا أن حداد رأى فيها "ضرباً من الشعر، بوصفها تتصل بمستقبل لا يمكن تفاديه، وخصوصاً إذا جاز لنا الحلم بأن الشعر هو الذهاب إلى المستقبل، أكثر منه مراوحة في الواقع أو مجرد نوستالجيا عقيمة".

في تلك المسافة الغامضة التي يتقاطع فيها النص والضوء والصوت والصورة ولا نهائية المخيلة، وضع حداد الشعر، راصداً تحوّلاته، ومستخلصاً مقترحات تأسيسية تصلح لبلورة تجربة الشعر العربي مع الإنترنت، أبرزها: أهمية الصدور عن الأفق الكوني منذ اللحظة الأولى وتجاوز أوهام المحلية والإقليمية وقيودها، الحاجة إلى تطوير مفهوم التعددية اللغوية في الشبكة من فكرة النص العربي المترجم إلى لغات أخرى في اتجاه حضور النص الشعري العالمي بلغاته وترجماته المختلفة، أهمية التجاور الحميم بين شعراء من مختلف الأجيال لحظة النشر على الشبكة، الإدراك النقدي أن حضور الشعر في الشبكة لا يجوز اقتصاره على مراكمة النصوص الشعرية فحسب، والعناية بالأجيال الجديدة من الشعراء والثقة بمواهبهم. حول ذلك، ربما أكثر، وربما أقل، "استجوبتُ" الشاعر. ضاق ذرعاً بأسئلتي حيناً، وصبر عليّ أحياناً كثيرة. المهم، ربحتُ حواراً.

إذا كان لنا الابتداء من العنوان الجميل واللافت لكتابك الجديد، "ما أجملك أيها الذئب: جائع وتتعفف عن الجثث"، هل لي أن أطرح السؤال الآتي: ألا تعتبر أن جمع المقالات في كتاب مجازفة؟

- مجازفة، وها أنا في الهزيع الرابع من هذه المجازفة: "نقد الأمل"، و"ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر"، و"له حصة في الولع"، كل كتاب كان مغامرة أن يذهب الشاعر إلى القارئ بالجناح الآخر من التجربة، لكي يتيقن من جدارته أن يحلّق بالأجنحة كلها، بالكتابة قاطبة، بما لا تخوم له بين النثر والشعر، بكل ما يتاح للشخص من تجليات النص في الكتابة. لِمَ لا، لن تحلو لي تجربة إن لم تكن على قدر من هذه المجازفات. لكن، دعينا نتأكد دائما هل كانت هذه الكتب "مقالات" بأي معنى. أهي مقالات، من فعل القول الأدبي والقول الفني، أم مقالات بالمعنى الصحافي للكلمة؟ بالنسبة إليّ، منذ الباكر في هذه المغامرة، لم أكن أتوقف عند حدود الوصف المستقر لمعنى "المقالة". فعندما ذهبت إلى الكتابة الأسبوعية في الصحافة لم اذهب خضوعا لشرط الصحافة، لكني ذهبت بشرط الشعر، حتى أصبحت الصحيفة تقبلني بهذا الشرط خصوصا، فأكتب ما أحب بالشكل الذي أحب. وهذا شرط في شخص الشاعر آن للصحيفة أن تتفهمه وتستدعيه، ويطيب لها ذلك ايضاً. وبناء عليه فإني اقترح دائماً أن نسأل الكتاب عن مضمونه (ومقالاته) قبل أن نفترض مسبقا كونه ضرباً من مجرد إعادة نشر مقالات. ودائماً سيكون في المغامرة جزء من النجاة، بحسب مولانا النفّري.

لاحظتُ كثرة الإهداءات في هذا الكتاب، كما في أعمالك كلها. ما الذي يريده شاعر أو كاتب من خلال تلك الإهداءات الكثيرة؟

- الكتاب الأخير خصوصاً، جعلته كتابا لأصدقاء على التعيين. الكتاب عندي هو جامع محبة وعواطف، وعرس يلذ لي أن لا أبتكره وحدي. ثمة وحشة في الكتاب حين يكون مغلقاً على صاحبه. الأصدقاء هم أرواح شريدة تقدر الكتابة على جعلها قرائن الروح المستوحشة. كلما شاركني صديق في نص أو كتاب أو قصيدة، شعرت بأن ثمة ما يسعف روحي ويمنح كتابتي فسحة نوعية من الجنة. وكلما اتصلت الإهداءات بالشخصي في الصداقة، صارت لها نكهة تقصر عنها المجاملات، وتضاهي الولع. لديّ أصدقاء كثيرون أحب فعلاً أن أهديهم حصة من كتابتي اعترافاً بجمالهم في روحي. وهم يستحقون ذلك فعلاً. من المؤكد أني سأفعل هذا دائماً.

أشعر أن في أعمالك ما يشبه "الخصخصة" بين الشعر والنثر، بين العام والشخصي، بمعنى أن الشعر هو ميدان ذاتك، بينما النثر حصة الآخرين. "ورشة الأمل"، على سبيل المثال، الذي رويت فيه سيرة مدينة المحرّق محاذراً الدخول في حميمياتك؟

- أنتِ تصدرين من افتراض مسبق يفوّت عليك فرصة التأمل الأعمق في نصوص الكتاب الأخير والكتب السابقة. قلتُ قبل قليل إني لم أذهب إلى الكتابة بمثل هذه "الخصخصة" التي تشيرين اليها. ثم أن هذا الوصف يربكني فعلاً. المهم. إن قراءة أخرى لكتاب "ورشة الأمل" كفيلة بكشف القدر العميق والواضح من التداخل والمزج التعبيري في لغة الكتاب، حيث الشعر يخترقه ويتجلى في تصعيد تعبيري، وأذكر أن أحد أجمل فصول هذا الكتاب قد نُشر في جريدة "النهار" قبل صدوره. على ذلك كله، لا افهم معنى أن يكون الشعر هو للذاتي والنثر هو للعام والآخرين. الآن، وبعد كل هذين العمر والتجربة، لم يعد مثل هذا الفصل موضوعاً قابلاً.

 تقول ما معناه إن الحكمة في ما يفعله الشاعر إنما تكمن في عدم الوثوق بأي شيء، هل حكمة الشعر هي الذعر حقاً؟ ما الذي نقوله، تالياً، في فكرة الشاعر الرائي، أي ذلك الذي وقّع ما يشبه العقد بينه وبين المستقبل؟

- حديثاً كتبتُ هذا النص: "لا تثق/ وأسأل الشكَّ/ وأمشِ على شوكهِ". وقبل ذلك بسنوات، قلت فعلاً إني أكتب لأني مذعور. ترى ماذا يعني بالضبط تعبير "الشاعر الرائي"؟ ليس كل شاعر هو رامبو، مثلاً.  كما أن رؤى كل تجربة في كل شاعر لا بد أنها تقترح روحاً خاصاً في التفاصيل. التفاصيل التي هي الشيطان شخصياً. ففي خضمّ العدد الكبير من التجارب والأصوات الشعرية المتهمة بالتشابه والتناسخ، علينا، في عمق التأمل النقدي البارع، أن نبحث عن تفاصيل الروح الشخصي في تجربة كل شاعر. أما العقد "الفاوستي"، إذا صح التشبيه، بين الشاعر والمستقبل، فهو أحد أجمل الأوهام التي نستخدمها كذرائع من أجل تأجيل فضيحة المستقبل الذي ندّعي ذهابنا إليه. ليس ثمة مستقبل على وجه التعيين يمكننا الزعم به أمام الآخرين. لسنا محكومين بمستقبل ما.
شخصياً، قلت منذ سنوات طويلة إني اشعر بالارتباك كلما سمعت كلمة "مستقبل" لفرط غموض هذه الكلمة. ففي سياقنا الحضاري العربي (في القرون الثلاثة الأخيرة) ليس ما يتصل بالثقة في ما يسمّيه غيرنا مستقبلاً. نحن هنا لسنا فقط ممنوعين من الذهاب إلى المستقبل، لكننا، خصوصاً، محرومون من الحلم به. حتى الشعر والفن مصابان بقدر مذهل من الإعاقة عندما يتعلق الحلم بالمستقبل. أيّ حكمة تسعفنا للثقة، مجرد الثقة، بشيء لا يغدر بنا؟

البورتريه الذي رسمته لنفسك في نص "قاسم حداد... تقريباً"، بدأته بالوقوف أمام المرآة قبل أن تستعين بالعديد من المرايا، ألا يمكننا أن نسألك استطراداً عن مسألة العمر، وعلاقتك مع جسد جاوز عتبة الخمسين، وخصوصاً أنك استتبعت النص بآخر، هو رسالة كتبتها للشاب قاسم حداد؟

- "جسدٌ يهوي/ فتنهره الروح"، هذا ما كتبته منذ أكثر من عشر سنين. وكتبت أيضاً: "جسدي جحيمي". ثمة ما يضعني في مهبّ الحرج دائماً عندما يتصل الأمر بالجسد والعمر الافتراضي له. مشكلتي أني كنت طوال الوقت لا أشعر بالزمن الفيزيائي الذي يتلاشى في الخلايا. وهذا ناتج من كوني لم أحسن التصرف بوصفي أباً لأبناء يكبرون أمامي، ثم بعد ذلك لم أفهم كيف يمكنني قبول فكرة كوني جداً، مأخوذاً بحفيدة مدهشة تكبر كل يوم في رعايتي. هذا كله يحدث كما لو أنه يحدث لشخص آخر أرقبه بقدر قليل من الاكتراث. ورغم تصاريف الظروف التي مررت بها وانسحق جسدي تحت وطأتها، فإن ذلك أيضا لم يدفعني للاعتراف بالسنوات التي تقارب الستين بعد نصوص قليلة. ترى، كيف يتسنى لي أن أفهم سؤالك على الوجه المناسب، ثم بعد ذلك كيف أستطيع أن أجد له جواباً ماكراً يتجاوز الفيزياء والشعر والتفاصيل؟

علاقتك بالإنترنت لا تختلف في قربها و"حميميتها" عن علاقتك بالمحرّق. اليوم، وبعد مرور أكثر من عشر سنين على إنشاء موقعك البارز، "جهة الشعر"، ما طموحات هذا الموقع وخصوصاً أننا نشهد انطلاقة جديدة له؟

- أن أجد أصدقاء يتولعون معي بهذا الموقع، ويساعدونني مبكرا ويستعدون مبكراً لمواصلة العناية بالموقع وتحمل مسؤوليته وبلورة تجربته بما يتناسب مع مستقبلهم. فقد تعبت. تعبت فعلاً. وأصبح قلقي يتضاعف على مصير الموقع عندما أستأذنه للذهاب. "جهة الشعر" في حاجة حقيقية لمن يواصل العمل على استمرارها. وأرجو أن لا يكون هذا طموحاً مبالغاً فيه. هل تعرفين أحداً يرغب في النوم مع تسعة ذئاب في سرير واحد؟

النهار
18 مايو 2006