و ليست خلاصًا بحدِّ ذاتِها

حاورتها: نوّارة لحرش

سوزان عليوانتتميز الشاعرة اللبنانية " سوزان عليوان" بنفس شعري مغاير لما هو سائد في الحركة الشعرية العربية الحداثية ، نفس مأخوذ بالدهشة الوامضة ،وبالشفافية الوارفة، فعلى امتداد النبض الشعري نكتشف سوزان المبدعة بحرفية فنيّة عالية التقنيات ،نكتشف القصيدة الوردة/المودة،القصيدة الحياة /البهاء ، القصيدة الوطن /السماء والإنتماء ،والكون السابح في أرخبيلٍ من أبجدية الحنان . كون محظوظ تمام الحظّ لأنّه يحظى بأمومة عاطفية وإنسانية فاخرة ،هي أمومة سوزان الشاعرة الشفافة في نبضها وبياضها تجاهه وتجاه مواسمه .
سوزان التي تكتب الوجع بمفردات تأخذ شكل الدمعة ونكهة الحنين بلغة مرفرفة آخذة ً يقين الحبّ ويقين الإنسان كأبجدية باذخة الحس الوجداني / الإنساني / بصور موحية موجزة لكنّها وافية في طرحها الجمالي الإبداعي ، مفرداتها تصدم بشدة رؤوفة لتوقظنا من سبات البلادة ومن سبات الركود الوجداني ،إنها توقظ فينا أيضا عصافير الحياة وفراشات إنسانيتنا التي كثيرا ما تغفو في زحمة المشاغل اليومية و زحمة اللامبالاة المتكررة ، باختصار نصوصها عبارة عن " مسيرة نور وشموع وفراشات".
في رصيدها حتى الآن 8 مجاميع شعرية هي كالتالي " عصفور المقهى "1994،" مخبأ الملائكة " 1995 ، " لا أشبه أحدا " 1996،" شمس مؤقتة " 1997، " ما من يد " 1999،" كائن اسمه الحبّ "2001،" مصباح كفيف "2002 ،" لنتخيل المشهد " ربيع 2004 .
وكلها مجاميع زاخرة بتجربة شعرية طازجة باحتفالية إنسانية فاخرة مفتوحة على مشهدية الحبّ وعلى البهاء الوجداني الجمالي الكبير المثير .. كلّ هذا لأنّ سوزان تنتمي إلى " إنسانية الشعر" كما قال عنها الكاتب "هشام كايد".

وللإشارة فهذا لقائها الأول مع الصحافة الجزائرية وقد تحدثت فيه عن الكثير من القضايا الأدبية بجرأة وشجاعة كعادتها دوما في كلّ الحوارات. نترك للقارئ متعة اكتشافها واكتشاف فراشاتها الشعرية والإنسانية.

****

سوزان عليوان: أؤمنُ بأنَّ الصفاءَ، وجدانيّا و ذهنيّا، ينبعُ من أعماقِ الإنسان. ليسَ من ذاكرتِهِ و لا من أملِهِ في المستقبل، و إنّما من تفاعلهِ مع لحظتِهِ في العالم و فعاليتِهِ في الحياة. هو نعمةٌ من عندَ الله بالدرجةِ الأولى. كما أنَّ هناكَ معادلة لا بُدَّ من توازنِها كي تشفَّ الروح: أن يقتربَ الإنسانُ بقدر الإمكان من تصورِّهِ عن نفسه. منذُ طفولتي و أنا أعرفُ ما الذي أريدُهُ من حياتي و أسعى لتحقيقه. بين ذاتي و بيني صداقة قديمة
و حميمة. بيننا مكاشفة و مصارحة و محاسبة دقيقة. أحكّمُ ضميري، قبلَ قلبي
و عقلي، في تعاملي مع الآخر، و أوبِّخُ نفسي بقسوةٍ و عنف إن أسأتُ لأحد. فما قيمة سؤال الإنسان في الإبداع إن لم نطبّقهُ مع الناس في ممارساتنا اليوميَّة؟ ما قيمتنا، كبشر، إن لم ندرك الفرق بين الخطأ و الصواب و إن لم نجاهد لتقويم أنفسنا؟ صفاءُ النفس و الروح عملٌ يوميٌّ شاقّ و هو ينعكسُ تلقائيّا على الكتابة، فنصوصنا مرايانا.
(الإبداع لم يوجد لإرضاء الناس و إنّما لتحريضهم).

سوزان عليوان: لا، لم يربكني الكائن الذي اسمه الحب. لا أنكرُ أنّني خفتُ قليلاً من تجربةِ الرسمِ في البداية، لكنَّ " بنت الليل" التي اكتملت رسمتها قبل أيِّ نصٍّ أو رسمة في هذا الكتاب الصغير بدَّدَتْ مخاوفي بنظرتها الطفوليَّة الحزينة و عرائها الذي يشعُّ براءةً و بياضا. ما حدثَ هو أنّني كنت منقطعة عن الكتابة منذ انتقالي من القاهرة إلى بيروت في صيف 2000. كنتُ أعاني من " جمود الروح". و ذاتَ مساءٍ، سمعتُ ضجيجًا في بيتنا: حوارٌ عصبيٌّ بين شقيقتيَّ و بنات عمِّي. ذهبن إلى إحدى المطاعم العائليّة الفاخرة لتناول العشاء، و اضطررن لمغادرة المكان بسبب " بنت ليل" أزعجهنَّ وجودها في مكانٍ راقٍ لا ينبغي أن ترتاده سوى الأسر المحترمة! إستفزَّني حكمهُنَّ المتعالي القاسي على تلك البنت المسكينة التي، لو أزلنا عن وجهها المساحيق الرخيصة و ألبسناها ثيابهُنَّ، لبدت واحدة منهُنَّ. هل مررن بظروفها؟ هل ذقن طعم الفقر و الجوع و الضياع؟ هذا الاستفزاز لم يترجم إلى كلمات. وجدتُ نفسي صامتةً أمامهُنَّ. دخلتُ إلى غرفتي، أخرجتُ ورقةً و قلمًا، و رحتُ أرسمُ (لأوَّلِ مرَّةٍ منذ طفولتي) تلك البنت... أردتُ أن أعيدها بخطوطٍ قليلةٍ طفلةً. أن أعيدَ إليها براءتها و نقاءها و إنسانيتها. رسمتُها و كتبتُ نصَّها الصغير، ثمَّ خرجتُ إلى شقيقتيَّ و بناتِ عمِّي و قرأتُ لهنَّ النصَّ و الرسمة أمامهُنَّ. نظراتُ الخجل و الاعتذار التي رأيتُها في عينيّ شقيقتي الصغرى أعظم مكافأة حصلتُ عليها في حياتي. هكذا ولدت فكرة هذا الكتاب، و اكتملت بنصوصها و رسوماتها في أسبوعٍ واحدٍ. أسبوعٌ بلا أكلٍ أو نومٍ أو راحة تقريبًا. أسبوعٌ من العمل المتواصل و صفاء الروح النادر. أسبوعٌ يساوي ألف عمر. كنتُ أحلمُ بكتابة و رسم المهمّشين في العالم، و قد تحقّقَ جزء صغير من هذا الحلم الشاسع في " كائن اسمه الحب". ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ هذه التجربة تعكسُ تأثرِّي بالسرياليين الذين اعتمدوا في أعمالهم ثنائيّة الكتابة و الرسم، سواء كانت الرسومات لهم أو لأصدقائهم. لوركا، مثلاً. جان كوكتو. جاك بريفير. بول إيلوار... و غيرهم من الأرواح الكبيرة التي قدَّمت قصيدة النثر في أروع أشكالها و أكثرها عمقًا و شفافية. أمَّا بالنسبة للقارئ، فأنا لا أضعُ ردَّة فعله في بالي و أنا أكتب أو أرسم لأنَّ الإبداع لم يوجد لإرضاء الناس و إنّما لتحريضهم. الفنان لا يسعى إلى القبول. مهمتّه في تحريك المياه الراكدة في الأعماق.

سوزان عليوان: حكايتي مع الرسم هي حكاية كلّ أطفال العالم مع الألوان و دهشتها. منذ نعومة الروح و الأصابع و أنا أرسم. والدتي، حين تستعيد ذكريات طفولتي، تضحك و تقول أنّني كنت أرسم على كلّ ما يقع تحت يدي: أشياء البيت، لعبي، حتّى أنّ عقد زواج والديّ لم يسلم من إبداعي! رسمي بالحبر الأزرق على أطرافه من أوّل لوحاتي! ولعي المبكر بالرسم دفع أسرتي و مدرّساتي للاعتقاد بأنني سأكون رسّامة. لكنّني، مثل معظم الأطفال، هجرت الرسم فيما بعد إذ انشغلت بالقراءة و الكتابة و الحياة. سرقني القلم من الفرشاة، فابتعدت عن الرسم لسنوات طويلة... لكنّ قراءاتي في الفنّ التشكيلي و اطّلاعي عليه لم ينقطعوا. ظلّ جسر، بألوان قوس قزح، ممدودًا بين الرسم و بيني.
عودتي إلى الرسم جاءت مع " كائن اسمه الحبّ ". هذا الكائن الصغير أعادني إلى طفولتي و ألوانها و دهشتها مثل طفل يسحب طفلة من يدها ليلعبا معًا بالأشكال في مساحة من البياض و الألوان.
كما ذكرت في أكثر من مرّة، لست رسّامة. أرسم لأنني أحبّ الرسم و لأنّ هنالك من يحبّ رسوماتي، تماما كما يرسمُ الأطفال و لأسبابهم نفسها.
شعري و رسمي يحملان رسالة واحدة، و لكن الأوّل ينطق باللغة فيما الثاني ينطق بالألوان. الأوّل يحمل قلمًا فيما الثاني يحمل فرشاةً. الشعر و الرسم يداي اللتان تحلمان بالنور و تسعيان معًا و بالحرارة ذاتها لإضاءة الشموع الصغيرة في عالم مظلم و ظالم.

 

سوزان عليوان: أنا لم أتنكّر ل "عصفور المقهى". كُلُّ ما في الأمرِ أنّني اختصرت أكثر من 300 صفحة من كتابات الطفولة و المراهقة (التي لم أعد أرى فيها أيّة قيمة فنيَّة بعد إصدار الديوان بعامٍ واحدٍ) بقصيدة واحدة وحيدة، و هذا من حقّي كصاحبةٍ للعمل. كما أنَّ عمليّة الاختصار هذه لم تتمّ إلاَّ في موقعي على الإنترنت. أمَّا الكتاب الأصلي، و قد طُبِعَتْ منه ألف نسخة في عام 1994، فهو موجود لدى الناس الذين حصلوا عليه آنذاك. على الفنان أن يتجاوز نفسه باستمرار و ألاَّ يقدِّس أيَّ عمل يقوم به خاصَّةً في بداياته، فهذا يعيق تطوّره. الفراشة أجمل من الشرنقة، و الفراشة المحترقة أعظم من الفراشة المثبّتة على لوحة مخمل بدبّوس.

سوزان عليوان: الشعرُ يؤسِّسُ مساحةً للحلم. عكّازُهُ الأمل... كي يعبرَ مع الناسِ من الظلامِ إلى النور. هو الغريبُ ذو الوجهِ الشاحبِ و العينينِ الدامعتينِ الذي يوزِّعُ الحلوى على الأطفالِ و الوردَ على العشَّاقِ و الحبَّّ على المحرومين في الدنيا. الشعرُ لا يؤرِّخُ و إنَّما يكتبُ لحظةَ العالم ليحرِّضَ البشر على صناعة مستقبلهم.

 

سوزان عليوان: ما يجعل الكتابة "فنّا حزينًا" هو أنَّ أغلبيَّة الكتَّاب يتوهّمونَ الكتابةَ بديلةً عن الحياة، و هي ليست كذلك. هذه الفجوة بين تصوّرنا عن الكتابة و حقيقة الكتابة نفسها تسقطنا في ألمٍ عميق. هي خيبة عنيفة تتكرَّر مع كُلِّ نصٍّ جديد. نشعرُ بالغربة و العزلة و الوجع حينَ نكتبُ، حينَ تكون نصوصنا من دمنا و لحمنا، لأنَّ الكتابة ليست حياةً و النصوص ليست بشرًا. حينَ بدأتُ أكتبُ، كنتُ أجزمُ أنَّ مشروع الكتابة أهمّ من مشروع الحياة. كنتُ على خطأ، و لقد أفقتُ مؤخَّرًا من هذا الوهم الكبير لأدركَ أنَّ لا شيء يعوِّضُ الإنسان عن الحياة الغائبة سوى العثور على الحياة نفسها. قطرة الماء الحقيقيَّة، مثلاً، أعظم من ألف محيط في قصيدة ما!. لقد حمَّلْنا الكتابةَ أكثرَ من طاقتها، فأنكسرَ الجسرُ تحتَ أقدامِنا. الكتابةُ وسيلتُنا إلى الخلاص و ليست خلاصًا بحدِّ ذاتِها.

سوزان عليوان: عن نفسي، لم أتعرَّض إلى أيِّ هجومٍ و لم توجَّه إليَّ أيَّة إتهمامات. بل بالعكس، ساندني زملائي و أصدقائي و تعاملوا منذ البداية معي و مع تجربتي على أساسٍ من الأخوّة و الاحترام المتبادليْن. لا يوجد صراع بين الرجل و بيني أساسًا، لا في الحياة و لا في الإبداع. لقد نشأتُ و الحمد لله في بيتِ والدٍ يحترمُ المرأة و لا يفرِّق بين ذكرٍ و أنثى، حتَّى أنَّهُ يحبُّ أن يناديه المقرَّبون بكنيته "أبو سوزان" أكثر من اسمه. ذاتَ مرَّة في طفولتي، أجلسني في حضنه و قال لي: "حتَّى إذا رُزِقْنا بأخٍ صغيرٍ لكِ، ستبقينَ بكري و فرحة عمري و سأبقى أبا سوزان". هذه العلاقة الراقية بين والدي و بيني جعلتني أرى الرجل إنسانًا و ليس وحشًا كما تصوِّرُهُ الكثيرات. أنا لا أقسِّمُ الناسَ رجالاً و نساءً. مقياسي الوحيد هو إنسانيَّة الشخص. إن كان إنسانًا، فهو جدير بمحبَّتي و حناني و عطائي بغضّ النظر عن جنسه. بعض المبدعات أكثر بشاعةً و تشوُّهًا من أيِّ رجلٍ على الكوكب! و من هي المبدعة العربيَّة التي تفوَّقت على المبدع أصلاً؟ هل لدينا شاعرة بعظمة المتنبِّي مثلاً؟ أو بروعة أمل دنقل؟ أو بعبقريَّة نزار قباني؟ المبدعة العربيَّة لم تقم حتَّى الآن بدروها المفترض و المأمول. ما زالت أضعف من أن تتجاوز أنوثتها إلى إنسانيَّتها. ما زال خلاصها الذاتيّ هو همّها الأوحد. عن نفسي، أنحاز إلى الجمال و المعنى في الشعر و ليس إلى جنس الشاعر. و عمومًا، لستُ معنيَّة بحروب المثقّفين أيًّا كان مضمونها، فهي برأيي حروب مفتعلة من ورق و كلام و تضارب مصالح. مهمَّتي كإنسانة و كشاعرة أن أدافع، بروحي و نصِّي، عن البشر و البيوت الآمنة و الأشجار التي تُشنُّ عليها الحروب الظالمة البشعة برًّا و بحرًا و جوًّا.

سوزان عليوان: على المبدعة أن تسعى، بصدقٍ و دأب، على أن تكونَ أما للحياة. أن تحتضن بحنانها أحزان البشر و آلامهم. أن تتجاوز أنوثتها الذاتيَّة إلى أنوثة الأرض و الحريَّة. ما يعيق الكثيرات عن هذا العبور العظيم، برأيي، هو اعتياد المرأة العربيَّة على دور الضحيَّة و على إستفادتها من وجود جلاَّد ما دائمًا يبرِّرُ آفاقها المسدودة بعمائها أو " تعاميها" عن دورها الشاقّ. المبدعة العربيَّة، بشكلٍ عام، تصنع مجدها بأدوات "حريميَّة" و ليس بأدوات إبداعيَّة. فذلك أسهل و يضمن التعاطف من جهة و الهجوم من جهة أخرى و بالتالي يضمن الشهرة.

سوزان عليوان: صحيح و مؤسف. عمومًا، لو كان المبدع العربي يكتبُ بروحٍ حرَّة، و ليسَ بإرثه الذكوريّ و غروره و غرائزه، لما كان هذا هو حال الثقافة في العالم العربي!.

سوزان عليوان: للأسف، ما اطلعت عليه من الإبداع الشعري الجزائري قليل جدًّا. باستثناء الأديب مالك حدَّاد، لم أقرأ بعمق لمبدع أو مبدعة من الجزائر. قرأتُ نصوصًا متفرِّقة هنا و هناك لكنَّها لا تشكِّلُ معرفةً. أتمنَّى التعرّف على الأصوات الشعريَّة الجزائريَّة الجديدة، فهذا الكمّ الهائل من الألم الإنساني لا بُدَّ أن يكون قد انعكس على أرواح الشعراء و نصوصهم. لكنَّ ثمَّة صعوبة في الحصول على أعمال الشعراء الجدد على مستوى العالم العربي و هذا يعيقُ وصول التجارب و تواصل الأرواح.

سوزان عليوان: كنتُ أستقبل أخبار و صور المذابح بألمٍ عميقٍ و عجزٍ أعمق. كنتُ آنذاك على تواصل مع صديقٍ و أخٍ عزيزٍ من الجزائر اسمه أحمد مخاتي (كاتب و إعلاميّ). كانَ ينقلُ لي، عبر الرسائل الورقيَّة و أسلاك الهاتف، تفاصيل البشاعات التي ترتكب، باسم الإسلام، في حقِّ وطنه و أبناء شعبه. و كان ينقلُ أيضًا، عبر الأثير، قصائدي إلى مستمعي الإذاعة التي يعمل فيها. أذكرُ أنَّهُ حدَّثني مرَّةً عن مجزرةٍ لم تفرِّق، في بقع الدم، بين الجدران و وجوه الأطفال!. يا إلهي... تلك الوجوه الصغيرة الشاحبة الباردة، الملطّخة بالدموع و الدماء، ما زالت تطاردني كالأشباح. لن تغفرَ لي أبدًا أنَّني كنتُ في العالم، أتنفَّس و آكل و أشرب و أنام، في الوقتِ الذي كانت السيوفُ تقطفُها.
من حقِّ الإنسان الجزائري ألاَّ يغفر للمثقَّف العربي صمته. تمامًا كما من حقِّ الفلسطيني و اللبناني و العراقي و الكويتي و السوداني ألاَّ يغفروا له صمته و لامبالاته من جهة و متاجرته بقضاياهم لمصالح شخصيَّة بحتة من جهة أخرى. المثقَّف العربي، من هذه الناحية، أحد وجوه الحاكم العربي، و هذه إحدى مصائبنا الكبرى.
موقف المثقَّف العربي من الحرب الأخيرة على العراق أسقط ورقة التوت عن الثقافة العربيَّة. عرَّى عارها أمام الجميع. معظم من قالوا "لا للحرب"، قالوا "نعم للطاغية". و معظم من قالوا "نعم للحرب" قالوا "نعم لأمريكا". يا لها من ثقافة جهل!.

سوزان عليوان: الشعرُ ضميرُ العالم. ضميرُهُ الحيّ الذي لا يخاف و لا يساوم و لا يتراجع. مهمَّتُهُ أن يطرح الأسئلة و يوقظ الأرواح من ظلامها و عجزها. القصيدةُ محاولةٌ لفضحِ القبحِ و تجميلِ وجهِ الحياة، لتحريض البشر على الدفاع عن أرواحهم. الشعرُ لا يغيِّرُ واقعًا، لا يطعمُ جائعًا و لا يوقفُ حربًا... لكنّهُ يعرِّي الواقعَ من أقنعتِهِ و يدينُ تجويعَ الناس و الحروب. هذا شرفه الوحيد، و هو شرف عظيم في الوقت الذي تقف فيه دول و أمم عاجزة حتَّى من أن تهمس بكلمة: "لا".

سوزان عليوان : تماما.

سوزان عليوان : بل لأنَّ مهمَّة الشعر أن يبقي الأطفالَ الذينَ في أعماقِنا أطفالاً. هذه المساحة البيضاء في داخلِ كُلٍّ منَّا تحتاجُ إلى حارس يعتني بأزهارِها، يطعمُ عصافيرها، يكنسُ الغبارَ و أوراق الشجر الميِّتة خارج سياجِها الذي من وردٍ و أجنحةِ فراشات. الشعرُ هو حارسُ هذا الصفاء.

سوزان عليوان : ليسَ من حقِّي أن أقيِّمَ الآخرين، فأنا لا أملكُ أدوات الناقد أو الباحث الأكاديمي. كشاعرة و كقارئة للشعر، تستوقفني تجربة الشاعر " وديع سعادة" من لبنان و تجربة الشاعر الراحل (الحيّ بروحِهِ و نصِّهِ) " رياض الصالح حسين" من سوريا و تجربة الشاعر " عماد أبو صالح " من مصر. ثمّة اضمحلال شاسع و عميق في الثقافة العربيَّة، و العثور على شاعرٍ حقيقيّ كالعثور على إبرة في كومةٍ من قشّ!.

سوزان عليوان : أنحازُ إلى المقولة الثانية و أرفضُ الأولى، فنرجسيَّة الشاعر عمومًا (و الشاعر العربي تحديدًا) جعلتْهُ كائنًا مريضًا بالأوهام: أوهامه عن عظمة ذاته، أوهامه عن دونيَّة الآخرين، أوهامه عن الشعر و الحياة... باستثناء المتنبِّي، ما من شاعر عربيّ برَّرَ إبداعُهُ غرورَهُ. من يقوم بعمل أعظم: صانع الخبز الذي يلفح الفرن وجهه كلّ صباح بالنار كي يأكلَ الناس؟ أم الشاعر المتصعلك بين المقاهي و الحانات على حساب الآخرين؟ من الأكثر شرفًا: الإستشهاديّ الذي يفجِّرُ نفسه دفاعًا عن أرضه و عرضه و كرامته؟ أم المثقف الذي يحدّثنا عن الحريَّة و حقوق الإنسان و لعابه يسيل على جائزة عالميَّة؟ البسطاء هم العظماء، و شرفنا الوحيد في أن نكونَ أصواتهم.

سوزان عليوان : اللترجمة، المهرجانات، التكريمات، الدروع... هذه أمور تخصُّ مرضى الظهور و الشهرة و التحقّق بأيّ ثمن و لا تعنيني، بل و أرفضها بشدَّة. ليست روحي فرسًا كي أفوز في سباق! الوسام الوحيد الذي يشرّفني هو محبّة قارئي.
بالإضافة إلى عقدة "الجوائز" التي يعاني منها البعض، هناك أيضًا عقدة "العالميَّة"! وهم بشع يدفع البعض إلى اللهاث وراء المترجمين و دور النشر الأجنبيَّة، التي لا تسعى سوى إلى تقديم "أدب الفولكلور"، الأدب الذي لا يرسّخ سوى صورة الغرب المهينة عن العرب و الإسلام.

النصر: على ذكرك للترجمة ، الشعر هو الضحية الأولى لها ، أنت كشاعرة كيف ترين ترجمة الشعر من لغة إلى لغة .. وهل يمكن الحفاظ على شعرية النص ،وهل يمكن للترجمة أن تمنح شعرة أخرى للنص خاصة مع طغيان الترجمة الإلكترونية أو الآلية مؤخرا؟

سوزان عليوان : الأرقى أن يكتبَ الشاعرُ نفسَهُ من خلال الإنسان و أن يكتبَ الإنسانَ من خلال نفسِهِ ... أن يسخِّرَ حياتَهُ و نصَّهُ من أجلِ خلاص الناس. ما قيمة الخلاص إن لم يكن جماعيًّا؟
في قصائدي الأولى، كانت حياتي الخاصَّة أكثرَ حضورًا في النصّ. بعض القصائد كانت ترجمة شعريَّة لواقعي. تلكَ التجارب المبكرة فرَّغت همِّي الخاص و هيَّأتني لطرح أسئلة أسمى و أعمق. طهَّرتني من ألمي لأدركَ صغرَهُ و هشاشتَهُ مقارنةً بهموم البشر. كيف تتساوى معاناتي بمعاناة خادمة فقيرة مثلاً ؟ الشاعرُ يكتبُ الإنسان. أمَّا الذي لا يكتب إلاَّ نفسه، فهو المراهق في خواطره.

سوزان عليوان : سؤالُ الإنسان.
سؤالُ المدفونينَ في المقابر الجماعيَّة في بلادِ الموت، بلادنا.
سؤالُ الموتى الأحياء الذينَ يكدحونَ حتَّى النفس الأخير ليؤمنوا الرغيفَ و الكفنَ.
سؤالُ الأميِّين و الجائعين و الخائفين في أوطانٍ ابتلع الفسادُ ثرواتها و لم تزدهر إلاَّ سجونها و مدافنها.
سؤالُ المهاجرينَ أسرابًا إلى المنافي بحثًا عن لقمةِ العيش و فتات الحريَّة.
سؤالُ الهاربينَ من حجيمِ الدنيا إلى جنَّةٍ يتاجرُ بقدسيَّتها سماسرةُ الدين.
سؤالُ ماسح الأحذية و بائعة الورد المتجوِّلة و أطفال الشوارع الحُفاة المشرَّدين بينَ عصابات التسوُّل و المخدَّرات و الدعارة.
لدينا، في الداخل، ما يكفي من أسئلة و قضايا و مأسٍ.
ثمَّ أنَّ هذا ليس "عصر عولمة". أين هي هذه "القرية الصغيرة" بالله عليكم؟ العالم أكثر انأخيرة، عنفًا من أيِّ وقتٍ مضى، رغم كلّ التضحيات التي قدَّمتها البشريَّة في سبيل الخلاص. هذا "عصر القهر".

سوزان عليوان : في الختام، أودُّ أن أشكرك يا نوّارة على هذا الحوار الجميل و أن أهدي القارئ الجزائري عبر فضائه فراشةً صغيرةً من حبرٍ و ورق:

العازف

لكَ
أن تعزفَ
عن الناسِ
و الدنيا
عن قلوبٍ محشوَّةٍ بالقشِّ و القطنِ و القسوة
و شوارع مزدحمة باردة
تغرِّبُ الخطواتِ
و الظلال
لكَ أن تعزفَ
عن الرغيفِ المغموسِ بدمِ الأطفال
و قطرةِ الماءِ الحارقة
كدمعةِ عجوز
عن العملِ
مثلَ بهيمةٍ
أو آلة
عن العيشِ
موتًا مؤجَّلاً
لكَ أن تعزفَ عن كُلِّ هذا
و لكن إيَّاكَ
في آخرِ الليلِ
و العالم
ألاَّ تحطَّ
كعصفورٍ أحمر
على حطامِ آلتكَ
و الخراب
لتعزفَ اللحنَ الذي
يحمي أرواحَنا من التحلُّل
و يحرِّضُ الحياةَ على الحياة.

nouarala2@hotmail.com

جريدة النصر الجزائرية