جان داية
(لبنان)

أنسي الحاجكان انسي الحاج دون العشرين من عمره حين نشرت مجلة «صوت الاجيال» البيروتية
في عددها الاول الصادر يوم 15 فبراير (شباط) 1956 الخبر التالي: «علمنا ان في ادراج انسي لويس الحاج فصولاً عن الموسيقى، منها جاهز ومنها في الاعداد، وهو جاد في جمعها الآن
في مؤلف ضخم قد يستدعي ليرى النور اكثر من تسعة اشهر. ولديه كذلك مجموعة شعرية
لم ينشر بعد قصيدة منها. ومقطوعات شعرية منشورة، جديدة من نوعها، تؤلف ديوانين كبيرين. وهو منصرف الآن، معظم الوقت الى هذا النوع الممتع من الادب، ومجموعة قصصية ستظهر في كتاب قريباً، ومجموعة مقالات في النقد والسيرة». ولكن أخيراً، بعد نصف قرن
وليس 9 اشهر، صدرت لأنسي الحاج اعماله الكاملة في القاهرة، وقد خلت من أية دراسة موسيقية او قصيدة او مقالة نقدية، من التي اشار اليها الخبر الادبي.
قبيل حرب داحس والغبراء اللبنانية التي بدأت في عام 1975، اعتلى أنسي الحاج منبر الخطابة، في الاحتفال الخاص بتكريم الشاعر العراقي بدر شاكر السياب. كان الخطيب نجم الاحتفال لمجموعة اسباب، منها انه لم يتوج مداخلته بتحية اصحاب المعالي والسيادة والسعادة الموجودين في القاعة، ولم يشكر اصحاب الدعوة على اتاحتهم الفرصة له للاشتراك في الاحتفال، ولم يلوح بيديه او يرفع من نبرة صوته، ناهيك من انه لم يتلعثم رغم ارتجاله للمداخلة غير القصيرة. ومع ذلك، فإن عدد المحاضرات او المداخلات التي ألقاها حتى الآن، لم يتجاوز عدد اصابع اليدين وكدت اقول اليد الواحدة.
وفي عصر الفضائيات والأرضيات التي تملأ سماء لبنان، حيث يطل نجوم السياسة والرياضة وطب الاعشاب والابراج والصحافة، على المشاهدين الكرام جداً، مرة كل يوم على الاقل... ندر ظهور «مستشار مجلس التحرير» في جريدة «الاخبار» ورئيس التحرير السابق لجريدة «النهار» على الشاشات الصغيرة، ومن المرجح، بل المؤكد، ان السبب يعود، ليس فقط الى عدم طلب أنسي الحاج من مقدمي ومقدمات البرامج التلفزيونية استضافته ومحاورته.. بل لأنه يرفض معظم الدعوات التي توجه له، من غير ان يرفق رفضه ببطاقة الشكر المعهودة.
وبالمناسبة، فإن عدم تهافته على المقابلات الاعلامية ليس جديداً. فهو يعود الى ما قبل ولادة الفضائيات، ولكن، اذا ندر وتمت الموافقة، فإن الاجوبة تأتي دائماً مكثفة، وأحياناً أقصر من الأسئلة.
صحيح ان أنسي الحاج مقل في اصدار الكتب ونشر المقالات وإلقاء المحاضرات والمداخلات، وفي عدد المقابلات الاعلامية التي وافق على اجرائها. ولكن الأصح ان قصائده وأبحاثه الأدبية، ومقالاته النقدية والوجدانية وأجوبته على اسئلة محاوريه في المقابلات، تعج باللمعات الابداعية، وعلى المستويين اللغوي والمضموني. ولعل اجوبته العشرة في هذه المقابلة، آخر مثال ودليل على منهجه المتسم بقلة الكلام وكثرة الآراء الطريفة والغريبة والعميقة والمنطوية على الكثير من الاسئلة.

*اشتهر عن معظم المصريين عدم اعترافهم بالمبدعين من بلاد الشام وسائر ادباء العالم العربي. لذلك كان لافتاً اهتمامهم بكتاباتك واصدارهم قبل أشهر اعمالك الكاملة. هل ان ذلك جرى من باب الشذوذ على القاعدة؟

ـ لي في مصر اصدقاء، وقد تولوا هم مشكورين رعاية هذا المشروع.

*كتاباتك الاسبوعية في «الاخبار» تذكرنا بتلك التي نشرتها في ملحق النهار وأعدت جمع معظمها في ثلاثة مجلدات بعنوان «كلمات كلمات كلمات». هل يحجز القراء من الآن مكاناً في مكتباتهم الخاصة لكتاب جديد هو الجزء الثالث من «خواتم»؟

ـ كلما هممت بنشر كتاب أتراجع. أجمل ما في جاذبية الكتاب احتمال تأجيله.

*اغلقت مجلة «أدب» في الستينات باقتراح منك في احدى جلسات «خميس شعر» حيث قلت ان مبرر استمرارها لم يعد قائماً. تُرى، هل كان توقف مجلة «شعر» باقتراح منك ايضاً، ووفقاً للتعليل نفسه؟

ـ كان الهدف من اصدار «أدب» انشاء منبر للنثر الحديث، كما هي «شعر» منبر للشعر الحديث. هذه الغاية لم تتحقق. معظم كتّاب «ادب» من نقاد وباحثين كانوا ينشرون في مجلة «شعر». وفي الحقل القصصي لم تستطع «ادب» ان تتميز عن المجلات الاخرى. لم تنجح في خلق قضيتها.
بالنسبة الى توقف «شعر» لا اتذكر تماماً. المؤكد هو اني تمنيت على يوسف الخال ان يضع على غلاف العدد الاخير عبارة «العدد الاخير». وهو ما حصل.

*وقعت بعض مقالاتك الاولى باسمك الكامل (انسي لويس الحاج) لماذا؟ هل يعود ذلك الى كون والدك صحافياً شهيراً؟ أم ان رئيس التحرير هو الذي فعل ذلك بدليل انك سارعت الى حذف اسم ابيك من توقيعك؟

ـ قسم كبير من كتاباتي الاولى وضعته في المدرسة. كنت في السابعة عشرة وطموحي ان انشر في كبرى المجلات الادبية كـ«الاديب». استعنت باسم والدي كبطاقة توصية. كنت ارسل مقالاتي بالبريد معتمداً على اسمه كواسطة دعم. واعتقد ان ذلك كان نوعاً من الانتهازية. في ما بعد، حين انتقلت من الهواية الى الحرفة، بدءاً بجريدة «الحياة» مع كامل مروة وباسيل دقاق ثم في «النهار» تحت جناح والدي مباشرة، ظننت ان الاستمرار في اشهار اسم الاب سيحمل له بعض الحرج، فلم أعد استعمله.

*بداياتك في الخمسينات لم تخلُ من اللمع الواعدة، لماذا عتمت عليها بالكامل؟

ـ علاقتي بنفسي تراوح بين حمى الدقة وهدوء الاستهتار.

*يندر اعتلاؤك منابر المحاضرات والأمسيات الشعرية، رغم انك ناجح فيها وحتى في الارتجال، كما كانت حالك في احدى الندوات التي جرت في قاعة محاضرات الندوة اللبنانية، حيث تكلمت عن بدر شاكر السيّاب. لماذا تمتنع عن القيام بما انت ناجح فيه؟

ـ اذكر حوادث مروري القليلة بالمنابر كما يذكر العائد من الموت حوادث نجاته.

*تتسم احاديثك بالسخرية والفكاهة، في حين تتميز كتاباتك بالجدية. ما هو سر هذه الازدواجية؟ وهل حاولت الكتابة الساخرة؟

ـ الكتابة الساخرة موجودة ايضاً في كتبي الى جانب الامور الاخرى. ما بين السخرية المرّة والمداعبة الإباحية والهذيان العبثي. السخرية المباشرة في الاحاديث ـ والاكثر هي سخرية من الذات ـ غايتها، كما هو معروف، محاولة الافلات من فخ قَبْض الذات جدياً. اما على صعيد المقال فقد وقعت فيها وما زلت بين وقت وآخر. هناك حالات لا يمكن التفاعل حيالها الا بالغيظ، ولا يجدي معها التعبير اللطيف او الانتقادي، فضلاً عن المُحب. لا افهم السخرية ظُرْفاً او جَعْدَنَة. واشد ما اكرهه هو النكتة. السخرية نوع جدي هي ايضاً. لعل اقواها ما ينبع من الشعور بتفاهة الاشياء وبشاعة الذات والغيظ من الاقنعة والعجز عن تغيير الآخرين.

*تضع اسكندر الرياشي في رأس لائحة الكتاب الساخرين اللبنانيين، رغم ان اللائحة تضم العديد من الساخرين المبدعين امثال سليم سركيس، سعيد فريحة، سعيد تقي الدين... ما سر ذلك؟

ـ في هذا السياق لا ننسى فؤاد حداد (ابو الحن). ولا مارون عبود قبله، ولا احمد فارس الشدياق. لكن اسكندر الرياشي شيء آخر. انه لا يتمسخر بل يضع حاله على الورق. اباحته لذاته هي المصدر، والسخرية فرع من هذا المصدر. طرافته انه يتعرّى بالكامل، ويتحداك ان تجاريه. لم يُجاره احد من اهل الصحافة ولا من اهل الادب. «اكزيبيسيونيسم» كارج، كَرْج الحَجَل، في لغة حية، نصف شفهية، اشد ما يدهش فيها انها لا تخاطبك على اساس انها ظريفة خفيفة، بل على اساس انها عابسة متوترة وقليلة الصبر. اسكندر الرياشي يُطَقطق من الضحك لكنه هو لا يَضحك ابداً.

*وسعيد فريحة؟

ـ كاتب أوسع حقلاً واقل عبثية من الرياشي، وكلاهما اقل عنفاً من فؤاد حداد. سعيد فريحة ذو آفاق فرحة، ربما لأنه عاشق دائم. جميع هؤلاء، ومعهم طبعاً مارون عبود وسعيد تقي الدين، تجمع بينهم ميزة مشتركة هي السخط. عند سعيد فريحة يخالطها الحنان والرغبة، وعند فؤاد حداد الكآبة واليأس، فضلاً عن تصارع الايمان والشك.

*مثل معظم الشعراء، كان نتاجك النثري لافتاً بكميته ونوعيته. ولكنك، مثل جميع الشعراء، تعتبر نثرك في مرتبة ادنى من شعرك. لماذا؟ وما رأيك في القراء ـ والداعي منهم ـ الذين يعتبرون مقالاتك اهم من قصائدك؟

ـ لم اقل اني اعتبر نثري اقل مرتبة. كل ما في الامر ان ما اسميه شعري، اثار ردود فعل اكبر مما اثارته مقالاتي.

*تجربتك الصحافية الباكرة والمستمرة تحتضن الكثير من الذكريات حول الاحداث والشخصيات الادبية. لماذا لا تنشر شيئاً منها، وهي المادة المقروءة بشغف لدى الكثيرين؟

ـ يتنازعني البوح والكتمان، وتلجمني الخشية من الصدق.

الشرق الأوسط- 29 اغسطس 2007

***

مقالان لأنسي الحاج يوم كان في التاسعة عشرة

* الصبر

- يقال «صبرا» مثلما تلفظ العجوز بالخبر وتعلكه، وهي تريد ان تحكي لك حكاية لا تخرط العقل. وحكاية العجوز فيها شعر، فيها روح العتيق والاسطورة، وفيها عدا ذلك نكهات كل جبلي هو خبير بها...
أما الصبر، ليس كلمة الصبر وحدها، بل الصبر فعلاً وتطبيقا، فاتبع ما يفعله امرؤ في هذه الايام.
... لا نريد ان ننتظر. نستحق على هذه «الولدنة» كل نعت مزر. نستحق الضرب على القفا، بالمقلوب. الا اننا نريد الا ننتظر.
كيف يبلع الغول الرجال، وكأنها ديدان التراب؟ وكيف صنع بطل الثوراة كونه بأيام ستة؟ نحن، هذه الفئة المستعجلة، نريد ان نصنع اكواننا بست ساعات، ونبلع الرجال والنساء والاطفال كما يصنع العصبي نقطة وراء كلمة من كلماته.
لماذا نفهم الا يصل الانسان الى الذروة الا شرط ان يكون بليدا بنفسه، بطبيعته، بشريانه، ونعزو هذا الجلد البهيمي الى بعد نظر مقصود وترو يقال انه صبغة العباقرة، وأناة هي اطول من الافق؟
يجب ان نقول عن هذا الذي يصبر على الجمال، ان لا فرق عنده في ان يلقط المفتاح او لا يلقطه. واذ ذاك نفسر هذه اللامبالاة التي يحرقها الحيوي بعرقه، فيصل بسرعة الى وراء النار، الى وراء حديقتيه.
القضية هنا: اما ان نبيع حياتنا من كل ما يشتهيها، امونا كان ام ضربا من ضروب اللعنة، ونربح بالثمن كل ما نشتهي.
او ينتابنا الخوف من المجازفة، فنقعد الحصير ونروج عن انفسنا اننا نقتعد الهم، بانتظار الفرج بعد الصبر الطويل:
الصبر الطويل، حمق بطول خرطوم الفيل.
فلعنة عليه، عله باللعنة يصبح ذا معنى.
وطوبى لنا!

* اسمع يا رضا: لأنيس فريحة

- اسمع يا رضا: ان اباك يقص على مسمعيك الطريين قصة عمره، كل ماضيه الذي هو كل عمره...
اما هذه الكلمة العابرة، فما هي بالنقد. ان هي الا مما اثاره الكتاب في نفسي ـ وأظنه يثير ذلك في نفس كل قارئ ـ من خلجات كانت لا تزال نائمة مع ذكريات الطفولة والحداثة في قرارة الضلوع.
اذا، حكاية «اسمع يا رضا» للدكتور انيس فريحة اروع ما خطه انيس فريحة... انيس الجبلي الامرد! ولعل كل من يتتبّع نشاط كاتبنا يرى الى هذه القفزة التي سجلها بمؤلفه الجديد. فقد عرفناه باحثا لغويا وعلميا وما الى ذلك من الكتابات التي لا يشعر القارئ معها بانها تملك عليه مشاعره وتقبض على انتباهه حتى نهايتها بدون ايما انقطاع.
وكتاب «اسمع يا رضا» الذي تلقفته السوق في المدة الاخيرة، نفس قصصي ذو رائحة واحدة على اختلاف الوانها واصباغها. وان لم يربط بين فصوله رابط فني او تجمعها عقدة واضحة نجدها في الرواية مثلا، او في الاقصوصة المتكاملة. والخيط جامع هذه الفصول، اتصوره لهفة الاب المنحني على وليده بعد الظهر، يربت على ظهره ويطرق بنعومة جلده، ويصب له الكلام في انغام، ويلحقه بالنبرة الساخنة الآتية من بعيد.
وما كان ذلك ليشكل خيطا جامعا، لولا استزادة الولد من اخبار ابيه، واصراره على عدم النوم ما لم يفعل له فعل شهرزاد لشهريار، في الاخبار...
والمادة في «اسمع يا رضا» عاطفة مشبعة بالخيال البسيط، الرائق، نابضة في كلمة سلسة جذابة، دافقة...
يقصر فريحه كتابه على الاولاد لأنهم، في عرفه، وحدهم يتذوقونه. لكن في الواقع فان الرجل اللبناني هو الذي يجوع الى هذي الحكايا، لا الولد وحده، لان الرجل في لبنان عق ارضه ودرى بانه عق. فاضحى كل ما يذكره بغدره رجعة به الى الحنان، لا الى التبكيت المؤلم وحسب.
اما قضية العبارات «الدارجة» التي المح اليها الكاتب في الكلمة المقدمة، وجاء فيها بعض الاستدراك لاستعمال الفاظ ليست هي في المعاجم، فاعتقد بانه لم يكن بحاجة الى اي استدراك... لان الكلمة الميتة باتت اليوم في مكان الاموات، حيث يوضعون الى لا عودة. اما الكلمة المنتزعة من صميم مادة ما تكتب، فتشفع بكاتبها مهما تكن مغرقة في محليتها.

نشر في 24 يونيو 1956