(بعد إصداره أول ترجمة عربية لقصيدة ملارميه الشهيرة «رمية نرد»)

جلال الحكماوي
(المغرب)

محمد بنيسيعتبر الشاعر محمد بنيس اليوم، أحد مؤسسي الثقافة المغربية الحديثة. فقد رمى بيده اليمنى، ومنذ السبعينيات، نرد التجديد الشعري والنقدي، في بركة الكتابة الأدبية المغربية الآسنة، ووشم بيده اليسرى فكر الاختلاف العصي على جسد الثقافة المغربية الرمزي، فاتحا بذلك للمغرب أفقا معرفيا مختلفاً. بين جرأة «الثقافة الجديدة» الممنوعة، وترجمة «رمية نرد» الرائدة، وتفكيك سلطة العقليات وعقليات السلطة المغربية والمشرقية التقليدية، استطاع الشاعر أن يعولم الثقافة المغربية المكتوبة بالعربية، في وقت تعرف فيه هجمة شرسة من دعاة «الحداثة الثقافية» ودفاعا بدائيا من لدن فقهاء الظلام. في هذا الحوار، يحدثنا محمد بنيس بجسارته الفكرية المعهودة عن الاحتفاء النادر الذي قامت بها الثقافة الفرنسية في شخص الشاعر برنار نويل لاختيار صداقة اللغة العربية باستضافة هذا النص الكوني لملارميه، وعن «سنوات الرصاص الثقافي»، عن «عقدة المشرق» العربي، وجائزة نوبل، وغيرها...

* صدرت لكم عن «دار توبقال» أول ترجمة عربية لقصيدة «رمية نرد» الشهيرة للشاعر الفرنسي ستيفان ملارميه. كيف تم إنجاز هذا المشروع الجسور؟

- مشروع ترجمة «رمية نرد» لستيفان ملارميه يعود إلى بداية الثمانينيات. لم تكن علاقتي بالقصيدة جديدة. فمعرفتي بها كانت في نهاية الستينيات، ولكن اقترابي، معرفيا، منها حدث في السبعينيات، عندما أخذت دراسات جديدة تظهر عنها بالفرنسية، مثل كتابات جاك دريدا ودراسة جوليا كريستيفا «ثورة اللغة الشعرية». شكلت هذه الدراسات حركة لم يتوقف نموها حتى الآن. ومعها أصبحت مرتبطا بهذه القصيدة أكثر مما كنت عليه، ثم أحسست برغبة ترجمتها إلى العربية. حالة من الجنون يمكنني أن أقول. فالرغبة في ترجمة «رمية نرد» كانت سعيا نحو مستحيل غير قابل للإدراك. رغبتي لم تكن تحديا لشيء ما، وإنما رغبة في المتعة والتعلم. لربما كان في تلك الرغبة حضور صامت لما فعله ملارميه نفسه مع أستاذه الكبير إدغار ألن بو، الذي أعاد ترجمة قصائده، رغم أن بودلير كان ترجمها قبله. أرى الترجمة مختبرا شعريا، وهي كذلك منذ دانتي، الذي افتتح زمنا شعريا إنسانيا جديدا صارت معه الترجمة الشعرية ملازمة لكتابة القصيدة الحديثة.
تركت الرغبة تلعب في دواخلي وتفعل بي ما لا أدريه. من حين إلى حين كنت أواصل متابعة ما يتصل بالقصيدة وبملارميه، من دراسات ونشر أعمال الشاعر، ثم أيضا ملاحقة فرصة زيارة البيت الصيفي لملارميه، بفالفان، قرب باريس وقراءة مراسلاته. معرفة كانت تتقاطع مع الحركة الثقافية الفرنسية وأيضا مع كتاباتي وأسئلتي الشعرية. وكان تعرفي على برنار نويل الخطوة الموالية. فهو ملتصق بملارميه في فكرته الشعرية. وعندما أصدر كتيبه عن «مرض المعنى» على لسان زوجة ملارميه، انبثق حوار بيننا عن القصيدة. مرت سنوات أحسبها طويلة وأنا غير مستعجل على شيء. وفي السنة الماضية بمراكش اقترح علي برنار وصديقته الإيطالية إيزابيلا كيكاييني، الباحثة في ملارميه والاختصاصية في طبع القصيدة، أن أقوم بترجمة «رمية نرد» ضمن مشروع نشر مزدوج اللغة، بالفرنسية والعربية. هنا أحسست بأن الاقتراح هو الأمر الذي كنت أتهيأ له، وأن الوقت قد حان.
وما علي قوله، هنا، هو أن ترجمة هذه القصيدة لا تصبح ترجمة إلا إذا تم طبعها وفق وصية ملارميه. من هنا كان لقائي بإيزابيلا وبرنار حاسما، وبدونه لم يكن بمستطاعي أن أنجز الترجمة والطبع. فملارميه لم يكتب القصيدة منفصلة عن تصور طبعها، كما أن طبعها لم يكن منفصلا عن الرؤية الملارميهة للعمل الأعلى «الكتاب». لذلك فإن ما قمت به تداخلت فيه الترجمة مع الطبع، بمواصفات صارمة في دقتها، وهو ما يعطي معنى لهذا العمل.

* كيف إذن كان العمل بينك وبين إيزابيلا كيكاييني وبرنار نويل؟

- كان مبنيا على تعاون كامل في جميع المراحل. والطبعة الفاخرة، المزدوجة اللغة، الصادرة في باريس عن «دار إيبسيلون»، تشهد على التعاون بيننا، وعلى الحوار بين نسقـين لغويـين، عربي وفرنسي، وثقافتـين، عربية وفرنسية. كان ثمة حوار في مرحلة الترجمة، حيث تمت المراجعة مع برنار، ثم كان عملنا مشتركاً في جميع مراحل الطبع، من حيث الاطلاع على الأعمال المنجزة، والاتفاق على حروف الطبع والقياسات والتقنيات. وقد قام كل واحد منا بكتابة نص خاص بالعمل، ونشرنا النصوص الثلاثة في كتاب منفصل أعطيناه عنوان «وصلة وصل مع القصيدة». وكنا، نتواصل يومياً عبر البريد الإلكتروني لتبادل الرأي، إلى جانب لقاءين مباشرين في باريس، لتدقيق المعلومات وبحث تفاصيل إخراج العمل.
وعندما أطلعت برنار نويل على وجهة نظري في البعد الشرقي ـ العربي في القصيدة شجعني على كتابة ما أفكر فيه واعتبره، مثلما اعتبر ترجمة القصيدة وطبعها بالعربية، إضافة إلى القصيدة بالفرنسية نفسها. وأنا سعيد بكون مختصين فرنسيين في ملارميه، وفي القصيدة بالذات، يولون اليوم عناية لهذه الترجمة وطبعها. فطبعتها المغربية تطابق الطبعة الباريسية، الجديدة هي الأخرى، وهما معا تحترمان وصية ملارميه. على أن هناك تمايزات بين الطبعتين. فالنص الذي كتبته للطبعة العربية بعنوان «مع القصيدة» مختلف عن الذي خصصته للطبعة الباريسية بعنوان «يوميات ترجمة»، لأني راعيت في الأول محاولة تقريب مفصّل لترجمة القصيدة من قارئها المباشر بالعربية. والنص مرفق بملاحظات وهوامش، صحبة «ملاحظة» ملارميه التي بعث بها إلى مجلة «كوسموبوليس» اللندنية، التي نشرت القصيدة أول مرة سنة 1897. وتتميز الطبعة الباريسية، المزدوجة اللغة، بنشر رسوم أوديلون رودون، الموضوعة للكتاب، لأول مرة في تاريخ نشر القصيدة. كل هذه المواصفات تم الاتفاق عليها بيننا نحن الثلاثة.

* ما علاقة هذه القصيدة بتجربة الكتابة لديك، خاصة أن ملارميه ينتمي إلى «شجرة أنسابك» الشعرية؟ وما مكانتها في تاريخ الأدب؟ ثم ما هذا البعد الشرقي ـ العربي الذي كشفت عنه؟

- الترجمة، كما ذكرت، مختبر شعري بامتياز. علاقة «رمية نرد» بتجربة الكتابة لدي تنطلق بدءا من تصور الكتابة نفسها، التي تخرج على الشعر الحر وقصيدة النثر معا. هذا أول درس تعلمته من ملارميه، الذي عاين الفتوحات الشعرية الكبرى في فرنسا نهاية القرن التاسع عشر، بعد فيكتور هوجو. مفهوم الكتابة يختار طرقا أخرى، حيث الجسد، بما هو ذات، يتورط في اللغة. ذلك هو مفهوم التجربة الشعرية. كثيرا ما التصق مفهوم التجريد بشعر ملارميه وكثيرا ما تناولته قراءات كشعر ذهني، ولكن هذه القراءة غير متبصرة. ملارميه تلميذ وفي لأستاذه إدغار ألن بو. وبالإنصات إلى شعره وكتاباته النظرية استطاع الانفلات من العلاقة البرانية باللغة وبالقيمة الأحادية للكتابة الشعرية. من هنا يكون العنصر الثاني الذي أظل وفيا له هو البصري في القصيدة، الدال على الجسدية. فنحن الذين ورثنا، ولسنا وحدنا، تصور القصيدة كصوت، نسينا أن الأندلسيين كانت لهم تجربة بصرية في كتابة القصيدة. وهو ما أفدت منه. لكن التصور الذي أتى به ملارميه أحدث ثورة جديدة، من حيث إدماج فنون في الكتابة، أقصد المسرح والمعمار والرسم والموسيقى. وهي جميعها ملتصقة بالجسدي مثلما هي متفاعلة مع المحسوس. وأضيف إلى ذلك بناء الجملة، الذي يستأثر باهتمامي. على أن هذه كلها تأتلف في ما هو أوسع، أعني: المعرفة الشعرية من ناحية؛ ونقد تصورات أخذناها عن الثقافة الشعرية الغربية، من ناحية أخرى، دونما قدرة على إعادة النظر فيها وفق ثقافتنا القديمة، التي تحمل روحا مستقبلية تحتاج لمن يكشف عنها. وعندما أكون مع «رمية نرد» أحسني مع عمل إنساني كبير، بمنزلة ملحمة جلجامش والإلياذة والمعلقات وألف ليلة وليلة والكوميديا الإلهية. أما عن البعد الشرقي ـ العربي فاستعمال كلمة «الزهر» (في دلالتها بالدارجة الأندلسية) قادني (بإضاءة من صديقي عبد الوهاب المؤدب) إلى ما هو أوسع، من حيث معرفة ملارميه بألف ليلة وليلة ورواية «الواثق» لبيكفورد والقرآن وجوانب من الثقافة المغربية. وبالعودة إلى هذه الثقافة تصبح «رمية نرد» معروضة أمامنا على نحو غير مسبوق. من هنا فإن الأصدقاء الفرنسيين الذين اطلعوا على ما كتبته، ومنهم برنار نويل وإيف بييري، الاختصاصي في ملارميه، يرون أن هذه الترجمة تضيف شيئا لم يكن معروفا في القراءات الغربية للقصيدة. هو بعد حاولت مقاربته بالاعتماد على وثائق مؤكدة. وقد أرجع أصدقائي الفرنسيون النقص في معرفتهم بهذا البعد الشرقي إلى عدم وجود من يعرف العربية من بين الدارسيـن الغربيين. وفي اللقاءات التي سيتم فيها تقديم العمل، سواء في ندوة الكتاب ورسوماته بمدينة كان، الذي سيعقد منتصف هذا الشهر، أو اللقاء المزمع تنظيمه مع أكاديمية ملارميه في متحف فالفان، ستكون فرصة الحوار أكبر مع اختصاصيين في ملارميه.
وأرى أن غياب هذه القصيدة عن حركة الشعر العربي الحديث، اختزل نظرتنا إلى التجربة الشعرية الغربية في نماذج محدودة جدا، وأصبحنا أمام جدار إمكانية واحدة في التحديث هي قصيدة النثر. قصيدة النثر عمل قوي في تاريخ الشعر الفرنسي الحديث، ولكنها ليست الوحيدة. إمكانات الانفتاح تصبح أوسع مع «رمية نرد» وفكرتها الشعرية التي تفيد بأن القصيدة الحديثة متعددة التجارب الشكلية. لذلك أرجو أن تكون هذه الترجمة هدية للغة العربية، مثلما كانت إنجليزية ملارمي، وهو يكتب بالفرنسية، هدية للغة الفرنسية.

* ما معنى نشر هذا النص الشعري الجذري اليوم في المغرب، في سياق «خراب ثقافي» عربي وعالمي واضح؟

- عندما أعطيت برنار وإيزابيلا الوعد بترجمة القصيدة والعمل معا على إصدارها في طبعة مزدوجة اللغة، لم يخطر على بالي أني صاحب رسالة ما تجاه الخراب الثقافي ولا تجاه وضع شعري أحادي البعد. لكن انخراطنا، نحن الثلاثة، في العمل، وبداية الحوار بيننا، والسير بالترجمة، جعلنا نشعر، بأننا نقوم، كل واحد بطريقته وضمن سياق الثقافة التي ينتمي إليها، بفعل مقاومة ما لزمننا الثقافي. وهو فعل رمزي. كنت واضحا مع إيزابيلا وبرنار حينما صرحت لهما بان هذا العمل قد لا يكون له أي صدى في العالم العربي، بسبب القيم الثقافية السائدة الآن، من حيث تفضيل ما هو إعلامي على ما هو معرفي، وما هو تعبيري على ما هو محايد لأسئلة الكتابة والجسد والوجود. وكان لهما نفس الرأي بخصوص الوضع الثقافي في فرنسا. وأظن أن هذا العمل سيكون محظوظا إن عثر على قراء نوعيين ينصتون إليه، ويفتحون حوارا بشأنه. هؤلاء القراء النوعيون هم الذين يمكن أن يضيئوا ما حاولته وما أخطأت فيه، أي أن يجعلوا من صدور هذه الترجمة فرصة لاسترجاع ما نراه يهرب منا، في أخلاقيات الشعر والأدب والثقافة، تمسكاً بحلم أن نكون في العالم ومع العالم.

*بخصوص هذه المقاومة، هل يمكن اعتبار حرية الكلام التي تأخذونها دائما من خارج المغرب للتعبير عن أفكاركم الشعرية والنظرية داخلة في هذا السياق؟ ثم كيف تقرأون انسداد العقل الثقافي المغربي/العربي وغربة المثقفين فيه منذ عقود؟

-رددت أكثر من مرة لأصدقائي، المتوهمين بازدهار العهد الديمقراطي في المغرب، أنني ممنوع من النشر في الصحافة المغربية. ممنوع لا من طرف السلطة بل من طرف الذين يدعون الدفاع عن الديمقراطية (والحداثة). واستمراري في الكتابة يعود الفضل فيه لخارج المغرب، عربيا ودوليا. وتشبثي بهذه المواقع مقاومة لانسداد الأفق في المغرب. لا حاضر ولا مستقبل لي في المغرب. أعرف هذا جيدا ولا أطلب من أحد شيئا. ما يعنيني هو أن أواصل عملي في الكتابة، بما ترتضيه حريتها. العمل مع إيزابيلا كيكاييني وبرنار نويل لحظة من المقاومة السعيدة، حيث كانت لي معهما حرية التفكير والمبادرة والحوار في قضايا لا يمكن لي أن أتخيل تناولها في العالم العربي بنفس القدر من الاعتبار. فهذه كلها ممنوعة، باللباقة حينا وبعنف الجهل حينا آخر. ما قمت به مع إيزابيلا وبرنار هو ما أمارسه مع أصدقاء في العالم العربي، على قلتهم التي تتضاءل يوما بعد يوم. وهو ما أمارسه بصيغة أوسع مع أصدقاء وجهات ومؤسسات شعرية وثقافية منتشرة عبر العالم. ولم يكن لجميع هؤلاء الأصدقاء والجهات والمؤسسات أن يفتحوا لي فضاء المقاومة لو لم يعثروا في كتاباتي على ما يخاطب زمن الشعر والثقافة في عالم اليوم.
المشكلة التي لا تزال صعبة التحليل في العقل الثقافي المغربي/ العربي هو أن مشروع التحديث يظل غريبا عن المجتمع. كل الاختراقات التي جربها المثقفون بعنفوان، منذ القرن التاسع عشر، لم تنفذ إلى الجوهري في الأفكار والقيم والحساسيات. مجتمعنا تقليدي، ويعمل أكثر فأكثر على أن يكرس تقليديته. لا الفكر عثر على مكانته في العالم العربي ولا الأدب ولا الفنون الحديثة. لذلك فإن المثقفين غرباء من ناحية، لأنهم معزولون، يفتقدون شرائط الحياة الطبيعية في مجتمع تقليدي، ثم لأن أغلبهم استسلم للمنفعة والامتياز، من ناحية أخرى، وفقد وضعيته كمثقف.

* منذ «بيان الكتابة»، وأنتم تفككون تبعية الثقافي للسياسي. هل تعتقدون أن الثقافة في المغرب الآن تجاوزت هذه الثنائية وابتكرت جغرافية جديدة يسمها التعدد والاختلاف العصيان على التحليل؟

-في المغرب تقلصت فاعلية تبعية الثقافي للسياسي، إلى حد ما، لأسباب، من بينها انهيار مصداقية المؤسسة الحزبية، التي كانت، منذ ثلاثينات القرن الماضي، تمتلك سلطة القرار الثقافي بالعربية، لا دفاعا عن قيم ثقافية ولكن تمسكا ببنية ذهنية فقهية. فالسياسي المغربي، المسمى في الأدبيات السياسية بالوطني، لم يكن إلا امتدادا للفقيه. وبنية الحزب لم تكن إلا امتدادا لبنية السلطة. هذه المؤسسة عملت على منع التحديث الثقافي، بالعربية، وكرست لهذا المنع كل وسائل المجتمع التقليدي، وفي مقدمتها التخوين بمعنى التكفير. ومنع الحق في الكلام، الذي مارسته بشراسة على الكاتبين بالعربية، هو ما كان أرسطو يسميه الإعدام المدني. ولو فتح، اليوم في المغرب، ملف «عهد الرصاص الثقافي» لوقف المجتمع المغربي على ما لا يمكن تصديقه. وسبب عدم فتح هذا الملف هو أن مشروع التحديث الثقافي غير مطروح. هناك مؤسسات جديدة ظهرت في الحياة الثقافية، في نشر الكتاب كما في الأنشطة الثقافية. وهي تحد من تبعية الثقافي للسياسي. على أن هناك انتشار الفكر الديني ونشوء حركة دائبة في الحياة الجامعية والاجتماعية، وهما معا يعرضان تبعية الثقافي للسياسي إلى منطقة مجهولة الفاعلية. مع كل ذلك، لا تزال عقلية استبداد السياسي بالثقافي منتعشة بين أوساط الكتاب بالعربية. والممارسون لهذه السلطة فئة تراكم المنافع والامتيازات، من دون أن تشعر بأي إحراج أو خجل من سلوك تعرف أنها تدمر به كل ما يمكن أن يتحقق من تراكم في حقل الإنتاج الثقافي نحو انطلاقة حرة للتحديث.
مقابل ذلك، نعيش، منذ بداية التسعينات، في المغرب، كثرة ثقافية وليس تعددا ثقافيا. نعم، هناك جغرافية جديدة، أهم سماتها عجز الثقافة بالعربية عن ابتكار مستقبل مفتوح. عدا ذلك، تبدو هذه الجغرافية فضاء تتصارع فيه قوى متعددة، على السلطة. كثرة تشجع على ما أسميه «الحداثة المعطوبة». الكثرة الثقافية تعني أن الأفعال لا تتوجه نحو اختيار تحديث يتعلم من النماذج الثقافية والمجتمعية الكبرى في العالم الحديث، بقدر ما يبحث كل طرف من الأطراف فيها عن أسباب فرض قوته على منفذ من منافذ السلطة. وتعمل المظاهر الأولى للعولمة على الزيادة في التفتيت، باسم التعددية، لكن المنتصر هو الكثرة المتلفة لميراث ولمستقبل مبدع، تلتقي فيه ثقافتنا مع سواها بمنظور يتحرر من الهيمنة مثلما يتخلى عن التقليد.

* في ظل هذه العولمة، هل يمكن للترجمة أن تبتكر إنسانية جديدة؟ وما شروط ذلك في الوضعية الراهنة للترجمة والمترجمين في المغرب؟

- ابتكار إنسانية جديدة هو ما كان يحلم به كل كبار المبدعين عبر التاريخ. لا أنسى آخر لقاء تلفزيوني مع جاك ديريدا. في هذا اللقاء قال «المثقف هو الذي يحاول أن يفهم ليغير الأشياء». و«الصورة التي ترسخت للمثقف عبر التاريخ هي أنه الشخص الذي يملك ذكاء ويدافع علانية عن حق من الحقوق». عديد من هؤلاء المبدعين والمفكرين، أصبحوا في العصر الحديث مترجمين. من هنا تكون الترجمة فعلا لانفتاح الرؤيات على بعضها البعض وتبادل المعارف بما يفيد في إغناء الميراث البشري. وبهذا يكون المترجم مدافعاً عن حق التفاعل بين الثقافات والحوار من أجل بناء مستقبل مشترك.
هناك مترجمون مغاربة يتمتعون بكفاءة عالية، مثلما هم مطلعون على لغات فاعلة في زمننا، مثل الفرنسية والإسبانية والإنجليزية، ولغات غير هذه أصبح مترجمون مغاربة يتقنونها. من هنا أقول إن تعلم لغة أخرى لا يصبح فاعلا، بالنسبة لثقافة من الثقافات، إن هو لم يكن يفيد في خلق شروط الضيافة، تبعا لآدابها. وهنا أنظر إلى ما يحدث في العالم الحديث، ولا أكتفي بالتبريرات التي تقدم لنا على أنها هي ما يجب أن يكون. لقد سبق لي أن تناولت، في أكثر من مناسبة، وضعية احتضار اللغة العربية. ومن المؤسف أن الذين رموا كلامي بالجرم والنكران لم يتمموا قراءة ما ذكرت عندما شددت على فعل المقاومة. الترجمة في سياقنا الثقافي تصبح فعلا من أفعال المقاومة الثقافية كلما كانت واعية بدلالتها التاريخية والثقافية ومدركة لما تستوجبه من إعادة النظر في معناها ومفعولها.

* «مرض المشرق»، يظهر ويختفي حيال المغرب. آخر أعراضه تمثلت في مؤتمر قصيدة النثر الذي انعقد في بيروت. كيف تنظرون إلى هذه العلاقة؟ وما الذي ينبغي على الثقافة المغربية القيام به للقطيعة مع هذا العمى الدونكيشوتي؟

- «مرض المشرق» عصي على التحليل. أدعي أنني ربطت حياتي الثقافية بالحياة الثقافية في المشرق العربي. وأنا متهم بذلك من أطراف الأصوليين المغاربة، بنزعاتهم المختلفة، الإسلامية والأمازيغية والفرنكوفونية. وقد دافعت دوما عن هذا الاختيار بما إنه هو الاختيار الوحيد الممكن للثقافة العربية، في المشرق والمغرب معا. وما لا يعرفه هؤلاء الأصوليون هو أنني كنت أصطدم، وأنا أشارك في هذه الثقافة وأختلط برموزها الكبرى وأتعاون مع مؤسسات كانت تمثل بالنسبة لي حرية التعبير، بعقلية مشرقية مترسخة، لا ترى سواها حاضرا في الثقافة العربية، قديما وحديثا. كانت هذه العقلية واضحة في الدراسات والمؤلفات التي كانت مقررة علينا في الجامعة، ولاحظتها أيضا، في مختلف جوانب الحياة الثقافية المشرقية. وفطنت، في النهاية، أنني أكون مقبولا في المشرق ما دمت أتكلم باسمهم وباسم متخيلهم. أما عندما أنطق باسم الثقافة المغربية، وباسم التاريخ الثقافي المغربي والأندلسي، وباسم رؤية مختلفة، فإنني لا أكاد أعثر على من ينصت إلى ما أنطق به، ثم تحول الأمر إلى أن أصبح، شيئا فشيئا، مرفوضا.
مؤتمر قصيدة النثر أتى لفضح هذه العقلية. وقد كتبت في الموضوع دفاعا عن رؤية مختلفة للوضع الشعري العربي. إن للمغاربة تاريخا يمنعهم من تجاوز حدود معلومة لنقد هذه العقلية. لدينا نقد ابن عربي ونقد ابن خلدون كنموذجين واضحين في القديم. ولدينا في العصر الحديث كتابات تنزف بهذا الجحود الذي لا يقبل صدوره عن مثقف حديث. وإذا كان الإسلاميون أو الأمازيغيون في المغرب أو الفرنكوفونيون يعلنون حربا على العقلية المشرقيةّ، العربية، وهم في ذلك لا يختلفون عن كتاب مغاربة بالعربية، أعلنوا، منذ السبعينات، عصيانهم لهذا الجبروت، فأنا أرى، كما يرى غيري، أن إحداث القطيعة مع هذه العقلية يبدأ بالعناية بالثقافة المغربية، ثم بالانفتاح أكثر فأكثر على العالم. على الثقافة المغربية أن تعرف نفسها لتعرف العالم. لقد انتهى الزمن الذي كانت الثقافة المشرقية، في مصر والشام، سبّاقة إلى التحديث. كان ذلك في زمن لم تكن بنيات ولا مؤسسات ثقافية حديثة في المغرب ولا في بلاد عربية أخرى. ذلك المركز الذي كان هو المشرق لم يعد مركزا. هناك، اليوم، حياة ثقافية مغربية وإنتاج، إلى جانب ما تكشف عنه العناية بالميراث الثقافي المغربي. القطيعة مع «مرض المشرق» يجب أن تكون معرفية، متحررة، قادرة على استنطاق الذات. وباعتقادي أن هذه المنهجية يمكن أن تحمي الثقافة المغربية من عمى دونشيكوتي، يقود المصابين به إلى فقدان الذاكرة والخيال في آن. ولا بد لنا، بهذا الصدد، أن نطلع على أوضاع ثقافية مشابهة في العالم، على غرار علاقة الثقافة اليابانية بالصينية، أو النمساوية والبولونية بالألمانية. ولا أبتغي إعطاء المزيد من الأمثلة. لوضعيتنا في المغرب مثيلات في العالم. وعلينا أن نتعلم حتى تكون القطيعة فعل إبداع لا فعل تدمير.

* هل هذه «العقلية الانقسامية» و«الثقافة السلطوية» هما اللتان تحجبان، مثلا، عن العالم العربي «جائزة نوبل»؟

- لا تعنيني نوبل إلا في جانبها الرمزي، من حيث هي إشارة إلى أن عملا أدبيا ما، أو أديبا ما، يستجيب لقيم كونية. ولا شك أن للعرب، اليوم، أعمالا أدبية، ترتفع إلى مرتبة الأعمال المستجيبة للقيم الكونية، في نظرتها للإنسان والجرأة في الدفاع عنها، منها ما كتبه مغاربة ومنها ما كتبه مشارقة. مع ذلك فإن العرب لم يحصلوا على نوبل إلا مرة واحدة. وما يقلق هو أن جذوة الدفاع العربي عنها، إعلاميا على الأقل، ينحو، سنة بعد سنة، نحو الانطفاء. التعاليق الصحافية التي اطلعت عليها، هذه السنة، دليل على أن هناك ما يفصل العرب عن بعضهم بعضا. ولا أستغرب هذا التراخي لأن الاستئثار بها حول دلالتها الرمزية إلى نقيضها. وأنا معك في أن «الثقافة السلطوية» تخنق فسحة الحرية التي من المفروض أن يبثها الجانب الرمزي من «جائزة نوبل» فينا جميعا. هذه «الثقافة السلطوية» استبدت باستضافة معرض فرنكفورت للثقافة العربية. ما عاينته في «الثقافة السلطوية»، خلال المعرض، صعّد غثياني. وما كتب في الصحافة الألمانية، آنذاك، يبين أن العالم العربي ليس واحدا وان حياته الثقافية لا تختلف في شيء عن حياته السياسية المتسلطة، المنافية للقيم الكونية. مناسبات أخرى، سابقة وحالية، يتجلى فيها الوعي الشقي للثقافة العربية، حيث يأخذ التكالب مكان التنسيق والتعاون وتبادل الاعتراف وتقاسم المواقع الرمزية. فأي معنى، بعد هذا، للقيم الكونية؟

* كما تسكن المغرب والعالم العربي، تسكن العالم. كيف تزاوج بين هذين العشقين؟ وما أثر هذه الكيمياء الكونية في نصوصك الشعرية والنظرية؟ وما جديدك المقبل؟

- وطني هو الشعر والشعر هو الكتابة. كذلك كانت جغرافية الشعراء في قديم الثقافة العربية وكذلك يجب أن أعيشها في زمني. أنا شخص يحب أن يتعلم. في مراهقتي كنت محاطا بأعمال شعرية وفكرية وفنية من العالم العربي والعالم. وشيئا فشيئا أصبح المغرب الثقافي يقدم لي أعمالا مغربية. وأنا أسعى إليها، باحثا، متوقدا. ثم أفهم التعلم بمعان مختلفة: القراءة، الإنصات، السفر، الحوار. في كل مرة كنت أكتشف أن السؤال بوصلتي في رحلة لا أعود منها ولا أندم على نتائج مغامراتها. والسؤال هو العلامة على العشق. لم أفهم الشعر إلا معرفة لها أسرارها التي لا ندركها إلا عند مجالستنا للشعر، منصتين، صامتين. من كل الجهات يهب عليّ الشوق إلى ما لا أعرف، إلى المجهول واللانهائي. في الهبوب تتفاعل العناصر وتتغير دلالاتها. لا أعود من الرحيل إلى ما لا أعرف ولا أخشى من اللقاء بما لا أعرف. في القصيدة وفي النظر إليها. الرحيل في الفضاءات المجهولة هو ما يدلني أن الشعر سعي في سعي. أما بالنسبة للجديد، فلم أغادر بعد «رمية نرد». إنجاز الترجمة والطبع ألقى بي في حالات من الغبطة والجنون والحمى. طيلة فترة الإنجاز لم أكن أعرف بالضبط أين أعيش ولا كيف. تمسكت بالتوازن، قمت بواجباتي الجامعية، وحافظت على الاستجابة للمشاركة في أنشطة شعرية. وكلما نادت عليّ الكتابة عاشرتها ولاطفتها. على الطريق، الآن، مشاريع ترجمات (أو إصدار) بعض أعمالي في لغات. لي عمل شعري جديد يتآخى مع الصمت. رسامون إلى جانبي. كتب تنتظر وقتها. وها أنا، بمتعة، أتبادل معك هذا الحوار.

الشرق الأوسط
14 – 11- 2007