(استقر في بيروت بعد خيبة العودة لبغداد لكنه قلق من لكنة الحرب والخطاب الجاهل)

زهرة مرعي

جواد الأسدي حين كانت بيروت تنعم بهدوء الأمن والسياسة قبل شباط (فبراير) 2005 عقدت أكثر من لقاء مسرحي مميز مع جواد الأسدي المسرحي العراقي المنحوت من خشب المسرح. وحينها كان الأسدي كثير الترحال بين العواصم العربية وغيرها. عاد إلي بغداد ناشداً فيها استقراراً يمكنه من إفراغ شحناته من الحب والشوق لأرض الوطن. فقابله الموت. عقد العزم علي بيروت التي وجد فيها ترحاباً كبيرا فيما مضي. وكان له مسرح بابل وحلم بإضاءة شمعة ثقافة وحياة جديدة في شارع الحمراء. لكن جواد الأسدي يقرأ بوضوح أن الخطاب السياسي في بيروت متفجر. وهو كما اللبنانيين يتقاسم معهم القلق ويخشي من البركان.
ومع ذلك في مسرح بابل استعدادات لعرض مسرحية نساء الساكسوفون في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ولشهر رمضان احتفالية فنية تليق بطقوسه.

مع جواد الأسدي كان هذا الحوار:

*قررت الاستقرار في بيروت حين لم تعد لها صورتها السابقة المحفورة بذاكرتك. هل هي مغامرة جديدة؟

منذ زمن ولبيروت في ذاكرتي درجة عالية من التناقض. لم أعتقد يوماً بأن بيروت نقية من حيث الثقافة. أفكر بالألوان المختلفة ولا أنشغل باللون الواحد. اعتقادي دائم بالاختلاط الموجود في هذه المدينة، وفيها الكثير من التناقض والألوان. وقد يكون مبعث جمالها في تعدد الألوان، هي متعددة الضربات والأشكال، وهذا ما يصنع التعدد الثقافي. عبر عروض كثيرة قدمتها في بيروت أعطتني المدينة الوجه الأكثر جمالاً والأكثر شفافية خاصة بعد مسرحية الاغتصاب لسعدالله ونوس، و تقاسيم علي العنبر لتشيخوف، و الخادمتان لجان جينيه و المصطبة لي. مع هذه الأعمال كنت أشعر أن الجمهور والحياة مختلفان، وثقافة الصحف والشعراء والأدباء والكتاب جميعهم كانت لهم نبرة مختلفة. لبنان مرّ في حروب كثيرة ودائماً كان هناك حمقي وناس لا يعرفون قيمة هذه المدينة فكانوا يغطسونها بمغطس كبير جداً. السياسيون بشكل خاص لم يستطيعوا مرة قراءة بيروت. الآن وبعد الخراب في العراق، وبعد الخراب الكبير الذي عصف بالثقافة العراقية، حيث لم أستطع كمثقف ومسرحي إقامة علاقة توازن بيني وبين الثقافة العراقية والعراق الحالي، بالرغم من وجود مثقفين عراقيين ما زالوا يتكيفون مع الظرف الجهنمي الدموي الموجود. هناك في العراق ثقافة دم وموت. كل العواصم العربية التي عشت فيها كان لها معني لكن بيروت تجذبني بطريقة مختلفة عن سواها لأن درجة التنوع وسقف الحرية فيها عال.
وللأسف الشديد بعد قدومي إلي هذه المدينة وقراري أن أقيم فيها عملي وحياتي ويومياتي وبالتالي أن يكون هناك مسرح بابل اكتشفت وأكتشف أن الحياة تنزلق نحو منحدر خطر وقاسٍ، ونحو لكنة الحرب والخطاب الأمي الجاهل. السياسيون لا يقدرون أن خطابهم السياسي لا يليق بهذا الشعب ولا بالموروث اللبناني. للأسف الشديد كأنما هناك انفصام سياسي ومعنوي بين الشعب والسياسيين. وفي الأيام الأخيرة صارت طبول الحرب تدق أكثر فأكثر. وهذا ما أعادني من جديد إلي الألم والإحساس بالكارثة.

*ألم تعد تشعر بالاستقرار؟

بالنسبة لي كشخص مثقف ومسرحي عندما أخذت قراري بأن أكون في بيروت وأن يكون لدي مسرح وأعمل باتجاه جمهور محدد كان لي أيضاً قراري بتقاسم هذه المرارة وهذا الإحباط وهذا الحب وكل هذه اللذات والانهيارات مع الشعب اللبناني. إذا لا يعقل أن نعيش مع شعب لنقطف منه فقط ثمرة الفرح أو اللذة. بالطبع أتمني أن لا يكون هناك أي انزلاق نحو الحرب، كما كنت أتمني للعراق أن لا يقع في هذه الحفرة الكبيرة. لم أفكر يوماً بالطلاق بيني وبين هذه المدينة أقبلها بسوادها وبياضها.

*في السنتين الماضيتين مرت هذه المدينة بكسل ثقافي ناتج عن الوضع الأمني هل ستستجيب لمشروعك الثقافي وتنفض عنها غبار الكسل من جديد؟

عندما تكون المدينة مشرّعة بشكل حقيقي نحو حياة مدنية وتعيش علي درجة كبيرة من الاستقرار، وعندما تكون الدولة تشرب من ماء الناس أو العكس صحيح، وعندما تطغي الحكمة علي الحماقة سيكون للمسرح مساحة كبيرة لأنه يعيش في السلام والاطمئنان. بابل كمسرح يستطيع أن يلعب دوراً إلي جانب المسارح الأخري في لبنان، وهو دور تنويري وإنساني عندما تتوفر له الظروف الجيدة. لكن عندما يشعر الناس بالخوف من الخروج ليلاً نتيجة السياجات المنتشرة في المدينة ليلاً، فهذا يتناقض مع الإحساس بالمسرح الذي يأتي نتيجة الإحساس بالجانب المدني ويجنح نحو الطمأنينة.

*لماذا وقع اختيارك علي مسرح المارينيان وشارع الحمراء تحديداً؟

عشقي الجميل والنهائي كان مع مسرح بيروت حيث قدمت عدة مسرحيات، وهو مناسب جداً لأعمالي. عدت إلي بيروت وخضت مع آل سنو المسؤولين عن المسرح حواراً طويلاً لم يؤد إلي نتيجة للأسف حيث لديهم رغبات أخري تجارية. وفي مارينيان سبق وقدمت مسرحية حمام بغدادي وجدته مسرحاً قريباً جداً من عالم مسرح بيروت خاصة لقرب المقاعد من المسرح وحجمه. والإيجابية الإضافية أنه وسط الناس.

*هل أردت إحياء مجد بابل التي تحطم مشروعها الثقافي بعيداً عن العراق؟

مجد بابل لن يعاد إطلاقاً في مدننا. أردت أن يكون في مسرح بابل هامش للثقافة العراقية. ومن هذا الباب أتعامل كمسرحي مع كبار الفنانين التشكيليين وهو جبر علوان الذي يقوم برسم مشاهد من مسرحيتي التي سأفتتحها في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل والمأخوذة عن نص برناردا ألبا للوركا وتحمل عنوان نساء الساكسوفون ، وهي ستبدو كمسرحيتين، تشكيلية يرسمها علوان من خلال البروفات وعبر متخيله الخاص، إلي جانب العرض المسرحي. كذلك المسرح بابه مفتوح نحو الثقافات الأخري بقوة شديدة.

*كمسرحي ومثقف عراقي وعربي ماذا أردت القول انطلاقاً من بيروت؟

همي الحقيقي هو تحويل المسرح إلي منصة مدنية، وإلي جدل فكري عال عبر اختيار نصوص ذات قيمة كبيرة. وأن يتحول المسرح إلي ملاذ ومحطة دفء للآخرين. وفي الوقت نفسه للمسرح رسالة وهدف وهو إشاعة التأمل والرغبة بالانتقال إلي حلم عالٍ من المتعة، ومنح الإحساس بأن المسرح هو فعلاً الحليف الحقيقي للمجتمع. والناس الذين لا يستطيعون تنفس حريتهم ورغباتهم علي الرصيف قد يكون مناسباً لهم مع دخول المسرح أن يشعروا بالراحة والرغبة بإيجاد حوار إنساني بينهم وبين العرض المسرحي. هذا هو الهدف الأكبر.

*هذا المشروع الثقافي في مسرح بابل هل يتكامل أو يتضارب مع مشروعات جارك مسرح المدينة، ومسرحي دوار الشمس ومونو؟

بالعكس، خاصة بالنسبة لي، ولست أدري كيف يفكر الآخرون. دائماً أنطلق من حسن النية، فنضال الأشقر وروجيه عساف والأخوة في مسرح مونو وكذلك مسرح اليسوعية حيث الهدف بإعتقادي من وجود هذه المسارح تأكيد منصة جمالية ثقافية عالية القيمة، وليس الدخول في مضاربات أو منافسات. العرض الجميل في مسرح المدينة هو تكملة لأي عرض جميل في مسرح بابل، كما ويكمل مشروع روجيه عساف، ويكمل مشروع مسرح مونو. كلما تعددت المسارح في مدينة ما تعددت ألوانها وأشكالها وطريقة التعبير عن حياة المجتمع والناس. عندها تُغني المدينة ويصبح لها معني.

*هل تتواءم أحلامك مع الواقع القائم في المدينة؟

صعب جداً أن يحصل أحدنا علي درجات انسجام بينه وبين ما يحصل في الواقع. يبدو أن الواقع أكثر سواداً واكفهراراً وأكثر ألماً. لكن الحياة داخل البروفات بالنسبة هي المتنفس الجمالي الذي يرفعني إلي حلم ثانٍ وإلي حياة أخري.
هل وجدت في بيروت من يحمل معك عبء همك الفني ويقدم لك المساندة؟
قسم من الأصدقاء والمعارف اعتبر خطوتي هذه وفي هذه المرحلة حماقة من جواد الأسدي وذلك من منطلق الخوف والحرص عليّ، وقسم يبارك الخطوة ويعتقد أن الثقافة هي مرآة حقيقية لكافة التقلبات في المجتمع.

*هل أنت قادر علي البرمجة لمدي معين طويل أو قصير؟

برنامجي يمتد لسنة دون أن أستطيع ضمان ما سيحصل في هذه السنة. الجميع في لبنان مرعوب وخائف من أن تنزلق الساحة اللبنانية خلال هذه الأشهر إلي حرب ما، إضافة إلي توتر الوضع الاقليمي. وكل الساسة الذين يحملون طموحات اقليمية أصبحت طموحاتهم متضخمة جداً، وأصحاب العضلات القوية يحملون المنطقة شيئاً فشيئاً إلي ترسانة موتي للأسف الشديد.
وهذا سيكون له وقعه علي حكام لا يعرفون كيفية صناعة تواريخهم وسياساتهم من أجل مجتمعاتهم بشكل لائق فينزلقون إلي تحالفات سرعان ما تؤدي بالمدينة أو الدولة إلي الكثير من البؤس.

*لا سمح الله إن خذلك مشروع أهل السياسة في بيروت فهل ستنشد الرحيل إلي عاصمة أخري؟

يضحك ملياً ويقول: لكل مسرحي طموحه الكبير. بالنسبة لي المسرح هو حياتي، وعندما ستوصد أبواب مدينة ما سأبحث عن مدينة أخري، رغم أني أعتقد بأن المرحلة التي أنا فيها في بيروت هي تتويج لسيرورة زمنية طويلة من البحث. وستكون ثمة مرارة كبيرة أن أعيد السياقات نفسها في مدن أخري.

* هل كرهت حقيبة السفر؟

أكره حقيبة السفر عندما تكون جذرية وقصرية. عندما أرتب ملابسي فيها من أجل رحلة لعرض مسرحي أحبها جداً.

القدس العربي
27/09/2007