لم أغادر القاهرة حتى الآن..مازلت هناك

ألبير قصيريفي كتبه يمجد البير قصيري الحياة علي النمط الشرقي كما يحياها، هو نفسه، في باريس: حري بنا أن نضحك، وننعم بالوجود، متحررين من كل أشكال التملك، أو الاستلاب. هل ينتمي العالم إلي هؤلاء الذين يستيقظون مبكرا؟ من ناحيته لم ينهض أبدا قبل الظهر...
البير قصيري أديب فريد لم يحدث له أن نشر أكثر من رواية في كل عقد. كل من كتبه بمثابة جوهرة ثمينة تحتفي _في اللغة الفرنسية¬ بنمط الحياة الشرقي، تحديدا مصر البؤساء الذين يعملون، في الأرض، متسلحين بالكثير من خفة الدم التي يمكن اعتبارها نوع من الحكمة. الأمر الذي يمارسه، هو نفسه، في باريس سانت جيرما ديه بخي(1). منذ العام 1945 يعيش في فندق لوزيان وطيفه الناحل والرشيق غدا وجها، محبوبا، ويحظي بالتقدير من أهالي الحي. بعمره البالغ اثنين وتسعين عاما يستمر البير قصيري في الخروج، كل يوم، إلي شرفة احد المقاهي حيث يسعه مراقبة مرور العابرين. يبتسم ويمزح، بيديه وعينيه، بما أن الكلام أصبح مستعصيا عليه، عقب عملية أجريت له، وهكذا أصبح من المتوجب أن نقرأ علي شفتيه الكلمات الذي يرفض حلقه أن يتركها تمر. غالبا ترافقه ناشرته وصديقته جويل لوسفيلد.

لقد كان البير كامو هو من نصح ادموند شارلوت بقراءة المجموعة القصصية الرجال الذين نسيهم الرب والتي كانت في أساس مساره الأدبي الفرنسي. عندما عادت جويل لوسفيلد إلي العمل في دار النشر العائلية في العام 1986 قررت أن تعيد نشر هذا العمل الذي اعتبرته احد أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين. اليوم تضع في النور أعماله الكاملة في جزئين دون مراعاة التتابع الزمني، لكن بناء علي حدس نوع من الترابط في الكل. الروايتان الأكثر شهرة وهما شحاتون ومتكبرون والكسالي في السهل البور تدشن كل منهما احد الجزئين بحيث تجذب القارئ إلي اكتشاف النصوص الأقل شهرة مثل منزل الموت الأكيد وهي الرواية الأولي للكاتب، التي ظهرت في مصر في العام 1942، أو ألوان النذالة التي انتهي من كتابتها في العام 1999. انه حوار مع مؤلف لم يكف انطلاقا من سانت جيرما دي بخي عن الكتابة عن القاهرة، الإسكندرية ودمياط.

*أجريت لك عملية في الحنجرة فلم يعد بوسعك الكلام. كيف تعيش واقع كونك غارقا في الصمت هكذا؟

إذا أخبرت انه لن يعد بوسعك الكلام بعد الآن فلربما بدا لك ذلك مرعبا وغير قابل للتصور. بالنسبة لي لم يزعجني الأمر البتة. فلم اعد مجبرا علي الرد علي استفسارات الحمقى. الأصل في الأشياء أن نكون علي قيد الحياة: إنها المفخرة الوحيدة التي يعتد بها! بعد العملية التي أجريت لي، وبمجرد أن لاحت علي أولي بوادر النقاهة خرجت، منذ اليوم الأول، إلي الشارع لتناول كأس من القهوة فيما بقي الآخرون في الأسرة مرتدين البيجامات.

*أعمالك الكاملة، عبارة عن ست روايات ومجموعة قصصية، ظهرت اليوم في جزئين. انه مصدر أخر للزهو؟

هذا الأمر لايساوي شيئا إلي جانب كونك علي قيد الحياة. مع ذلك فإنني سعيد جدا بذلك. لدي انطباع أنني قلت كل ما كان لدي ليقال. منذ صغري كنت اعرف أن ذلك سيحدث. مبكرا جدا قررت أن أكون كاتبا، مكتشفا هكذا، في الوقت نفسه، مؤلفات موليير، بومارشيه، ستاندال بين الكتب التي كان يمتلكها أخوتي الأكبر سنا. لم اقرأ أبدا أيا من كتب الأطفال. دلفت رأسا إلي المؤلفات الكلاسيكية، وبدأت في الكتابة في سن العاشرة، وفي السابعة عشر نشرت قصصا قصيرة في مجلات قاهرية.

*هل تنتمي إلي عائلة مثقفة؟

أبدا ! والدي لم يكن يقرأ شيئا باستثناء الصحف. فيما يتعلق بأمي لم تكن تعرف لا القراءة ولا الكتابة. أنا من كان يقرأ لها ما يذييل الأفلام الصامتة من كتابات حين كنا نذهب إلي السينما. أبواي لم يربياني لهذا السبب أنا ذكي! لم يكن أبي مضطرا إلي العمل. كان يعيش من عائدات أطيانه فيما كانت أمي تمتلك خدما يقومون بالطبخ والأعمال المنزلية. مع ذلك لم يكن لدينا ثروة. ففي الشرق يلزم قدر اقل من النقود مقارنة بالغرب. الثروة الحقيقية هي أن يكون بوسعك العيش بدون عمل: في فرنسا أحس أنني أكثر ثراء بكثير من الآخرين بما أنني احتفظت بهذا النمط الشرقي في تصور الوجود بلا عمل.

*مع ذلك أرسلك والداك إلي أفضل مدارس القاهرة.

كان أخوتي الاثنان يتلقيان دروسهما في مدارس الجزويت التي درس فيها عدد كبير من الوزراء. تلقيت دروسي في مدارس دينية مسيحية قبل أن انتقل إلي المدرسة الفرنسية. لقد صرت كاتبا بفضل هذا: لأنني تعلمت الفرنسية. في مصر يعلمون الإنجليزية في المدارس العامة: إنها ليست اللغة التي تولد في المرء الرغبة في الكتابة. منذ وقت طويل وأنا أفضل موليير علي شكسبير.

*إذن فأنت تكتب بالفرنسية ولكن، حصريا، حول مصر: في كتبك لم تتحدث أبدا عن فرنسا والفرنسيين.

إنني كاتب مصري يكتب بالفرنسية كما هنالك، بالمثل، كتاب هنود يكتبون بالإنجليزية، علي الرغم من بقاءهم شديدي الارتباط ببلدهم.

*هل بقيت مصريا مع انك اخترت العيش في فرنسا؟

لم أغادر القاهرة لكي اهجر مصر. جئت إلي باريس لأن الأدباء المعتبرين كانوا يعيشون فيها. فرنسا بالنسبة لي هي ستاندال، سيلين، مالرو، وأيضا لويس جويو، جان جينييه، جوليان جراك. ليس هنالك أي وجه للمقارنة بين ما كان عليه سانت جيرما دي بخي في عام 1945 وما صار عليه اليوم. في مقهى فلور(2) لم نكن لنري أمهات مع عربات الأطفال! علي مدار خمسة عشر عاما رأيت وصول رسامين وأدباء من العالم اجمع إلي هنا. لقد كان حيا حيث كان بوسعهم أن يتسلوا وان يشربوا ويأكلوا ويدخنوا ويحتفلوا طوال الليل.

*ومن سانت جيرما دي بخي استأنفت الكتابة عن مصر؟

نعم فكتبي تتموقع في القاهرة، في الإسكندرية، في دمياط أو داخل إمارة صحراوية. غير أن ما اكتبه يخص كل الناس. فضلا عن ذلك، كلما مررت بشارع السين أجد قراء يحيوني، يتحلقون حولي، يشرحون لي إلي أي درجة يتملكهم الإحساس أنهم معنيين ومتأثرين بكتبي. الناس هم الناس سواء كانوا في مصر أو في سانت جيرما، الاختلاف يكمن في اللغة إضافة إلي الموقف الشرقي الذي ينتمي بعمق إلي شخوصي: أنهم يشاطروني أسلوبي في التفكير. في الشرق كلي يبلور فلسفته الخاصة للحياة، حكمته الخاصة، وذلك لان لديهم الوقت لمشاهدة الناس يمرون.

*مفهومك للفقر قريب جدا من مفهوم بعض المؤلفين. ماجد رحمينا على سبيل المثال. أنت تؤكد إن الناس، في بعض البلدان يستطيعون حتى بدون موارد أن يحفظوا¢ كرامتهم، رفاهية الفقير الوحيدة¢ وان يكونوا أكثر سعادة من عديد أغنياء: هذا مغزي روايتك الأكثر شهرة شحاتون ومتكبرون؟

في الغرب من الممكن أن يموت شخص ما من الجوع والبرد. لكن ليس في الشرق، فهناك كل الناس يقدمون شيئا ما لهؤلاء الذين يبقون في الشارع: فكة صغيرة، شيئا ما للأكل. وحتى الأكثر فقرا يظلون مرحين. بالستة عشر مليون نسمة الذين يقطنونها تظل القاهرة مدينة، رائعة، وذلك لان الناس يمزحون. كل يوم يبتكر شخص ما حكاية ظريفة حول الحكومة، حول مشكلات الحياة. عندما يكتشفون الخدعة التي يحيا فيها بعض الناس فان الثورة الوحيدة الممكنة هي السخرية. ليس بوسعهم الاستماع إلي وزير دون ضحك... ولا شيء مما يقال هناك لا يثير اهتمامي.

*الم نعهدك غير مهتم بالسياسة؟

في فرنسا السياسة لا تعنيني ثم إنني لن أمارس السياسة في مصر فيما أحيا في فرنسا! في كل الأحوال، الناس، إجمالا، ينبذون ، أكثر فأكثر، الكيفية التي يحكم بها الساسة العالم: لم يعودوا يصوتون!

*لديك علم مسبق غير عادي بالأحداث السياسية. طموح في الصحراء التي كتبتها في العام 1984 تجري أحداثها في إمارة مهددة بالثورة. لقد فضحت فيها ¢ غطرسة التجار ¢ في الممالك النفطية الذين لا يعدون كونهم ¢ لعب في أيدي الهيمنة الإمبريالية رسولة كل المخازي¢ وتنبأت فيها بحرب الخليج؟

من المؤسف أنهم لم يلاحظوا ذلك، فيها، في لحظة الحرب!
في روايتك الأولي التي ظهرت في العام 1942 منزل الموت الأكيد قمت بوصف الانتظار والضيق اللذين ينتابان سكان عمارة، موبؤة، يعيشون حبيسي مسكنهم ¢ المنذور للشيطان¢ وذلك لأنهم كانوا أفقر من أن يذهبوا إلي أي مكان آخر. في روايتك الأخيرة ألوان النذالة، مقاول بناء، فاسد، مسئول عن خمسين نفس قضت في انهيار عمارة يتجرأ فيدافع عن فكرة انه ¢ ينبغي إتمام البناء خلال مدة محددة وإلا سيحل الانهيار ولن يكون هنالك مجمع سكني¢ في هذا الكتاب المنشور في العام 1999 توجد حتى بضعة سطور تعطي الانطباع انك حدست أحداث 11 سبتمبر أو تداعيات إعصار كاترينا: ¢ دائما مذبحة تتبعها، آجلا أو عاجلا، مذبحة أخري أكثر درامية¢ هكذا كتبت.
انه واقع العالم! إنني لا ابتكر شيئا. كل ما يوجد في كتبي هو الحقيقة، الحقيقة التي نقرأها كل يوم في الصحيفة!

*وهل أنت مستمر في الكتابة؟

بعد ألوان النذالة كنت قد شرعت في كتاب جديد. لكنني لم اعد اكتب الآن، أواجه مشكلات في البقاء جالسا وفي الإمساك بالقلم، وذلك بسبب داء اعتلال المفاصل. كنت، من قبل، اكتب في حجرتي وفي يدي قلم ماركة بيك، باذلا كل ما في وسعي لكي لا يواجه، فيما بعد، من سيطبعون كتبي علي الجهاز أية مشكلات في قراءتها. تقريبا لم أكن أقوم بشطب أي كلمة. لكي اكتب كنت انتظر إلي أن أجد الكلمة المناسبة. كان بوسعي أن أفتش عنها لبضعة أيام. لا توجد عبارات فائضة عن الحاجة في كتبي. لهذا السبب اكتب ببطء شديد.

*إيقاعك ليس إيقاع الناس المستعجلين؟

صحيح. طوال حياتي لم اذهب إلي الفراش قبل الثانية أو الثالثة صباحا وانهض عند الظهيرة.

*فلسفتك تتواشج مع رؤية ابيقورية للوجود: تقضي القسط الأعظم من وقتك في المقهى، وحيدا، في قراءة الصحف، أو مع أصدقاء، أو بصحبة النساء الجميلات. من هذه الزاوية أنت شديد القرب من شخوص مؤامرة المهرجين، فهم ينعمون بكل ملذات الحياة، لكن مبالاتهم الظاهرة تثير انتقام السلطات...

لقد استمتعت كثيرا في حياتي ويتملكني الرعب من التملك. عندما كان أصدقائي الرسامون والنحاتون ينفحوني بعض أعمالهم كانوا يعرفون أنني أبيعها منذ اليوم التالي، وذلك لكي أسدد تكاليف المكوث في الفندق أو شراء سجائري. وأحب النساء، لم أتمكن أبدا من الاستغناء عن صحبتهن. يأتين ويذهبن، لم اشعر أبدا بالملل معهن.

*أيضا، أنت تعزو أهمية كبيرة للنوم. في الكسالى في السهل البور تصف عائلة، حبيسة منزلها، يمضي أفرادها كل وقتهم في النوم. انك تبذل الكثير من الجهد في تشذيب الكسل؟

متموضعين خارج العالم، يسمح لنا النوم بالتفكير علي نحو آخر. أن لا نعمل شيئا هو عمل باطني. العطالة ضرورية للتأمل. ثم إنني اخرج من حجرتي دائما: بالنسبة لي أمر جوهري أن أتمكن من النهوض والذهاب إلي الشارع ومراقبة مشهد الناس.

*سلوكك فيه، شيء ما، من الأرستقراطية. فضلا عن ذلك، وظفت هذه الكلمة تحديدا لوصف فيلسوف ألوان النذالة الذي يحيا في مدينة الموتي:¢ كان كرم الله ينتمي إلي هذه الفئة من الأرستقراطيين، الحقيقيين، الذين نبذوا، مثل ملابس مهلهلة، كل القيم والدوجمات التي، على مدار قرون، رسختها هذه الشخصيات الدنيئة بهدف تأبيد هيمنتها¢

لم أكن، في أي يوم، عبدا لشيء ولا لأحد. الملكية هي التي تجعل منك عبدا. لهذا المبرر عشت، دائما، في الفندق، حيث حتى الأثاث لا يعود إلي. استبقيت نفسي علي مبعدة من هؤلاء الذين لديهم شيء ما ليضيع، الميسورين وهؤلاء الذين يضعون أنفسهم رهن خدمتهم. عندما كنت شابا لم نكن، أنا وأخوتي، نسعى أبدا إلي¢ كسب بعض النقود¢ علي العكس كنا نسعى لنعثر علي بعض منها ، هناك، حيث توجد، مقترضين من أبي وأمي. بعد ذلك كان أصدقائي الفنانون هم من يعطوني ما يلزم للعيش. عشت أيضا من عائدات كتبي،إنني مترجم في كل أوروبا، في انجلترا وأمريكا وكتبت عدد لا بأس به من السينياريهات للسينما. غير أنني لم استجدي شيئا أبدا: كان الآخرون يأتون للبحث عني. كيف يمكن التصرف بشكل آخر إذا كنت تنهض عند الظهيرة؟ لم استخدم الوقت أبدا لأتلفن للناس طالبا منهم أي شيء كان!

*عدد كبير من شخوصك لصوص، لكن ليسوا لصوصا ¢ شرعيين¢ وهي الفئة التي تنضد داخلها الوزراء، رجال المصارف ورجال الأعمال. وإنما رجال بلا مداخيل، لذا، وبهدف العيش، يلجأون إلي استرجاع قسط من النقود التي يكدسها اللصوص¢ الشرعيون¢ أنهم يعملون خارج القوانين، مع ذلك تحكم بأنهم اقل جناية من رجال السلطة الفاسدين.

إنها الحقيقة حتى وان صعب فهمها أحيانا. إنني مراقب متواضع. في بلدي، وعندما تأكد لهم من السلطة، القارضة، التي تمتلكها مجموعتي القصصية الرجال الذين نسيهم الرب تعرضت للرقابة.

*ما مكانتك في مصر الآن؟

امرأة تدعي أسماء البكري عملت فيلما من روايتي شحاتين ونبلاء وقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا.

*هل أنت سعيد لتحقيق نجاح؟

أكداس من الناس يلتقطون لي صورا أينما اتجهت، لكنني لا أعبأ. بل أطنش. لست منشغلا بذلك. إنني لا أعاشر إلا الناس الذين يشبهونني والذين لديهم مفهوم أصيل عن الحياة والذين لا يتركون أنفسهم أسري لما ترويه الصحف، سعداء، مثلي، بلا بطاقة بنكية، ولا دفتر شيكات، منفصلين عما يصنع سعادة الحمقى. لكن الغالبية العظمي من أصدقائي صاروا موتي الآن. لا يشيخ الناس بلا عاقبة! في مصر لم يعد هنالك احد من أفراد عائلتي. منذ موت أخر أخوتي لم أعد أذهب إلي هناك. في فرنسا، حتى ميشيل ميتراني الذي كان أصغر مني سنا اختفي. مع ذلك بقي حولي بضعة أشخاص: ناشرتي جويل لوسفيلد، وصوفي ليس التي غادرت إلي مصر لالتقاط صور للأمكنة التي تستدعيها كتبي والمصور لوجو الذي غادر ليعيش في القاهرة عقب قرأته كتبي. كان قد عمل، لبضع سنوات، رساما في صحيفة مصرية ولقد عمل من شحاذين ونبلاء قصة مصورة.

* هل أنت مستمر في قراءة مؤلفين معاصرين؟

بالطبع لا! أنهم يكتبون بصرف النظر عماذا! الغالبية العظمي من كتاب النصف الأول من القرن العشرين يعدون عباقرة مقارنة بالمؤلفين الذين ينشرون اليوم! لا، لم أعد أقرأ إلا الصحيفة وفي كل حال، الجوهري... أن تكون علي قيد الحياة!

نشرت المقابلة في مجلة لو ماجازين ليترير الفرنسية.

أخبار الأدب
يناير /7/2007