لا أحد يريد أن يصغي. لا أحد. مع القتل والحروب والصراعات والمشاكل، لا أحد يستطيع أن يصغي. والفن، الفن الحقيقي، يتطلب إصغاءً. إذن، في غمرة كل هذا، ما الذي عليّ أن أفعله؟ ببساطة، أستطيع أن أحقق أفلاما لأولئك الذين يقدّرون عملي.

أجراه: أندرو هورتون

ترجمه: أمين صالح

* هل يمكنك أن تتحدث قليلا عن سيناريو فيلمك "تحديقة يوليسيس"؟

- إنه يتعلق بمخرج سينمائي يفقد الرغبة أو الإرادة في تحقيق الأفلام. يوماً ما، أثناء زيارته جزيرة ديلوس المقدسة – المكان الذي وُلد فيه إله الشمس أبولو، حسب الميثولوجيا- تنشق الأرض فجأة وينبثق رأس أبولو الرخامي، على نحو غامض، ليتهشم إلى قطع عديدة. المخرج يحاول أن يلتقط صورة لهذا الحدث الخارق، لكن حين يحمّض الفيلم لا يرى شيئا، فالرأس قد انبثق من الموقع الذي ظهر فيه – لأول مرّة- أبولو، إله الضوء. الضوء في موقع كهذا، والذي يشكـّل مصدر الضوء، كان قويا ومبهرا جدا بالنسبة للكاميرا. هذا الحدث يقوده إلى التفكير بشأن أول فيلم صُنع في دول البلقان. ويكتشف أن هناك فيلما واحدا مفقودا، ولم يُحمّض أبدا.
فيلمي "تحديقة يوليسيس" يصبح بحثا عن ذلك الفيلم، عن حاجته الخاصة إلى الإلهام، عبر دول البلقان. أخيرا في سراييفو، في موقع الأرشيف السينمائي الذي يتعرّض للقصف، يعثر على ذلك الفيلم الأول بعد تحميضه. إنه فيلم صامت، صُوّر بالأسود والأبيض في العام 1902، عن ممثل يؤدي دور يوليسيس تجرفه المياه نحو شاطئ إيثاكا في نهاية رحلته. الممثل ينظر إلى الكاميرا وعبر القرن العشرين: إنها تحديقة يوليسيس.

* من الواضح أنك، في استخدامك لكل دول البلقان، توسّع اهتمامك بالحدود واللاجئين وكل التغييرات في هذه المناطق اليوم، والذي بدأته في فيلمك "خطوة اللقلق المؤجلة".. ما هو شعورك إزاء المآسي المنتشرة اليوم في البوسنة وأماكن أخرى؟

- أشعر أن كل هذا، التطهير العرقي والتدمير والحروب الأهلية وكل شيء، يُظهر لنا بأن هناك خواءً في أوروبا الوسطى الآن وفي دول البلقان بالتحديد. إن عصرا يموت وعصرا آخر على وشك أن يولد. نحن "في الوسط" تماما. كلنا هنا. الناس يحتاجون إلى حس جديد بالجماعة، بالسياسة، بالمعتقدات. لقد انتهت النعوت القديمة: يساري، يميني، شيوعي، اشتراكي..إلخ. ولا أعرف ما الذي سوف يحدث الآن، لكن مرحلة جديدة تبدأ. الحدود، المواقف، العلاقات، الأمم.. كلها سوف تتغيّر.

* المخرج اليوغوسلافي كارانوفيتش صرّح بأنه قادم من بلاد لم تعد موجودة، وأن وضعه، كفنان يتعيّن عليه أن يبدع، هو صعب ضمن ثقافة مصمّمة على التدمير..

- إنه زمن صعب جدا بالنسبة للفنانين والكتـّاب في دول البلقان اليوم. لا أحد يريد أن يصغي. لا أحد. مع القتل والحروب والصراعات والمشاكل، لا أحد يستطيع أن يصغي. والفن، الفن الحقيقي، يتطلب إصغاءً. إذن، في غمرة كل هذا، ما الذي عليّ أن أفعله؟ ببساطة، أستطيع أن أحقق أفلاما لأولئك الذين يقدّرون عملي.

* لماذا تشعر بحاجة إلى تحقيق أفلام مضادة لهوليوود؟

- هناك أنواع مختلفة من الأفلام لمن يرغب في مشاهدتها. لكن ليس هناك أفلام تصور بصدق ما يجري الآن، خصوصا في هذا الجزء من أوروبا. جزء مما أتمنى تصويره هو أن حياة كل فرد – أفكاره، عمله، وحتى ممارسته للحب- تتأثر بفعل المعضلات الرهيبة التي نواجهها، والتي هي أضخم منا بكثير. إن ما يحدث في "الجو" حولنا، يتحكم بنا ويحددنا.
إني أرغب في القبض على شيء من السوداوية التي نشعرها اليوم ونحن محاطون بالقتل والكوارث من كل جانب.

* أحد النقاد في اليونان قال أنك في فيلمك "رحلة إلى كيثيرا" خلقت رحلة داخل تاريخ اليونان..هل توافقه في الرأي؟

- لبس تماما. أظن أن أفلامي هي عن الرحلات التي نقوم بها في كل مكان من العالم. المشكلة عالمية: مشكلة افتقاد المكان، البيت، الوطن. هذا ما اعتقده بشأن أي فيلم أو كتاب أو أي عمل فني.
إذا قرأت، على سبيل المثال، رواية توماس مان "الجبل السحري"، فإنني لا أستطيع أن أقول "هذا مجرد وضع ألماني".. لا، في كتاب توماس مان أتعلم شيئا عن نفسي، عن شعبي. الشيء ذاته أشعره مع أفلامي. ذلك هو دور الفن. وأشعر أنه كلما مضى المرء عميقا داخل مكانه الخاص – اليونان بالنسبة لي- أصبح هذا المكان كونياً أكثر بالنسبة للآخرين. ما لا أطيقه هو ذلك الكم من الأفلام التي تسعى إلى إرضاء كل شخص باليسير من كل شيء، والذي ينتهي إلى لا شيء.
المشكلة أن الفيلم التركي، كمثال، مطالب بأن يكون محليا في لغته وموضوعاته، والفيلم الفرنسي ينبغي أن يكون فرنسيا في لغته واهتماماته.. وهكذا.

* جان رينوار توصّل إلى الاستنتاج ذاته..

- بالضبط. أفلام جون فورد "الويسترن" هي جزء من أمريكا والغرب، لكن صوته الجليّ والمتميّز يخاطب كل شخص وفي كل مكان عبر مناظره وشخصياته. بالتالي فإن أفلامه تعني للجمهور في كل مكان أكثر مما تعنيه الأفلام الأمريكية التي تحاول أن تكون أوروبية.

* يبدو أن أوروبا، بوجه خاص، قلقة بشأن الهيمنة القوية لهوليوود على صناعة الأفلام المحلية في كل بلد. لكن في اليونان، وفي التلفزيون خصوصا، أرى بأن الأفلام اليونانية القديمة، الكوميدية والرومانسية، هي أكثر جماهيرية حتى من أفلام هوليوود.. هل تتفق معي في ذلك؟

- هذا صحيح. الجيل اليوناني الشاب، مثل أي جيل شاب في أي مكان، حسب اعتقادي، صار يهتم الآن بالأفلام والأساليب والموسيقى التي تنتمي إلى الخمسينيات والستينيات. هذا، بالطبع، يعبّر عن التوق إلى البراءة المفقودة، ويمثـّل حركة نوستالجية (الحنين إلى الماضي).

في اليونان، الشبان ينظرون إلى تلك الأزمنة الماضية بوصفها "سحرية" وبريئة. الحياة تبدو بسيطة وطيبة جدا في تلك الأفلام الكوميدية والميلودراما الرومانسية. لكن المسألة هي أكثر تعقيدا، إذ يجب أن ندرك بأن الناس في كل مكان يشاهدون الآن التلفزيون على نحو مفرط، إضافة إلى الإعلانات التجارية التي لا تُحصى، والكثير من أفلام هوليوود.
ليس ثمة وسيلة حقيقية للتحكم في هذا الشأن. يبدو لي من غير المجدي محاولة وضع حصص نسبية بشأن عدد أفلام هوليوود التي يمكن أن تُعرض في السنة. أنت لا تستطيع أو لا ينبغي أن تفرض على الناس نوعية معينة من الأفلام، أو تقرر ما يجب أن تشاهدوه. لهذا فإن ولع الجيل الشاب بالأفلام القديمة هو أمر مثير للاهتمام. إنه يوحي بأنهم، إلى حدٍٍ ما، سأموا من أفلام هوليوود ومن التلفزيون. إن عودتهم إلى تلك الأفلام نابعة من منطق رومانسي.

* أول أفلامك "إعادة بناء" مكتوب، بصفة عامة، كقصة خيالية مغلـفة بالوثائقية (التعليق الوثائقي خارج الشاشة في مقدمة الفيلم، كمثال) لكن الأغنية الشعبية الرائعة في الافتتاحية تقترح إمكانية اعتبار الفيلم نوعا من الأغنية الشعبية السينمائية..

- نعم، بالفعل. الأغنية ليست مجرد أغنية شعبية لكنها تنتسب إلى ذلك التقليد اليوناني الشمالي المتصل بترانيم الميرولوجيا (مقطوعات بسيطة لكنها آسرة تـُغنى في الجنازات أو في ذكرى الموتى)

* وفي فيلمك "رحلة إلى كيثيرا" تلعب الأغنية الشعبية عن "التفاحات الحمراء" دوراً مهما..

- بالضبط. مانوس كاتراكيس (الممثل الشهير الذي قام بدور سبايروس) يؤدي هذه الأغنية التي، من بعض النواحي، تمثـّله هو، الرجل العجوز الذي، مثل تفاحة فاسدة، يتصدّع ويهلك.

* سبايروس هو يوليسيس العائد، لكن عودته إلى الوطن مختلفة جدا عن نهاية هوميروس..

- كنت أتحدث مع صديقي ألبرتو مورافيا (الروائي الإيطالي) عن هذا السيناريو أثناء كتابته. لقد تحدثت عن تأثيره عليّ، وعن اعتقادي بأن التأثير يكمن في جعل سبايروس، بوصفه يوليسيس، أقرب إلى رؤية دانتي منه إلى رؤية هوميروس، ذلك لأن دانتي، في الواقع، كان أقرب إلى المصدر الأصلي لأسطورة يوليسيس من هوميروس. وكما تتذكر، فإن هوميروس قد لجأ إلى "النهاية السعيدة" في حين أكد دانتي على استمرار يوليسيس في الترحال حتى يموت في البحر.

* في نهاية "إعادة بناء" الزوجة، بعد أن تقتل زوجها، تؤخذ بعيدا في سيارة الشرطة، لكنها تتعرّض لهجوم من قِبل مجموعة من النساء العجائز اللواتي يمكن أن يمثـّلن الأرواح المنتقمة (كما في مسرحية إسخيلوس عن أسطورة أجاممنون وكليتمنسترا) أو يظهرن مثل العجائز اللواتي ينهبن بيت الأرملة في نهاية فيلم "زوربا".. هل كان هذا قصدك؟

- هناك تماثلات، لكن لم يكن مخططا عن قصد. في فيلمي الأول هذا، لم يكن لدينا الكثير من الوقت. جدول مواعيد التصوير كان مكثفا جدا، بالتالي كان علينا أن نتصرّف بسرعة بشأن ما يمكن عمله يوما بعد يوم. من أجل تصوير مشهد العجائز، ذهبت إلى كنيسة القرية وطلبت عددا من النساء للظهور في المشهد. كل ما كان عليّ أن أقوله لهن هو أن يظهرن رد الفعل تجاه تلك المرأة التي اتخذت لها عشيقا من القرية وقتلت زوجها. ما إن سمعت النسوة هذا حتى شرعن في الهجوم فعليا على الممثلة، وأوشكن على الفتك بها.. لقد اعتقدن أن الحادثة حقيقية، وبالفعل خشيت أن يقمن بخنق الممثلة.

* الكثير مما هو مهم – أي درامي- في أفلامك يحدث خارج مجال الكاميرا، خارج الشاشة.. هل يمكنك التعليق على هذا؟

- نحن نسمي هذا "خارج الحيّز". نعم، إنه جزء من التقليد القديم للتراجيديا اليونانية. نحن لا نرى أبدا الموت أو العنف الفعلي على خشبة المسرح. إنه دائما "خارج الخشبة". الشيء نفسه نجده في المسرح الصيني والياباني، وفي العديد من أعمال بريشت أيضا.
مع فيلم "إعادة بناء"، بدأت في استخدام هذه الطريقة بوضوح، حيث ترى الشخصيات الرئيسية تدخل البيت، وأنت تعرف أن الجريمة سوف تـُرتكب في الداخل.. ترى أشخاصا يجيئون إلى الفناء ويمضون، ترى الأطفال يأتون ويلعبون ثم يغادرون.. لكنك لا ترى الحدث نفسه، أي جريمة القتل.
ولقد استخدمت هذه الطريقة كثيرا في فيلمي "الممثلون الجوالون".

* يبدو أن لديك اهتماما خاصا جدا، ليس بالمنظر الطبيعي اليوناني فحسب، بل أيضا بالقرية اليونانية..

- القرية عالم كامل في صورة مصغـّرة. للقرى اليونانية القديمة روح وحياة. إنها حافلة بالعمل واللعب والأعياد. طبعا بدأ سكان القرى اليونانية في التناقص مع بداية القرن. لكنها الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب الأهلية، التي بالفعل دمّرت كليا واقع ومفهوم القرية اليونانية. إن أسلوب أو طريقة حياتنا بأكملها تغيّرت بسبب تلك الكارثتين.

* بدون هاتين الحربين، هل كان يمكن لليونان أن تظل أمّة مركزها القرية؟

- القرى بالطبع سوف تتغيّر على أية حال، لكن ليس على نحو عنيف جدا. كان يمكن للتغيّرات أن تحدث تدريجيا وبطريقة أكثر لطفا واعتدالا. ينبغي أن تدرك بأن أحد نتائج تلك الحربين هو هجرة أكثر من 500 ألف قروي، في الخمسينيات، إلى ألمانيا وأمريكا واستراليا وبلدان أخرى بحثا عن العمل. ذلك كان يعني تحوّلا كبيرا في حياة القرية. الرجال رحلوا فجأة وبقيت النساء.. ومع كل هذه التحولات بدأت "روح" القرى في الانطفاء والموت.

* هل تشعر بضرورة عودة اليونانيين إلى القرى؟ هل ينبغي أن ينتقل نصف سكان أثينا خارج المدينة؟

- لا، ليس لدي مثل هذه الأمنيات والآمال. كل ما في الأمر أنني مهتم بذلك الشيء الجميل الذي مات هنا. إنه أشبه بموت علاقة حب قوية.. تريد أن تتذكرها، أن تفكر فيها، وأن تستنطقها.
ما الذي أرغب في حدوثه؟ ببساطة أريد أن تصبح حياتنا هنا أكثر إنسانية. لقد فقدنا الكثير في أثينا. لم يعد هناك غير الجريمة والتلوّث والزحام، حتى فقدت المدينة هويتها، فقدنا الكثير. ونحن بحاجة للعودة إلى تلك الأماكن لنجد الكثير مما لا يزال أصيلا وصادقا ومهما لحياتنا.

* يقول أريستوفان، في إحدى مسرحياته، بأنه معلـّم من خلال الكوميديا. هل أنت معلـّم من خلال السينما؟

- لا أدري. يمكنني أن أقول أن هناك جيلا من اليونانيين (والأجانب) تربّوا على أفلامي. حين كنت أصوّر فيلمي "خطوة اللقلق المؤجلـّة" في فلورينا بشمال اليونان، عانيت من أزمة قلبية غير حادة، فذهبت إلى المستشفى. الطبيب هناك، وكان في أواخر الثلاثينات من عمره، أخبرني أني كنت مسؤولا عن توجهه لدراسة الطب. سألته: وكيف كان ذلك؟.. أجاب: كنت أدرس في إيطاليا، وعندما شاهدت فيلمك "الممثلون الجوالون" تأثرت بعمق وأدركت أن الواجب يحتـّم عليّ أن أصير طبيبا، وأن أعود إلى شمال اليونان، حيث صورت فيلمك، لكي أساهم في مساعدة الناس.

* في نهاية فيلمك "منظر في السديم"، الصغيران يعبران الحدود بين ألمانيا واليونان، رغم عدم وجود تخم حقيقي بين البلدين..

- هذا صحيح.. إنه تخم مجازي.

* هل يموت الصغيران في نهاية الفيلم أم يستمران في العيش؟ النهاية توحي بالشيئين معاً..

(ضاحكا) نحن لا نسمع غير صوت طلقة واحدة فقط.

* ثيمة الآباء والأبناء، أو البحث عن الأب، تبدو مهمة في أفلامك..

- في كل أفلامي هناك شخصية تبحث عن الأب. لا أعني الأب الحقيقي فحسب، لكن مفهوم الأب كإشارة أو معنى أو رمز لما نحلم به. الأب يمثـّل ما نريد أو ما نؤمن به. ذلك يعني أن البحث عن الأب هو في الواقع محاولة للعثور على هوية الفرد الخاصة في الحياة.

* يقول المخرج البوسني إمير كوستوريكا أن "الفرح" يعني له كل شيء، وذلك الفرح يشمل الألم بالإضافة إلى المتعة. العديد من المشاهد في أفلامك، كما المشهد في "رحلة إلى كيثيرا" حين يرقص سبايروس عند قبر صديقه القديم، توحي برؤية مماثلة للفرح..

- نعم. إن فكرة الرقص على قبر الأصدقاء هي عادة قديمة تُتبع في احتفالات الموت في شمال اليونان. حين يموت شخص ما، فإنك تأكل وتشرب وتضحك وترقص وتحتفل.

* مثل طقوس الجنازة في نيو أورليانز بأمريكا حيث تـُعزف موسيقى الجاز..

- نعم. إنه ضرب من انتصار الحياة على الموت، أو ربما التسليم بأن وراء الحزن الذي يبعثه الموت، ثمة تحقق للحرية والانعتاق الذي يعنيه الموت. الروح تكون حرّة، وهذا يعني أكثر من مجرّد موت الجسد.


إقرأ أيضاً: