نصي لم يقرأ حتى الآن كما يجب

عابد إسماعيل
(سوريا)

أدونيسكانت الرحلة إلي بيت أدونيس، في مدينة جبلة، علي الساحل السوري، مملوءة بالترقٌب، وتزاحم الصور والأفكار، فيما كنت أنظر من نافذة السيارة إلي الحقول والمزارع الخضراء، والدروب الملتوية والمتعرجة، التي تقود إلي قرية قصابين ، التي تبعد كيلومترات قليلة عن شاطئ البحر الأبيض المتوسط. ورغم أنني كنت قد وضعت تصورا مسبقا للأسئلة التي أريد أن أثيرها، لكنني وجدت نفسي حائرا طوال الطريق من أين أبدأ، وكيف أفتتح الحوار مع شخصية شعرية وثقافية فريدة، لا تزال تثير الجدل والنقاش في كل ما تكتبه وتصرٌح به، ولم يخب بريقها منذ نصف قرن من الإبداع الشعري والفكري. كيف أفتتح الحوار مع صاحب (الثابت والمتحول)، بأجزائه الأربعة، الذي أحدث خلخلة في فهمنا للتراث الشعري العربي، وشاعر (أغاني مهيار الدمشقي)، الذي شكٌل منعطفا في مسيرة القصيدة العربية.

أدونيس، هذا الريادي الكبير، ومفجٌر الأسئلة الصعبة، الذي ألهم جماعة (مجلة شعر)، شعرا ونقدا، مفتتحا فجرا حداثيا جديدا في الثقافة العربية. وظل شبح السؤال من أين أبدأ يطاردني، حتى بعد أن استقبلني الشاعر في صالون منزله الريفي الأنيق، الذي تزينه اللوحات والأيقونات، وقدٌمني بزهو إلي والدته، التي تجاوز عمرها المائة عام، والتي نهضت بكل حيوية لتعانقني، غير متكئة علي عكٌاز. نظرت إلي أدونيس، الأنيق في استقباله، كما في اختيار جمله ومفرداته واستعاراته، الهادئ في خطوته، المتأمٌل في نظرته، فرأيت شابا وسيما، تجاوز السبعين من عمره، لكنه يضجٌ بالنشاط والحركة، ويملأ المكان حضورا، وكأنٌ لسان حاله يقول يظل الشاعر طفلا في حضرة قصيدته، ويظل المرء طفلا أزليا في حضرة أمٌه.

هذا اللقاء جري على هامش مهرجان جبلة الثقافي السنوي، الذي انعقد بين 21 و24 من شهر يوليو (تموز) المنصرم، بحضور شعراء وكتاب وفنانين من سوريا ومصر والعراق ولبنان، والذي دأب أدونيس علي حضوره سنويا، فكان النجم المطلق لجميع الأمسيات والفعاليات، وسرق الأضواء من الجميع، حيث كانت تطارده كاميرات الديجتال الصغيرة، وعدسات الموبايل، في كلٌ مكان يجلس فيه. وتسابق شبان وشابات لأخذ الصور التذكارية معه. وشاعرنا، في هذه الجهة من البحر الأبيض المتوسط، كان يعرف أن مهرجانا صغيرا انطلق قبل ثلاث سنوات فقط، لا بد أن يجد طريقه إلي الشهرة ذات يوم، خاصة أن أدونيس نفسه كان قد انطلق شعريا من مدينة جبلة الساحلية، في ربيع عام 1944، حين ألقي أول قصيدة موزونة ومقفٌاة له أمام رئيس الجمهورية آنذاك، شكري القوتلي، ولم يكن قد بلغ الخامسة عشرة من عمره، وكانت تلك بمثابة الشرارة الأولي التي شهدت انطلاقة هذا الشاعر الكبير إلي فضاء العالمية.

اسم أدونيس، الذي يرمز للخصب والانبعاث، والذي اختاره الشاعر منذ عام 1948، ليوقٌع به كتبه وقصائده، ظلٌ ظلٌه المرافق أبدا، وأناه الثانية التي تقيم حوارا لا ينقطع مع أناه الثقافية والتاريخية والشخصية، حيث يتناغم الحقيقي مع الرمزي، ويضمحل الفرق بين الاسم والمسمٌي. ورغم رسوخ الاسم، إلا أن الشاعر لا يحب أن يركن إليه، ويظل يبحث عن هوية جديدة، خارج أفق الدلالة المنجزة: "إنني أبحث عن اسمي، / وعن شيء أسمٌيهِ، / ولا شيءّ يسمٌي. بل إنه يسرد في ديوانه (أول الجسد، آخر البحر)، قصة أدونيس­الاسم، الذي ولد من رحمِ الكلمة، واتحد بالهواء والطين والحجر والشجر، فانتقل من الأرضي إلي السماوي، ومن الحسٌي إلي الميتافيزيقي، ليصبح رمزا للتجديد والخصوبة والانبعاث: في أساطير الأولين، أنٌ أدونيس الذي تألٌهّ بالحبٌ، أو الذي تولٌهّ فتألٌهّ،جلِقّ في الشٌعرِ ومنه: وجلِدّ مع الضوءِ والهواءِ، مع الماءِ والنبات والعشبِ والزٌهرِ، (“) وجلِدّ مرٌا، لا من المرارةِ، بل من شجرة تبكي ويسيل دمعها مرٌا. أما هذه الولادة فكانت في سوريا، البلاد التي تتجاوز حدودها تخوم الجغرافيا الطبيعية، والتي تمتدٌ بعيدا في الزمان والمكان والتاريخ، فهي فينيقيا القديمة، وأرض الطائر الذي يولد من رماده، وأرض الإله الذي يولد من دمه، وأرض الأساطير التي تنبت مع الأشجار، وتجري مع السواقي، وتهبٌ مع الريح. وقد استعاد أدونيس في شعره روح تلك الأساطير والرموز، الفينيقية والكنعانية واليونانية، (تموز، عشتار، عوليس، أفروديت، سيزيف، أورفيوس، إلخ)، مذوبا إياها في أتون لغته الشعرية، القائمة أصلا علي شعور عميق بالنفي والاغتراب.

وقد لازمه هذا الشعور، منذ البدء، ومنذ انفصاله عن اسمه الحقيقي (علي أحمد سعيد)، ليتوجٌه لاحقا، بقراءة تفكيكية عميقة للتاريخ الثقافي والشعري العام، كما في عمله الشعري الضخم (الكتاب)، بأجزائه الثلاثة، الذي يمثٌل تتويجا هائلا لمسيرة أدونيس الشعرية، بحيث تمكن مقارنته، من حيث البنية والموضوع والرؤيا، بكتب كلاسيكية عظيمة. وقد لجأ أدونيس في هذا العمل إلي بنية موشورية، تتطور حلزونيا، في رسم الحبكة، مقسٌما، الصفحة الواحدة إلي أقسام أربعة، يحتوي كل منها نصوصا وهوامش، كل هامش يعكس صوتا مختلفا، ويفرد لرؤيا مختلفة للتاريخ.

وتتركٌز رؤيا الكتاب حول قراءة رمزية عميقة للتاريخ العربي، عبر الاتكاء علي شخصية المتنبي، الذي يلعب دور الدليل، علي غرار دليل دانتي في (الكوميديا الإلهية)، الشاعر فيرجِل. ويصف أدونيس هذا العمل بالشريط السينمائي الجامع، الذي تتقاطع فيه الأزمنة، ويتلاقي فيه الذاتي بالموضوعي، عبر حفر أركيولوجي شامل في الجانب المظلم من التاريخ العربي. وقد بدأ حوارنا بالحديث عن التاريخ، من دون أن يكون للحوار نهاية:

* يصف جيمس جويس التاريخ بالكابوس الذي يحاول دائما أن يصحو منه؟ كيف يعرٌف أدونيس التاريخ؟ هل يعمل دائما ضد القصيدة أم يعمل لصالحها؟ ولماذا طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته، ثمٌ حذا حذوه لاحقا النص القرآني؟ هل لأنٌ الشعر، أو الفن، خديعة للإيقاع بالزمن، وللإفلات من التاريخ؟

­ طبعا، هذا سؤال مهم جدا، ومثير للجدل أيضا. سؤال إشكالي. أولا، ليس هناك، في تقديري، تاريخ بالمعني الشائع. هناك مسيرة بشرية، بظروف معينة، مسيرة شعب، وهذه المسيرة لها عدٌة تواريخ، لكن لا يدوٌن منها إلا ما ارتبط بالوقائع، والأحداث، والصور. إذن هناك تاريخ ظاهري سطحي هو تاريخ السلطة، والأشخاص الذين ناوءوا هذه السلطة، أو دعموها بشكل أو بآخر، مع مؤسساتها وشعرائها ومثقفيها. هذا التاريخ الظاهري، الأفقي، أنا شخصيا لا أعتبره تاريخا. وهناك مستوي آخر للتاريخ خارج السلطة، هو تاريخ المهمٌشين، والفقراء، والعاطلين عن العمل، والمشرٌدين، والمناوئين للسلطة، إلخ. وهذا لا تاريخ له. تاريخ بدون تاريخ. لكن نستطيع التعرٌف إليه ومقاربته، بقدر ما كان المؤرخون يلمٌون بوقائع وأحداث معينة، ويصنٌفوها من باب الطعن بهؤلاء المهمٌشين. لذلك، فيما يتعلق بالتاريخ العربي، كلٌ الناس الثوار والمهمٌشين كانوا يلقون صفات تحقيرية، وصفات تدل علي النبذ والإقصاء، لأنهم لا يشكٌلون جزءا حيا من الشعب. ثم هنالك مستوي آخر للتاريخ، هو تاريخ الإبداع، الذي يعطي للشعب هويته الحقيقية. إنه تاريخ المبدعين، وهؤلاء نادرا ما يفهمون علي حقيقتهم. أحيانا هؤلاء يحاولون الدفاع عن أنفسهم للبقاء بنوع من التستر، كما فعل المتصوفة مثلا، الذين أحاطوا أفكارهم في إطار من الحرص علي كلمة الإسلام، لكنهم أوٌلوا الإسلام تأويلا خاصٌا بهم، لا علاقة له بالتأويل الرسمي السائد. أو بعض المفكرين والفلاسفة الذين حاولوا أن يحتفظوا بالدين كبعد أساسي، ويقرنوا أو يضيفوا إليه ما سمي بالعقل اليوناني.
وهؤلاء قاموا بنوع من التوفيق، وسمٌوا فلسفتهم الفلسفة التوفيقية. بالنسبة لي، إذن، التاريخ الحقيقي للشعوب هو تاريخ الإبداع. تاريخ الإبداع هو دائما قائم علي إعادة النظر بالنصوص المؤسِسة، وبالأعمال المؤسِسة، ومحاولة اختراقها وتجاوزها إلي أفق آخر. وهنا أعطي نموذجا علي تاريخ الإبداع بشاعر مثل أبي نواس، الذي خلق عالما من القيم، هي قيم المدينة، مقابل قيم البداوة. وهذا لم يجفهم ولم يدرس حتى الآن. وأعطي مثالا آخر عن المعرٌي الذي حاول أن يفكٌك العالم الديني الإسلامي تفكيكا كاملا.

* متى اكتشف أدونيس أن التاريخ العربي هو بمثابة الكابوس بالمعني الذي يتحدٌث عنه جويس؟

­ حينما أعدت قراءته. كلٌ التاريخ السياسي هو تاريخ كابوسي. لذلك أنا حاولت أن أخترقه وأتحرٌر من هذا التاريخ، كي أري ما هي جذوري، ما هي أصولي، ما هي اللغة التي أنطق بها، وما هو تاريخها. بهذا المعني، استطعت أن أتحرر منه، بمناقشته وتفكيكه. وتحرٌري منه لا يزال قيد المتابعة والاستمرار. ولم أستطع التحرٌر منه، ومن الصعب التحرٌر منه، باعتبار أن هذا هو تاريخنا الرسمي. نحن ندرس التاريخ الرسمي وكأن العرب لم يقوموا بأي خطأ، وكأنهٌم هم الذين مدٌنوا العالم، وهم الذين حملوا الحقائق التي أنقذت البشرية، وليس هناك أي خطأ في حياتهم. ولا ندرس إلا الفضائل. أنا اهتممت بالجانب الآخر من الميدالية، إذا صح القول، بقفا الصورة، وحاولت من خلال دراسة هذا المسكوت عنه والمهمٌش، واللامقول، حاولت أن أغيرٌ، أن أفهم بشكل أوسع الوجه كله القائم علي نوع من الكذب.
إنه تاريخ كاذب. وأكثر ما يؤكد ما أقوله هو مثلا معاوية. هو أول من أسس الدولة الإسلامية. في عصر معاوية كان هناك شعراء. في عصر هارون الرشيد، الذي جاء بعده، وتابع تأسيس الدولة، كان لديه أبي نواس وشعراء آخرون. حينما نقرأ الآن التاريخ العربي، حتى الظاهري منه، نري أن هذا التاريخ قد انتهي. بمعني لم يعد باستطاعتنا إنتاج الأعمال والأفكار والمؤسسات التي قامت عليها الدولة الإسلامية الأولي. كلٌها أضحت جزءا من التاريخ. بينما الشٌعر الذي كتبه أبو نواس وأبو تمام، فالتاريخ جزء منه. ونحن اليوم نفهم هذا التاريخ من شعر أبي نواس وأمثاله أكثر مما نفهم شعر أبي نواس وأمثاله من التاريخ. يعني، الشعر يحتضن التاريخ، وكلما مرٌ الزمن تتضاءل المؤسسة، ويتضاءل معاوية وأمثاله، بينما يكبر ويشعٌ أبو نواس والمتنبي والمعري وأمثالهم. إذا، التاريخ الحقيقي هو تاريخ الإبداع، وتاريخ الهوية. حين ذاك يزول الكابوس. أنا، كشاعر، أعيش الآن وأستمرٌ، وما عدت أشعر أن التاريخ كابوس إلا بالمعني السياسي.

* كيف تردٌ علي من يقول إن قصيدة أدونيس ولدت معزولة عن شرطها التاريخي، بمعني أنها تكتب تلبية لمبدأ الفن من أجل الفن، وبالتالي هي تفتقر للصلة الحسٌية مع العالم؟ كيف تصنٌف قصيدتك؟ هل هي صوفية أم فلسفية؟ رمزية أم رومانسية؟

­الشعر لا يصنٌف. لا أستطيع أن أصنٌف شعري. هو كلٌ هذا، وهو شيء آخر غير هذا. لا يصنٌف الشعر. كل شعر يصنٌف يضمر نوعا من الضعف. كل ما يمكن وضعه في خانة، يمكن وصفه بالشيء الذي انتهي، الشيء الميت. الشعر مثل الهواء، لا تستطيع أن تقبض عليه. وإذا استطعت أن تقبض عليه كما تشرب كأس الماء، معني ذلك أنه شعر ضعيف، وشعر لا قيمة له. أما أنٌ شعري لا علاقة له بالمحسوس، فعلينا أن نعرٌف أولا ما هو المحسوس. بمجرٌد أن نكتب بلغة، فأنت مع المحسوس. لكن ما مستوي هذا المحسوس. المحسوس درجات، تبدأ من الأشياء الواقعية، من الكرسي والكأس والطاولة، وتنتهي بالشجر والطبيعة والسماء. هذا كله محسوس.
فضلا عن أن نظامك الرٌمزي، علي مستوي توظيف الاستعارة، لا يخلو من إحالات كثيرة إلي الريح والغيم والمطر والجبال. وتكاد لا تخلو قصيدة من هذه الإشارات.
_ شعري يولد محسوسا ولا محسوسا في آن واحد. ليس هناك شعر في التاريخ كلٌه غير محسوس. لا يمكن، لا يوجد. هذه تصنيفات تشير إلي ثقافة ضحلة. لا يصنٌف الشعر. أعطوني شعرا في التاريخ يمكن وصفه بأنه غير محسوس. لا يمكن. حتى وليام بليك شعره محسوس. حتى النفٌري الذي لا يتكلٌم شعره محسوس. إذا لم يكن محسوسا باليد، فهو محسوس بالشم، محسوس بالذوق، محسوس بالعين، محسوس بالأذن.

* كنتّ أوٌل من أطلق النفٌري، وسلطت الضوء علي نص هذا الشاعر، الغريب والغرائبي. تقول إنٌه الشاعر الذي لا يتكلٌم. هل الصمت في نصٌ النفٌري محسوس أيضا؟

­ بدون شك. لا يتكلٌم. الصٌمت جزء من القصيدة. الصمت جزء من الشعر. لا تستطيع أن تتكلم إذا لم تصمت. الصمت مثل الموت جزء من الحياة. إذا، الصمت جزء من الكلام أيضا.

* كيف ينظر أدونيس إلي المذاهب النقدية الحديثة، وهل استطاعت أن تنصف نصٌه؟ هل أغني فيلسوف مثل دريدا قدرتنا علي التأويل، أم أنه يقذف بنا إلي متاهة لا قرار لها، حيث المعاني في حركة دائمة، لا تستقرٌ علي حال؟ أم أنٌ النص، كما يقول بورخس، هو نهر هيراقليطس المتبدٌل دائما؟

­أنا أميل إلي رأي بورخس. النص هو كنهر هيراقليطس، لن تدخله مرتين. تقرؤه اليوم إذا كان نصا عظيما، في أفق، وتقرأه غدا في أفق آخر، وستجد أنه سيتغيرٌ ويتسع. النص هو قراءته. ولذلك مهما كان النص عظيما، إذا مرٌ في عقل صغير، فهذا النص يصغر. ولذلك النص يتبع العقل الكبير.

* هل أنصف النقد العربي برأيك نصٌ أدونيس؟

­ أعتقد أنني لم أقرّأ حتى الآن القراءة اللازمة. ليست مسألة إنصاف، بل مسألة قراءة. لم أقرّأ حتى الآن القراءة اللازمة، إلا نادرا واستثنائيا، وهذا لا يشكٌل قاعدة. قرِأت في السياق الثقافي السائد، وفي السياق النقدي السائد. في حين أنني يجب أن أقرأ عكسيا. أنا رجل حاول أن يعيد كتابة التاريخ العربي، وبدءا من ذلك، حاول أن يعيد كتابة الثقافة العربية، ويطرح إشكاليات جديدة، انطلاقا من هذه الإعادة. لم أقرأ إذا كما يجب.

* بل أنت قمت بإعادة تقويم الذائقة العربية النقدية أيضا، وليس الشعرية فقط، أقصد ذائقة المتلقي، من خلال كتبك النقدية، أليس كذلك؟

­ علي الأقل أسهمت إسهاما كبيرا في تغيير معني التذوق الشعري، وفي تغيير معني الشعر. لأن كل الثورة الشعرية التي نتحدث عنها اليوم، تختزل مع الأسف بالوزن والنثر. هذه عملية اختزال كانت مفيدة حين كانت مسألة سجالية. كانت مرحلة جدالية، وكنا، حينئذ، نعطي أمثلة علي تقصير الوزن، ونعطي أمثلة علي أهمية النثر. هذا كلٌه من باب التاريخ الجدالي. اليوم يجب أن نشدٌد علي ماهية الشعر، وفيما إذا كان الذي نكتبه هو شعر أم لا، سواء كان موزونا أو منثورا.
الشكل تراجع وتضاءل. ثمة الكثير من الشعراء الذين يكتبون نثرا أكثر تقليدية من شعراء التفعيلة أو الوزن. والعكس صحيح. التشديد اليوم لا يجب أن يكون علي الوزنية أو النثرية، التشديد يجب أن يرتقي إلي الشعر. هل هذا شعر، وماذا يقول. وبهذا المعني، النقد مقصٌر. الآن المعارك تدور علي الوزن أو النثر. نحن كلٌ عملنا في مجال الشعر، كل ما هدفنا إليه، هو أن نعطي المشروعية للتعبير الشعري في النثر، وهذا ما حقٌقناه. اليوم يجب أن نسأل أين الشعر، وما الشعر. علينا أن نحاول الخلاص من كابوس التاريخ، وزحزحته، أو الإشارة للآخرين. كيف يمكن أن يزحزّحّ هذا الكابوس، والنظر إلي ذلك التاريخ الآخر، الخفي، المستتر، الخلاق.

* في ديوان (الكتاب)، بأجزائه الثلاثة، تحاول أن تضع التراث العربي برمٌته قيد المحاكمة والتقويم شعريا، ودليلك هو المتنبي. لماذا اخترت المتنبي تحديدا؟ وهل ثمة من علاقة بالكوميديا الإلهية، من حيث البنية والموضوع، علي اعتبار أن دانتي ابتكر الجحيم والمطهر والفردوس لمحاكمة الفكر المسيحي، ووظف فيها فيرجيل دليلا له؟

­أبدأ من الأخير، لا شك أنني تأثرت كثيرا بهذا العمل العظيم لدانتي. وبشكل خاص في اختيار الدليل. واختلفت عنه في أن دانتي كان ميتافيزيقيا، أي دخل العالم الميتافيزيقي الديني، وأنا حاولت أن أظلٌ في التاريخ. ولم أتعرٌض إلي المسألة الميتافيزيقية في (الكتاب). هذا من جهة، من جهة ثانية، دليلي المتنبي، لا مكان له في (الكتاب) إلا كما كان فيرجيل لدي دانتي، أي مجرٌد دليل، واخترته دليلا لأنه كان في تقديري الشاعر العربي الأول، وقد يكون الوحيد، الذي وحٌد بين السياسي بالمعني اليوناني (politics) والشٌعري (poetics)، وحاول عبر هذا التوحيد أن يقول إن قائد العالم هو الذي يحدس الحدس الأكبر في هذا العالم، وهو الشٌعر. ومن يقود العالم ليس السياسة، وإنمٌا الشعر. وليست السياسة إلا جزءا من عالم الشعر.

* هل تري في هذا النص الشعري الملحمي الكتاب ترجمة للرؤيا الفكرية التي حملها كتابك الشهير (الثابت والمتحول) في أوائل السبعينات، وبخاصة تصنيفك للوقفة المعرفية تجاه التراث بأنها محكومة بثنائية الثابت والمتحول؟ وهل كان الجدل الهيغلي في صلب منهجيتك النقدية، والشعرية لاحقا؟

­ يمكن القول بتبسيط إن (الثابت والمتحول) كان نوعا من المقدمة، من تمهيد الطريق إلي كتابة (الكتاب). الآن أستطيع أن أقول ذلك. ولكن حينما كتبت (الثابت والمتحول) لم أكن أفكر بالكتاب إطلاقا. لكن لا شك أن هناك نزوع التداخل والتكامل أيضا، فكتاب (الثابت والمتحول) كان يستدعي، كما أري الآن، كتابا من نوع (الكتاب). لكن الفرق بعيد بينهما. أعتقد أن كتاب (الكتاب) فيه بعد فني ، وفيه ذاك البعد العمودي، وفيه بعد الكشف، وهذه الأبعاد غير متوفرة في (الثابت والمتحول). لكنهما، في نظري، لا ينفصلان. أما إلي أي حد تأثرت بهيجل. أنا شخصيا أتأثر بجميع النصوص الكبرى. أعتقد أن الثقافة، وخصوصا الثقافة العظيمة، كمثل الهواء. الذي يريد أن يختنق هو وحده الذي لا يتأثٌر.

* هذا يقودني إلي أن أطرح سؤالا عن علاقتنا بالغرب. تطرح دائما ازدواجية الانبهار أو الرفض؟ في كتابك (الصوفية والسريالية)، مثلا مسعى لرأب الصدع بين عالمين مختلفين، بين تجربتين روحيتين بعيدتين؟ كيف يمكن الربط بين شاعر كبودلير وآخر كأبي نواس؟

­ أولا، بين كل الشعراء في العالم تجد علاقات تمرد، علاقات رفض، علاقات النظر إلي العالم بعين جديدة، علاقات تأسيس لعلاقات جديدة بين اللغة والأشياء. الشعراء، يمكن تصويرهم، وكأنهم يعيشون في غابة واحدة، متجاورين، أخوة وأصدقاء، وإن اختلفوا. إذا، علي المستوي العام، الشعري، جميع الشعراء متداخلون، كل يأخذ من مساحة الآخر. أنا أجري مقارنة بين بودلير وأبي نواس. رامبو له علاقة أكبر بالتصوف منه بأبي نواس. مثلا، أنت لو قرأت أبي نواس اليوم، وقرأت بودلير لعثرت علي جمل ومقاطع وكلمات قالها أبو نواس ويقولها بودلير بالضبط مثله، رغم الفارق الزمني والحضاري بينهما. إذا تربطهما العلاقة بين الأبدي والزائل، هذه العلاقة عاش عليها شعر أبي نواس، في استحضاره للمدينة، وهذه من الأسس المهمة في جمالية شعر بودلير. طبعا أنا لا أحبٌ مثل هذه المقارنات، لأنٌ فيها بعض القسر، ولكن أقولها من باب المصادفة. ثمة مشكلات موجودة في الشعر العربي، كما هي موجودة في الشعر الأجنبي. مثلا علاقة أبي تمام باللغة هي تقريبا كعلاقة مالارمية باللغة. عندما تقرأ أبي تمام.....

* هل تقصد مفهوم مالارميه لما يسميه الشعر الصافي (pure poetry)؟

­أحب أن أعطي أمثلة. خذ هذا البيت لأبي تمام: مطر يذوب الصحو منه/ وخلفّه صحو يكاد من النضارةِ يمطر ، وحين تقرأ مالارميه تري طبيعة العلاقة بين اللغة والشيء متشابهة. إذا، كأن الحدس الشعري هو واحد، لكن يتجلٌي عند هذا الشاعر بشكل ينسجم ويتلاءم مع ثقافته وبيئته وتربيته وموهبته. ويتجلٌي عند شاعر آخر بطريقة مختلفة، لها خصائص مختلفة تخصٌه وحده.

* إلي أي حد تؤمن بأن اللغة تصنع الواقع؟ هيدجر يقول إن اللغة هي بيت الكينونة، وأنت كشاعر مازلتّ تؤمن بأن اللغة قادرة علي تغيير الجوهر الحقيقي للإنسان في العالم.

­الحدس الهيدجري باللغة يشبه تقريبا الحدس العربي. الحقيقة ذاتها عند العرب موجودة في اللغة. فكيف الواقع؟ الواقع هو لغة، والحقيقة لغة، فإذن، الكائن هو لغة. وهذا أكبر ما يدلٌ عليه في الإسلام النص القرآني. النص القرآني هو نص لغوي، لكن يحمل الحقيقة والكائن والواقع بوصفه نصا لغويا. وليس بوصفه نصا طبيعيا أو نصٌا فلسفيا، أو نصا علميا. إذن، الشعر العربي أو العقلية العربية مرتبطة عمقيا بهذه النظرة القرآنية إلي اللغة، والتي عبٌر عنها أجمل تعبير هيدجر في العصر الحديث، طبعا مع وجود اختلاقات شديدة، لأن هيدجر تحدث عن اللغة والشعر والكائن، في إطار فلسفي بحت، وفي إطار الفلسفة اليونانية، مما لم يكن معروفا في النص القرآني. لكن في العمق، الموقف من اللغة متشابه.

* بصراحة أحب أن أسألّك سؤالا سياسيا إلي حدٌ ما. العالم العربي يمر بمرحلة أقل ما يقال فيها إنها متفجرة. ما سبب هذه الحروب في هذا الشطر من العالم. هل تعتقد أن ثمة مناخا بنيويا متأصلا في ثقافتنا يهيئ دائما للعنف والإرهاب والتوتر، أم أن الأمر عائد ببساطة إلي غياب الديموقراطية؟

­ هذه قضايا مترابطة. أعتقد أن في فهمنا للحقيقة، وفي فهمنا للآخر، ثمة بذور تعطي إمكانية لهذا العنف. لأننا نحن نقسٌم العالم في ثقافتنا إلي قسمين: مؤمن وكافر. يعني إنها نظرة تجرٌد الإنسان من إنسانيته. قد يرد أحدهم أنه نص ديني، ونص لا يعتمد عليه كمعيار في مثل هذه الأمور. لو قرأت نظرة العرب في القرون الوسطى إلى الآخر لذهِلت.

* عفوا، هل يمكن أن تفصٌل أكثر عن طبيعية هذه النظرة في القرون الوسطي.

­ أولا، في النص الديني عندنا ما يتيح للكثيرين إمكانية هذا العنف. لأن النص الديني يقسم العالم إلي شطرين، والناس لديه اثنان: مؤمن وكافر.

* صحيح، ولكن هناك من يقول أيضا إن تاريخ الكنيسة في القرون الوسطي لم يشذٌ كثيرا عن هذه النظرة. هل نحن نعيد الآلية ذاتها؟

­ لكن أهل الكنيسة قاموا بثورتهم. وفصلوا الكنيسة لاحقا عن الحياة المدنية. ولكن نحن لم نقم بهذه الثورة، وبالتالي لا يحق لنا أن نحتجٌ بالكنيسة وبظلاميتها لكي نسوغ ظلاميتنا نحن. حتى لو افترضنا أنٌ الكنيسة لا تزال ظلامية، فهذا ليس مدعاة أو عذرا لنا لكي نظل نحن في الظلامية. إذن، نحن يجب أن نبحث في وضعنا.

أخبار الأدب
2 سبتمبر 2007