(لا يريد العودة إلى كردستان ما دامت تحكمها المافيا السياسية)

اسكندر حبش
(لبنان)

عبدالله بيشيلا نبالغ لو قلنا إن عبدالله بيشيو هو من أكثر الشعراء الأكراد حضورا وجمهورا، في المشهد الشعري الراهن. منذ نهاية الستينيات أفسح لنفسه مكانا متميزا، يحسده كثيرون عليه، على الرغم من كل المنافي التي عاشها والتي تنقل بها. هو اليوم يعيش في السويد، وقد شارك مؤخرا في مهرجان <ديار بكر> <الأدب من أجل عالم أكثر سلاما>، هنا حوار معه.

* مضى اليوم أكثر من أربعين سنة على بدايتك الشعرية. أين أوصلتك هذه الرحلة، بعد كل هذا الترحال وهذه الهجرات؟

إلى أين؟ ما زلت في النقطة عينها التي بدأت منها، إنه السؤال عينه بعد كل هذه السنين. غالبا ما كنت أسأل نفسي إلى أين سأمضي أيضا؟ وكنت أجد أن لدي وقتا طويلا لأجيب عن هذا السؤال، أما الآن فأنا أشعر بأن الطريق لم يعد طويلا بل أصبح محددا كي أجاوب عن هذا السؤال.

* قلت ذات يوم إن على الشاعر أن يكون <نبيا>، أي <أن يتوضأ قبل الكتابة>، هل ما زلت تعيش الحالة نفسها؟

لا أخفيك أني وقعت أسير هذه الجملة التي قلتها منذ زمن بعيد واعتقدت أني أفهم معناها. بيد أني أدفع الحساب الآن.

* أي حساب تدفعه؟

حرماني من الكثير من الامتيازات التي كان من الممكن، بجدارة، أن أحصل عليها. إمكانيات مادية كبيرة ربما، على سبيل المثال، من أشهر دواويني <دروس الأطفال>، لم يطبع بشكل طبيعي، وزع بمئات آلاف النسخ. كان ينسخ أو يصور على الفوتوكوبي من قبل محبي الشعر، إلى قبل سنتين. لم أكن أستطيع أن أطبع دواويني. وبتواضع أقول عندي أكثر عدد من القراء في كل أجزاء كردستان، وعلى الرغم من هذا، فإن دواويني فقيرة من الناحية الشكلية وتكتب باليد وتستنسخ.

* لماذا؟

لم تكن تتوفر لي الإمكانيات المادية لأطبعها بشكل جيد، وكنت أرفض أن أعطيها لأي حزب كان سيطبعها طبعة فاخرة. كإنسان مستقل كان من الصعب عليّ أن أقبل بهذه الشروط، لقد دفعت ضريبة استقلاليتي، لذلك فضلت العيش خارج السرب وخارج القطيع.
حرمان

* هل تشعر بندم ما على ذلك كله، وأنت الذي يملك هذا العدد الهائل من القراء؟

أبدا، لا أشعر بأي ندم. لقد دفعت الكثير من الضرائب وأشعر بالارتياح. أعرف أني حرمت نفسي وعائلتي وأقربائي من الامتيازات التي كان من الممكن أن يحصلوا عليها. لكن عندما أحيي أمسة شعرية أشعر بالفرح، أبكي من الفرح. أشعر بأني فعلت القليل من أجل هؤلاء الذين جاؤوا لسماعي. ربما أشعر بأنه كان عليّ أن أقوم بعمل أكبر من أجلهم، أعتقد أنهم يستحقون، أنهم جديرون بأن نفعل لهم أكثر من ذلك بكثير. كان، في ما مضى، ينتقدني أخي. لكنه ذات مرة سافر معي إلى كركوك والسليمانية وإلى كثير من الأماكن التي قرأت فيها الشعر. عندما شاهد كل هؤلاء، جلس إلى جانبي لأول مرة وقال <إبقَ كما أنت>، لقد صرفت كل هذه الحياة معدماً، وكنت أستطيع أن أقبض أكثر من أي شاعر كردي، لكن لما رأى تعلق الناس بي قال <إبقَ كما أنت>. ربما هي نظرتي الصوفية إلى الحياة. هذه الحياة التي ستنتهي، أعرف هذا الأمر. راح العمر الطويل بالحرمان، ولم يتبق لي سوى وقت قصير. لن أتغير الآن، لقد تأخر الوقت جدا.

* تأخر الوقت في المنافي أيضا؟

لا تتصور حجم الألم الذي أشعر به حين يسألني أحد من أين أنت. لدي مشكلة هوية لغاية الآن. شعوري بالانتماء إلى وطن اسمه كردستان على الرغم من أني لم أشاهد فيه أي شيء. كل شيء كان حرمانا وتشردا ولكني ما زلت متعلقا به. قد أكون رومانسيا أكثر من اللازم...

* كيف أثر ذلك كله في قصيدتك؟

إنه موجود حتى في قصائد الحب، في كل كلمة كتبتها، لا بد أن تشعر بذلك...

* قلت إن لديك مشكلة هوية، كيف تحدد هذا الوطن؟ هل ساعدك الشعر على تحديد ملامحه؟

بالتأكيد، إنه وطن آخر. أنا كشاعر وطني كردستاني كنت أدعو دائما إلى التحرر والانعتاق في قصائدي السياسية من العبودية، لغتي هي لغة حرة وبلدي بلد حر، أبني علاقاتي على أساس التبادل الحر. لكن، لأول مرة، وكان ذلك في العام ,2005 سألت نفسي، عند زيارتي كردستان، السؤال التالي: <كردستان لمن؟< من الجيد أن يكون لكردستان كيان، بيد أني أسأل الآن، لمن هي؟ للجميع أم لمافيا سياسية معينة. إنه سؤال يطرح نفسه.

* ما الذي يدفعك إلى طرح هذا السؤال؟

الغنى الفاضح بجوار الفقر المدقع، هذا أول ما شعرت به. لقد رأيت ذلك لأول مرة. رأيت هذا التخلف الذي يبدو كظاهرة عامة عند شعوب الشرق الإسلامي، إنها الظاهرة نفسها المنتشرة والمشتركة بين النخب السياسية العربية والكردية والفارسية والتركية. لم أكن أعرف أن حزب البعث قد يلبس في يوم من الأيام، ملابس كردية، لكني رأيت هذا الشيء، وكان جديدا بالنسبة إليّ. أعتقد أن <الكي. جي. بي>، ليست ظاهرة روسية، قد تكون ظاهرة كردية أو عربية أو فارسية. ليس للتخلف لغة معينة أو ملابس معينة أو تاريخ معين أو جغرافية معينة.

* إزاء ذلك كله، هل تخشى أن يضيع حلم هذا الوطن الذي حلمت به طويلا؟

أعتقد أن مسار التاريخ في نهاية المطاف هو لصالح التحرر. لا أعتقد أن العرب والفرس والأكراد والأتراك، هم من الشعوب المحررة في أرضهم، بل أنهم غير أحرار. من هنا أظن أن مسار التاريخ الآن هو لصالح هذه الشعوب وسيأتي اليوم الذي ستتعايش فيه هذه الشعوب مع بعضها البعض. لا نستطيع أن نغير الجغرافيا إذاً لا بد للتعايش. من الممكن أن يعيش الجميع في منطقة مزدهرة ومن الممكن أن يتقاتلوا.

مسؤولية

* كيف تفهم سبب هذا القتال؟

لأسباب من مثل لغتي أجمل من لغتك، عاداتي أكثر تقدمية من عاداتك، لن أقبلك كما أنت. يجب أن يقبل الواحد بالثاني كما هو.

* أنت من أكثر الشعراء الأكراد جمهورا، ماذا يعني لك ذلك؟

أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه الكلمة. عندما أقف أمام الناس أشعر فعلا أن الكلمة ذات حدين. كل كلمة أتفوه بها تجعلني أشعر بهذه المسؤولية وأحاول أن أكون صادقا للغاية. ولذلك وقبل أن أقرأ في كردستان أي قصيدة، أصلي، أختلي بربي.

* لست ممارسا لطقوس الصلاة، ما الذي يدفعك إلى ذلك؟

لست متدنيا في حقيقة الأمر، لكن هناك قوة هائلة وراء عقلنا ووراء إمكانياتنا الإنسانية تدير هذا العالم. لا شيء في هذا العالم صدفة. كل شيء في هذه الأكوان مبرمج من قبل عقل مدبر، نحن لا نستطيع أن نفهمه. إنه أكبر من قوتنا العقلية وأنا أؤمن بهذا العقل المدبر، الخالق.
أصلي كي أقول الحق وأنا مستعد لأدفع ثمن أن أقول الحق. في سنة ,1994 عند الاقتتال الداخلي، أقمت أمسية كبيرة حضرها آلاف الناس وآلاف المقاتلين من الطرفين، كانت مجازفة، وأخذت عائلتي وأطفالي معي للأمسية، حتى ان الأحزاب المتحاربة أنذرتني بأن ألغيها، لكني أقمتها. شعرت بأن من واجبي الأخلاقي أن أقوم بذلك، شعرت بأن الشعر صليب إما أن أحمل هذا الصليب وإما أن أتركه. لم يكن أيّ من الحزبين يشعر بارتياح. أحد القادة الكبار دعاني لزيارته، لكني غادرت كردستان في اليوم الذي دعاني فيه. توجهت إلى منطقة أخرى.

* كيف تنظر اليوم إلى كردستان؟ ألا تريد العودة إلى هناك؟

كلا، لا أريد العودة، ثمة أسباب لا أستطيع أن اقولها. أعتقد أني في الخارج، أستطيع القيام بما لا أستطيع القيام به هناك. ثمة ضغوطات عليّ، على الأقل في أن أكتب الآن.

* توزع شعرك على جميع الأبواب المعروفة هل أستطيع السؤال عما إذا كنت تفضل نوعا معينا؟

ربما الحياة غريبة بعض الشيء، أي في لحظة الحب قد تفكر بهذا الظلم الذي يلاحقك، أو قد تفكر بالفارق الطبقي. وأحيانا وأنت في اجتماع حزبي قد تكتب قصيدة حب، وفي الوطن شيء من الحبيبة. في جميع الأمور مسألة حياة أو موت، ثمة مسائل فلسفية. الحياة خليط من كل ذلك، أعتقد أن الشعر هو هذا المزيج أيضا.

صوت الضمير

* لمَ بقيت خارج أي حزب، لمَ رفضت كل أنواع المؤسسات؟

عشت حياة حزبية لغاية العام .1968 بصراحة لكل حزب قيادة أي هناك شيء يقودك وأنا لا أريد أن أكون منقادا. يقودني ضميري فقط. الشعر هو صوت الضمير والحزب مصالح. في أكثر الأحيان مصالح مادية. يتعامل الشعر مع الروح والسياسة تتعامل مع الجيوب.

* ألا تجد أنه من المفارق أن تنتقل تقاليد البعث إلى كردستان مثلما قلت؟

على الرغم من حكم صدام لم يكن هناك أي حكم، لم يكن حكم حزب وأنا لا أريد لأي شعب كان أن يعيش في ظل حكم كهذا. إذا كرهت شعبا معينا فأعطه واحدا مثل صدام لتحكمه. لكن على الرغم من كل ذلك، انتقلت الكثير من التقاليد البعثية إلى كردستان. الفساد الإداري، التزكية السياسية، لقد تعلمت كل هذه الأحزاب من مدرسة واحدة: مدرسة ما بعد الحرب العالمية الأولى، المدرسة البلشفية وخلطوها مع تقاليد عشائرية قبلية ذات نكهة محلية.

* غادرت باكرا إلى الاتحاد السوفياتي، لمَ كان ذلك؟

بعد مهرجان كركوك العام ,1972 وبعد قصيدة <12 درسا للأطفال>، شعرت بأن لا مكان لي. كانت قصيدة عنيفة ومليئة بالانتقادات وكنت في عمر لا يتيح لي أن أحتمل كل هذا الضغط. تركت الحياة الحزبية بعد أن انشق الحزب وقدمت استقالتي. كنت وحيدا جدا، وبما أني كنت عضواً في اتحاد الكتاب، ساعدني يومها رئيس الاتحاد صالح اليوسفي في الخروج، ولم يكن أمامي سوى الاتحاد السوفياتي. لم تكن حياتنا كطلاب أجانب سيئة، بل كانت أفضل من حياة السوفيات. النظام شيء والشعب شيء آخر. إنها ثقافة عظيمة وإنسانية رائعة.

* بدأت حياتك تكتب بالعربية، لكنك سرعان ما انتقلت إلى اللغة الكردية؟

أعترف بأن أكثر قراءاتي لغاية اليوم هي بالعربية والروسية والانكليزية، لكني أشاهد أحلامي بالكردية.

السفير
2006/12/05