والأشياء الأخرى التي تبدو ضرورية في حضارتنا

انطوان جوكي

منذ نيلها جائزة ماكس جاكوب للشعر عام 1979، لم تتوقف الشاعرة والناقدة والروائية الفرنسية ماري كلير بانكار trauqcnaB erialC - eiraM عن تشييد صرحها الفني المُميز. بل ثابرت في الاتجاه ذاته وبالصرامة ذاتها، حاصدة في طريقها جوائز أدبية عديدة، إن في مجال الرواية أو الشعر أو النقد، آخرها "جائزة النقد" التي توجت بحثها الصادر أخيراً لدى دار )FUP( تحت عنوان "نهاية قرن شرهة" (ednamruog elc?is ed niF) .
لكن أهمية بانكاراليوم تكمن خاصة في شعرها. وأقل ما يقال في دواوينها الكثيرة أنها تتميز بحدة ونفاذ بصيرة نادرتين، يعكس كل واحد منها مرحلة وجودية وروحية ضمن مسار خاص يبرز فيه صوتها كأحد أهم الاصوات الشعرية الفرنسية المعاصرة وأصفاها. بعيدة كل البعد من الفصاحة الشكلية او التدفق اللغوي او العاطفي المشكوك بأصالته، تقترب لغتها الشعرية قدر المستطاع من اللغز الذي يحيط بوجودنا ومن دوار كينونتنا الزائلة. قصيدتها مكان للدقة والبساطة والتزهد، نشعر داخلها بكل كلمة، بكل صمت، في موقعهما الدقيق وغير القابل للتبديل. وفي الوقت ذاته، نستشف عنفاً خفياً، مكبوحاً في قلب التبلور اللغوي. كتابة صافية اذاً ومجردة من أي فائض تأتي بتساؤلات واشراقات حادة وثاقبة حول الجسد ـ جسدها أو جسد العالم الذي نشكل داخله جزءاً حميمياً مادياً وروحياً ـ وحول الموت الذي يُغذي هذا الجسد ويقطن داخله. بمناسبة صدور بحثها المذكور أعلاه، كما بمناسبة اقتراب صدور ديوان جديد لها لدى دار enaidisbO تحت عنوان tnemetropme'd leutiR التقتها "المستقبل" في منزلها في باريس، فكان هذا الحديث:

****

ـ انها ميادين مختلفة لكنها تتقاطع، وأولى كتاباتي كانت في المجال النقدي الذي سمح لي بمقاربة كتّاب من حقبات سابقة وتكوين فكرة عن الممارسة الأدبية بفضلهم، ولكن أيضاً كتّاب معاصرين وخاصة الشعراء منهم، مما أمن لي فرصة التأمل حول المسألة الشعرية أو الادبية او حتى السياسية، وفرصة الخروج أيضاً من الذات والولوج الى داخل الآخرين، وهذا مصدر غنى كبير. أعتقد انه لا يمكننا الاستسلام للنرجسية حين نكون كتّاباً، بل نحن بحاجة الى الاحتكاك بأعمال الآخرين. بشكل عام، كتابتي واحدة وان تعددت وجوهها. الصعوبة الوحيدة هي طبعاً في توفير الوقت لذلك.

ـ اندفاعي نحو الشعر هو لكونه لغة داخل اللغة والوسيلة الأنقى والأكثر مباشرة للتعبير، بعيداً من اللسان التشدّقي الرائج في زمننا، وبعيداً من استخدام المصطلحات والمفاهيم، ضمن سياق يحدده الجسد والانفعال والحس والغريزة.

ـ الرواية هي أمر آخر، في الشعر الفرنسي الحديث لا يمكننا الإسهاب في الوصف أو ادخال حوارات، كما لا يمكننا الكذب كون الشاعر يتكلم باسمه الشخصي في حين أن الروائي قادر على استعمال اسلوب الوصف والحوار كما يشاء، كما أنه قادر على "الكذب الحقيقي" بالمعنى الذي يتطلبه العمل الروائي (iarv ritnem) الذي تكلم عنه أراغون، ومن خلال خلقه لشخصيات لا تمثله ولظروف غير ظروفه. اذاً العمل في المجالين مختلف جداً ان على مستوى الخيال أو الكتابة.

ـ أجل، إنني شاعرة بالدرجة الأولى لشعوري بأن زمننا وحضارتنا بحاجة خاصة الى الشعر. فهذا الأخير يعمل ضد عدد معين من الأشياء كالمادة وسلطة المال، بشكل لا يمكن تطبيقه في الرواية، خاصة وانني لا أكتب الرواية الاجتماعية. نعرف دائماً كيف نكتب من خلال مفاهيم ما، لكن ليس هذا ما أصبو اليه بل مضايقة القارئ وايقاظ فكرة سقوط قيمة المال والأشياء الأخرى، فيه، التي تبدو ضرورية في حضارتنا، لحظة المواجهة مع الموت أو الحب.

بداية

ـ لا أستطيع أن أقول بالتحديد كيف ابتدأت. فهنالك سيرورة نضوج مررت بها بالتأكيد. الأمر سهل الى بدايتي في المجال النقدي كوني سلكت طريق الجامعة وحصلت على شهادة الاستاذية (noitag?rga'l) من erueir?pus elamroN elocE'L الامر الذي تطلب مني تحضير أطروحة كانت عبارة عن أول بحث نقدي ، على الرغم من اطارها الاكاديمي بعد ذلك، دفعني شغفي بالنقد ورغبتي في التقدم داخل السلك الجامعي الى كتابة أبحاث نقدية كثيرة في مواضيع مختلفة. لكن جوابي هذا يبقى عاماً، فلماذا اخترت هذه الحقبة أو هذه الشخصية الأدبية بدلاً من غيرها ، هو سؤال مُثير أيضاً.
اما بالنسبة الى الشعر، فقد بدأت، كمعظم الشعراء، في كتابة القصائد في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمري، وطبعاً كانت قصائد مُقلدة وغير جيدة، لكنني ثابرت وشعرت بالحاجة الى متابعة هذا النشاط، وأظن أن شعوري منذ الطفولة بالحاجة الى التعبير عن جسدي، وعما داخل جسدي، وهو أمر لا تسمح الدراسات الجامعية بتحقيقه، هو الذي دفع بي في اتجاه الشعر، وهكذا استمريت. وأغتنم الفرصة لأقول بأني لا انتمي الي اي مدرسة او تيار شعري، بل أكره المجموعات و"العشائر" والنقاشات والنزاعات. حين أكتب مقالاً نقدياً عن أحد الدواوين الشعرية الحديثة لا أهتم اذا كان الشاعر ينتمي الى هذه "العشيرة" او تلك. انني حيوان يسير بشكل منفرد، طبعاً انا اعتبر بأننا لسنا وحيدين وإنما بالعكس نحن بحاجة الى الآخرين، ومن الجيل السابق أميل الى شعراء مثل ميشو، شاعر الجسد بالدرجة الأولى، وفرينو نظراً الى خشونة لغتها وعنفها. وفي الشعر الحديث لدي الكثير من الاصدقاء الذين أكنّ لهم الإعجاب. لكني لا أهتم بالتيارات أو المجموعات التي قد يكونون منتمين اليها.

ـ يجب قبل أي شيء تحديد ما هي الحداثة. بودلير أعطى تعريفاً لها بقوله إنها الناحية السريعة الفناء من الحضارة المعاصرة مشيراً الى ضرورة التعبير عنها من قبل الشاعر. انه تعريف مقبول لكنه لا يصلح لتعريف حداثة فترة السبعينات التي نراها تقترب من تعريف ما بعد الحداثة (?tinredom -tsop al) . لكن كل هذا الجدال حول الحداثة وما بعدها يبدو لي غير صائب على أساس ان ما يبدو لنا جلياً هو أنه بعد المرحلة التي شهدت فيها القصيدة عملية شد واقتضاب وأدى البحث حول اللغة الى محو موضوع الشعر وحتى كاتبه، عاد الشعر الفرنسي منذ فترة الثمانينينات الى نوع من الغنائية الرصينة وغير المجنحةاو الرومنسية، غنائية على الرغم من كل ما يقف بوجه الغريزة . أعتقد أنه من الأصح والأوضح التحدث عن هذا التطور، من انطواء الشعر على ظروف الكتابة الى انفتاح نحو غنائية لا تهمل الكتابة اطلاقاً، بدلاً من التحدث بشكل غير مفهوم أو بعبارات لا معنى لها، أو لها بالأحرى معان بعدد قرائها.

تحفظات

ـ في حال أخذنا روش، أنا لا يمكنني سوى احترام تجربة وصلت الى حدود الصمت، ومنه الى ممارسة فن آخر. احترم ولكن هذا لا يعني أنني اجد ذاتي في ذلك، وأن أجد ذاتي لا يعني شيئاً اذ لكل منا طبعه وتجربته، وشخصياً اعتبر أن كل تجربة بلغ فيها الشاعر حدودها تؤدي الى الصمت. لكن هذا الصمت، من يدري؟ قد نبلغه بواسطة انفعال ما او من جراء التقدم في السن، لكن برأيي ليس من خلال مفهوم الشعر بحد ذاته، فهذا الأخير هو أمر آخر. أحياناً اشعر بأن بعض الاشخاص في فترة ما أغراهم البحث عن الخلود او المطلق داخل الشعر وعبر الكتابة، لمعرفتنا بأننا فانون. لكن ذلك كان مغالاة من قبلهم كون لغتنا نفسها، كجميع اللغات، محكومة بالموت، كالأرض التي نعيش منها وعليها. فقد منح هؤلاء الاشخاص الكتابة ثقة تتخطى التواضع الذي يتوجب التحلي به فجزء كبير من طبيعتنا ذو طابع حيواني، تماماً مثل لغتنا، ونتواجد في كون مصيره الموت المُحتم. إذاً ما من ارضية صالحة للتفكير في بلوغ الخلود أو المطلق بأية وسيلة كانت، أنا اعتقد بنظام شخصي حيث هنالك اقرار بحدود الكتابة ذاتها، وهذا لا يمنع اطلاقاً في هذا المجال، بل بالعكس يبرره لبلوغ نتيجة افضل ضمن حدود الكتابة . وحين نلاحظ حدودنا، لأن الشاعر ليس مطلقاً بحد ذاته ولا هو قائد للجموع، يمكننا تأمين شيء ما لذاتنا، لأن هذا العمل يأخذ عمراً بكامله، وللآخرين لأن العمل على حياتنا الشخصية هو عمل نهبه مجاناً لحياة الآخرين.

إذاً أنا ضد هذا النوع من الكتابة والتشطيب، كما أنني ضد جملة ادورنو التي تقول بأن بعد ما حصل في أوشفيتز (ztiwhcsua) من غير اللائق كتابة الشعر، ليس فقط لأن عدد مهم من الشعراء او الناس العاديين الذي كانوا في ذلك المعسكر كتبوا الشعر داخله حتى آخر يوم من حياتهم وحافظوا من خلاله على عزة نفسهم، وإنما لأن المقصود بهذه الجملة هو وضع ما حصل في أوشفيتز في موقع استثنائي غير موجود في طبيعتنا البشرية، وبذلك ايضاً محاولة بلوغ ما هو فوق الطبيعة ولو من خلال الكارثة. لكن هذا خطأ، فنحن غائرون في الطبيعة البشرية ذاتها منذ البداية وحتى اليوم.

بساطة

لغتك الشعرية تعتمد البساطة القُصوى في التعبير كوسيلة لبلوغ الأشياء وغموضها...
ـ كلما كانت الأشياء بسيطة كلما كانت غامضة، تماماً كالشعر، كلما بدا بسيطاً كلما حركه من الداخل العنف والشك. انه تعريفي الخاص للشعر الذي لا يرتكز على الثرثرة، فهنالك شعراء يشعرون بالحاجة الى الكتابة الغزيرة تتدفق فيها الكلمات. أنا اشعر بالعكس، أي بضرورة قلة الكتابة والاقتضاب، ولهذا تراني أحب الشاعر فرينو ولكن ليس الى درجة لا نعود فيها قادرين على فهم المعنى او يستحيل فيها تمرير انفعال ما من خلال القصيدة. لكن تجريد هذه الأخيرة من كل ما هو فائض ضرورة اساسية. أتساءل دائماً عما هو زائد حين أكتب ولكن أبداً لا أشعر بالحاجة الى الإضافة.

ـ حين نكون مدركين ان الكلمات لا تتطابق والأشياء، لا يمكن للكلمات بالتالي أن تكون فخاً لنا. انا لدي رؤية كونية للحياة ولا أعتقد ان الحيوانات لا تمتلك أشكالاً لغوية مختلفة لمجرد اننا لا نفهم ما تعبر عنه على طريقتها. من يفكر عكس ذلك هو متعجرف لاعتباره ان الانسان هو حقيقة الكون المركزية . لكننا اليوم في طور تخطي هذه المسألة. أنا اعتقد أن هذه الكلمات هي طريقتنا الفريدة كبشر للتعبير. لكنني لا اعتقد ان ذلك هبة تتخطى الطبيعة أعطيت الينا. فللكلمات القدرة على الأذى، على إدانة أحد ما او على الأقل تحقيره. باختصار تمثل الكلمات افضل الأشياء وأتعسها. في الشعر نحاول استخدامها بشكلها الأمثل والأفضل. مع علمنا بأنها لا تتطابق تماماً مع ما نريد التعبير عنه. هنالك دائماً مسافة ولو ضئيلة، بين اللحظة التي نقول أو نكتب فيها الكلمات واللحظة التي يلتقط فيها المستمع أو القارئ هذه الكلمات. ولا يمكن لأحد ردم هذه الهوة بشكل كامل. أقول في احدى قصائدي: "العقد الأزرق ما أن أقوله حتى يصبح أزرق "فائت". ولكن مع اننا غير قادرين، بلفظ كلمة "حامض" مثلاً على استحضار حامضة حقيقية امامنا، إلا أننا قادرون من خلال استخدام هذه الكلمة في بيت شعري على إثارة لُعاب القارئ.

ـ هذا صحيح، لكن هنالك امراً آخر وهو أن معظم العلاقات التي نقوم بها مع العالم إن على مستوى المفاهيم (leutpecnoc) او على المستوى الاقتصادي، هي علاقات كاذبة ، خُذ مثلاً الجسد كما هو مقارب على شاشة التلفزيون او في الاعلانات والملصقات، فيتبين وكأنه لا يصلح سوى لأن نعتني به من الخارج بواسطة مراهم تجميلية لا تحصى او مراكز الجيمناز.. الخ. بينما الجسد هو أمر آخر . انه أنا وشيء آخر في آن واحد.
وهذا لغر آخر بدون شك لا يمكننا بلوغه الا حين نبتعد عن الفكر التجريدي والفكر الاقتصادي في اتجاه العبارة الشعرية المختلفة من الشيء الذي نريد التعبير عنه لكنها الاقرب منه. حين نتكلم عن الحب لا نكون في حالة ممارسته. فكما يقول مار يوحنا: لو كنت في الله بشكل كامل لما شعرت بالحاجة الى التكلم عنه. اذاً صحيح أن الشعراء هم أولئك الذين يحاولون قدر المستطاع الغاء تلك المسافة بيننا وبين الأشياء.يجب إذاً التسليم بحكمة وجود هذا الفاصل الذي هو في الوقت ذاته دافع للعمل ووعد بالتحسن.
مراجع

ـ بالفعل، أنا لست مؤمنة بالوحدانية بل اميل بسهولة الى التعددية (emsiehtylop) الاغريقية واللاتينية التي أعرفها عن كثب. ويثيرني فيها ان كل اله هو في النهاية تعبير ما عن الكون. وهذا يعود الى ثقافتي الكاثوليكية والبروتستانتية التي تلقيتها بالتتابع. واذ استخدم احياناً بعض المراجع المستقاة من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، الا ان ذلك يكون دائماً في اطار اسطوري بالنسبة الي ، يسوع هو انسان رائع حقاً، لكنه انسان فقط، بالمقابل، اذا قلت لك بأنني ملحدة أكون كاذبة، فأنا مؤمنة وبعمق بحركة الكون وبأني جزء من الاشياء أندمج فيها وأشارك بحركتها الكونية مع الحيوانات والنباتات والمعادن.. الخ. أنا لا أؤمن بمركزية الانسان واعتقد أن الموت هو تحول وليس فناء، داخل الحركة الكونية الكبرى.
ما رأيك في قول أحد النقاد في فرنسا بأن "صوت ماري كلير بانكار ينقسم الى كلامين: الاول يستنتج شيئاً يصفها أو يصرخها، والثاني أكثر عمقاً وتأملاً، يعبر عن التحول (esohpromat?m al) الذي يترجم ذلك الشعور العميق الذي ينبثق من المواجهة بين واقع العالم وحيوية ما هو حميمي؟
ـ هنالك بالتأكيد صرخة تمرد لدي ضد نظام العالم الذي فرض علينا والذي يبدو لي غير عادل. نظام الاجساد، وجود المرض والألم والحروب التي لا يمكن تبريرها بأي شيء لكن لا اعتقد ان الصوتين اللذين يتحدث عنهما الناقد هما مختلفين وانما متكاملين، اذ لا اثور ضد نظام العالم، أو بالأحرى ضد انعدام نظامه، بدون أن ألاحظ في الوقت ذاته الجمال واللذات والنور والأشياء الأخرى التي اعطيت بتهيب لنا وتكوّن الناحية المستحبة من حياتنا اليومية . صوتان متكاملان اذاً بسبب ذلك اللغز الكبير في العالم المبني على التناقض الفاضح في هذا الأخير. كتابتي احتفال واحتجاج في آن واحد.

نهاية القرن

ـ ما جذبني نحو هذه الحقبة منذ البداية هو كونها شكلت في فرنسا نوعاً من المركز لأحداث سنعيشها طوال القرن العشرين. الكاتب ويزمانز قال يوماً: "نهايات العصور تتشابه" وفي هذا الاتجاه يمكننا ان نقول الكثير. لكن ما سحرني بالدرجة الأولى في هذه الحقبة هو ذلك الضيق الذي عاشه هؤلاء الكتاب الذين شعروا بانكفاء الحضارة، خاصة بعد هزيمة 1870 ضد المانيا والحرب الأهلية الشرسة التي شهدتها باريس مباشرة بعد ذلك من جراء ما عرف بـ "العامية" (ENUMMOC AL) عام 1871. وقد فتحت احداث هذه الحرب الاخيرة جرحاً بليغاً في قلب باريس، اذ كانت المرة الأولى منذ عصور طويلة نشاهد فيها الحرائق والحرب الأهلية داخل باريس نفسها. اذاً كان ذلك بمثابة جرح في صدر الحضارة ادى ايضاً الى ازمة دينية قوية والى تساؤلات دينية لم تكن مطروحة بالشكل ذاته قبل ذلك.، فتزعزعت المعتقدات ووضع كل ما هو غامض في الحياة على الطاولة. كما ظهرت في الوقت ذاته مسألة تعاطي المخدرات والتجارب الجنسية المختلفة. كل هذه الامور كانت مجموعة داخل طبقة اجتماعية واحدة هي البورجوازية ومحيط الكتّاب. انه نوع من العويلم (EMSOCORCIM) لأنه يمكننا مشاهدة، بشكل مصغر، جميع التساؤلات داخله حول الموت وغرابة الاشياء والنزعة العرقية مع قضية درايفوس. والوطنية وضرورة الحرب ام لا، نظراً الى السير في اتجاه الحرب العالمية الأولى. صحيح ان تلك الفترة لم تعرف معسكرات الإبادة ووسائل الدمار الدقيقة والمخيفة التي سيعرفها القرن العشرين، الا ان جميع التساؤلات طرحت خلالها وبعمق. أناتول فرانس، احد كبار أدبائنا حتى اليوم، تنبأ في روايته "جزيرة البطارقة" بالقنبلة النووية وفناء حضاراتنا بشكل كامل..

الاكل

ـ ما أثار اهتمامي في البداية هو استنتاجي للدور الكبير الذي تلعبه مسألة الغذاء، بعناصره وتقاليده، لدى كتّاب تلك الحقبة، اي نهاية القرن التاسع عشر. والأمر لا يبدو بديهياً في حال أردنا تناول الموضوع ذاته في الوقت الحاضر حيث نجد عليه الكثير من المحرمات. أولها واجب المحافظة على الرشاقة وبالتالي عدم الأكل كثيراً. لكن في تلك الفترة، كان الناس والكتّاب يتناولون هذا الموضوع بصراحة، أما المحظور فكان الحب والجسد الذي يحب أو يُحب وليس الجسد الذي يأكل. بل أدى حظر الكلام الإيروسي الى استخدام الغذاء او الأكل باستعارة في كل مرة كنا نتحدث فيها عن موضوع الحب والشهوة الجنسية.

الامر الآخر الذي دفعني لمعالجة هذا الموضوع هو أنني شاعرة يلعب الأكل وعالمه دوراً أساسياً في شعري واعتبره احد الألغاز الرئيسية التي تواجهني. فأنا شرهة في الأكل وأطبخ جيداً، لكن في الوقت ذاته لا أنسى أبداً انه من موت الآخرين حيونات او نباتات، نتغذى، اذاً دائماً اللغز ذاته الذي تحدثنا عنه سابقاً والمبني على وجهين متناقضين لكن متكاملين لحقيقة واحدة، رائعة ومرعبة في الوقت ذاته. وهذا ما استنتجه كتّاب تلك الحقبة نظراً لحساسيتهم المفرطة.

ـ في فرنسا، نعم، أما في الدول الانغلوساكسونية فقد تمت مقاربته غالباً، ادبياً وعلمياً ايضاً. واتساءل لماذا لم يكن السبب في ذلك هو أن التقليد الجامعي الفرنسي تعقلي (etsilautcelletni) لدرجة عميقة لا تسمح له بتأمين البعد الكافي امام هذه الأسئلة التي قد تبدو "غير نبيلة" بالنسبة إلي، كل شيء نبيل كل ما يشكل جزءاً من حياتنا نبيل بالدرجة ذاتها، وبالتالي فان جميع النواحي الادبية لها قيمتها، واهتمامي بالموضوع الذي اعالجه في كتابي الأخير، اي ما بينالأكل والأدب، هو لأنني أكيدة بأنه يشكل حقل دراسة واسعاً لكن مهمل جوراً، اذ يظهر من خلاله كم من الاعترافات والعصابيات والاستعارات لدى كتّاب حقبة "الانحطاط" لا يمكن تجاهلها في حال اردنا فهمهم بعمق.

ـ طبعاً، وهذا لا يتعلق فقط بكتّاب الحقبة المذكورة. اذ يمكننا أن نقول الكثير حول اتحاد الأكل والكتابة او الأكل والكلام. انا على يقين ان هنالك ترجمة لإيقاع نفسنا وتنفسنا، والطريقة التي نأكل بها في الكتابة.
كما أن الغذاء والكلام يستخدمان المسلك البيولوجي ذاته فينا...
ـ بالفعل. ففي احدى قصائدي اقول:"اغار من الثمرة التي تسلك طريق جسدي الكاملة ، بينما الكلام (او الصوت) لا يسلك سوى جزء منها.

ـ الإيروسية كانت حاضرة بقوة في تلك الفترة. درجة الخيانة الزوجية لدى الروائيين كانت عالية جداً، لكن وصف الفعل الجنسي كان يتوقف عند المشهد الإيروسي، كما لدى بورجي واناتول فرانس وموباسان، لصالح استعارات مطبخية. والمثير هنا هو ان حظر التكلم عن الجنس على الرغم من ممارسته على شكل واسع ـ ويشهد على ذلك عدد المومسات الكبير آنذاك ـ هو الذي اعطي لموضوع الأكل كامل اهميته المجازية. فهو اكثر موضوع يستجوب الجسد الى جانب الايروسية طبعاً. فأية استعارة كان بالإمكان تطويعها لخدمة الإيروسية اكثر من تلك المتعلقة بالأكل؟ والسؤال الكبير هنا هو أن جميع الادباء الكبار في تلك الفترة كانوا رجالاً...

ـ بالفعل، لا نجد في اية حقبة اخرى هذا الكم من العدائية تجاه المرأة لجملة اسباب. فعلى سبيل المثال، كانت المرأة الميسورة قبل الثورة الفرنسية تملك موقعاً اجتماعياً افضل من الموقع الذي وجدت فيه، بعد ذلك.
فإعلان حقوق الانسان جاء مناهضاً لحقوق المرأة غير المذكورة فيه. صحح التيارالرومنسي هذه المسألة قليلاً بسبب تكريمه المرأة ورفعها مثالاً اعلى . لكن الحقبة التي أعالجها كانت حقبة انطواء على الذات تتكاثر فيها الاطباع العُصابية. اذ كان الرجال يشعرون بضيق داخل جلدهم وفي حالة اختلاف مع ذاتهم. كما كانوا عرضة لتساؤلات كبيرة وكانوا ينظرون الى المرأة كشخص مماثل ومختلف في الوقت ذاته، لطرحها التساؤلات ذاتها حول الموت والمرض والجنس من الجهة المقابلة، الخ. فقط المرأة القديسة التي لا تأكل ولا تمارس الحب كانت تخرج من نطاق عدائتيهم، كما لو ان علاقة المرأة بالرجل هي التي كانت تخيف هذا الأخير، اذ كان يخاف من الانحلال فيها ومن ان تأكله. وحجم هذا الخوف كان بحجم حاجته اليها، وخاصة على مستوى الأكل، منذ حضوره في احشائها وحتى الشيخوخة، باختصار، شعر الرجل بذعر حقيقي تجاه المرأة في تلك الحقبة.

ـ اذا كان هنالك من بعد انطولوجي فهو لأن الغذاء هو الموت، وحين يرينا موباسان قرويين فقراء يحتفلون ليلة رأس السنة حول معجن وضعوا داخله جثة جدهم، يدل هذا الكاتب الكبير على اجتماع الموت والحياة داخل حقيقة واحدة. ففي الوقت ذاته، يجعلنا نلاحظ ان الحياة نفسها هي قتل واننا لا نعيش الا من القتل. اذاً من خلال الأكل أو الغذاء يسطع اللغز الذي نعيش من جرائه، والذي اتكلم عنه منذ البداية، اذ يمكننا العيش بدون الحب او الشعور الديني، لكن أبداً بدون أن نتغذى. الأكل هو أكثر شيء أساسي في حياتنا.

المستقبل
الاثنين 9 نيسان 2007