ينقصني كلُّ ما لم أحصلْ عليه، لكي أعرِّفَ الحاضرَ بالندم، لكي أخسرَ ـ دائماً ـ كلَّ ما لم أحصل عليه.
أمامَ عاصفةٍ تندفعُ ولا قدرةَ لي على إرجاعها، أستمرُّ، متكئاً على كلامٍ خائفٍ، دائماً، كآخر النسيان، أستمرُّ، كمستقبلٍ هاربٍ وأقدامهُ تحرثُ الذكرى.
لا أعرف لماذا اخترت هذا النص من التراث الكثير للشاعر العراقي محمد مظلوم ليكون نافذة البدء لرؤى التحاور معه. فالنص في بنائه يمتلك ارتباكا روحيا إزاء محنة ما تتشكل في قصد الوعي والمكان والذاكرة وهذا يمكن أن يعكس على كامل ماينتجه مظلوم حتى في تراثه النقدي والنثري الذي يحاول فيه في أحيان مختلفة التخلص من هيمنة الشعر الذي فيه ليطلق أفكاراً مسيسة ورؤى لتاريخ مفترض وفي روح معانيها الكثير من الشعر .
يكتب محمد مظلوم الشعر من ثمانينيات القرن الماضي . يكتبه منذ بدء الانفعال السريالي جراء إسقاطات الحرب المفروضة فيه ، يكتبه بتمرد الحالة واقتفاء الأثر الذي فيه ليسجل مع جيله مرآة الإبداع في كومة الخراب وليحاول من البدء أن يسلك الطريق الخاص في صناعة مملكته بعيدا عن رؤى تشكل المشاهد بغيبيات الحدس ونهاية الحقبة ومذاهب البهرجة .
لقد اختار نقطة واحدة على الأرض وذهب إليها . نقطة في الشام حيث ، جلس وحاور أمكنته وصنع دواوينه ، ومارس المشاهدة الأخرى لذاكرة الوطن من خلال عبور الخابور أو من خلال مرقاب الروح حيث ظلت قصائد محمد مظلوم وافتراضات مقالاته تعلل بسحر المفردة ما كان ويمكن أن يكون وحصل وسيحصل .
هذا الشاعر الذي اعتبره روحا مثمرة منذ أن كنت أتابع تحديات الصوت الذي تسكنه وهو ينشر قصائده في مجلة أسفار وبعد ذلك ما حصلت عليه من منتجه وأهمها كتابيه (أندلس لبغداد و اسكندر البرابرة) وجدت أن محمد مظلوم يحاول في كل منتج تغيير نافذة الحلم لديه ، ورغم أن خيطاً واحداً من الحس يربط روح الكتب التي يصنعها إلا أن تشكلات اللغة وبلاغتها وعمق الموسيقى الذي تملكه يتغير بتغير هاجس السياسة والوطن والموهبة وأمطار روح الشعر التي تكاد تغرقه بثراء وغزارة ما يكتب .
يسعى محمد مظلوم في تراثه الأدبي إلى إفهام الآخر بقيمة وجديد ما يملك ، وإن جنوبية الموهبة بحدسها السومري تسيطر على نبوءات وعرافة الحس لديه . يكتب ليوصل للقارئ ما ينطقه وحي الزمن وما يعتقده تفسيراً لما يحدث وأحيانا يضع الحلول في القصيدة أو في رؤى المقال الذي يكتبه ، منتج محمد مظلوم هو منتج الوعي الرافديني وخلاصة ما يقوله هو إدراك من الذات التي فيه : أن الإنسان العراقي بسموه وتشكله الحضاري واغترابه وتناقضاته يمثل حالة من الشعر الذي يمكنه أن يكون عالمياً .
الحوار مع محمد مظلوم ليس سهلاً، فهو من الشعراء الذين يتعاملون مع الآخرين بمزاج روحه وهذا يعني إننا في التعامل معه علينا أن نعرفه كثيراً من خلال قراءة كتبه كثيراً.
أنتج محمد مظلوم الكثير من الإبداع، ولكنه إبداع مهجري، غير أن جل ضوئه مصوب إلى تخوم الوطن:
صدرت له الكتب التالية :
- غير منصوص عليه ـ ارتكابات(شعرـ دار الحضارة الجديدة ـ بيروت 1992).
- المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات (شعر ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1994)
- محمد والذين معه (شعر ـ منشورات كراس ـ بيروت 1996)
- النائم وسيرته معارك (شعر ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1998)
- خمسة شعراء عراقيين (مختارات مع آخرين ـ دار الجندي دمشق 1998)
- عبد الوهاب البياتي ـ كتاب المختارات (مقدمة في تجربته ومنتخبات من أشعاره ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1998)
- (أندلس لبغداد / دار المدى / 2005 قصيدة ـ دار المدى ـ دمشق 2002)
- ربيع الجنرالات ونيروز الحلاجين (نثر- دار نينوى 2003)
- اسكندر البرابرة (شعر- دار نينوى - دمشق - 2004)
- عراق الكولونيالية الجديدة (نثر - شركة رياض الريس - بيروت 2005)
- الفتن البغدادية.. فقهاء المارينز وأهل الشقاق(نثر - دار التكوين - دمشق 2006)
* الشاعر العراقي محمد مظلوم . بعد هذا الموجز . ماذا ترى الشعر الذي فيك . أقصد أن يكون السؤال .ماذا نعني بان تكون فينا قصيدة؟
- أن تكون القصيدة فينا أو نكون نحن في أُتونها الصعب، في كلتا الحالتين يعني أننا مزدحمون بالأزمنة في لحظة مكثفة، أقصد أننا نمسي، عندها، أسيري إحساس غريب يتلخص في أننا ننتمي لأزمنة شتى وعصور متعددة، القصيدة ليست مجرد (مجمع البحرين) بالمعنى الصوفي أو العرفاني، ليست مجرد نقطة ملتقى عابرة للمعارف والأساطير والتجارب ولكنها أيضاً نقطة عبور من بين تلك الأزمنة نحو الأبد، أي أن من يدعي أنه يحتشد بالقصيدة حقاً فإن عليه إن يدرك بأنه ليس ابن زمانه فحسب وإنما وريث أزمنة شتى، وليس مجرد عرَّاف عابر للأوقات، لكنه تائه أبدي في البحث عن زمنه الخاص، أنا رجل قادم من زمن ليس هو بالضرورة ما أعيشه في اللحظة (الآن وهنا) ومن هنا سوء التفاهم مع الحاضر، والغربة التي تدفعنا أحياناً إلى ما يُتصور وكأنَّهُ عزلة هو في الواقع انتماء خاص لأزمنة أخرى. القصيدة بهذا المعنى ليست مجرد " حالة " في الأمكنة الحالية، لكنها حلول، بعيدة الغور ومتداخلة الأعماق، في أمكنة كانت هناك، ضربتها الزلازل ربما، أو أغرقتها الطوفانات، لكن القصيدة ظلت مثل حمامة نوح، مطوقة بأحزانها تطوف الضفاف وترتاد الجزر وهي تخبرنا عن تلك الأزمنة التي لا ناجين كثراً منها.
* هذا يقودني إلى كتاب لك حرصت أن يذهب معي إلى الأندلس ، وقرأته هناك (أندلس لبغداد) . رأيت فيه شيئا من تصوف التأريخ والسياسة وهاجس من استلاب الروح العلوية في قراءة أخرى لتاريخ صعب وغامض.هل الكتاب هذا سيرة ذاتية، لفترة تعتقد إنها غيرت من تأريخ ثقافتنا ووجودنا وصنعت مآسينا التي تحدثت عنها كثيراً في هذا الكتاب. (أريدك أن تُجمِلَ الرؤى).
- أندلس لبغداد، قصيدة طويلة متعددة الأصوات والأشكال الشعرية المتداخلة بدأت العمل بها منذ العام 1998، في ذلك الوقت تحديداً بدا وكأن المنفى العراقي طال إلى الدرجة التي يمكن معها أن يوصف بأنه غدا مصيراً جماعياً للمئات من المثقفين العراقيين، ناهيك عن الآلاف من العراقيين الهاربين لأسباب شتى، مقبرة الغرباء في السيدة زينب توسعت كثيراً والمقابر كما تعرف تراث نموذجي للارتباط بالأمكنة الجديدة، لأنها ضمت رفات الأحبة، وحين انتهيت من كتابتها في أواخر العام 2001، وصدرت لاحقاً عن دار المدى 2002 أي قبل سنة من احتلال بغداد، أقول حين انتهيت من كتابتها، بدا لي بالمقابل وكأنني أرثي بغداد مبكراً، لماذا؟ تساءل الكثيرون بريبة غالباً، وببراءة أحياناً.. لا أستطيع فعلاً أن أحدد المصدر الغيبي الذي جعلني أرثيها وأصفها وهي تنتهك من الدكتاتور ومن ثم الغزاة وتالياً من جند الطوائف، أية إعادة لقراءة القصيدة ستظهر هذه النبوءة الشريرة، أو السيئة في أحسن الأحوال، التي تدحرجت عبر الزمن لتصل إلى ذروة ليس بعدها سوى الهاوية، ربما لأن مصير بغداد المتكرر بهذا الإيقاع الخرائبي الغريب والهارمونيكس التدميري اللافت، بهذا المعنى الكتاب لا ينطوي في مضانه على سيرة شخصية، بقدر ما يفصح عن سيرة جماعية لأفراد شكلوا "مجتمع المنفى" الذي أضحى له نسيج آخر مجتلب وذاكرة تلاقحية ووجدانيات هجينة، وقد نشأت أندلس أخرى، بديلة لبغداد هذه المرة، لاحظْ أن الأندلس الحقيقية، نشأت أساساً، كعاصمة للأمراء المنفيين، في الوقت ذاته التي أنشأت فيه بغداد عاصمة لعهد جديد من الإمبراطورية العباسية الوارثة لإرث الأموية المنهزمة، الأندلس في كتابي إذن ليست مجرد مكان تاريخي غابر، وهي وإن عالجت ذلك المكان بوصفه معادلاً لمكان آخر أوسع وأشمل وأكثر امتداداً على خريطة المنفى الحديث، إلا أنها حاولت تزويج التاريخ بالراهن، عبر كيمياء القصيدة التي أخبرتك قبل قليل أنها لحظة تقاطع وتلاقح وتداخل لأزمنة شتى.
ما يحزنني حقاً أن النبوءة الشريرة تلك تحولت إلى واقع اليوم، وما ظنه البعض غوصاً على استحصال التاريخ كان في الواقع جهداً دائباً ومحموماً للبحث عن الجذور الغامضة لحالنا الراهن، كتب الدكتور عبد العزيز المقالح بعد عام من صدور تلك القصيدة، إن الشعراء يثبتون أنهم عرافون بالمخيلة، وقصيدة أندلس لبغداد، هي الدليل على ذلك.
اليوم أستطيع القول بكل وضوح، أن ذهابي الدائم، نحو الأساطير ووقائع التاريخ ليس مجرد فولكلور تمثلي للحظات معينة، ولا هو نوع من الذاكرة الرومانسية، وإنما لتأويل هذا البناء المتصل من اللحظات وتكثفه في لحظة واحدة، أنا ممن يؤمنون بتواتر الزمن واتصاله لا بانفصاله وانقطاعه على فترات، ولكن عبر مفاصل وبؤر تعيد تسمية اللاحق بالسابق، والراهن هو حصيلة ما ومفصل متصل، وليس فاصلاً مبتوراً عن مرجعيات تشكله. الأسطورة هي حاضنة للتجارب كما تعلم وتجري تغذيتها باستمرار من تواتر تلك التجارب، ولذلك تبقى حية بفعل هذه الجرعات الحيوية التي تحصل عليها من وجودها بيننا، من احتضانها لتجاربنا لأخطائنا التاريخية، ولحيرتنا في عصر المعارف الكبرى! التاريخ أيضاً، هو ليس مجرد خبر لكنه عبرة، كما يقول أبن خلدون، لذلك سمى كتابه (بكتاب العبر) عند هذه النقطة بالذات يهمني دائماً أن أذهب باللحظة إلى تلك العوالم ليس لمجرد تعميدها في مياه الماضي المقدس، وإنما لتفسير التباسها وصعوبتها وقسوتها، وهل ثمة لحظة أكثر قسوة من لحظتنا الراهنة؟
* في كتابك الشعري (أندلس لبغداد) كنت أرى إنك تريد أن تؤسطر التأريخ على طريقة قراءة المشهد من وعي آخر كقولك مثلا :
كَاْنَ الكَهَنَةُ
يَقْرَأوْنَ فِيْ الكُتُبِ القَدِيْمَـةِ
مَاْ جَرَىْ لِلْمَديْنَةِ وَمَاْ سَيَجْرِيْ .
وَكَاْنَ الفَلَكِيِّوْنَ
يَخِيْطُوْنَ لَهَاْ سَمَاْءً مِنْ ذِكْرَيَاْتٍ وأعْدَاْءٍ .
هل هذا هاجس مصنوع بعد سقوط بغداد أم بعد اندحارها، وأنا أرى فرقاً بين السقوط والاندحار؟
- إذا كنتَ ميَّالاً إلى هذا التفريق بين السقوط بين الاندحار والسقوط، بدافع من رفض الهزيمة أو الاستسلام والخضوع، فإنني لا أرى فرقاً كبيراً بين الأمرين، أعني أن وقوع بغداد في قبضة الغزاة، يشبه في درجة فجائعيته وقوعها تحت براثن الأوبئة التي أصابتها على مرِّ التاريخ حتى كادَ سكانُها ينقرضون تحت طائلة إحدى جائحات الوباء، أو في الهيجانات والفتن الطائفية المتكررة، وكذلك في توالي الفيضانات التي تكررت في تاريخها مئات المرات، أو في تقلبها بين أيدي جلاديها وطغاتها، ماذا تسمي ذلك سقوطاً أم اندحاراً؟ كلُّ ما في الأمر أن قسوة محنتها الحالية، تبدو أمامها كل الكوارث الطبيعية الأخرى وكأنها اجتمعت في لحظة واحدة لتعيد تخريب بغداد.
أعود إلى المقطع الذي أوردته، أنه يتعلق باللحظة التي كان يجري فيها الإعداد لمخطط مدينة بغداد، وجودها في الشكل الدائري المعروف، جعل من مصيرها أشبه بالعود الأبدي العائد إلى نفسه في هذه الدائرة الجهنمية! وتخطيطها بالقُطْن ومن ثمَّ إحراقه جعلها خريطة أبدية من نار، من تلك النار المقدسة! لا تنس أيضاً إن أقدم مقابر معروفة في بغداد، قبل قبور الأئمة والصحابة، الإمام الكاظم والإمام أبو حنيفة، هي المقبرة المجوسية التي يكثر صاحب تاريخ بغداد، من إيرادها بوصفها إحداثية تدل على بقية الأماكن والأحياء المستحدثة، والمجوس هم عبدة النار النموذجيين، النار إذن هي واحدة من أهم العناصر البدائية لتكوِّن المدينة ولكتابة تاريخها، وبما أن الكهنة كانوا مشغولين بمستقبل المدينة انطلاقاً من خرافات الماضي، فإنني أحمل في داخلي، روح الكهان، وأرثُ الخرافات الأولية كما يبدو، ومع أنني أرى نفسي مثقفاً لائكياً، ولا أدين بعقائد محددة، فأنني في الوقت نفسه أجد الخرافات مصدراً مهماً من مصادر المعرفة الروحية لأنها ابنة الخيال وحقل الحدس الخصب، المقطع ككثير من مقاطع أخرى سواه، مكتوب تحت وطأة أن مصائر المدن لا تنفصل عن تواريخها، وأكثر من ذلك تمتد إلى زمان ما قبل إنشائها، كأنها مدن محكومة بمصيرها منذ الأزل، ومنذ تلك السُحُب الداكنة التي شكلت العماء الأول.
* فيك الكثير من تسييس الشعر . أي انك بروحك الشعرية تحاول أن تضع المقابل للروح الوطنية . هل المنافي تصنع مثل هواجس كهذه . أم هذا يعود أصلا إلى الذائقة الشعرية التي تسكن فينا .؟
- في سؤالك ثمة مفردتان أساسيتان يهمني أن أفسر فهمي بشأنهما، هما: السياسة، والوطن.
في ما يخص الأولى، من المهم أن أشير إلى أنني كتبت في عام 1992 مقالاً تحت عنوان "الثقياسي" وهو نوع من النحت اللغوي البياني المقصود مخالفاً مقولة " السياثقافي " قدمت فيه الثقافة على السياسة وقلت إن تضمين الثانية: السياسة في الأولى : الثقافة، هو ما ينبغي أن يسود التفكير العراقي المعارض، يومها كان أغلب قادة العراق "الجديد" منفيون معنا وأصدقاء يومياتنا في دمشق، وقلت إن هذا المصير المشترك بين المثقف والسياسي، الذي يلهج في خطابه مستثمراً أناشيدنا الطويلة عن المنفى، هذا المصير المشترك ينبغي أن يسهم في ثقافة " تنوير" جديدة قبل أن نبحث عن بديل للاستبداد، كي لا نستبدل الاستبداد بالفوضى، كما قال عبد الرحمن الكواكبي قبل مئة عام من بدء الفوضى الخلاقة الأميركية في بلاد الرافدين، وبهذا المعنى، فإن السياسة جزء من الثقافة وهي من بين اهتمامات المثقف ليس بقصد ممارسة تقود إلى دور في السلطة أو المعارضة، بل لجعلها محل نقد ومساءلة وبحث وتقصيات مستمرة، هذا أولاً وثانياً أجد أن "الموقف" من السلطة أياً كانت، ومن طبيعة المعارضة لها كذلك، هو في جانب منه نوع من الانشغال في السياسة، لكنه في المدى الأبعد خيار كياني لا ينبغي أن يختص به بعض المحتالين لممارسة الموبقات الفكرية والإنسانية تحت ذريعة فصل السياسة عن الثقافة.
أما في ما يخص الوطن، لم يعد الوطن جغرافيا ولا محض حدود ولا حتى كيان مفترض، لكنه فكرة وذاكرة وأرث بعيد الغور، وبهذا المعنى لا أرى الوطن من منظار نفعي، وبهذا المعنى أيضاً لست مواطناً أقف تحت سقف الحقوق والواجبات، لكنني أقف في فضاء فكرة الوطن غير الخاضع للإعلانات اليومية وصورة "المولد" والتيه اليومي، أصر على أن ما يجري في العراق اليوم، على الأقل في الجانب الذي يعنينا أقصد" الكتابة" هو نوع من "المولد" على الطريقة المصرية الذي يبدو في ظاهره احتفالاً، ولكنه في جوهره يمثل ضياعاً للحقائق ومتاهات شتى، وطغيان أصوات الأبواق والطبول والدفوف والتهريج على بكاء المتألمين، وعلى صوت الحقيقة. ومثلما الجنة للعدائين وراكبي الدرجات كما يقول الماغوط فإن الوطن اليوم أشبه بسيرك عالمي، لا أريد أن أزاحم أحداً من هؤلاء المتكالبين عليه وكأنه وليمة عاجلة وسهلة، هؤلاء يريدون أن يأكلوا بشراهة فليأكلوا، وليتقوا الله في آخرتهم، أعني ليتركوا انشغالهم بفكرة الخلود فهو ليس وليمة لكنه عشبة ضائعة، ليتركوا الحديث عن الثقافة جانباً، وليسمعوا قليلاً إلى من هم خارج السيرك والوليمة.
* ماذا يفكر الشاعر في عولمته . عندما تكون الكلمة مخدوشة المرايا بسبب صخب الدبابات مثلا . أين نجد صفاء ما نتمنى إنتاجه في اللحظة ( الذات ) . دع هذا معكوساً عليك لحظة الشروع بنص ؟
- لا يمكن لأحد أن يدعي أن قصيدته صومعة ناسك معزولة أعلى جبل أو في صحراء بعيدة، مثل هذه القصيدة لا وجود لها، العالم اليوم حاضر حتى في تلك الصومعات التي كانت يوماً بعيدة، لكنني مع هذا أحاول أن أجعل من القصيدة محفلاً للبدائية التي تستفيد من معطيات الزمن ومنجزات العصور لكي تكمل رحلتها لاستعادة تلك البدائية المفقودة، من المهم للشاعر أن يصل إلى العزلة، بما تعنيه من امتلاء بالروح، ولكن يجب أن يكون وصوله طبيعياً وليس مفتعلاً، هناك من تنشأ معه كالداء، وهناك من يحصلها بعد تجارب ومشقات، أدعي إنني من النوع الثاني، القصيدة هي هذا الفضاء المركب للعزلة في كونها تتضمن فكرة الخلوة، وتعني نوعاً من الاستغناء عن الأحمال والأثقال الخارجية. وبهذا المعنى فإن العزلة نوع من الاتصال الأثيري وغير المدنس مع تلك العوالم التي يسميها ابن عربي بخلاصة الخاصة، القصيدة بهذا المعنى هي محفل العزلة الضاج بالأخبار البعيدة والقوية، وعندما تتضاعف العزلة تصبح هجرة وسفراً وطوافاً، إذن العولمة أضحت كتلك "الفتنة" التي يتحدث عنها الحديث النبوي والتي لا علاج لها إلا بالاعتزال، إن المعتزل ينبغي أن يكون اعتزاله على شأن ما، وليس افتعالاً أو لعلة، في التراث الديني الإسلامي، خير الناس( مؤمن مجاهد، ثم.......... رجل معتزل بغنيمة..) القصيدة هي تلك الغنيمة ورحلة كتابتها هي هجرة للبحث عن كنوز لا مرئية نسميها الرؤيا!
* هل عاد العراق . كما كان . شاعرٌ يحلم برؤى جديدة لمشهد عالمي آخر في منتجه . هل بمقدور الحاضر أن يصنع حداثة أدبية توازي ما يحدث من متغير بقراءة وجدانية محايدة وشجاعة . هل أصحاب المشهد جديرون بذلك؟
- علينا أن ننتظر فترة زمنية ليست قصيرة قبل التأكد من (حداثتنا) المفترضة، تلك التي ملأ دعاتها الأرض ضجيجياً، ولكنهم لم يعملوا إلا القليل لتأكيدها، بل أن هناك من عمل في اتجاه نفيها.
صناعة التحديث بحاجة إلى مجتمع مطمئن وواثق من وجوده، وحاسم لأسئلة كبرى وأساسية في ثقافته؟ هل تم ذلك فعلاً في الثقافة العراقي؟ هل توفرت البرهة الزمنية الضرورية لانبثاق تلك الأسئلة ومن ثم ترسخها وإخضاعها لاحتمالات شتى؟ هل حدث ذلك أم كان الأمر ينطوي على مزيد من الأسئلة التي بدت كمن يقشر الهواء بحثاً عن غنيمة! ما مر على العراق لم يساعد على خلق المساحة الممكنة لتحرك (حداثته) عندما نقول العراق، فعن أي عراق نتحدث، هل نستطيع أن نحدد بوضوح عراق محدد من بين عراقات غابرة وأخرى عابرة وأخرى مقترحة كل يوم، هل نتحدث عن العراق المتقوض أم عن العراق المتشكل؟ أم العراق الجديد الذي يعني قطيعة مع ماضيه؟ هل نتحدث عن عراق الرصافي والجواهري والسياب والبياتي، أم عن عراق المافيات والاحتيال الثقافي السائدة اليوم؟ هل ثمة من يجرؤ على النقد الحيوي، والاحتجاج وينجو من الاتهام!
نحن قوم أخذتهم العزة بالإثم، فصاروا يرون كل شيء وكأنه مقدس.. قداسة العراق التي انتهكتها الدبابات، ومرغها المارينز والقادمون معهم، ينبغي أن تصبح اليوم محل تساؤل، الحداثة تريد استبدال السوط بالصوت.. الصوت المحتج وليس صوت الرياء.
* بعد هذا أعيد ترديد سؤالك من جديد، هل أصحاب المشهد جديرون بذلك؟
* أنا منشغل هذه الأيام بقراءة خواطر جنكيزخان وكتابتها من جديد . أنت في كتابك الشعري (اسكندر البرابرة ) كتبت خواطرك بطريقة فيها مشابهات لا تحصى لذائقة قساة ويغتصبون الأوطان . هل تحس أن صراخك من فوق أسوار أور مثلا نداء استغاثة لما يجري ؟
- اخترت الاسكندر المقدوني لأضيفه للبرابرة في عنوان الديوان، من أجل أن أوجز أو بالأحرى ألخص وأكثف الفكرة المركزية في متن الديوان، فهو في النهاية يرتبط ببؤرة مركزية، ووحدة موضوعية حرصت على الإمساك بها في مجمل القصائد، ولهذا أنا ميال لبنية الشعر الملحمي لأنها مهما تعددت مستويات تعبيراتها وأصواتها وأمكنتها وانداحت أسئلتها يبقى موضوعها محورياً، أقول اخترت الإسكندر والبرابرة، لأنهما ينطويان على الإلتباس ذاته تقريباً، فإلى الآن لم يحسم مكان الإسكندر في التاريخ أو الأساطير أو الديانات، من بينها الإسلام، ولا حتى الطوائف، هل كان أول الغزاة، أم أول الفاتحين، هل هو قاتل شرير، أم محرِّر العبيد والأمم؟ هل كان مُشعل الحرائق في المدن التي حملت اسمه أم بانيها في مدة وجيزة لم يغمد فيها سيفه ليبني حقاً ؟ هل مثل طغيان الثقافة المنتصرة، أم هو كيميائي الثقافات المختلطة. كذلك البرابرة، هل ننظر لهم في المنظور الذي رأتهم من خلاله روما؟ أم ننظر لهم في منظور كافافي؟ هل هم مصدر الخراب أم جزء من الحل، هل هم مجرد قبائل في شمال أوربا، أم هم كل أعداء الإمبراطورية؟ وكما ترى فإن الأمر الملتبس يقود إلى سؤال وثمة أسئلة متناسلة لا تكاد تنتهي، لكن ما يلفت هو محاولة مقاربة أول فكرة للإمبراطورية تمثلت في حملات الاسكندر، مع آخر مرحلة امبراطوية في العالم المعاصر، من بين الأسباب التي دعت الاسكندر إلى غزو العراق، هي كنوز بابل من أجل تمويل حملته ضد بلاد فارس، ومن ثم نحو إعادة السيطرة على مجمل أوربا القديمة بما فيها روما الناشئة، وعصره هو بداية عصر الحروب واستسلام عصر الثقافة اليونانية لصالح الانتشار الهيلنستي عبر الأساطيل، إذن مقتربات كثيرة جعلتني أختار الحر عبر هذه الأقنعة التاريخية للمضي بنشيدي إلى مستواه المنشود، وكما تعرف فإن رموز العنف في التاريخ كثيرة فهناك من يختار الحجاج، أو هولاكو كما تختار أنت اليوم جنكيزخان، القضية لا تتعلق بالشخص نفسه بل بما ينطوي عليه من أحالات ومرجعيات تشخص تاريخ القسوة بشكل ما، وفي كل الأحوال هو ليس استغاثة من خلف أسوار الأساطير، إنه عمل مركَّب، فإنا لا أومن بالعفوية كشرط وحيد للإبداع، إنها سجية غيبية هذا صحيح لكنها مختلطة بنور المعارف، وبقصدية الموقف الذي ينبغي أن تمثله كتابة عمل ما، ما أريد الوصول إليه في النهاية إننا عندما نلجأ إلى الرموز والأقنعة فلا ينبغي أن يكون مجرد افتتان أو نوع من التزويق الباروكي.
* كذلك فعلت في قراءاتك الذكية في كتاب ( ربيع الجنرالات ونيروز الجلادين ) . أي انك بقيت قابعا تحت تأثير المواويل المؤلمة لكتابيك أندلس لبغداد واسكندر البرابرة . هل هذا يعني أن الفقدان مهيمن عليك حتى وأنت تريد أن تسلك منهجا تنظيراً من خلال المقالة .؟
- كتاب ( ربيع الجنرالات ونيروز الحلاجين ) صدر في شهر نيسان 2003، أي بالتزامن مع الاحتلال الأميركي للعراق وهو عبارة عن مجموعة مقالات كتبت خلال الفترة التي استغرقتها مرحلة الإعداد لعملية غزو العراق، كنت معنياً بكتابة شهادة قلت فيها هي حرب بين دكتاتور وإمبراطور يصبح العراق ضحيتها، وحذرت من أنها "فتنة حقيقية" وانطلقت فيها من فكرة موثقة في تاريخ العراق تقول إن الجنرالات لا يمكن أن يأتوا بربيع الحرية، مستذكراً خطاب الحرية للجنرال مود، وبالمقابل استعدت حادثة الحلاج حين كان يمر بعيد النيروز بين أصوات الأبواق وسوق القرابين، فسأل من معه أي شيء هذا؟ فقيل له إنه عيد النيروز، فتأوه وقال ونحن متى ننورز؟ وحين مر به صاحبه وهو مصلوب نظر إليه الحلاج وصاح: اليوم نَوْرَزْنا! هذه هي الحكاية التي حرص الكتاب على سردها في الوقائع الجديدة، قلت إن هناك حلاجين كثيرين سيكونون أضحية لربيع الجنرالات، فقال البعض بأنني أبشر بالفجائع، وها أنت تسميها "مواويل مؤلمة" لكنه في كل الأحوال كنت أتوخى منها توثيق وجداني أدبي لمرحلة تمثل شهادة شخصية لي حول ما جرى لأنني كنت حريصاً على أن أختبر خياراتي الذاتية قبل كل شيء، وان أضعها في التوثيق المبكر ليس بقصد التسابق مع أحد ولكن من أجل أن لا أدع اللحظة تمر دون أن أقول فيها كلمة أخرى، كلمة في وعاء آخر ليس بالضرورة القصيدة، وهكذا كان الكتاب أول كتاب نثري لي رأى فيه البعض مفاجأة أو اكتشاف لكاتب مستتر خلف الشاعر، لكن الذين يعرفونني جيداً رأوا الأمر طبيعياً لأنني كنت سباقاً من بين شعراء جيلي لكتابة النثر، والدراسات وتوثيق آرائي منذ بدايات الثمانينات.
* ماذا تتذكر من روح المشهد الشعري العراقي لثمانينات القرن الماضي . من كانوا . وأين هم الآن ؟ وهل أدركوا ما حدث كما تعتقد أنك أدركت ؟
- مشهد الثمانينات لا يزال نافذة مفتوحة على أودية وأعماق، على مشاهد قاسية كما هي حال مشهديات العراق على الدوام، هذه النافذة المفتوحة لا تزال تمثل إطلالة واسعة يصعب الإحاطة بها على حشود من الوقائع والنصوص والظواهر التي لم تدرس بعناية حتى الآن ولم توثق بشكل كامل رغم بعض المحاولات المتفرقة هنا وهناك ممن مزجوا شهاداتهم الشخصية بذيول من تلك الوقائع، وهذه النافذة المفتوحة هي التي جعلتني منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، أعيد النظر باستمرار في مشروعي الذي بات يعرفه الكثيرون والمتعلق بكتاب خاص عن جيل الثمانينات.
لقد أصبح الجيل كله تقريباً ما عدا استثناءات بسيطة جيل منفى، منفى مستمر ولا يبدو أنه سينتهي، بعد أن ولد جيل حرب لم نكن نصدق إنه ستنتهي يوماً، الثمانينيون، كما كانوا في العراق منقسمين بين محابين للسلطة ومنتفعين أو في أحسن الأحوال مداهنين، وبين خاسرين بإرادتهم كل اهتمام إن لم نقل مهمشين بقصد، لا يزالون اليوم على انقسام مماثل.
يؤسفني أن أقول هذا لكنه الواقع حقاً، ففي الثمانينات كان الصنف الأول شباناً وكان قطار السلطة لا يجر إلا العربات الكبيرة، ولذلك كانوا مجرد مسافرين في تلك العربات، وهم بهذا المعنى ليسوا في موقع المسؤولية، واليوم يكاد المشهد ذاته يتكرر في انكفاء العديد منهم في منافيهم دون أن يكون لهم رأي واضح بما يجري، ودائماً باستثناءات قيلية، أو في بروز مداهنين جدد كأنهم أجلوا تلك المواهب في زمن "أبطال الحرس الجمهوري" تحت أغطية زهد زائف واحتيال المواقف فسارعوا لعرض بضاعتهم في زمن المارينز، هؤلاء لا يختلفون عن أولئك بل أنهم جميعاً رفاق درب واحد ما في الأمر أن كلاً منهم يمشي على رصيف، أو كل منهم يطيح بالآخر ليمشي هو.
الأمثلة كثيرة من السويد إلى لندن إلى بغداد التي يصب الجميع أصواتهم المشوهة لتلطيخ صحفها بحبر كاذب فيما يسفح دم زكي في الشوارع ولا أحد يحتج! بان يكسر قلمه ويقعد عن هذه الفتنة ما أقصده هو أن يريحوننا من تنظيراتهم عن العراق الجديد، عراقهم وعراق أميركا. وليكتبوا بعد ذلك كلمات خلواً من ما يذكر بأبواق الكشافة الذين يستكشفون الطرقات لجنود المارينز.
قد يبدو هذا الكلام قاسياً وبشعاً لأنني أتحدث عن جيل أنتمي إليه، لكنه الواقع، لقد أظهر الاحتلال الأمريكي البشاعة الراسخة في نفوس البعض ممن كنت أظن أن ما يجمعنا هو أكبر من فكرة الجيل، وإن الجيل ليس مجرد انتماء زمني، بل موقف كياني وخيار وجودي يقود المرء نحو الحرية والانعتاق لا تمجيد المحتلين.
طبعاً هناك من شعراء جيلي ممن أكنُّ لهم التقدير العالي لا بفعل الصداقة والمجايلة فحسب وإنما بفعل خياراتهم الصادقة التي دفعوا أثمانها منافي وعزلات وتغييباً وتهميشاً وألماً وصبراً.
ألف ياء-
6/1/2007
إقرأ أيضاً:-