اسكندر حبش
(لبنان)

صباح زوين«في محاولة مني» عنوان الكتاب التاسع الصادر حديثاً للشاعرة اللبنانية صباح زوين (دار نلسن) والذي تتابع فيه رحلتها «للقبض» على سيرة الزمان والمكان ـ إذ صح التعبير ـ وهما من الموضوعات الحاضرة في تجربة هذه الكاتبة، منذ كتبها الاولى. سيرة، تدخل عميقاً في مساءلة اللغة والبحث عن تشكلها خلال الكتابة، وكأنها بذلك، تحاول اللغة أن تكتب نفسها، قبل أن تؤسس لمشروعها الكياني والوجودي.
هنا حوار مع زوين حول مجموعتها الأخيرة.

* أصبحت اليوم في مجموعتك التاسعة، كيف ترين الى هذا الماضي الشعري الذي تراكم وراءك؟ إلى أين أحسست انه سار بك؟

أستطيع القول ان الوقت تكدس ومعه تكدس بطبيعة الحال زمن الكتابة. والكتابة التي وصلت إليها اليوم، في هذا الكتاب، ليست خلاصة بل هي وجه من أوجه اللغة التي اشتغلتني واشتغلتها على مدى 23 سنة أي على مدى 9 تجارب. واسمح لي أن أسميها تجارب. صعدت ونزلت مع هذه التجارب عبر كل منحدرات وتضاريس اللغة التي حاولت أن أقبض عليها ولم أستطع فأهلكتني. والتعبير عن هذا الهلاك أو هذا الصراع مع اللغة أتى عبر درجات وشيئا فشيئا على مدى كل هذه الكتب، «في محاولة مني»، يجوز لي القول حسبما رأيت في النهاية انه الجزء المكمل ـ على وجه الخصوص ـ للكتابين السابقين له أي «البيت المائل والوقت والجدران» (1995) و«لأني وكأني ولست» (2002(.
صحيح أنه لم يأتِ على شكل نصوص كالكتابين السابقين وتقصدت هذا. لكنه يحمل الأجواء ذاتها وخصوصا المواضيع ذاتها التي تشغلني دائما وأعني بها الزمان والمكان واللغة ووجودي فيها. طبعا، أتت اللغة هنا، في هذا الكتاب، على شيء من الهدوء أو قلّة القسوة، على خلاف الكتابين السابقين. لكنه لم يحل من الإشكالية التي ترافقني دائما أثناء الكتابة.

* كأن قولك بأنها تجارب، يحيلنا الى أمر أساسي في الكتابة الشعرية: إنها عملية بحث دائمة عن معنى الكتابة نفسها، أي وكأن لا شيء منجز إلا بقدر ما يتحقق عبر النص. ما رأيك؟

تماماً وهذه هي المشكلة والإشكالية بالذات لديّ، أقول لك أني أثناء الفعل الكتابي، ولا أعتبر الكتابة سوى فعل، أتصارع بشكل دائم ومضن مع اللغة، لأني أحاول باستمرار أن أجد الكلمة النهائية أي أن أجد منتهى الكتابة وصفاءها أو ربما الكلمة في المطلق، هذا ما يجعلني ألهث دائما وراءها، وبتعبير آخر، هذا ما يجعلني أواصل الكتابة. الكتابة هي قبل كل شيء العثور على الشكل لان المعنى كامن داخلي وأعرف أني دائما أقع أو أرى الشكل المناسب للمعنى الذي أريده أو الذي يشغلني. وهذا الشكل أعني به اللغة التي أعتقد أني أستعملها، لكنها في النهاية تستعملني أو حتى ليست بحاجة إليّ، لأني انتبهت منذ زمن بعيد وتحديداً في كتابي «بدءا من أو ربما» (1987) ثم «كما لو ان خللا أو في خلل المكان» (1988).

فلاحظت منذ ذلك الحين أن الكتابة تكتب بمفردها من خلالي. ربما هي بحاجة إليّ فقط من أجل الشكل أو فقط من أجل المعنى، لست أدري، لكن كل ما أعرفه هو أني أرى اللغة تتشكل شيئا فشيئا عبر صفحات الكتاب وأنتبه الى ذلك عند انتهائه. وبالمناسبة دائما أصدر كتابا بمثابة مشروع ولم تكن كتبي مرة مجموعات أي مجموعة قصائد متفرقة. ففي كل كتاب عندي أشتغل على أفكار محورية وهي في أي حال تتكرر وتتلاقى في كل كتاب فتكون كل قصيدة الجزء المكمل لسلسلة المشروع.

بنية القصيدة

* كيف ترين الى هذا «المشروع»؟ أي بمعنى آخر، ماذا تحاولين في «بناء» القصيدة؟ ما شكل بنيتها إذا جاز التعبير؟

قبل أن أبدأ بأي كتاب أو قبل أن أضع أول سطر من أي قصيدة أكون في وقت بحث وتحضير أو وقت قلق من أجل إيجاد الشكل أو الأسلوب الذي يناسب المشروع الجديد. اولا لا أستطيع أن أكرر ذاتي في كتاب الى آخر باستثناء «البيت المائل...» و«لأني وكأني...» اللذين تشابها كثيراً لغة وتركيباً، لكن أيضا مع بعض الاختلاف. لكن هذا ما كنت قد أردته عنوة لأني في ذلك الحين شعرت بأني ما زلت بحاجة الى تكملة ما بدأته في «البيت المائل...». كنت أشعر بأن هذا الكتاب كان يتحمل المزيد من التوسيع والإضافة والامتداد.
إجمالاً أعمل على اختزال الكثير لكن لا أشطب سوى ما ندر. فالقصيدة هي بنية متكاملة عندي أسمع صوتها وأرى شكلها فأكتبها على الفور وأراها جاهزة كما أتتني صورة ومفردة. إذاً عدا التشذيب، أميل دائما الى الإيحاء ولا أرى الشعر سوى إيحاء وإشارة وإيماءة. أقول الفكرة أو المعنى في صورة موجزة وموحية، أبترها أي أبتر الصورة والتعبير وأترك كما المعنى في هذا الإيجاز، أتركه حيث هو شرط أن أكون حملّته طاقة هائلة من الافتعال والأحاسيس إذ لا أؤمن بالقصيدة المشغولة عقلانيا كما يفعل بعض الشعراء فيختصرون ويقطعون بحثا عن كتابة ما لكنهم في النهاية ـ وأعني هنا البعض طبعا ـ يقدمون قصيدة ذهنية وباردة وأسمح لنفسي أن أسميها «علمية» أو «رياضية» (من رياضيات). إذاً شرط القصيدة أن تكون منطوية على كل الطاقة المغناطيسية التي في الداخل وان لم تكن مشحونة بهذا الشكل فلا تعود شعرا أو قصيدة بل سرداً مباشراً.
أعمل على تطابق لحظة الصورة بدقة اللفظة التي تلبسها، والقصيدة قبل كل شيء عندي بنيّة بحد ذاتها وأعمل على أن تبقى قدر الإمكان متماسكة من خلال فرادتها كقصيدة واحدة وفي الوقت ذاته تتحمل المتابعة أي أحملها شروط ما قبلها وما بعدها.
لا أترك إطلاقا المعنى يطغى على الشكل ولا أجيز للشكل أن يسيطر أو يبتلع المعنى.

الحضور السردي

* أريد أن أضيف شيئا، تميلين في كتابتك الى نوع من «النص السردي»، وكأن القصيدة تحاول أن تروي سيرة ما، ربما سيرة مكان وزمان، قبل أي شيء آخر. لمَ هذا النوع من الكتابة، أي كيف تفسرين ميلك الى ذلك؟ وثانياً، غالبا ما نقع في كتاباتك على نص واحد، وكأنك ترفضين كل نوع من التجزئة، تجزئة القول إذا جاز التعبير، ما تعليقك؟

أعتقد أن هذا ما فسرته في الأجوبة السابقة في ما يتعلق بالشق الثاني من السؤال وبعيداً عن أي سيرة ذاتية ـ ونعود الى ذلك لاحقا ـ أعتبر كما لمحت آنفا أن الكتاب بحد ذاته مشروع متكامل وبذلك أستطيع القول ان الكتابة سيرة كتابية بحد ذاتها. أفسر ذلك: الكتابة بالنسبة إليّ لا تأتي إليّ سوى إذا كانت تحمل في طياتها سيرة ما كي لا أكرر كلمة مشروع وأعني بالسيرة الكتابية تلك الإشكالية التي أطرحها على ذاتي أو هي الكتابة تجعلني أطرحها. هذه الإشكالية لها في منطقها الشعري الداخلي بداية ونهاية أقله على مدى ديوان وبالنسبة إليّ يتكرر هذا الأمر في كل الدواوين. أي السيرة الكتابية هي سيرة تفكير أو تساؤل حول مواضيع شغلتني دائما كما أسلفت بل شغلتني منذ مراهقتي وأنا أبحث عن معنى المكان ومعنى الزمان ومعنى اللغة ـ الكتابة ومعناي أنا من خلال كل هذا. وبالمناسبة اللغة لا تشغلني فقط كتابيا إنما أيضا «فيلولوجيا» أي عندي سهولة وميل في مقاربة ومقارنة عدة لغات انطلاقا من جذورها، الأمر الذي يمنحني شغفا لا يضاهيه شغف. وعودة إذا الى السيرة الكتابية فهي انطلاقا مما قلته لا تنفصل عن سيرتي الذاتية وأي شعر لم يأتِ من الذات؟
ولمزيد من التوضيح ما أعيشه يصبح بعد فترة من الزمن سؤالا وإشكالية وصورة شعرية، حتى الرجل يصبح أداة لغة، لذا قلت لك إن السيرة الكتابية، سيرة البحث عن المعنى والشكل وكل المواضيع التي ذكرتها أعلاه، هي سيرة واحدة في النهاية فلا أراني خارج اللغة ومن هذا المنطلق أعتبر أن كل شيء يمر في حياتي، شرط أن يكون مر بشكل كثيف وعميق، يتحول في نهاية التجربة الحياتية تجربة كتابية ـ لغوية. لذلك لا أعتبر السيرة الذاتية سيرة بكل معنى الكلمة لأنها تدخل وبقوة تجربة لغوية قاسية أقله بالنسبة لي.
طبعا هنا أناقضك وهذا ما أكدته، لكن السيرة هي قبل كل شيء التمكن من تحويل حركة جسد ووقت وحياة وأشياء بيت وقطار وسكة حديد ومزهرية ونافذة وكل ما في الذاكرة من أشياء أليفة، التمكن من تحويلها الى لوحة شعرية. وبالمناسبة أحب أن أقول انه اذا كانت اللوحات في «البيت المائل...» قاسية ففي هذا الكتاب هي لوحات مائية، فاتحة اللون أردتها في الظاهر طفيفة وهادئة لكن حملتها كل المعاني التي خالجتني من قاسية وما شابه، تلوح وتبين بشكل خفي عبر الإيحاء الذي أردته.

* تسيرين مراراً الى كلمة إيحاء، بأي معنى يحضر الإيحاء في نصك الشعري؟

هذا صحيح، أشير باستمرار الى هذه الكلمة، ربما لأني أحبها واذا أحبها هذا يعني أنها التعبير الذي يشبهني. الحق معك الآن انتبهت أني أعود إليها دائما في هذا الحوار ما جعلني على الفور أربطها بقصائدي فأعود إليها وأرى تماما أني استعملت فيها الكثير من الإيحاء. ما معنى الإيحاء عندي؟ ليس لا رمزيا ولا باطنيا أي خبيثا إنما على العكس فهو إيحاء واضح وصريح ومنفلش من حيث وصف السيرة والحركة، لكني عند نقطة ما من الكتابة أو محطة ما من التعبير أرى ضرورة جمالية للتوقف عند هذا الحد فحسب.
فلا أرى القصيدة تمتد وتسترسل وتفسر إذ لا تعود تحمل الهوية الشعرية. كل ما عنيته في الإيحاء هو هذه القصيدة التي أمامك، التي تقول كل شيء وفي الوقت ذاته لم تكن مباشرة أي أني أوحي لك أني قلت كل شيء لكن عليك أن تبحث عن كل ما أردته من خلال صورة صغيرة أو عبارة بسيطة، وكما رأيت أنت وكما سلفت سيرتي واضحة في الكتاب ولم يبق لي سوى أن أخضع لصناعة اللغة.
في أي حال وعودة الى الإيحاء بشكل خاص فهو ليس فقط طريقة كتابية إنما أيضا طريقة حياة. هكذا أعيش وهكذا تأتي إليّ اللغة والصورة.

* تقفين على أكثر من لغة وثقافة؟ كيف يحضر ذلك كله في كتابتك؟

لطالما تكلمت على هذا الموضوع في محاضرات ومقالات، وأحب دائما أن أعود الى هذا الموضوع لأنه كان دائما سبب قلقي وعدم ارتياحي. وذلك لأني أشعر دائما ومنذ صغري بضرورة إيجاد حل ما لهذا القلق. وأعني بالحل نوعا من الراحة والاستقرار أي ـ اذا جاز القول ـ التوحد في كياني أنا التي أنتمي أصلا وولادة الى أكثر من جغــرافية وأكــثر من لغة وأكثر من ثقافـة وحضــارة. تجــاذبتني دائما هذه الانتمــاءات المتعــددة وغالــبا ما يقول لي الناس ان هذا يغنــي.
قد يكون هذا صحيحا لكنه يأتي على حساب الاستقرار. فأمضيت حياتي أشتاق «الهنا» و«الهناك» وطورا أغرم بهذه اللغة وتارة باللغة الأخرى وأحيانا كثيرة بالاثنين معا ومرة أقول لنفسي «خلص» أنا أنتمي الى تلك العائلة وتلك الأسماء وذلك العرق. ومرة أخرى أقول لنفسي لا بأس إني أنتمي الى هذه العائلة والى هذا الاسم والى هذا العرق، وفي غالب الأحيان أعيش مع الاثنين وبين الاثنين. ومن هنا كان شغفي الدائم «بالفيلولوجيا» وأصول الكلمات أيا كانت جنسيتها ومن هنا أيضا أشعر بآفاق لا تنتهي تنفتح أمامي وأمام شغفي المتعدد.

السفير
16- يناير 2007


إقرأ أيضاً: