وليس خادماً أو تابعاً للنصوص

محمد الحمامصي
(مصر)

حاتم الصكرالمكانة التي يتمتع بها الناقد والشاعر العراقي د. حاتم الصكر لا ترجع فقط لكونه أحد أبزر وأهم النقاد المتابعين لحركة الإبداع العربي وخاصة الشعري والراصدين لتحولاتها وتطورها والمضيئين لاختلافاتها، بل لكونه أيضا يتمتع بحس إبداعي نقدي عال وبحضور علمي واسع وصدق إنساني راق. لقد بدأ شاعرا أصدر ثلاثة مجاميع شعرية، وبعض القصائد النثرية نشرت في أماكن متفرقة، فسجل اسمه من خلالها كواحد من الشعراء الذين حملتهم موجة الستينيات، وتشكل إصداراته النقدية العديدة مرجعا مهما للتعرف الى الحركة الشعرية العربية الحديثة، ومن بينها (الأصابع في موقد الشعر ـ مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة ـ بغداد1986)، (مواجهات الصوت القادم ـ دراسات في شعر السبعينيات ـ بغداد 1987)، (البئر والعسل ـ قراءات معاصرة في نصوص تراثية ـ بغداد 1992)، (ما لا تؤديه الصفة ـ المقتربات اللسانية والشعرية والأسلوبية ـ بيروت 1993)، (كتابة الذات ـ دراسات في وقائعية الشعر ـ عمّان 1994)، (رفائيل بطي وريادة النقد الشعري في العراق ـ كولونيا ـ ألمانيا 1995)، (مرايا نرسيس ـ الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة ـ بيروت 1999)، (ترويض النص ـ تحليل النص الشعري في النقد المعاصر ـ القاهرة 1998). وله كتاب في الفن التشكيلي عن الفنان جواد سليم، ودراسات تشكيلية عديدة.

*أعطيت أولوية للنص واشتغلت على التجربة الشعرية العربية منذ ما يزيد على ربع قرن ولك دراسات تشكل مرجعا لمتابعة تطور هذه التجربة، وقد تواصلت دراساتك إلى الأجيال الأحدث في هذه التجربة، هل لنا أن نتعرف الى طبيعة وملامح مشروعك النقدي وتطوراته؟

من الصعوبة بمكان أن أختزل جهدي على تواضعه بمثل هذا اللقاء، لكن أشير إلى مسألة مهمة وهي أنني انضممت إلى الاصطفاف النقدي النصي في الكتابة النقدية العربية منذ مطلع الثمانينيات، وهذا جعل مني مهتما بالنظريات الحديثة حول النص، وأعتقد أنني من خلال كتابتي اليومية والأسبوعية والشهرية في مجلتي الأقلام والطليعة العراقيتين حاولت أن أبرز هذا الاهتمام بالنص من حيث هو المكان الوحيد لإبراز الشعرية بعد أن أتخمنا في النقد العربي بالحديث عن البيولوجيا والتاريخ والموضعاتية والسياسة والأيديولوجيات، فكان التحول النصي حقيقة هو المعلم البارز في جهود جيلي وزملائي وليس جهدي وحدي. انكببت على النصوص بطريقة حماسية في البداية وأخذت أحتك بها نقديا محاولا أن أتفحص مستوياتها، وتكون بذلك كتابي (الأصابع في موقد الشعر ـ مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة ـ بغداد 1986) لأنني أرى إلى عملية التحليل النصي التي تلي كتابة النص كأنها محاولة التقاط النار/الجمر من موقد ملتهب. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قد يعيقك رماد الموقد هذا، وأنا هنا أشير إلى النماذج السيئة في هذه النصوص، وهذا موجود في كل الشعريات وفي تاريخ الشعرية على مراحلها، ثم كان احتكاكي بالمدارس اللسانية والبنيوية الأمر الذي زاد من اهتمامي النصي، وكما تعلم الاهتمام بالنص من حصيلة النقد الجديد الذي ظهر بالثقافة الأنغلوسكسونية، الآن بدأت المدارس الفرنسية والفرنكفونية خاصة معاملة النص كجسد له حياته ووحدته العضوية ووحدته، وبعد فتنة بنيوية قصيرة، رأيت في مذاهب القراءة والتلقي وفي عناصرها الأدبية ما شدني إليها أكثر لأنها توازن بين وجود المتلقي على الطرف الآخر من عملية الإرسال الشعري وكذلك تحفظ للكاتب أو الناقد حريته في أن يعامل النص على أنه بنية متكاملة العناصر. هنا بدأت أهتم بأفق القراءة وأفق الكاتب وتعارض هذه الآفاق وتوافقها، ثم إلى أي نص يستطيع القارئ أن يجد فيه من الفجوات والثغرات ما يملأه بنفسه. عدنا بذلك إلى التراث محاولين أن نتلمس النيات وبقراءة جديدة تكتشف أن المتنبي لم يكن كما يشاع في الأدبيات العربية القديمة وإنما كان الرجل رجل سلام تذعره الحرب، ويرى أن المدن بعد دخول المقاتلين تتحول إلى واجهة من الدماء، وفي شعبوان يقول له حصانه (تتركون هذه الرياض الجميلة وتذهبون إلى الحروب لكنكم أبناء آدم الذي سن المعاصي). إذن هناك بذرة سلامية/محور مركز لم تنتبه إليها القراءات، لكن العودة إلى النص بنشاط القراءة وإسقاط وعي وشعور وإحساس القارئ على النص، أضافت إليه الكثير، وأعتقد أنني في هذا المجال استطعت أن أقدم الكثير من النصوص إلى القراء وإلى زملاء الاصطفاف النصي كما سميتهم.
المسألة الثانية التي أعتز بها وأعتبر جهدي هو قطرة في بحرها الكبير هي الاهتمام بشعر الشباب، حيث كان كتابي (مواجهات الصوت القادم ـ دراسات في شعر السبعينيات ـ بغداد 1987) أول كتاب ـ وهذا يشرفني طبعا ولست بنادم عليه مهما كان الرهان على الجيل خاطئا أو صحيحا ـ عن الشعر السبعيني في العراق بعد سنوات قليلة من ظهور هذا الجيل، احتككت به نقديا ووجهت له نوعا من النقد والعتاب، في الوقت نفسه الذي أضأت فيه مناطق تجاوزهم للشعرية المورثة وأجيال الريادة الأولى في العراق.
المسألة الثالثة التي تحولت لها في السنوات الأخيرة هي مسألة الاهتمام بالأدب النسوي الذي أراه أيضا مهمشا كأدب الشباب. تلاحظ دائما أنني مع الهامش، وهذا أعتقد أنه ناتج عن نشأتنا التربوية في قراءتنا، في الأدب النسوي أيضا كنت أبحث عن الغريب وغير المجنس، وهذا قادني إلى السيرة الذاتية النسوية وقد نشرت لي مجلة فصول بحثا مطولا في ذلك طورته في ما بعد وتأملت السيرة الذاتية أولا والسيرة الذاتية النسوية على وجه الخصوص. أعتقد أن مثل هذه المسيرة متواضعة في تبدل أرض الشعر ومفاجأتها لا بد من أن تضيف شيئا إلى الجهد، هذه الاهتمامات تقود بالضرورة إلى أن تجد نفسك في التحديث، في لحظة الحداثة نفسها، وقد وجدت هذه اللحظة حاليا على الأقل متمثلة في قصيدة النثر ولذلك صدر لي كتابان وبعض بحوث كتاب ثالث عن قصيدة النثر بالذات. لا يعني ذلك تبنيا حماسيا كما حصل في موجة مجلة شعر الأولى، وإنما محاولة تمهيد الأرض على الأقل على مستوى التلقي إلى أن تفحصوا هذا النوع قبل الحكم عليه بأحكام أولا كانت سياسية واتهام بالتآمر وهدم اللغة والتراث ثم وصولا الى أنها ليست بشعر وأنها نثر، فحاولت جهدي أن ألفت الانتباه مع زملاء كثيرين كتبوا عن قصيدة النثر إلى إيقاعاتها المقترحة غير المتعينة بعد، إلى السرد فيها، إلى مناخاتها المتعددة، وإلى وجود الشباب داخل القصيدة النثرية.

بعض التوازن

* واجهت في كتاباتك النقد التنظيري الذي لعب دورا سلبيا في نظري خاصة على مستوى العلاقة بالمتلقي، هل ما زالت أزمة النقد أو حركة النقد العربية على حالها؟

أنت تعيدني إلى ذاكرة نقدية لا أستطيع أن أقول ماضيا لكن ذاكرة نقدية، لأن هذا الكلام كان في أيام الهبة المنهجية من أجل النص انتصارا للنص، وإبعاد كل ما هو خارج النص حتى التأويل لم نكن نرتاح إليه كثيرا لأنه يأخذ من النص أشياء ودلالات ورموزا ويبني عليها عالما أخر يبتعد فيه عن النص خطوات، فعلا في تلك الفترة كان التطبيق يستهوينا كثيرا، أغلب جيلنا، انظر الكتب الأولى لـ د. جابر عصفور ود. عبد الله الغذامي ود. عبد الله مرتاض ود. كمال أبو ديب ود. عبد العزيز المقالح وأغلب نقاد جيلي الستينيات والسبعينيات، كان النص هو النص هو محور اهتمامهم، وأنا أفسر ذلك أنه رد فعل على التخمة التي أصبنا بها بسبب المدرسية التي كانت تفرض علينا حياة الشاعر ومسكن زوجاته وأبنائه وما مر به من أمراض، ثم يتضاءل النص إلى زاوية معتمة من الدرس الأدبي، رد الفعل القوي هذا ربما جعلنا ننظر إلى النص على أنه صنم وبالتالي نحكي عنه بهذا الاعتداد ونحاول إبعاد أي تنظير قوي ومتمترس خلف نظرية قوية خشية على هذا النص. في السنوات التي بعدها حقيقة ـ وهذا ليس بعيب ـ عدلنا مناطقنا جميعا مثلما يتحول الشاعر والمفكر، نحن أيضا في الكتابة النقدية رأينا أن النظرية إذا كانت تشتق قوانينها وإجراءاتها ومصطلحاتها ومفاهيمها وهي أركان مهمة بالعملية النقدية من حاضنة النص نفسه فلا ضير، لا يختنق النص بالنظريات، نعم كنا نشكو من تكثير المصطلح ومن إسقاط جهاز نظري قوي يلتهم النص وهو بسيط من إلصاق كولاج نقدي ـ كما سميته مرة في هجومي على النظرية ـ كولاج نقدي يبدأ من الجرجاني ويمر ببارت وجانيت وينتهي بجاك هوبسن. وبالتالي النص يصبح قزما، لكن حقيقة الجهد النظري مطلوبة والتوازن بين النظرية والتطبيق حاصل، وأعتقد أن النقد العربي في موجاته الأخيرة حقق شيئا كبيرا من هذا التوازن بحيث صارت النظرية تتبع النص. خذ مثلا على ذلك السرد في الشعر حدث تنظيره وتقعيده بعد أن مال الشعراء أنفسهم إلى أن يستضيفوا السرد في القصيدة، صارت التعينات زمانية ومكانية وتسميات وأشخاصا وأحداثا، وإن كانت موجودة حتى في شعر صلاح عبد الصبور عن دنشواي مثلا، والسياب مثلا عن المومس العمياء، لكن كان السرد فوق الملفوظ الشعري، في القصائد الحديثة السرد داخل في النسيج وعنصر بنائي وليس كل العمل، وأعتقد أن الخدمة النظرية التي قدمت لخدمة هذا النظرية لتقعيد هذا النوع من الكتابة الشعرية لم تخنق أو تضيق على النتاج النصي، بهذه الحالة يكون التنظير مقبولا ومعقولا، طبعا لا يزال عندي تحفظ داخلي على التطبيق الحرفي لبعض النظريات حتى أنني مرة من المرات في نقاش مع بعض الزملاء العراقيين المتحمسين للبنياويات بأنواعها المدرسية والإحصائية والتكوينية قلت لهم إنكم أشبه بمن يشتري ثلاجة ويصفها كاملة ويصف عملها ثم يضعها في زاوية من البيت ولا يشغلها. لا يكفي أن أشرح البنيوية التكوينية وغولدمان ولا أجري ـ نسبة إلى الإجراء ـ هذه المصطلحات والمفاهيم على نصوص شعرية محايثة لزمني ولكلامي وتعيش في نفس محيطي.

*لكن الجهود النقدية إزاء الجديد الإبداعي خاصة في الشعر ضعيفة، بل إن الأدوات النقدية لا تتناسب مع التطور الحادث.. أيضا أين هم النقاد الذين يتابعون منجز قصيدة النثر العربية سواء لدى أجيالها الجديدة أو السابقة فباستثنائك وعددا قليلا جدا لا أحد يتابع بل إن كبار النقاد يرفضونها؟

هنا أفرق بين موقفين: موقف تحفظ على قصيدة النثر انتظارا لتشكلها البنائي والإيقاعي، وموقف الرفض الذي تجاوزته الشعرية العربية الجديدة، مثلما صار مع الشعر الحر من رفض قوى ومبررات بدأت من العقاد الذي رأى أنه نثر إلى صالح جودت الذي قال إنه شعر أحمر، إلى العراق حيث اعتبر هذا الشعر هدما إلى آخر ذلك. انتهت المسألة، قصيدة النثر الآن كسبت مشروعية لا تحتاج إلى ضد ومع، بقي الرد على ملاحظتك أين النقد الذي يواكب، لا بمعنى ملاحقة النصوص، هناك منظاران، بعض الشعراء يشكون من تقاعس النقد لأنه لا يلاحق تجاربهم، وليس بالضرورة الكتابة عن كل الدواوين الصادرة حتى يكون النقد منصفا، وبالمقابل هناك خدمات كثيرة يقدمها النقد منها مثلا تمهيد الذائقة الشعرية وهذا ليس شيئا سهلا، الجسم الشعري العربي جسم سميك، جسم يتكون من شعرية قوية أتت من الجاهلية إلى أحمد شوقي وشعراء النهضة إلى السياب وشعراء الحداثة الرواد، فكيف يحدث هذا التحول الذي أسميه انعطافة وليس مجرد تحول بسيط وإنما الطريق نفسها انعطف، صارت انعطافة قوية وحادة، وفي اعتقادي أرى النقد ساهم في محصول كبير في إبرازها وتثبيتها، البحث عن قوانين داخلية لقصيدة النثر، وأنا لا أرى أن هناك إجحافا، صحيح أن من يشتغلون عليها قلة، لكن هناك اشتغالا عليها يتسع، في المغرب هناك عشرات الكتب التي صدرت حول قصيدة النثر، الآن لم يعد في المسمى إشكالا، هناك الكثير من النقاد من يكتب عن رواد القصيدة الحداثية عبد الصبور أو السياب وغيرهم، وهناك مجموعة أخرى تكتب عن شعراء قصيدة النثر، هناك تسليم بأن قصيدة النثر صارت حقيقة ومتفق عليها، أما أن يقدم النقد خدمات مباشرة للشاعر فهذا من الصعب. اليوم لم يعد النقد يقدم خدمات حتى للقارئ وهذه مسألة قد تكون صادمة، يعني ليس من المفروض على أن أنحشر بين الباث/الشاعر وبين نصه وبين القارئ، لأن الناقد نفسه قارئ، هو يقدم لنفسه إضاءات وبالتالي يخدم النص، وعندما تقدم خدمة للنص هي بالضرورة تذهب للقارئ، أما أن يضع الناقد القارئ في موضع التلميذ ليشرح له، فهذه مسألة صارت قديمة، اليوم لم يعد الأمر تفاسير وشروحا كما كان سابقا في الثقافة العربية، اليوم تكتب نصا نقديا على قصيدة أو على نص أدبي فأنت تقدم خدمة لهذا النص حيث تبرز بناه وعلاقاته غير المتعينة والمؤثرات والمرجعيات التي لا يفهمها القارئ، لكن لا تتجه أصلا إلى قارئ يفرض سيطرته عليك، وبالتالي يجعل الخطاب النقدي أشبه بخدمة تعاونية أو اجتماعية، قارئ الشعر بالذات وقارئ الأدب عموما حتى الروايات الحديثة، يعني الشكلية الجديدة للرواية، مغامرة الشكل، الأصوات المتداخلة، تعدد الأصوات، دخول فنون عديدة بالرواية، الوثائقية في الرواية، أعتقد أن هذه الأشياء لا يجوز لقارئ لا يملك ذخيرة القراءة ـ ولو أنها عبارة عسكرية لكني أؤمن بها كثيرا ـ أي تهجم على النص بذخيرتك، ثقافتك، قاموسك، الدلالة التي تفهمها، السياقات، وفهمك للجملة الشعرية أو للنص الروائي، النقد لا يستطيع أن يصنع قارئا من هذا النوع ما لم يكن مستعدا، وهذا قدر الأدب أنه نخبوي، حتى في العصر العباسي كان أبو تمام لا يفهم وكان يحتاج إلى شروح، وفي العصر الحديث نواجه بأسئلة ماذا يقصد أدونيس بهذه العبارة وماذا تعني هذه الكلمة في قصيدة لدرويش أو غيره. إذن النخبة التي قدرها أن يكون الشعر اختصاصها بدأت تنحسر بحيث أصبحوا يقدمون خدمات للنصوص نفسها، أما القارئ فعليه أن يتسلح بمرجعياته، هذا ما أعتقد أنه يسبب سوء الفهم بين قصيدة النثر وبين ما أسميه (الجمهور) ومنه بعض النقاد فالناقد بالأخير متلق قارئ.

الذات والقراءة

*بعض النقاد يدخلون ذواتهم في ممارسة العملية النقدية كما يفعل كمال أبو ديب وكان لك عليه تعليق؟

نقل النقد من صوت جماعي يحكم على النصوص بتجويق قبلي إلى اعتباره معاناة ذاتية، شيء جميل، لأن النصوص نفسها أصبحت عناء ذاتيا، اليوم قصيدتك هي عناؤك أنت، صحيح أنك تسلك جنسا أو نوعا مطروقا وتستدعي نداءات وأصواتا ومرجعيات من شعراء وتستفيد من محصول من سبق من الشعراء، لكن بالأخير هي مهمة ذاتية أن تشكل رموزك وقاموسك وخطابك الخاص، في النقد الذات القارئة هي مسألة ظاهراتية استعارها د. كمال من الظاهراتية أنه لا محدد خارج الذات وكل الموضوعات ابتداء من الشجرة التي أمامي، أنت بالنسبة لك لا توجد هذه الشجرة لأن ذاتك لم تصب وعيها عليها، فهي ليست في دائرة وعيك، إذن لا يوجد استقلال موضوعي للأشياء وإنما الإنسان هو الذي بخبرته وبعينه الراصدة، بقراءته المتعمقة، وثقافاته التي يمتصها ويهضمها هو الذي يصنع الموضوع، هو الذي يكتشف التناص في القصيدة ومرجعية الشاعر هو الذي يكشف حتى عقيدة واستراتيجية الشاعر إذا كان ذا هدف سياسي أو اجتماعي. هو الذي يكشف جماليات القصيدة إذا كانت ذات كشوفات جمالية كالإيقاع والجملة الشعرية والدلالة، وبالتالي الذات الفاعلة في النقد يمكن أن تعود، لكن اعتراضي كان حول تشكيل الخطاب الذاتي في النقد. يعني هل معنى حضور الذات القارئة في النقد أن تدخل قصائدك وتعليقاتك اليومية ودردشاتك، هذا باعتقادي يحدث ما يشبه المطبات. النص النقدي يسير قناعاته تتكشف وجمالياته ولغته وهناك يأتي تعليق يومي أو كلمة عابرة أو.. مرات. د. كمال أبوديب يقول (ضجرت فلأتوقف) ما هذا، هذه مسألة متناقضة مع قولك كذا، هذا الحضور يتقاطع مع المعرفة التي يحملها الخطاب النقدي، لأن قدر الخطاب النقدي أنه خطاب معرفة، معرفة وتعرف وكشف، فعندما تكون الذات حاضرة بهذه الطريقة ـ لا أعترض على حضور الذات ـ التي تحمل قدرا من الانطباعية يخيف، أخشى أن تعود الذات القارئة لتصبح ذاتا ضاغطة من جديد بانطباعاتها وأحكامها جيد وغير جيد وهذا ما يحاول النقد أن يتخلص منه، ماذا يستفيد القارئ والشاعر والنص عندما أقول إن هذا نص جيد وجميل أو غير جيد أو قبيح، العودة للذات أخشى أن تدخل في هذا المجال، عدا ذلك لا اعتراض لدي.

*المشهد الشعري العربي على الرغم من تنوعه وثرائه لكنه لدى الكثيرين الشعر في حالة تراجع وانحسار بماذا تفسر ذلك؟

بدون شك الحياة العربية كلها في حالة تراجع، وذلك لا يخفى على أي أحد يرى ويبصر، الثقافة العربية هي مكون معرفي يتأثر بالمحيط والظروف والانتكاسات والنجاحات ويتفاعل معها، وبالتالي فما يحصل اليوم بالحياة العربية من الطبيعي أن ينعكس سلبا على الشعر على الأقل في تداوليته يعني انتشاره وموضوعاته وحدود حريته أين تنتهي وأين تبدأ. فإذا أنت حاكمت القصيدة العربية في ضمن هذا المناخ من السقوط والانهيار العام لن تكون ظالما له، إذا كانت تراها في محيط كله ينبئ بسقوط وتعثر فكيف تكون القصيدة صحية أو سالمة من التلف والعطب الذي يصيب الحياة نفسها، لكن الشعر قدرته العجيبة أنه حتى العطب والجرح والسقوط والانهيار يستفيد منه ليكون مادته، حتى أن ذلك ينعكس على الأساليب، هناك من يكتب أشعارا قصيرة وهناك من يكتب أشعارا مغناة، وهناك من يستخدم الكمبيوتر والسينوغراف والقصيدة البصرية، كله في الحقيقة هو انعكاس حتى على الأساليب لتشظي الحياة العربية والثقافة داخلها، فمن غير الطبيعي أن تكون سفينة تغرق وأنت تريد الإنسان أن يقف باعتدال، فالشعر يصيبه من هذا الشيء الكثير، لكن قدرة الشعر العجيبة حتى على تحويل مادة الألم إلى شعر وتكييف الأساليب والكيفيات الشعرية بما يلائم حالته، أعتقد أن هذه لصالح الشعر، يعني من الممكن أن يكون الشعر ذا شاهد ويشخص الأزمات بطريقة شعرية ويبقى مؤثرا بدليل هذه الأصوات التي نسمعها في المؤتمرات وفي نشر الدواوين المتصل، وحقيقة أنا لدي فوبيا من مسألة الأزمات، الأزمة دائما تشخص أزمة نقد، أزمة شعر، أزمة رواية، أزمة مسرح، تحت هذه مظلة المصطلحات المشبوهة التي تفيدني أنا شخصيا على الأقل يمرر كلام خطير من قبيل أنه لا رواية عربية موجودة، لا قصيدة عربية موجودة، وهذا فيه غبن للنتاج الشعري، المطابع العربية لا تكف عن طرح الدواوين، نعم قد يكون هناك كثير مما يندرج تحت نوع شعري معين وهو لا يمت له بأي صلة وهذا حصل حتى بالشعر العمودي ويحصل في الرواية التقليدية ويحصل بالمسرح التقليدي، طبعا إذا وجدت أشكال تجريبية وجديدة كثيرا من التطفل يدخل بها ومن باب الإدعاء، لكن هذا لا يعني ولا يبرر أبدا القول إن هناك توقفا أو انحسارا، الكيفيات تختلف يعني الآن لا يوجد زمن الشاعر النجم الأعظم أو شاعر المرحلة، لا يمكن أن تقول إن هذه الأصوات تمثل مرحلتها، هذا كان يمكن أن يحدث في عصر النهضة على سبيل المثال، القصيدة العظيمة المدوية أو الديوان المهم انتهى زمنه الآن، الكد الشعري كد ذاتي، محصول ذاتي، وبالتالي يتعرض لانكسارات وانهيارات، ولم يعد له هذا الوجود الملائكي الذي لا يخطئ ولا يأتيه الباطل من جانب، ويكون دخوله للناس ميسرا، حتى عدم الترحيب بالقصيدة هو جزء من معاناتها وشيء ضروري، وبالتالي الذين عندهم الصورة القديمة لوجود الشعر، أن الشاعر يدخل المقهى فيقوم له الناس، شاعر بلاط، وشاعر القطرين، وشاعر العرب الأكبر، هؤلاء يرون الآن أن هناك تراجعا لكن الذي يدخل في صلب جسم الشعر العربي ـ وهو جسم حي ـ يرى أشياء أكثر مما في ذهنه عن تحولات القصيدة العربية والكتابة، وأستطيع أن أعدد لك الكثير من الأشياء، يعني الهوامش الشعرية، المدن، والشباب والمرأة والدخول بالمقدس والمحرم وتغيير أشكال القصيدة إلى البصر إلى الصوت إلى الكلوغراف إلى الهيئة الخطية التي تغيرت، هذا كله أنا أعتبره منجزا، وإن كان التردي واضحا في الحياة الثقافية العربية.

*البعض يبدأ شاعرا وينتهي روائيا أو قاصا، هل برأيك لذلك علاقة بمقولات يتم ترسيخها عبر الإعلام كزمن الرواية والرواية ديوان العرب؟

لقد ناقشت أطروحات زمن الرواية والكثير من زملائنا، كان اعتراضنا على التعميم، نعم الاهتمامات بالرواية كتابة وقراءة وحتى استراتيجية دخلت بهيئة السرد داخل الشعر، لكن تعميم الوصف على زمن كامل بأنه زمن الرواية أو زمن الشعر يحمل أصلا شيئا من الخلل والاختلاف، لكن بالمقابل يلفت نظري تحول الكثير من الشعراء فعلا إلى كتابة الرواية مع بقائهم في منطقة الشعر، يعني سرعان ما يرجعون إلى دواوينهم، يعني يكتبون الرواية ليس سبيل الانقطاع عن الشعر حتى يكون حجة للقائلين بزمن الرواية وإنما يكتبونها على سبيل تنويع الملفوظ الأدبي، يعني نفس الخطاب ولكن بشكل أدبي ثان، هناك صورة عريضة أو حالة ممتدة لا يستوعبها الشعر فيلجأ الشاعر إلى كتابة الرواية، لكن حتى لا تكون حجة لمن يقول زمن الروية نذكر أن هؤلاء أولا تنعكس شعريتهم في ما يكتبونه من رواية. سليم بركات على سبيل المثال، وقصص سعدي يوسف التي تقرأ كقصائد محورة، وثانيا هذه الأعمال الروائية لا ترسخهم روائيين وإنما يظل منبتهم المعرفي وحنينهم أن يقدموا أنفسهم شعراء بالدرجة الأولى.

*دخول الفنون الأخرى على التجربة الشعرية العربية هل فيه الكثير من المحاذير؟

أعتقد أن دخول الفنون البصرية والثقافة البصرية عموما حتى الإعلان والإضاءة والبيئة والمحيط وكل المشاهد البصرية التي يمكن أن يراها الإنسان المعاصر عندما دخلت كعنصر معرفي تأثر بها الشعر تأثرا واضحا، وعند دراسة الصورة اليوم بالمقاييس التقليدية البلاغية التي انتهت ـ أركان الصورة والتشبيه والتمثيل وبين الصورة الشعرية اليوم ـ ستجد بونا شاسعا، نقلة كبيرة لا تستوعبها الاستعارة ولا تخضع لشروط التشبيهات وغير ذلك، هذا باعتقادي هو انتقال قوي من انعزال النوع الشعري بقوانينه وشعريته الخاصة إلى الانفتاح على المشاهد.
القول بتنافس الفنون بينها والتجاور الذي ذكره كمال أبو ديب بين الإبداع النقدي والإبداع الشعري والإبداع البصري والإبداع السمعي هذا يحمل محذورا أن المرتكز الذي تبنى عليه شعرية النوع، الشعر مثلا إذا اتسع وتمدد ليستوعب الفنون الأخرى ما الضمانة أن يتحول الشعر نفسه في لحظة من لحظات الهيجان الحماسي اللغوي والصوري إلى فن أخر، هذا ما أخشاه، حقيقة أضع يدي على قلبي وأنا أقرأ أحيانا بعض قصائد النثر التي تستعير السرد حيث تقرأها كأنك تقرأ قصة، لأن المركزية الشعرية وهذا هو الخلاف الذي صار حول قصيدة النثر، هناك أوهام سماها أدونيس أوهام الحداثة. يتصورون أن المجيء إلى قصيدة النثر معناه من منطقة النثر إلى الشعر، هو العكس، هو الشعر يستضيف في منطقته بعض عناصر النثر ويطوعها بحيث تصبح شعرية، إذا حدث العكس وطغى سيخرج نوع هجين لا هو شعر ولا هو نثر، أنا الذي أخشاه أن حرية الفنون مع بعضها البعض وانهيار الحواجز التي كان يتصورها الجماليون، إذا فتحنا الأمور هكذا من دون الإبقاء على هوية النوع نفسه كمركز والبقية تأتي هوامش السرد والموسيقى والمسرح والسينما والثقافة البصرية وحتى النحت والرسم. هذا لا بد من أن يكون محايدا وفي خدمة الخصيصة الفنية للقصيدة وشعريتها وإلا ستضيع الأنواع.

السفير
11- يناير 2008