حاوره: موفق ملكاوي وجعفر العقيلي

أدونيسلا يحار المرء فيما يمكن أن يحاور به شاعراً خلافياً ك أدونيس ، أو من أين يبدأ، فالرجل بدا يمثل رقماً صعباً في المشهد الثقافي العربي الراهن، ولديه الكثير مما قاله أو يقوله أو يفكر في أن يقوله، لا شعرياً فحسب، وإنما على صعيد النقد الذي كرّسَ كونه مثقفاً إشكالياً شغفه الاعتراك مع التراث، خصوصاً الديني، مثقفاً يسعى إلى أن يظهر غير آبه بمعترضيه أو معارضيه، ملقياً حجارته في ماء راكد، ولكن دون أن يمضي.. إنه يتأمل الدوائر والتموجات، ويطمح إلى أن يرى أثراً يمكث في الأرض لما يجترح.
التقينا السوري أدونيس، الذي حلّ ضيفاً على عمّان بدعوة من مؤسسة خالد شومان-دارة الفنون ليعرض تجربته التشكيلية التي أراد لها أن تكون ك الرُّقُم ، متجنباً استعمال تعبير الكولاج الغربي، في توصيفها. التقيناه على هامش معرضه المشترك مع العراقي حيدر، والذي تخلله لقاء أداره الشاعر جريس سماوي، لم يخلُ من عصفٍ ذهني وذهابٍ إلى مناطق معتمة يجللها الصمت المتواطأ عليه. وهو الذي بدا متحمساً لحوارنا معه، نجح في أن يجيب بذكاء، وأن يأخذنا إلى حيث هو يبغي، خصوصاً وأن الأسئلة استهدفت توضيح المواقف، وتفنيد الاتهامات، ها نحن نتركها هنا للقارئ مع إجابات أدونيس.

* نبدأ من هاجسٍ سَكَننا ونحن نعدّ للحوار معك، مفاده أن الكثيرين يقرأون عنك أكثر مما يقرأون لك.. ويسهم هذا في تشكيل انطباع أو حكم نقدي ربما لا يكون صائباً. هل من شيء تود أن تقوله في هذا المضمار؟

- لا أعترض على من يقرأ عني أكثر مما يقرأ لي من حيث المبدأ، فهو حر وله الحق في القراءة كما يشاء، لكن يبدأ الاعتراض حينما يسمح لنفسه أن يقيم أحكاماً بناء على ما قرأه عني. وهذا الاعتراض من أجله هو. لا يليق بالمثقف أن يحكم على شخص آخر عبر السماع أو عبر الإشاعة.

* يمر الشعر بأزمة أو بأزمات عدة، عربياً وعالمياً، ليس أولها انفضاض الجمهور عنه، ولن يكون آخرها تدني نسبة المطبوع فيه مقارنةً مع أجناس الأدب الأخرى. كيف تشخّص حال الشعر اليوم، وهل تميل معنا إلى أن قصيدة النثر بذاتها سبب من أسباب هذه الأزمة؟

- لا أعتقد أن قصيدة النثر أحد أسباب ابتعاد الناس عن الشعر. الجمهور العربي مبدئياً بعيد عن الشعر في الأساس منذ القديم (خصوصاً في القرنين الأخيرين). والجمهور العربي أكثر جماهير العالم جهلاً بالشعر، وكان اهتمامه بالشعر قبل الإسلام حينما لم يكن عند العربي شيء يعبر به عن نفسه وعن حياته إلا الشعر، وعندئذٍ سمي الشعر ديوان العرب . أنا الآن لا أظن أن الشعر ديوان العرب. ديوان العرب شيء آخر بالتأكيد.

إذن، البحث عن أسباب ابتعاد الجمهور -خصوصاً العربي- عن الشعر يجب أن يتخطى مسألة قصيدة النثر ومسألة الغموض والصعوبة والتعقيد... هذه مسألة هي في المقام الأول ثقافية اجتماعية وليست مسألة شعرية، فأسباب عزوف الجمهور عن الشعر كامنة في الجمهور نفسه وفي ثقافته وليست في الشعر.

* ترى د.سلمى الخضراء الجيوسي أن في مجموعتك أغاني مهيار مشاركة مع مهيار الشاعر المغترب، ولهذا اخترت هذا الاسم لها. وهناك من يشتمّ رائحة شعوبية في اقتراحك أغاني سريان اسماً لهذه المجموعة في البداية قبل أن تستبدل مهيار ب سريان .. هل من توضيح تراه ضرورياً هنا لجلاء الحقيقة؟

- كثير من الشعراء تؤرقهم التسمية، ومن بين التسميات المختلفة لهذه المجموعة كان مطروحاً اسم أغاني سريان الدمشقي، وكانت هناك تسميات أخرى لا أعرف لماذا نسيتها د.سلمى الجيوسي، ولم تتذكر سوى هذا الاسم. كان هذا مجرد إمكان لاختيار اسم يعبر عن مضمون الكتاب ورؤيته. ويبدو أن د.سلمى مسكونة بفكرة مسبقة إلى درجة أنها ربطت بين مهيار الدمشقي ومهيار الديلمي، رغم أنه لا علاقة للأول بالثاني أكثر من تشابه الأسماء. وقد صُدمتُ بذلك، خصوصاً أنها تعرفني، وهي شاعرة وناقدة أحترمها، ولو جاء هذا القول من شخص عادي لما قلت شيئاً. أنت تعتب على الناس الذين تعدّهم مهمّين، لذلك كان ردي عليها عنيفاً، فقد غضبتُ لا عليها ولكن من أجلها.

أما الشيء الآخر فهو أنك لا تستطيع أن تحكم على شاعر من كتاب أو جملة أو اسم ديوان، أنت تحكم عليه استناداً إلى تجربته ورؤيته بشكل عام. ومن يقرأ ما كتبته شعراً ونثراً سيجد أنني خارج التصنيفات الشعوبية والعروبية القومية وغير القومية، وأن نتاجي كله يقوم على تهديم مثل هذه التصنيفات. وكانت مفاجأة ثانية لي أن ينظر بعضهم إلى نتاجي بهذا المنظار، فإذا كان المثقفون يقومون بمثل هذه القراءة فهذا دليل مريع على تدني الثقافة العربية، وهو نذيرٌ بانهيار ثقافي يتضمن انهياراً أخلاقياً.

* وماذا إذن عن الشعوبية ؟

- أنا أنظر إلى الشعوبية بوصفها أعمق حركة إنسانية في التاريخ العربي، إذ تشكلت أصلاً ضد العنصرية وضد النزعات القومية، وكانت تستند إلى المقولة الإسلامية المستنيرة: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وتقول إن الإسلام آخى بين البشر. إذن المعيار لم يعد الانتماء إلى عنصر عربي أو غير عربي، وإنما الانتماء للإسلام. والعنصرية العربية هي التي شوهت هذه الأفكار وسمتها شعوبية ازدراءً وتحقيراً، ومن حقنا نحن -العرب- أن ندافع عن هذه الحركة اليوم لأنها في عمقها إنسانية وليست عنصرية أو قومية. بالعكس، هذه الحركة التي تسمى شعوبية هي في جوهرها لاشعوبية. لقد صدمني أن المثقفين يخضعون في فهمهم إلى وجهات نظر سياسية وأيديولوجية أحيتها النظرية البعثية العنصرية، وعبّر عنها في كتاب كامل المؤرخُ العراقي عبد العزيز الدوري.

* يقول سيار الجميل في كتابه نساء ورجال.. ذكريات شاهد الرؤية ، إنه لم يكن يستسيغ ما كنتَ تلقيه من قصائد، لأنه كان يعتقد أنك نفسك لا تعرف ما الذي تريد قوله، ولكنه اكتشف لاحقاً أنك تريد من الآخرين معرفة ما لا بد لك أن تقوله! إلى أي حد ترى معنا هذا التوصيف دقيقا؟

- ما لا بد أن أقوله أنا نفسي لا أعرفه، وما قلته ربما أيضاً أحتاج كي أعرفه إلى أن أقرأه اليوم من جديد، ولا أعرف لماذا تثار هذه المسألة بهذه الطريقة. خذ أهل اليسار مثلاً، هل جميع أهل اليسار والماركسيين قرأوا رأس المال لماركس، وهل كل من قرأه فهمه؟ وإذا كان الجواب بنعم فلماذا إذن له تفسيرات وتطبيقات مختلفة إذا كان هناك فهم واحد له أو إذا كان واضحاً بما فيه الكفاية. وهذا ينطبق أيضاً على النصوص الدينية عموماً، فكلٌّ يقرأ النص قراءته الخاصة. فلماذا ينصبّ هذا المكبوت القرائي على النص الشعري وحده؟!

هناك عادة أو تقليد أو سياق يجب الخلاص منه. معنى الحداثة ليس في التخلي عن الوزن، وإنما الخروج من السياق التقليدي السائد، لكننا ما نزال مع الأسف نقرأ باسم الحداثة في هذا السياق نفسه ونكتب فيه أيضاً. تكاد الثقافة العربية تكون عبر أحكام من هذا النوع ظاهرة نفسية سيكولوجية أكثر من كونها ظاهرة ثقافية أو نقدية.

* هناك من يذهب إلى أنك حصلتَ على لقب أدونيس من زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، ولكنك تنكر ذلك وتؤكد أنك أنت الذي أطلقتَ هذا اللقب على نفسك. فما هي حقيقة الأمر؟

- هذا من الأخطاء التاريخية الكبرى التي يرددها أشخاص يريدون مهاجمتي، وأنا هنا أود أن أقول لهم إن هناك أموراً كثيرة يمكن أن يعتمدوا عليها لمهاجمتي عدا هذه القصة، أعني منحي لقب أدونيس من أنطون سعادة، وهي كاذبة جملة وتفصيلاً.
بالعكس، طلب أنطون سعادة مني أن أرسل إليه قصيدة لينشرها في مجلة كان يشرف عليها بنفسه في العام 1948 اسمها النظام الجديد ، وقد ذيلتُ القصيدة باسم أدونيس ، وعندما رأيت القصيدة منشورة في المجلة وجدت أن أنطون استبدل اسمي الحقيقي علي أحمد سعيد ب أدونيس . وعرفت لاحقاً أن أنطون كان مأخوذاً بكل ما هو عربي، وكان يكلم ابنته بالفصحى وليس بالدارجة، وكان يصر على أن الحزب السوري القومي الاجتماعي هو حزب عربي، ويشير في صلب دستوره إلى أن الأمة السورية أمة عربية، والثقافة السورية ثقافة عربية، وكان حريصاً على توضيح أن صفة العربية ليست صفة عنصرية، وإنما صفة ثقافية، لأن المجتمع الذي نعيش فيه متعدد الإثنيات والأديان، ولذلك لا بد أن يكون مجتمعاً واحداً، وآخر ثقافة اكتسبها هذا المجتمع هي العربية.

وكان أنطون بالإضافة إلى ذلك، من الجانب السياسي ضد الوحدة العربية، لأنه كان يرى أن الوحدة كما تُطرح هي مسألة أيديولوجية وليست اجتماعية، فالحياة تختلف في السودان مثلاً عنها في قطر. وبالرغم من ذلك كان ضد أيدولوجية القومية العربية، وبدلاً من القومية العربية والوحدة العربية طرح مفهوماً للعمل العربي المشترك، ونادى بقيام جبهة عربية، ولكن الصراع السياسي كان وراء هذه التشويهات التي ما تزال قائمة حتى الآن.

* وكيف اهتديتَ إلى أدونيس ، الاسم الذي غلب عليك حتى الآن. وما الذي دفعك لاعتماده بديلاً عن علي أحمد سعيد ؟

- كنت في الثالثة عشرة من عمري، وكان لدي كتابات أوقعها باسمي الصريح وأرسلها إلى الصحف والمجلات آنذاك، لكن لم يكن أحد ينشر لي، وذات يوم وقعت بيدي مجلة فيها موضوع عن أسطورة أدونيس فأعجبتني كثيراً وقلت في نفسي إنني سأوقّع من الآن فصاعداً باسم أدونيس ، لأنني أجد في الصحف التي لا تنشر لي خنزيراً برياً آخر يحاول قتلي، متقاطعاً مع أسطورة أدونيس المعروفة في هذا الجانب. وفعلاً كتبت نصاً ووقعته بـأدونيس وأرسلته إلى صحيفةٍ ما، فنشرته لي فوراً، ثم بعثت مقالة حول فلسطين سنة 1948 فنُشرت مذيَّلةً بدعوة موجهة إليّ للحضور إلى مكاتب الصحيفة، فذهبت وكان الفقر بادياً على مظهري، إذ كنت أعيش في بيئة فلاحية بسيطة.. وعندما رآني المحرر لم يصدق أنني أدونيس، إذ يبدو أنه كان ينتظر شخصاً آخر بملامح مختلفة!

* أن يكون للمرء نفسه اسمان معاً، واحد في الواجهة، باختياره، وآخر مُتَنَحٍّ رغم كونه حقيقياً.. أليس هذا مما يُوقع في الارتباك الداخلي، ويؤشر على ازدواجية محتملة الحدوث على صعيدٍ نفسي، أم إن الأمر أبسط من هذا الذي نصوّره.. وفي سياق متصل: ماذا عن الهوية؟!

- لا أشعر بأي ضياع على مستوى التسمية، بالعكس أشعر أنني أحياناً أحتاج إلى تسميات أخرى. لي ديوان جديد أتوق أن تكون لي فيه أسماء كثيرة، لأن الهوية انفجار متواصل أو تموّج مستمر في محيط وليست نقطة ثابتة. الهوية حركة، وبوصفها كذلك يمكنها أن تتخذ تسميات متعددة. حتى الإنسان داخل نفسه يمر من دون أن يشعر بهويات مختلفة بين طفولته وشيخوخته. فما العلاقة بينك الآن وبينك في مرحلة طفولتك في السرير أو خلال دراستك في المدرسة، أو في فترة انخراطك الأولي في الحياة العامة. الإنسان مجموعة متواصلة من التحولات، وهي التي تشكل الهوية. الهوية كما أراها ليست إرثاً وإنما ابتكار، فالإنسان يبتكر هويته كما يبتكر عمله. أنت لست عربياً، مثلاً، ولكن تصير عربياً. وأنا أنتمي إلى اللغة العربية لا إلى المكان العربي، سواء أكان المكان شعباً أم بلداً. وطني هو اللغة العربية.

* أدونيس يتعامل مع التراث بطريقة انتقائية، ويقوم بتوظيفه أيديولوجياً لحساب معتقداته الخاصة.. كما يجيّر الثقافة العربية لمصلحة الثقافة التي استلبته: الثقافة الغربية.. هذا خلاصة رأي يتشكل ويتخذ أبعاده وهو يتناول هذا الجانب من اشتغالاتك. إلى أي مدى ترى هذا التوصيف دقيقاً؟!

- هناك من يعتقد أن التراث العربي كله كتلة واحدة متآلفة متضامنة ومتراصّة ولا تناقُضَ بين أجزائها وعناصرها. وهذا تصوّر سخيف لا يصمد أمام أي سؤال أو اختبار. ففي الأصل كانت الكثرة. فلو أخذنا فترة ما قبل الإسلام وسألنا: مَن يمثل هذه الفترة.. طرفة أم عروة أم عنترة أم امرؤ القيس؟! لوجدنا أن لكلٍّ من هؤلاء عالمه الخاص بالتأكيد، وأنه لا يمكنه أن يحتكر سمات مرحلة بأكملها. وهكذا الحال بالنسبة للعصر العباسي، فمن يمثل التراث العربي في هذا العصر مثلاً: الشافعي أم أبو نواس أم أبو تمام أم الجرجاني أم ابن سينا؟! التعدد والتنوع هو الأساس، لا الواحد. الواحد أيديولوجيا، والنظرة إلى التراث على أنه واحد نظرة أيديولوجية، وهي في الأخير نظرة عنصرية ومغلقَة وضد الآخر. التراث كثرةٌ وتنوُّع، ولذا من حقي أن أختار ما أشاء، فلكل منا خياراته فيما ينظر إليه، وخياراتنا القائمة حتى الآن ما تزال تتحكم بنا.

الصراع اليوم هو بين كل هذه الخيارات لجعل الخيار واحداً، وهذا أسوأ ما فيه. يجب أن يكون هناك تنوع وتعدد في العمل السياسي والثقافي، ولكن هذا لا يضمنه سوى الديمقراطية والقانون، وهو الذي لم نعرفه في حياتنا كلها. مثل هذه النظرة هي تحارب الديمقراطية. اللاديمقراطية شيء موجود عضوياً في حياتنا الثقافية وفي حياتنا العقلية.

* يؤخَذ عليك أنك في كتابك النص القرآني تناولتَ القرآن بوصفه نصاً بمعزل عن الوحي وأسباب النزول، وكما نعلم فإن الوحي وأسباب النزول هما اللذان يشكلان مفتاحاً أساسياً لفهم النص القرآني. هل أردتَ بهذا أن تكون إشكالياً -وقد تحقق لك ذلك بشكل أو بآخر!

- عندما كتبت هذا وقدمته في محاضرة في إحدى الجامعات، قلت في المقدمة قصدياً إنني أكتب هذا النص حول النص القرآني بوصفه نصاً أدبياً في معزل عن كونه نصاً دينياً أو وحياً أو نصاً منزلاً. وقد أشرتُ إلى ذلك إشارة واضحة، وبما أنني فعلت ذلك لا يصح أن أُنْتَقد على شيء قمت باستبعاده قصدياً منذ البداية. إنما أُناقَش فيما قلته حول النص بوصفه نصاً أدبياً، وأتمنى أن أسمع آراء متنوعة، على الأخص الآراء التي تناقض ما قلته، إذ تهمني الآراء التي تختلف معي في المستوى نفسه الذي تهمني به الآراء التي تتفق معي.

* الكتاب .. ما الذي كنتَ تفكر فيه وأنت تختار اسماً له. ولماذا الكتاب ..

- فكرة الكتاب تقوم على الرأي القائل إن الكاتب أو الشاعر أو المؤلف يمكنه أن يقول رؤيته كاملة في مختلف الشؤون التي تتعلق بالإنسان والحياة والوجود في كتاب واحد: الكتاب الجامع. وهي فكرة شرقية.
كلٌّ من الكتب المقدسة يُسمى الكتاب انطلاقاً من أنه يقول كل شيء، وقد انتقلت هذه الفكرة إلى مالارميه الشاعر الفرنسي المشهور الذي تبناها ورغب أن يؤلف كتاباً اسمه الكتاب . ضمن هذا الإطار سميتُ هذا المؤلَّف الكتاب ، لكي أقول فيه ما يمكن قوله في الرحلة الثقافية في القرون الثلاثة الأولى داخل التاريخ العربي، وقد قمت بهذه الرحلة على غرار رحلة المعري ورحلة دانتي وأخذت المتنبي دليلاً، ولكني لم أقم برحلة إلى ما وراء العلم كما فَعَلا، وإنما برحلة أرضية داخلية في داخل التاريخ العربي والثقافة العربية. ويشير العنوان الفرعي للكتاب أمس المكان الآن إلى أن ما نراه فيما مضى نراه الآن وفي المكان نفسه، لذلك لا يُفهم العنوان الأول الكتاب إلا إذا قُرئ العنوان الثاني معه.

ومما يؤسف له في هذا المجال أن كثيراً من القراء العرب في عصر الانقلابات المعرفية الكبرى لا يقرأون العنوان، أو يتفحصونه جيداً. وقد فوجئت مثلاً أن أحد النقاد الكبار لم يقرأ العنوان الكامل لكتابي الثابت والمتحول - بحث في الاتباع والإبداع عند العرب، واكتفى بالعنوان الرئيسي، معتقداً أنني أتناول الثبات والاتباع فقط، من دون أن ينتبه إلى مفردة الإبداع في العنوان.
ويؤسفني أيضاً أن قلّةً هم من قرأوا البنية في الكتاب، ففي الصفحة الواحدة هناك نصوص عدة، وهناك تركيب فريد غير موجود في التراث، ويندر أن يتوقف أحدٌ عند شكل التلقي. هذا الكتاب يمثل نقلة ليس لها مثيل في كل الكتابة العربية على الإطلاق، لا ماضياً ولا حاضراً.

* ثوروا على آبائكم إطلاقاً، مع الاحترام العاطفي، لكن لا تصغوا إليهم. هذا ما قلتَهُ داعياً كما نرى إلى القطيعة؛ القطيعة مع التراث، والقطيعة مع القدوة، وكم نحن نحتاج إلى القدوة بمفهومها المطلق في هذا الزمن.. فما الذي أردتَه من هذه الكلمات؟

- ما أزال أرى ما قلتُه حول ما يتعلق بالثورة على الآباء صحيحاً. الآباء هنا بالمعنى الثقافي أو الفكري، أن تفكر أو أن تكتب هو أن تفصح عن نفسِك، ونفسُك شيء آخر لا علاقة له بالأب. وإذن أن تكتب عميقاً هو أن تشير إلى قطيعة طبيعية بينك وبين الأب. هذه القطيعة تتعلق بالآراء والأفكار وإلى حد كبير بالقيم، لأن الآراء والأفكار والقيم مرتبطة بالحياة، وأفكار الآباء مرتبطة بالحياة التي عاشوها، فإذا كان الأبناء يعيشون في حياة مختلفة ويجابهون مشكلات مختلفة فمن الطبيعي أن تكون رؤيتهم مختلفة. بهذا المعنى أعني القطيعة. لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن تُحدث هذه القطيعة إلا إذا كنت عميق الارتباط بالأبوّة، وعميق الارتباط بدلالاتها ومعانيها وتأثيرها فيك والعلاقات التي أقامتها وأنت جزء منها.
القطيعة بتعبير آخر هي بنتُ الوصال، ولا يستطيع أن يُحدث قطيعة من لا يكون موصولاً، أي أنك لا تستطيع أن ترفض شيئاً تجهله، فهذا لا يكون رفضاً، وإنما جهلٌ آخر.

* لا تفتأ توجّه النقد للعالم العربي حول نظرته إلى المرأة وكيفية تعامله معها. هل ترى أن الغرب أنصفَ المرأة ورفعَ من شأنها حقاً. إم إن المرأة في مجتمعات الغرب، هي جاريةٌ مدنية أو مدينية ، وبالتالي لا يختلف وضع المرأة هناك عن وضعها هنا، إلا بالتفاصيل الخارجية؟

- الفرق بين وضع المرأة عندنا ووضعها في الغرب هو فرق يرتبط بسلوك البشر وليس بالقانون. القانون في الغرب يساوي بين الرجل والمرأة، لكن سلوك البشر في مجتمعات الغرب سلوك شخصي خاص بالأفراد، لذلك هناك انهيار اجتماعي واضطهاد للمرأة، وهو اضطهاد تمارسه الرجولة أو الذكورة استناداً إلى اوضاع اقتصادية أو اجتماعية، ولا يمارسه القانون، بينما المرأة عندنا يضطهدها التشريع نفسه ويجعل منها في مرتبة دنيا بالنسبة للرجل. هنا يكمن الفرق، وأرى أنه فرق جوهري يدفعني إلى توجيه كل هذا النقد إلى مجتمعاتنا العربية.

* موقفك من مؤتمر المراجعين الجدد حول المحرقة الذي كان سيُعقَد في بيروت قبل سنواتٍ سبع، يعتوره اللبس، وتُوَجَّه له أصابع الاتهام من دون مواربة، إذ كيف لمثقف يدّعي أنه تقدمي وفي الطليعة أن يستقوي بسلطة أو حكومة لمنع عقد مؤتمر يتخذ الصبغة العلمية، ومن دون أن نعرف ما الذي سيطرحه هذا المؤتمر من رؤى قد يتفق المرء معها أو يختلف، لكن يُفتَرَض أن يموت لأجل منحها الفرصة لتقديم نفسها.. وربما بلغك ما قامت به رابطة الكتاب الأردنيين من ردّ بليغ على بيان ال 14 في حينه. ألا تعتقد أن توقيعك على عريضة المطالبة بمنع المؤتمر يحتاج إلى توضيح؟!

- إنكار وجود المحرقة لم يعد له معنى. والعرب ليسوا ضد اليهود بوصفهم يهوداً، ففي هذا تنكُّر لتاريخ كامل حضن العربُ فيه اليهودَ رغم ما كان يحدث من صراع بينهما أحياناً. العربي لا يجب أن يكون عنصرياً ولا أن يعامل البشر بوصفهم ينتمون إلى هذا الدين أو تلك الإثنية. نحن ضد إسرائيل وضد سياسة الدولة وضد أيديولوجية الدولة التي هي إسرائيل، ولكننا لسنا ضد العلم ولسنا ضد الحقائق التي تقول إن هناك محرقة. وكنت فهمت أن هذا المؤتمر يستهدف دحض المحرقة والقول إنها كذبة واختلاق. موقفي كان دفاعاً أخلاقياً عن العرب الذين لا يجوز أن يتورطوا في موقف ضد الحقيقة والعلم والتاريخ الإنساني، وقد قيل لنا إن المدعوين غير متنوعين في طروحاتهم، وإنما كانوا في اتجاه واحد هو نفي حدوث المحرقة ، وهذا الموقف لا يجوز أن يُسجَّل على العرب، وخصوصاً في العصر الحديث. أنا من الحريصين على أن يظل العربي موضوعياً، وأن يعتمد العقل والمنطق والحقيقة.. هكذا نظرتُ إلى الأمر وهكذا كان.

* كلما حان موعد الإعلان عن الفائزين ب نوبل ، بدأت الكتابات تتركز عليك وتدور حولك، وبعضها تستوقفه ما يدعوها قائمة التنازلات التي ترشحك لنيل الجائزة، ولكن القطار يمر من دون أن يتوقف ببابك، لتظل بانتظار غودو ، ربما لن يأتي.. أما تزال بانتظار نوبل حقاً.. وهل ما يزال هذا الأمر من ضمن اهتماماتك؟!

- أنا شخصياً لا علاقة لي بهذا الموضوع إطلاقاً. هذه مشكلة الإعلام والمهتمين بالجوائز، ولو كنت اهتممت لاهتممت بالجوائز العربية التي تضاهي نوبل بقيمتها المادية على الأقل. وأنا آسف جداً لاهتمام العرب في هذه المسألة بهذا المقدار، لأن الجائزة وإن كان فيها بعض التقدير، لا تعني شيئاً على صعيد القيمة. هناك كتّاب كبار لم يفوزوا بها، وهناك مغمورون مُنحت لهم. وكما تعلمان، في الجوائز هناك اقتراعات وظروف ترشيح تتحكم فيها، ليست موضوعية تماماً أو دائماً.

* في تجربتك مع التشكيل التي عرضت نماذج منها بمؤسسة خالد شومان - دارة الفنون، وكأنك تريد الذهاب إلى النص، بمفهومه المطلق، عبر الاشتغال على تداخل الأجناس، وهو ما كنتَ طرحته في الكتاب .. هل كنتَ تبحث في التشكيل عن شكل جديد يحمل رؤاك.. هل أردتَ أن تكون موسوعياً أو شمولياً بمعنى ما؟!

- أود أن أسأل هنا: لماذا كان المؤلفون العرب القدماء موسوعيين؟ ابن سينا كان فيلسوفاً وموسيقياً، والأصفهاني كتب الأغاني الذي ضم القصة والشعر والحكاية والخبر. هناك أصول لمثل هذه النصوص، ولكن علينا أن نعرف كيف نستثمرها ونضعها في أفق جديد. نحن في طرق تفكيرنا واحديون أو خيطيُّون، ليس هناك انحناءات أو تعرجات أو انفجارات في منهج تفكيرنا. الإنسان بؤرة مشكلات وأحلام وخيبات وأحزان وأفراح، والنص لا بد أن ينفجر انفجاراً. هذا جزء من الممارسة التي أقوم بها على صعيد النتاج الأدبي (الشعري بشكل خاص). الشاعر أو الكاتب مثل شجرة لها عيون من أمام ومن وراء ومن فوق ومن تحت. والنص أرض مفتوحة أو سماء مفتوحة تتسع لكل شيء. هذه الأشكال الموجودة هي تجلٍّ من تجليات هذه الرؤية الكلية الشاملة. لم يبق هناك أنواع في الكتابة. هناك نص فقط.

الرأي
14 -12-2007